قيل الكثير عن الشعر، الذي اعتبر "ديوان العرب" الأول، ومعين ثقافتهم وحكمتهم الذي لا ينضب، ولكن إشكالية طرحت عن علاقة الرسول الكريم، والصحابة، بالشعر والشعراء، تتناولها المقالة من خلال الأشعار التي أحبوها وألفوها ورددوها.
الرسول.. أحب الشعر وأنشده
جاءت الكثير من آيات القرآن الكريم لتنفيَ صفة الشاعرية عن الرسول الكريم، وكان السبب في ذلك أن مشركي قريش قد اتهموه في أول البعثة، أنه مجرد شاعر يقرض الأبيات ويحسن السجع والقافية.
من تلك الآيات، ما ورد في الآية 69 من سورة يس "وما علَّمناهُ الشِّعر وما ينبغي لهُ"، وهي الآية التي يعلق عليها القرطبي في تفسيره "الجامع لأحكام القرآن" بقوله "كان رسول الله لا يقول الشعر ولا يزنه، وكان إذا حاول إنشاد بيتٍ قديمٍ متمثلاً كسر وزنه، وإنما كان يحرز المعاني فقط".
وهو القول الذي يتماشى مع ما ذهب إليه الخليل بن أحمد الفراهيدي، في حديثه "كان الشعر أحب إلى رسول الله من كثير من الكلام، ولكن لا يتأتى له".
ولكن ذلك لم يمنع من أن أبياتاً عديدةً وأقوالاً منظومةً قد نُسبت إلى الرسول في مواقف شتى من حياته بعد البعثة، ومن ذلك ما أورده البخاري في صحيحه، من أن الرسول بعد هجرته إلى يثرب قد عمل على إقامة مسجد يؤدي فيه المسلمين صلواتهم، وأنه أثناء العمل في تشييد المسجد كان ينشد "اللهمَّ لا عيشَ إلّا عيشَ الآخرة... فاغفرْ للأنصارِ والمهاجرة".
وكان المسلمون يرددون ذلك البيت معه، كما ذكر ابن القيم الجوزية في كتابه "زاد المعاد"، أن الرسول كان يردد في ذلك الموقف: "هذا الحِمَال لا حِمَال خيبر ... هذا أبرُّ ربَّنا وأطهر"، وأن الصحابة كانوا يجيبونه قائلين "لئن قعدْنا والنبيُّ يعمل ... لذاك منا العملُ المضلِّل".
وكان الرسول في بعض الأحيان يرتجز أبياتٍ قالها شاعر من أصحابه، ومن ذلك ما أورده الألباني في "سلسلة الأحاديث الصحيحة"، عندما ذكر أن الرسول كان يقوم بحفر الخندق وهو يرتجز أبياتٍ سمعها من عبد الله بن أبي رواحة، وقد جاء فيها:
والله لولا الله ما اهتدَيْنا ولا تصدَّقْنا ولا صلَّينا
فأنـزلنَّ ســكينةً علـينا وثبِّت الأقدامَ إن لاقينا
وكان الرسول كثيراً ما يبدي إعجابه ببعض الأبيات والقصائد، ومن ذلك ما ذكره البخاري في صحيحه، أن النبيّ قد قال مادحاً شعر لُبيد بن ربيعة: "أصدَقُ كلمةٍ قالها الشاعرُ كلمةُ لبيد، ألا كلُّ شيءٍ ما خلا الله باطلُ".
وكذلك يذكر البخاري، أن الرسول كان يتمثل بأبيات الشاعر المعروف أميّة بن أبي الصلت، رغم كفره، وأنه قال في حقه "كاد أميةُ بن أبي الصلت أن يسلم".
وقد ارتبطت فترة البعثة النبوية بأسماء العديد من الشعراء المسلمين الذين أنشدوا الشعر بين يدي الرسول نفسه، ومنهم كعب بن زهير الذي أنشد قصيدته الشهيرة في مدح الرسول، وهي المُسمِّاة "بانت سعاد"، وشاعر الرسول حسان بن ثابت، الذي لما هجا كفار قريش، قال عنه النبي:
"إِنَّ رُوحَ القُدس لا يزالُ يُؤيِّدك ما نافحْتَ عن اللَّه ورسوله" بحسب ما يذكر مسلم في صحيحه.
الصدِّيق شاعراً.. وجهٌ آخر لشخصية الخليفة الأول
كان الخليفة الأول أبا بكر الصديق، من بين أفراد الطبقة الأولى من المثقفين المسلمين، اشتهر بين أقرانه بدرايته وخبراته الكبيرة في الأنساب وأيام العرب، وكذلك إتقانه للشعر ومعرفته بأخبار فحول الشعراء.
