التصق مفهوم الحداثة في بادئ نشأته بالمجال الأدبي والنقدي، إلا أنه سرعان ما امتد إلى الأطر المعرفية الأخرى كالتاريخ والاجتماع والسياسية والاقتصاد… إلخ. ويدخل مفهوم الحداثة ضمن المصطلحات العصية عن التعريف، ولا سيما أنه متغير ومتجدد طبقًا لما تعنيه لفظة “الحداثة” لغةً، ولكن يمكننا مقاربة مفهوم الحداثة على أنه محاولة في تجاوز التقليدي؛ بهدف التجديد، بدءًا من رمي القديم وراء الظهر، وعدّه تاريخًا؛ وصولًا إلى خلق الجديد المُسْـتحدث.
وتعود نشأة المصطلح إلى ما بعد العصور الوسطى التي عاشتها أوروبا تحت سيطرة الكنيسة، وانحطاط الفكر والوعي إلى أدنى مستوياتهما. وانتهاءً لهذه العصور كانت بواعث دخول أوروبا إلى عصر العلم والتجربة، أو العصر الذي عرف بـ “الحداثة” كإعلان نهاية الميتافيزيقا، وبداية عصر إرادة الإنسان، بوصفه كائنًا عاقلًا لا تحكمه الأساطير ولا إرادة الآلهة.
تجسدت الحداثة بمستجدات حملها القرن ال 17، بلغت ذروتها مع الثورة الصناعية والثورة الفرنسية، فكان للعلم التجريبي والفلسفة العقلية دور كبير في تجسيد معنى الحداثة. وعلى هذا؛ يكون المصطلح مرتبطًا -عند الغرب- بالفكر والأيديولوجيا.
عربيًّا، مازالت الحداثة تُطرح للنقاش، إن لم نقل: إنها تثير جدلًا، لكنها أَوْغل قدمًا ممَّا عند الغرب، فالنقّاد يرجعونها إلى القرن السابع، متجسدة بالاتجاه الشعري المحدَث في العصر العباسي على يد شعراء مجددين، من أمثال بشار بن برد وأبي نواس وأبي تمام وأبي العلاء المعري وآخرين، فأبو نواس أول من هدم نظام القصيدة القديم، وأطاح المقدمة الطللية، أي: استهلال القصيدة بالوقوف على الأطلال، واضعًا، عوضًا عنها، المقدمة الخمرية، وبيته التالي يجسد ذلك التوجّه:
عاج الشقيُّ على رسمٍ يسائلُهُ وعجتُ أسألُ عن خمّارة البلدِ.
بينما اتخذت الحداثة عند أبي تمام بُعدًا آخر، يمكن تسميته بـ “بُعد الخلق”، متجاوزًا مطابقة الشعر للحياة إلى عالم آخر، يتجاوز العالم الواقعي، وقد أسس -بذلك- تياره الخاص الذي وُصف في النقد القديم بـ “مدرسة الصنعة والبديع”.
في حين يرى مفكرون ونقّاد آخرون، في عصرنا الحالي، الحداثة “شيئًا مجلوبًا من الخارج، إنها حداثة تتبنى الشيء المُحدث، ولا تتبنى العقل، أو المنهج الذي أحدثه؛ فالحداثة موقف ونظرة قبل أن تكون نتاجًا”؛ فهي لم تنشأ نتيجة فكرٍ، وإنما كانت استجابة للحياة الراهنة، بعبارة أخرى، كانت تجديدًا افتضاه جدوى الوسائل التقليدية، دون أن يخلق فكرًا جديدًا أو فلسفة.
وصعوبة تعريف المصطلح، أوجبت هذا السرد، في محاولة للوصول إلى محيط مفهوم الحداثة، والوقوف على معناه.
ويختلف مفهوم الحداثة عن المعاصرة، “فالمعاصرة ترتبط بالعصر، فتكون -بذلك- ذات دلالة زمنية، أما الجدة، فلا ترتبط بالزمن؛ إذ قد يكون الجديد في القديم، كما يكون في الحديث”، وبهذا يصبح مفهوم الحداثة مختلفًا عن المعاصرة، وتصبح الجدة منفصلة عن الزمن متجاوزة العصر.
وعلى هذا؛ ي وصف أي شاعر أو مفكر أو ناقد موجود في زمننا من الممكن بأنه معاصر، فيما لا يمكننا القول عنه: حداثيٌّ، إلا إذا أتى بجديد لم يؤتى به من قبلُ، فقصيدة التفعيلة في الأدب العربي، في أربعينيات القرن الفائت (1942-)، كانت حداثة، وكتابة جبران خليل جبران على أوزان جديدة كانت حداثة، ودخول كلمات جديدة، كالقبور والجماجم وغيرها، إلى الأدب الفرنسي على يد بودلير كانت حداثة، في الوقت الذي يوجد فيه كثير من المفكرين والشعراء في زمننا الحالي كتبوا على المنوال القديم، بدون أن يأتوا بجديد، وعليه؛ يكون من الموضوعية وصف أحد هؤلاء بأنه