الشيخ الطوسيّ( 385 هـ / 460 هـ )
وقفة اعتبار
يكفينا للتعرّف على مقام العلماء أن نقرأ:
• قولَ رسول الله صلّى الله عليه وآله: العلماء ورثة الأنبياء (1).
• وقولَ أمير المؤمنين عليه السّلام: العلماء حكّام على الناس (2).
• وقول الإمام الصادق عليه السّلام: العلماء حكّام على الملوك (3).
فإذا كان هذا شأنهم.. فحريٌّ بالأمّة أن تتعرّف على علمائها وتمجّدهم وتنتفع بعلومهم، وتُحْييَ ذكراهم.
مَن هو الشيخ الطوسيّ
هو محمّد بن الحسن بن عليّ الطوسيّ؛ نسبةً إلى « طوس » ناحية في خراسان، توسّعت فعُرفت بمدينة مشهد ( مشهد الإمام الرضا عليه السّلام )، وهي من أقدم مدن بلاد فارس وأشهرها، ومن مراكز العلم ومعاهد الثقافة بعد ورود الإمام الرضا عليه السّلام إليها وتشييد قبره فيها (4).
وُلد الشيخ الطوسيّ بخراسان سنة 385 هجريّة، ودرس على أيدي أكابر العلماء وأفاضلهم، ومنهم: الشيخ المفيد، والسيّد الشريف المرتضى وقد لازَمَه، فاعتنى المرتضى بتوجيهه وتنمية مواهبه العلميّة طوال ثمانٍ وعشرين سنة، حتّى صارت الأنظار متوجّهةً إلى الشيخ الطوسيّ أن يخلف أُستاذَه لزعامة الأُمّة بعده، فكان ذلك.
وبعد أن تُوفّي السيّد الشريف المرتضى.. ازدلف إلى الشيخ الطوسيّ طلبة العلم، وتقاطر عليه الفضلاء للحضور تحت منبره العلميّ، حتّى أصبحت داره في بغداد مأوى المستفيدين، فبلغ عدد تلاميذه ثلاثمائة من مجتهدي الشيعة، ومن العامة ما لا يُحصى كثرةً.
إذ كان عالماً جاذباً بطريقته، ومقنعاً بأسلوبه، واقفاً على الدليل والبرهان، واسع الصدر حسن الأخلاق.. حتّى نُقل عن شيخ الأزهر الأسبق الشيخ عبدالمجيد سليم أنّه كان كثير الإعجاب بفقه الشيعة منذ أن أُهديَ إليه كتاب ( المبسوط ) للشيخ الطوسيّ، حيث تعرّف على هذا الكتاب واستأنس به، وكان يقول بأنّه يراجعه في مقدّمة الكتب التي راجعها قبل إصدار الفتوى، فإذا رأى فيه ما يُقنعه بأنّه أفضل ممّا في مذهبه الفقهيّ أخذ به (5).
وقد رأى تلامذتُه فيه شخصيّةً مهيبة، ونبوغاً فذّاً، فضلاً عن جمعه بين المعرفة والعمل، حتّى أُعجب به حاكم زمانه القائم بأمر الله، فجعل له كرسيَّ الكلام والإفادة، الذي لم يسمحوا به يومذاك إلا لوحيد العصر في علومه، فكان الشيخ الطوسيّ يجلس على ذلك الكرسيّ ويلقي مِن عليه علومه.. حتّى اقتربت النيران فقام عنه الشيخ قبل أن يحترق الكرسيّ والبيت والمكتبة.
لهيب الفتنة
سقطت بغداد بيد أتراك السلاجقة فدخلها طغرل بيك سنة 447 هجريّة فأوقع الفتنة بين السنّة والشيعة سنة 448 هجريّة، وأحرق مكتبة شابور الشيعيّة التي لم يكن يومها مكتبة أعظم منها ـ كما يذكر ياقوت الحمويّ ـ (6).