أهم الأدلة والشواهد التي تؤكد على العلاقة الوطيدة ما بين أبي بكر والشعر، أن المصادر التاريخية تفيض بنماذج وأمثلة لقصائد متعددة، أنشدها الخليفة في مواقف مختلفة، الأمر الذي حدا ببعض الباحثين لتجميع تلك القصائد في كتاب واحد، عنوانُه "ديوان أبي بكر الصديق".
من بين الأشعار التي أنشدها أبو بكر، ما قاله في حادثة الإسراء والمعراج، وذلك عندما كذَّب المشركون الرسولِ في مقالته، ليقف هو عندها مدافعاً عنه مُصدقاً إياه، قائلاً:
عَجبْتُ لِما أسرى الإلهُ بعبدِه من البيت ليلاً نحوَ بيتٍ مُقدّسِ
كِلا طَلَقيْــه كــان مّنَّ ببعضها ذهاباً وإقبالاً وما مِنْ مُعَرَّسِ
فآمنْتُ إيمـــاناً بربِّي وبَـيِّنَـتْ لنا كُتبٌ من عندِه لَمْ تُلَبَّسِ
أبي بكر الشعرية، استغل موهبته الشعرية في بعض المواقف التي عمل فيها على الدعوة للإسلام ومهاجمة أعدائه، ومن ذلك قصيدة طويلة أنشدها، قُبيل قتال أهل الطائف، جاء فيها:
ولقد عجِبْتُ لأهلِ هذا الطائفِ وصُدودِهم عن ذا النبيِّ الواصِفِ
ومن الإلهِ فـــلا يـــرَى في قوله خلَفٌ وينطقُ بالكلامِ العارفِ
وبحسب ما يذكر الشيخ محمد رشيد رضا في كتابه "سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم"، فإن وفاة الرسول، كانت من الحوادث المؤثرة التي استنطقت واستنفرت مواهب وملكات أبي بكر الشعرية، فدفعته لبكائه ورثائه، ومما قاله عندها:
يا عين بكِّي ولا تســـأَمي وحُقَّ البكاءُ على السَّيِّد
على خير خِنْدف عند البَلا ء أَمسى يُغيَّب في المُلْحَد
عمر بن الخطاب: ناقد أدبي رفيع
كان الخليفة الثاني عمر بن الخطاب، من أكثر الصحابة الذين عرفوا بحبهم للشعر، درجة أنه رسل بخطاب إلى أبي موسى الأشعري قاضي الكوفة، يأمره فيه بضرورة العمل على حفظ أشعار العرب وقصائدهم.
وقد أوردت المصادر التاريخية الإسلامية، بعض الأشعار المنسوبة إلى الخليفة الثاني، ومنها ما ذكره ابن رشيق القيرواني في كتابه "العمدة في محاسن الشعر وآدابه"، أنه لما دخل كعب الأحبار على عمر قُبيل مقتله بثلاثة أيام، وأخبره بأنه سوف يُغتال، فإن الخليفة قد قال:
توعدني كعبُ ثـــلاثاً يــــــعدها ولا شكَّ أنَّ القولَ ما قال لي كعبُ
وما بي خوفُ الموتِ إني لَميتٌ ولكنَّ خوفَ الذنبِ يتبعُه الذنبُ
ومن الملاحظ أن الأشعار المنسوبة إلى عمر، لم تكن بمتواترة أو مشهورة، فهي أقل بكثير من تلك التي نُسبت لسلفه الصديق، غير أننا نجد مع ذلك أن هناك ميزة خَصَّت عمر في مجال الشعر، ألا وهي ملكته النقدية الشعرية، تلك التي جعلته يستطيع أن يتعرف بسهولة على الأشعار الممتازة والجيدة، إلى الحد الذي جعل ابن رشيق القيرواني يصفه بقوله: "كان عمر بن الخطاب من أنقدِ أهلِ زمانه للشعر، وأنفذهم فيه بصيرة".
وجاء في كتاب "الأغاني" لأبي الفرج الأصفهاني، ما يعبر عن الإعجاب الشديد الذي كان الخليفة الثاني يبديه بفحول الشعراء العرب في الجاهلية والإسلام، وكان منهم على وجه الخصوص زهير بن أبي سلمى، إذ يروي الأصفهاني عن عبد الله بن العباس قوله:
"خرجتُ مع عمر بن الخطاب في أول غزوة غزاها فقال لي: أنشدني لشاعر الشعراء، قلت: "ومن هو يا أمير المؤمنين؟" قال: ابن أبي سُلمى، قلت: وبم صار كذلك؟ قال "لا يتَّبِع حوشيَّ الكلام ولا يعاظلُ في المنطق، ولا يقولُ إلا ما يعرفُ ولا يمتدحُ أحداً إلا بما فيه".
كما يذكر الأصفهاني أن عمر بن الخطاب قد التقى في يوم برجل كان زهير قد مدح أباه، فطلب منه الخليفة الثاني أن ينشد بعض أشعار المدح، فأنشده، فقال له الخليفة مبيناً إعجابه الشديد بشعر زهير وقيمته النفيسة "قد ذهبَ ما أعطيتموه وبقيَ ما أعطاكُم".
