القرآن الكريم هو كتاب الله عز وجل، الذي أنزله على عبده ورسوله محمَّد صلى الله عليه وسلم، وهو معجزة الله الخالدة، وهو الكتاب العزيز الذي {لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت: 42]. والقرآن الكريم هو شريعة الله عز وجل الصالحة لكلِّ زمانٍ ومكان، يقول الله سبحانه وتعالى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} [النحل: 89]. فالله سبحانه وتعالى أنزل في كتابه الخير والصلاح للبشريَّة، فهو سبحانه وتعالى خالق البشر، يعلم ما فيه صلاحهم ونفعهم، والمتأمِّل لكتاب الله عز وجل يجد الإشارات الربَّانيَّة التي تُرشد البشر إلى آليَّات التعارف وأخلاقيَّاته؛ لذلك يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "كِتَابُ اللهِ فِيهِ نَبَأُ مَا كَانَ قَبْلَكُمْ، وَخَبَرُ مَا بَعْدَكُمْ، وَحُكْمُ مَا بَيْنَكُمْ"[1].
وبعد دراسة هذه النظريَّة (المشترك الإنساني) وبعد أن بانت ملامحها، فلننظر إلى سورةٍ من سور القرآن الكريم، وهي سورة الحجرات، وذلك من منظور تطبيقي للنظريَّة.. ولكن لماذا سورة الحجرات؟
عندما تقرأ سورة الحجرات وتقف أمام قوله عز وجل: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [الحجرات: 13]، التي أطلق العلماء عليها (آية التعارف)، تجد أنَّ الغاية التي خلق الله البشر من أجلها وجَعْلهم شعوبًا وقبائل هي التعارف، وعند قراءتي للسورة -من منظور دعوتها إلى التعارف- وجدتُ أنَّها تضمَّنت آليَّات وأخلاقيَّات مُثْلَى للتعارف بين الشعوب؛ كان منها ما يلي:
***
أوَّلًا: التثبُّت من المعلومة:
لتحقيق التعارف السليم بين الناس بعضهم البعض، وبين الشعوب المتقاربة أو المتباعدة، لا بُدَّ من البناء السليم القائم على المعلومة السليمة، فلا يقوم تعارف قويٌّ بين البشر حتى يكون كلٌّ منهما قد عرف صاحبه وخبره، واطمأنَّ إليه، وهو ما يكون بالمعلومة الصحيحة، وهذا ما تُرشدنا إليه الآية الكريمة في قول الله سبحانه وتعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} [الحجرات: 6]. وفي قراءة حمزة والكسائيِّ: "فتثبَّتوا" من التثبُّت، وقرأ الباقون: "فَتَبَيَّنُوا" من التبيين"[2]. وكلٌّ من التبيُّن والتثبُّت معناهما واحد؛ فالآية الكريمة تُرشدنا إلى أهميَّة المعلومة الصحيحة لتحقيق التعارف بين الناس، وقد تبيَّن من خلال النظريَّة أنَّ لكلِّ شعبٍ سماته وصفاته الخاصَّة، فمن أراد التعرُّف على شعبٍ من الشعوب فلا بُدَّ من معرفة الصفات المميِّزة له؛ لتحقيق التعارف السليم والقوي.
أمَّا إن لم يتثبَّت قومٌ من معلومةٍ أو خبر فإنَّه يُحْدِثُ ما حذَّرتنا منه الآية الكريمة: {أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ}، وهذا يُوضِّح أن تناقل الأخبار والمعلومات آفة المجتمعات والشعوب، فقد يكون بعضها إشاعةً أو كذبًا، وقد يكون هناك كثيرٌ من المبالغة، وغالبًا ما يكون نقل المعلومة أو الخبر بحاجةٍ ماسَّةٍ إلى الدقَّة في النقل، وضبط اللفظ، وفهم المراد، وتأويل المسموع، وقد يكون الخبر كلُّه ملفَّقًا أو موضوعًا لدوافع سياسيَّة أو مناصرة اتجاه معيَّن أو لبذر بذور الفرقة، وتأجيج نار الخلاف بين الناس (الأقارب أو الأباعد)؛ لذا أوجب القرآن التثبُّت من الأخبار والمعلومات؛ تحقيقًا للمصلحة العامَّة أو الخاصَّة، ومنعًا من إيقاع الفتنة وزرع الفُرقة[3].