وفي تلك السنة كُبست دار الشيخ الطوسيّ ونُهبت وأُحرقت مكتبته وكرسيّه، فكان لابدّ من الرحيل اتّقاء الفتنة الزاحفة، فهاجر الشيخ إلى مشهد أمير المؤمنين عليه السّلام في النجف الشرف.. فأنشأ هناك جامعة علميّة كبرى، حتّى أصبحت المدينة عاصمةً للعلم ومركزاً للعلماء، فاتّجه الفضلاء إليها ليتخرّج منها آلاف من أعاظم الفقهاء ونوابغ المتكلمين وأفاضل المفسّرين واللغويّين والمؤرّخين والبارعين (7).
ثمّ بعد وفاته تحوّل قبر الشيخ الطوسيّ إلى مدرسة شامخة لنشر معارف الإسلام، ومركزاً للحوزة العلميّة ومراجعها.
مكانته العلميّة
وهي تؤول إلى أهل الخبرة والاختصاص، وهذه بعض كلماتهم في الشيخ الطوسيّ:
• النجاشيّ: جليلٌ من أصحابنا، ثقة عين.. (8)
• العلاّمة الحليّ: صدوق عارف بالأخبار والرجال والفقه والأصول والكلام والأدب، وهو المهذِّب للعقائد في الأصول والفروع، والجامع لكمالات النفس في العلم والعمل.. (9)
• الشيخ المجلسيّ: فضله وجلالته أشهر من أن يحتاج إلى بيان.. (10)
• الحرّ العامليّ، بيّن طرق الشيخ الطوسيّ في أخذه الأحاديث وعمّن نقل من الرجال بشكلٍ منظّم ودقيق(11).
• آقا بزرگ الطهرانيّ: كان الشيخ الطوسيّ قدوة فقهاء الشيعة، أسّس طريقة الاجتهاد المطلق في الفقه وأصوله، وقد بقيت كتبه مرجعاً وحيداً للمتأخرّين.. (12)
• الميرزا النوريّ، بالغ في الثناء عليه (13).
• الشيخ عبّاس القمّي: صنّف الشيخ الطوسيّ في جميع علوم الإسلام، وكان القدوةَ في ذلك، وقد ملأت تصانيفُه الاسماع، ووقع على قِدَمه وفضله الإجماع.. (14)
• السيّد الخوئيّ: كان الشيخ الطوسيّ منطلقَ مرحلة جديدة من تطوّر الفكر الفقهيّ والأصوليّ.. وقد استطاع ـ بنهضته الجبّارة ـ أن يقدّم في نتاجه الفقهيّ الدليلَ المحسوس على أنّ الأصول الفكريّة لمدرسة أهل البيت عليهم السّلام قادرةٌ على تزويد الفقيه بالمناهج والأدوات الفكريّة التي تمكّنه من استنباط أيّ حكمٍ في جميع الوقائع.. (15)
• السيّد المرعشيّ النجفيّ، ذكر جملة من مزايا وخصائص الشيخ الطوسيّ، فبيّن أنّه من الرعيل الأوّل في الاستنباط وردِّ الفروع إلى الأصول، واستخراج الضوابط والقواعد الكليّة من الكتاب والسنّة، وأنّه كان متعمّقاً في تبيين الموضوعات من لسان شعر العرب وأهل البلاغة، وقد جمع فنوناً كثيرة وتبّحر في كلّ علم خاص، وكان ثقةً فيما نقله ولو عن المخالفين في آرائه. وأنّ الشيخ الطوسيّ كان موفّقاً في الإفادة بأماليه القيّمة التي ألقاها في بغداد والنجف الأشرف، وبالتآليف والتصانيف القيّمة التي دوّنها وأخذت طريقها المستمرّ في تزويد المعاهد العلميّة بضروريّات المعرفة، وبتأسيسه المجمعَ العلميّ النافع في النجف الأشرف، حتّى صار مأملاً لروّاد الفقه والتفسير والحديث (16).