عثمان بن عفان.. شاعرٌ المواقف العصيبة
لم تمدنا المصادر التاريخية، بالكثير من المعلومات عن علاقة الخليفة الثالث عثمان بن عفان بشعراء عصره، على أنه من المرجح أن الخليفة الأموي كان يهتم بالشعر، شأنه في ذلك شأن معاصريه من المسلمين.
وقد ذكرت بعض تلك المصادر، ومنها "معجم الشعراء" للمرزباني، أن عثمان كان يمتلك في بيته خزانة مغلقة، لا يعرف أحد محتواها، فلما قُتل، قام البعض بفتحها، فكان مما احتوت عليه، ورقة كتب فيها:
غنى النفسِ يُغنِي النَّفسَ حتى يُكِفُّها وإن مسَّهَا حتى يضرَّ بها الفقرَ
وما عســـرة فـــاصبــر لــها إن لقيتها بكائنــةٍ إلا سيتبعهــا يســــر
ومن اللافت للنظر، أن السمة المميزة لأشعار عثمان، ارتباطها بمجموعة من أدق المواقف العصيبة التي قابلته خلال فترة حكمه.
وبحسب ما يذكر شمس الدين الذهبي في كتابه "سير أعلام النبلاء"، فإنه عندما حوصر عثمان من قبل الثوار القادمين من الأمصار، وضيقوا الخناق عليه، أرسل إلى علي بن أبي طالب بورقة كتب فيها مستنجداً إياه "أما بعد، فقد بلغ الحزام الطبيين، وخلف السيل الزبى"، ثم تمثل بالأبيات المنسوبة إلى الشاعر الجاهلي شاس بن نهار، والتي يقول فيها:
فإن كنت مأكولاً فكُنْ خيرَ آكل وإلا فأدركني ولما أمزق
أما ابن كثير في "البداية والنهاية"، فإنه يذكر أنه لما حوصر عثمان في داره قال:
يُبيَّت أهل الحصن والحصن مغلقٌ ويأتي الجبال الموت شمراخها العُلا
كما قال يوم دخل عليه الثائرون في بيته ليقتلوه:
أرى الموتَ لا يبقي عزيزاً ولم يدَع لعاد ملاذاً في البلاد ومرتعاً
أبا الحسنين: بلاغة شعرية في الحرب والزهد والرثاء
كان علي بن أبي طالب من أكثر الصحابة الذين عُرفوا بالبلاغة والتمكن في اللغة، وقد نُسبت إليه مئات القصائد، التي جمعت في بعض الدواوين، وكذلك ورد بعضها في الكتاب الشهير المنسوب للخليفة الرابع، وهو كتاب "نهج البلاغة"، الذي قام بجمعه وتدوينه الشريف الرضي (تـ.406هـ).
ولما كان علي بن أبي طالب، معروفاً بالفروسية والشجاعة من جهة، والزهد والبعد عن ملذات الدنيا من جهة أخرى، فقد كان من الطبيعي أن تتمحور أشعاره، حول مواضيع الحرب والقتال والتقشف والقناعة.
ومن بين أشهر القصائد التي نسبت إلى علي بن أبي طالب في حروبه، تلك التي قالها يوم معركة صفين، والتي يمتدح فيها مقاتلي قبيلة همدان، وكان قد لعبت دوراً كبيراً في مساندته في المعركة، جاء فيها:
ونادى ابنُ هندٍ في الكلاعِ وحمير وكندة في لــخم وحيِّ جِــذامِ
تيمَمْتُ همـــدانَ الــذين هم هم إذا نابَ دهرُ جنتي وسهامي
وكان الزهد والترفع عن مشاغل الحياة الدنيا، من أكثر الموضوعات التي نُسبت فيها الأشعار لعلي بن أبي طالب.
يذكر الكاتب محمد نصر الدين محمد عويضة، في كتابه "فصل الخطاب في الزهد والرقائق والآداب"، قصيدة رائعة للخليفة الرابع، وجاء في مطلعها:
النفسُ تبكي على الدنيا وقد عَلِمَتْ أنَّ السعادةَ فيها ترْكُ ما فيها
لا دارَ للـــــمرءِ بـعـدَ الـموتِ يسـكنُها إلا التي كانَ قبلَ الموتِ بانيها
ومن الشعر الموجع الذي يُنسب لأبي الحسنين، قصيدته الحزينة التي أنشدها في رثاء زوجه فاطمة الزهراء، قائلاً فيها:
ألا هــلْ إلى طــولِ الـحـيـاةِ سـبـيـلٌ وأنَّـــى هـــذا الـــموتُ لـــيسَ يــحولُ
وإنـــِّـي وإن أصــبـحـتُ بـــالــمــــوت موقِناً فـــلي أمــلٌ مـــن دونِ ذاك طـــويـــل