إنَّها دعوةٌ قرآنيَّةٌ لمن يُريد التعارف البنَّاء: أن تثبَّتوا من المعلومات والأخبار، وتبيَّنوا صحَّتها أو فسادها، فكلُّ ذلك يُؤَثِّر في قوَّة التعارف أو ضعفه.
ثانيًا: سرعة الإصلاح:
خلق الله سبحانه وتعالى البشر، وجعل بينهم مشتركات عامَّة؛ لتكون سبيلًا إلى الاتفاق وتحقيق التعاون المشترك بين الناس جميعًا، وجعل بين البشر مشتركات خاصَّة وأخرى داعمة؛ كاللغة والعرق والأرض والسياحة والفنون وغيرها، على نحو ما بيَّناه في النظريَّة، وهذه المشتركات مع حُسن الاستغلال والانتباه إليها تكون سبيلًا واضحًا وقويًّا لتحقيق التفاهم بين الشعوب وبعضها، كما جعل الله عز وجل فيهم مشتركًا أسمى، غير قابل للمساس به أو القرب منه، وهو الدين.
وأمام هذه المشتركات المتنوِّعة تقف طبيعة الإنسان المنشطرة نحو الخير والشرِّ، ونحو السلام والحرب، ونحو الاتفاق والاختلاف، ونحو الوئام والتنازع، فإذا تغلَّبت طبيعة الخير والسلام والميل نحو المصلحة المشتركة -التي فيها النفع للإنسانية جميعًا- كان التعارف والحب، وأمَّا إذا تَغَلَّبت نزعة الشرِّ والحرب والميل نحو المصلحة الذاتيَّة كان التقاتل والكراهية.
فإذا وقع الصدام يأتي النهج القرآني ليُخبرنا بضرورة وسرعة الإصلاح بين الفئتين المتنازعتين؛ حتى يجبر الصدع، وتعود الرغبة في التعارف والمشاركة، يقول الله U: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} [الحجرات: 9]. إذ لم تخْلُ فترة من فترات التاريخ من حرب بين طائفتين، فإن حدثت هذه الحرب وجب على فرقة ثالثة لم تشترك في الحرب أن تقوم بالإصلاح بين المتقاتلين؛ لأنَّ كلَّ طرفٍ تكون له رؤيته الخاصَّة، فإذا دخلت فرقة محايدة فلعلَّ الإصلاح يكون أرجى.
وهذه الدعوة وإن كانت خاصَّة بالمسلمين فهي دعوةٌ للإنسانيَّة جميعًا؛ فإنَّ منهج القرآن صالحٌ لكلِّ البشر، ولكلِّ زمانٍ ومكان، كما أنَّها دعوةٌ لنبذ التقاتل والعمل على إذكاء رُوح التعارف والمشاركة.