إذن.. لا غرابة إذا كان الشيخ عبدالمجيد سليم ـ شيخ الأزهر ـ كثير الإعجاب بفقه الشيعة خاصّة بعد أن أُهديَ إليه كتاب ( المبسوط ) للطوسيّ. ولا غرابة أيضاً أن يقول الدكتور عبدالله بن عبدالقادر بلفقيه العلوي ( مفتي لجنة الإفتاء الشرعيّ ورئيس معهد دار الحديث وعميد كليّة المعلّمين في مالانج بأندونيسيا ) في رسالته إلى المؤتمر الألفيّ للشيخ الطوسيّ: الشيخ الطوسيّ هو من الأفذاذ الذين قلّ أن يجود الدهر بأمثاله (17).
كما لا غرابة بعد ذلك أن يشيد بالشيخ الطوسيّ الأستاذ سعيد أحمد أكبر آبادي ( عميد كليّة الدين ـ القسم السنّيّ ـ بالجامعة الإسلاميّة في عليگره بالهند )، فيقول في كلمته إلى المؤتمر الألفيّ: لا يخفى على مَن له إلمام بتاريخ النبوغ الفكريّ في الإسلام، أنّ شيخنا شيخ الطائفة أبا جعفر محمّد بن الحسن الطوسيّ كان من أمثال أولئك الأعلام المجتهدين المجدّدين الذين يتأسّى بهم العلماء، ويقتدي بهم الحكماء. وممّا لا مساغ فيه للشكّ، أنّه كان رجلاً موهوباً، وعلَماً فرداً، وآيةً من آيات الله البالغة، وحُجّةً مِن حججه الكاملة (18).
من ثمار الشجرة الطوسيّة
تلك المواهب الطيّبة للشيخ الطوسيّ أثمرت عن مؤلّفات احتلّت المكانة السامية بين آلاف الكتب التي انتجتها عقول العلماء. فقد جمعت مؤلّفاته معظم العلوم: أصليّةً وفرعيّة، وتضمّنت حلّ معضلات البحوث الكلاميّة، كما تبنّت ما يحتاج إليه علماء المسلمين على اختلاف مذاهبهم.
وكان الشيخ مخلصاً في تآليفه، لم يطلب شهرةً أو رئاسة، ولم يكن منه مراء أو مباهاة، فكُتب له التوفيق حتّى جاءت كتبه متميّزةً عن السابقين، إذ أصبحت مصدراً لمعظم مؤلّفي القرون الوسطى، تُستقى منها مادّتُهم؛ لأنّها حوت خلاصة الكتب الأصول بأسلوب جديد وبراهين وافرة. وهذه جملة من ثمار الشيخ الطوسيّ:
1 ـ رجال الطوسيّ ، ويُسمى هذا الكتاب ( الأبواب ).
2 ـ اختيار معرفة الرجال ـ هذّب من خلاله كتاب ( رجال الكشيّ ).
3 ـ الاستبصار ـ جزءان في العبادات، والثالث في بقية أبواب الفقه.
4 ـ الأمالي ـ في الحديث، ويُسمى أيضاً ( المجالس ).
5 ـ التبيان في تفسير القرآن.
6 ـ تلخيص الشافي ـ في الإمامة، وأصله للشريف المرتضى ( الشافي ).
7 ـ تمهيد الصول ـ شرح لكتاب المرتضى ( جُمَل العلم والعمل ).
8 ـ تهذيب الأحكام ـ عشر مجلّدات، من الكتب الأربعة التي عليها مدار استنباط الأحكام الشرعيّة.
9 ـ الجُمل والعقود ـ في العبادات، ألّفه بطلبٍ من قاضي طرابلس.
10 ـ الخلاف ـ في الأحكام، ناظَرَ فيه المخالفين.. في مجلَّدين.
11 ـ رياضة العقول ـ شرح لكتابه ( مقدّمة في علم الأصول ).
12 ـ العُدّة ـ في أصول الدين وأصول الفقه.
13 ـ الغَيبة ـ في غيبة الإمام المهديّ ( عجل الله تعالى فرَجَه ).
14 ـ الفهرست ـ في ذكر أصحاب الكتب والأصول.
15 ـ ما يُعلّل وما لا يُعلَّل ـ في علم الكلام.