ثالثًا: الحزم في الإصلاح:
وهو من الأخلاقيَّات الرفيعة التي حثَّ القرآن الكريم عليها، فلو حدث وتقاتل الطرفان واشتعلت الحروب بينهما، وجب الإسراع في الصلح بينهما، ولكن ماذا لو بغت إحدى الطائفتين على الأخرى، ولم ترضَ بالصلح؟ هنا يكون المنهج الرباني وهو الحزم في الإصلاح بين الطرفين، يقول الله سبحانه وتعالى بعد أن ذكر سرعة الإصلاح بينهما: {فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللهِ} [الحجرات: 9]؛ أي: إذا اعتدت أو تجاوزت إحدى الجماعتين على الأخرى ولم تتقبَّل النصيحة والصلح، فعلى المسلمين أن يُقاتلوا الطائفة الباغية؛ حتى ترجع إلى حُكم الله وترك البغي، ويكون القتال بالسلاح وغيره؛ حيث يفعل الوسيط ما يُحَقِّق المصلحة[4]؛ فالحزم ضرورة وآلة مُثْلَى لتجنُّب الأضرار الناتجة على الإنسانيَّة كلِّها، إذا ما استمرَّت تلك الحروب على أشُدِّها قائمة، فلو بغت إحداهما فلم تقبل الرجوع إلى الحقِّ -ومثله أن تبغيَا معًا برفض الصلح أو رفض قبول حكم الله في المسائل المتنازع عليها- فعلى المؤمنين أن يُقاتلوا البغاة إذًا، وأن يظلُّوا يقاتلونهم حتى يرجعوا إلى أمر الله، وأمر الله هو وضع الخصومة بين المؤمنين، وقَبول حكم الله فيما اختلفوا فيه، وأدَّى إلى الخصام والقتال[5].
وهذا الأمر يُشبه قوَّات الأمن الدوليَّة، التي يُمكن لها أن تُقاتل طائفةً باغيةً حتى تَرُدَّ الحقَّ لأصحابه، فالحزم في مثل هذه الأمور هو أسلم الحلول؛ فبه السلام، واتِّقاء البشريَّة شرَّ البغاة الظالمين.
رابعًا: العدل في الإصلاح:
لا يتحقَّق الإصلاح بين الطرفين المتنازعين إلَّا بتوفُّر العدل من جانب الوسيط الذي ارتضاه الطرفان، وهذا هو المنهج الذي ارتضاه الله سبحانه وتعالى لعباده المؤمنين، وخاصَّةً في مثل تلك الأمور، التي قد تُفضي إلى شرٍّ ووبال على البشرية كلها؛ وذلك إذا شعرت إحدى الطائفتين بالظلم الواقع عليها، فإذا رضخ الطرفان المتنازعان ورضيَا فلا بُدَّ من العدل؛ يقول الله تعالى: {فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الحجرات: 9]. فإن رجعت الفئة الباغية عن بغيها، ورضيت بأمر الله وحُكمه، فعلى المسلمين أن يعدلوا بين الطائفتين في الحُكم، ويتحرَّوا الصواب المطابق لحُكم الله، ويأخذوا على يد الطائفة الظالمة حتى تخرج من الظلم، وتُؤَدِّيَ ما يجب عليها للأخرى، حتى لا يتجدَّد القتال بينهما مرَّةً أخرى، فاعدلوا أيُّها الوسطاء في الحكم بينهما، إنَّ الله يُحبُّ العادلين ويُجازيهم أحسن الجزاء، وهذا أمرٌ بالعدل في كلِّ الأمور، روى عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إِنَّ الْمُقْسِطِينَ عِنْدَ اللهِ عَلَى مَنَابِرَ مِنْ نُورٍ عَنْ يَمِينِ الرَّحْمَنِ U... الَّذِينَ يَعْدِلُونَ فِي حُكْمِهِمْ وَأَهْلِيهِمْ وَمَا وَلُوا"[6].
فعلى الطائفة الثالثة الوسيطة أن تحكم بالعدل في الإصلاح بين المتنازعين؛ فهذا هو المنهج الذي ارتضاه الله عز وجل لعباده المؤمنين في فضِّ المنازعات، وهي دعوةٌ عالميَّةٌ لمن يتصدُّون لفضِّ المنازعات الدوليَّة أن يتحرَّوا العدل في الإصلاح؛ فالعدل خُلقٌ قويمٌ وسبيلٌ لإنهاء الحروب وتقوية التعارف بين الشعوب.
ويُعَقِّب الله سبحانه وتعالى على هذه الدعوة وهذا الحكم باستجاشة قلوب الذين آمنوا، واستحياء الرابطة الوثيقة بينهم -التي جمعتهم بعد تفرُّق، وألَّفت بينهم بعد خصام- وتذكيرهم بتقوى الله، والتلويح لهم برحمته التي تُنال بتقواه؛ بقوله سبحانه وتعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الحجرات: 10]، وممَّا يترتَّب على هذه الأُخُوَّة أن يكون الحبُّ والسلام والتعاون والوَحدة هي الأصل، وأن يكون الخلاف أو القتال هو الاستثناء، الذي يجب أن يُرَدَّ إلى الأصل فور وقوعه، وأن يُستباح في سبيل تقريره قتال المؤمنين الآخرين للبغاة من إخوانهم ليرُدُّوهم إلى الصفِّ، وليُزِيلُوا هذا الخروج على الأصل والقاعدة، وهو إجراءٌ صارمٌ وحازمٌ كذلك.
والله تعالى يَذْكُر أنَّ الأُخُوَّة بين المؤمنين في الدين والحرمة؛ ولهذا قيل: أخوة الدين أثبت من أخوة النسب؛ فإنَّ أخوة النسب تنقطع بمخالفة الدين، وأخوة الدين لا تنقطع بمخالفة النسب[7]، وعن سالم بن عبد الله بن عمر رضي الله عنهم عن أبيه أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "الْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ، لاَ يَظْلِمُهُ وَلَا يُسْلِمُهُ، مَنْ كَانَ فِي حَاجَةِ أَخِيهِ كَانَ اللهُ فِي حَاجَتِهِ، وَمَنْ فَرَّجَ عَنْ مُسْلِمٍ كُرْبَةً فَرَّجَ اللهُ عَنْهُ بِهَا كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ"[8].
وفي الآية تقريرٌ لِمَا ألزمه مَنْ تولَّى الإصلاح بين مَنْ وقعت بينهم المشاقَّة من المؤمنين، وقد جرت عادة الناس على أنَّه إذا نشب القتال، لزم السائر أن يتناهضوا في رفعه وإزاحته، ويركبوا الصعب والذلول مشيًا بالصلح وبثًّا للسفراء بينهما، إلى أن يقع الوفاق والاتفاق؛ فالأخوة في الدين أحقُّ بذلك وبأشدَّ منه، وقد خصَّ الله عز وجل الاثنين دون الجمع؛ لأنَّ أقلَّ مَنْ يقع بينهم الشقاق اثنان؛ فإذا لزمت المصالحة بين الأقل كانت بين الأكثر ألزم؛ لأنَّ الفساد في شقاق الجمع أكثر منه في شقاق الاثنين[9].
والأخوة في الآية وإن كانت خاصَّة بالمسلمين فإنَّها للناس أجمعين كذلك؛ فالتذكير بالإنسانيَّة هو السبيل لتقوية الرابطة والتعارف، فليس لأحدٍ الفضل على أحد، وإنَّ هذه دعوةٌ من الله عز وجل للبشر جميعًا أن يضعوا الإنسانيَّة فوق كلِّ اعتبار؛ فإنَّ احترامها هو السبيل لتقوية الروابط وتحقيق التعارف؛ ومن ثَمَّ التغاضي عن المساوئ والحروب.