16 ـ المبسوط ـ من أجلّ كتب الفقه.. يشتمل على سبعين فصلاً.
17 ـ مصباح المتهجّد ـ في أعمال السَّنة، وهو من أجل كتب الأدعية والأعمال.
18 ـ المفصح ـ في الإمامة، وهو من الآثار المهمّة.
19 ـ مقتل الإمام الحسين عليه السّلام.
20 ـ المستجاد من الإرشاد ـ في أصول الدين الخمسة.
21 ـ مناسك الحجّ ـ في مجرّد العمل.
22 ـ النهاية ـ في الفقه والفتوى.. يحتوي على 22 فصلاً و 214 باباً.
23 ـ هداية المسترشد وبصيرة المتعبّد ـ في الأدعية والعبادات..
إضافة إلى عدد كبير من كتبه ورسائله ومسائله في القرآن والكلام والعبادات والفقه والدعاء والرواية.
قال الشيخ آقا بزرگ الطهرانيّ: كتب الشيخ الطوسيّ في كافة العلوم، من: الفقه وأصوله، والكلام والتفسير والحديث والرجال، والأدعية والعبادات.. وغيرها. وكانت ـ ولم تزل ـ مؤلّفاته في كلّ علمٍ من العلوم مآخذَ علوم الدين، بأنوارها يستضيئون، ومنها يقتبسون، وعليها يعتمدون.. ولم يدع الشيخُ الطوسيّ باباً إلا طرقه، ولا طريقاً إلاّ سلكها، وقد ترك لنا نتاجاً طيّباً متنوّعاً غذّى به عقولَ فطاحل عدّة قرونٍ وأجيال (19).
الرحيل
عاش الشيخ الطوسيّ بعد وفاة أستاذه الشريف المرتضى أربعاً وعشرين سنة، اثنتَي عشرة سنةً منها في بغداد حتّى وقوع فتنة طغرل بيك، فانتقل بعدها إلى مشهد الغريّ في النجف الأشرف، فبقي هناك اثنتَي عشرة سنةً مشغولاً بالتدريس والهداية والتأليف والإرشاد.. وسائر وظائف الشرع الحنيف وتكاليفه، حتّى تُوفّي في الثاني والعشرين من محرّم عام 460 هجريّ عن عمرٍ ناهز الخامسة والسبعين عاماً.
وقد أرّخ ذلك بعضُ المتأخّرين مخاطباً مرقدَه:
إلى أن قال:
يا مرقـدَ الطوسيّ فيك قـدِ آنطوى مُحْيي العـلوم.. فكنتَ أطيبَ مرَقدِ أودى بشهـر محـرّمٍ فـأضـافـه حُـزناً بفـاجـع رُزئـهِ المـتجدّدِ بك شيخ طائفة الهـداة إلى الهـدى ومجـمِّـع الأحـكـام بعـد تبـدّدِ
وبعد دفنه رضوان الله عليه، أصبحت داره التي دُفن فيها مسجداً مشهوراً حسب وصيّته يُسمّى بـ ( مسجد الطوسيّ )، ثمّ صار من أشهر مساجد النجف الأشرف، تُعقد فيه صلوات الجماعة على مدى مئات السنين، ومئاتُ حلقات التدريس مِن قِبل كبار المجتهدين والمدرّسين، بل صار مدرسةً للعلماء ومعهداً للعلوم، تخرّج منه آلاف المجتهدين.
وبكى له الشـرع الحنيف مؤرِّخـاً: أبكى الهـدى والـديـنَ فَقْـدُ محمّدِ
وبقي الشيخ الطوسيّ مَعْلَماً شامخاً تفتخر به الأمّة في جميع محافلها العلميّة: المحليّة منها والعالميّة، بعد أن أسدى هذا العالم خدمةً إنسانيّة كبيرة سدّ بها ثغراتٍ كثيرةً في المكتبة الفكرية والإنسانيّة، وفتح الآفاق الواسعة أمام الأجيال، وصار رمزاً من رموز حضارتنا الإسلاميّة.