خامسًا: الاحترام المتبادل:
يُمثِّل الاحترام المتبادل وتقدير كلِّ طرفٍ للآخر، ومراعاة كلٍّ من الطرفين لإنسانيَّة أخيه السبيل القوي لتحقيق التعارف البنَّاء والمشاركة الفاعلة بين البشر جميعًا؛ فالاحترام قيمةٌ إنسانيَّةٌ رفيعة تُعَبِّر عن الذوق الرفيع والفطريَّة السويَّة، التي جُبِل عليها البشر جميعًا، فالعلاقة القويَّة الناجحة -بلا شكٍّ- قائمةٌ على احترامٍ متبادلٍ بين الأطراف، وذلك لا يكون إلَّا بعدم السخرية بالآخرين والتحقير من شأنهم، والتقليل من منزلتهم، وهذا المعنى هو ما تُرشدنا إليه الآية الكريمة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلاَ نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلاَ تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلاَ تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [الحجرات: 11]، إنَّها دعوةٌ صريحةٌ في القرآن الكريم لكلِّ شعوب الأرض أن يحتفظوا بالحدِّ الأدنى من الاحترام المتبادل، وهذا الحدُّ الأدنى هو عدم السخرية من الآخرين، ولاحِظْ أنَّ الله عز وجل ذكر في الآية "القوم"، ولم يذكر الأفراد، دلالةً على أهميَّة هذه الخاصيَّة في العلاقة بين الشعوب، وفي ترسيخ التعارف، وإن كان الحُكْم ينطبق لا شَكَّ على الأفراد، ثُمَّ إنَّ الله عز وجل لا يكتفي بالبُعد الأخلاقي في الأمر، بل يُضيف له بُعْدًا عقليًّا مهمًّا؛ وهو أنَّ هؤلاء الذين يسخر منهم الناس قد يكونون أفضل من الساخرين، على الأقلِّ في أحد المجالات، ولقد رأينا أممًا في ظاهرها متخلِّفَة أو بسيطة في أمور التكنولوجيا والاختراعات، لكنَّها ساميةٌ جدًّا في أخلاقها، بل إنَّ عندها من الأخلاق ما لا يتحقَّق في أعلى شعوب الأرض تمدُّنًا.
وانظر إلى الروعة في قوله عز وجل: {وَلاَ تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ}، فهي تُحَقِّق فائدتين عظيمتين؛ الأولى أنَّ هذا الذي تسخر منه هو في واقع الأمر جزءٌ منك! أليس بشرًا يُشاركك في هذا الكون، ويعيش معك فوق الأرض نفسها، وتحت السماء نفسها، وهو في الحقيقة أخوك فهو منك، فسخريتك منه هي سخريةٌ من نفسك، ولا ترضاه، ثُمَّ الفائدة الثانية أنَّ هذا اللمز سيرتدُّ عليك، فتكون بذلك قد عَرَّضْتَ نفسك لسخريةٍ كنتَ في غنًى عنها.. فواقع الأمر أنَّك مستفيدٌ باحترامك للآخرين.
ثُمَّ يصل معك الله عز وجل إلى الخطِّ الأحمر الذي لا يجب أن يتعدَّاه أحد، وهو التلفُّظ بالسوء، فيقول: {وَلَا تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ}، فلو كانت السخرية في نفسك ولم تُخْرِجْها إلى دائرة الضوء، فلعلَّ هذا لا يُحْدِث أثرًا سلبيًّا كبيرًا، لكنَّ الحذر كلَّ الحذر من الوقوع في الخطأ عن طريق القول أو الفعل؛ فإنَّ هذا لا يُنْسَى، وقد تستمرُّ الحروب عشرات السنين لكلمةٍ نابيةٍ قيلت، أو لسخريةٍ لاذعةٍ أُعْلِنَتْ.
هذه الدعوة الأخلاقيَّة للسموِّ في التعايش مع الشعوب الأخرى هي دِعامةٌ لا بديل عنها لترسيخ التعارف بين الناس، والوصول إلى درجةٍ من التعايش الجميل، الذي يسعد فيه كلُّ إنسانٍ بصرف النظر عن عرقه أو جنسه أو عقيدته، ولا يخفى علينا أنَّ الآية تُحافظ على واحدٍ من أهم المشتركات الإنسانيَّة العامَّة، وهو مشترك الكرامة، الذي إذا خُدِش فإنَّ الصدام يكون حتميًّا، وقد لا يتوقَّف.
سادسًا: اجتناب الظنِّ:
يقول الله سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} [الحجرات: 12]. والواقع أنَّ الكثير من الأعمال تحتمل أكثر من تأويل، وإذا كانت العلاقة بين شعبٍ وشعب قائمةً على الظنون، فلا ريب أنَّها ستنتهي إلى الصدام والدمار، وليس معنى هذا عدم أخذ الحذر وتأمين البلاد والعباد، ولكنَّ الأصل في الأمور أن نفترض حُسن النوايا، إلَّا أن تكون الشواهد قويَّة تجعل هذا الظنَّ في حُكم اليقين، حتى في هذه الحالة، فإنَّنا يجب أن نُحَذِّر من أن نقع في الإثم، وهذا الظنُّ الذي تنبني عليه أعمالٌ فيه ضررٌ على الآخرين.
ولا شكَّ أنَّ الشعب الذي يتعامل بطيبةٍ وحُسن خُلقٍ مع الشعوب الأخرى، ينعكس هذا الأمر عليه في التعامل إنْ آجلًا أو عاجلًا، وسيدخل في دائرة التعارف والتعايش، أمَّا العلاقات القائمة على الظنون فما أسرع أن تنهار، ولعلَّنا إذا أضفنا إلى هذه النقطة ما ذكرناه قبل ذلك في مسألة التثبُّت من المعلومة فإنَّنا سنصل إلى علاقةٍ إيجابيَّةٍ قائمةٍ على اليقين والحقائق، لا على الشكوك والأوهام.
سابعًا: عدم التجسُّس:
يقول تعالى: {وَلاَ تَجَسَّسُوا} [الحجرات: 12]. وقد تبدو هذه النصيحة غريبة في عالم امتلأ بالجاسوسيَّة، وتنوَّعت فيه شبكاتها وكثرت مجالات عملها.. وواقع الأمر أنَّ الناس لا تُفَرِّق بين حالة حربٍ وحالة سلم، فلا شكَّ أنَّ الاستخبارات العسكريَّة في زمن الحرب مهمَّة لمعرفة قدرات العدوِّ وخططه، وهذا لا تستنكره عامَّة الشعوب، إنَّما التجسُّس المستهجن في الآية، هو التجسُّس في حالة العلاقات السليمة الطيِّبة، التي من المفترض أن تكون هي الأصل، فوجود مثل هذا السلوك يعني رغبة أحد الأطراف في اختراق خصوصيَّات الطرف الآخر، ومعرفة بعض الأمور التي لا يُريد الآخر أن يطَّلع عليها أحد، كما يعني كذبًا وتدليسًا وتزويرًا؛ لأنَّ الجاسوس لا يكشف عن هويَّته الحقيقيَّة، وكلُّ هذا يتنافى مع علاقات التعارف السويَّة؛ ولذلك جاء الأمر واضحًا {وَلَا تَجَسَّسُوا}، خاصَّةً أنَّ الأمم لا تنسى -عادةً- للأمم الأخرى جرائم التجسُّس، ممَّا قد يُوَتِّر العلاقات لعدَّة أجيال.
ثامنًا: عدم تشويه صورة الآخرين:
إنَّه سلوكٌ مُهينٌ حقًّا أن أتكلَّم عن إنسانٍ في غير وجوده بما يُسيء إليه، وقد حَرَمْتُه -لغيابه- فرصة الدفاع عن نفسه، وقد نستهجن هذا بشكلٍ عامٍّ عند حديثنا عن الأفراد، لكن لا يُفَكِّر كثيرٌ من الناس أنَّ هذا السلوك مشينٌ كذلك بالنسبة إلى الشعوب والأمم، فحديثنا عن أُمَّة من الأمم بسوءٍ دون وجود ممثِّلٍ لها يَرُدُّ ويُدافع- يُرَسِّخ عند السامعين صورةً ذهنيَّةً سلبيَّةً عن هذه الأمم، وبالتالي تتعذَّر جدًّا بعد ذلك علاقات التعارف والتعايش المرجوَّة؛ لذلك قال سبحانه وتعالى: {وَلاَ يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا}، والحديث هنا يشمل الأفراد والجماعات، بل إنَّ رسولنا صلى الله عليه وسلم عن شرحه لمعنى هذه الكلمة التي جاءت في الآية وقد سأله عنها أحد الصحابة أضاف بُعْدًا آخر في غاية الأهميَّة، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أَتَدْرُونَ مَا الْغِيبَةُ؟". قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: "ذِكْرُكَ أَخَاكَ بِمَا يَكْرَهُ". قيل: أفرأيتَ إنْ كان في أخي ما أقول؟ قال:"إِنْ كَانَ فِيهِ مَا تَقُولُ فَقَدِ اغْتَبْتَهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ فَقَدْ بَهَتَّهُ"[10]. فهو هنا يذكر أن ذِكْرَ الآخرين بالسوء في غيابهم أمرٌ غير مُبَرَّر، حتى إذا كانوا مُتَّصِفين حقيقةً بالأمر السيِّئ، وهو ما يتَّخذه كثير من الناس مسوِّغًا للطعن في الأفراد والجماعات، بحجَّة أنَّه لا يكذب، وأنَّهم فعلًا كما يصف، فهذه هي الغيبة المنهيُّ عنها، أمَّا إذا تطوَّر الأمر لِمَا هو أفظع؛ وهو اتِّهام الآخرين بما ليس فيهم، وهو البهتان فإنَّ هذا يُدَمِّر العلاقات تمام، ويقود إلى صدامٍ حتمي.
ولعلَّنا إذا حلَّلْنَا حالة الاحتقان الشديدة الموجودة في عالمنا اليوم خاصَّةً ضدَّ الأُمَّة الإسلاميَّة، لوجدنا أنَّ جزءًا كبيرًا من هذا الاحتقان يعود إلى أنَّ كثيرًا من الأفراد والأمم تتكلَّم عن أُمَّة الإسلام وعن ثوابتها كلامًا سلبيًّا في غياب مَنْ يَرُدُّ ويدفع الشبهات والتهم، بل يصل الأمر إلى البهتان؛ حيث يصفون أُمَّة الإسلام بصفات هي أبعد ما تكون عن طبيعتها، وقد يصل الأمر إلى تزوير بعض الأحداث أو تلفيق بعض الأمور.
إنَّ عالمـًا خاليًا من الغيبة والبهتان لهو عالمٌ جديرٌ بإقامة علاقات سويَّة تعايشيَّة ناضجة، أمَّا الذي لا يُمْسِكُ لسانه عن أعراض الآخرين فهو يسعى إلى صدامٍ لا يتوقَّف وتوتُّرٍ لا ينتهي.
***
وختامًا..
إنَّ هذه الإشارات التي جاءت في كتاب الله عز وجل لِتَشْرَح للمسلمين كيف يُمكن أن يتعاملوا مع بعضهم البعض، هي ليست في واقع الأمر خاصَّة بالمسلمين وحدهم، بل هي تتحدَّث عن دستورٍ أخلاقيٍّ فريدٍ يصلح للتطبيق على كلِّ أمم الأرض، وهي قواعد واضحة بيِّنَة، وعلاقتُها بالتعارف والتعايش وثيقة ظاهرة؛ ولذلك فهي دعوةٌ عالميَّةٌ من القرآن الكريم لكلِّ البشر أن يُحَقِّقوا إحدى الغايات الكبرى من خلقهم مختلفين، وهي غاية "التعارف"، ولم يكتفِ القرآن بالإشارات المجرَّدة إلى الغاية، بل وضع آليَّات محدَّدَة، وأُطرًا معروفة لتصل بعلاقة التعارف إلى أفضل نتائجها، فما أروع هذا المنهج وما أتمه! وما أحوج البشر إلى النظر فيه بإمعان، وإخراج ما يُمكن أن يكون سببًا مباشرًا في سعادتهم وصلاحهم.
المصدر:
كتاب المشترك الإنساني.. نظرية جديدة للتقارب بين الشعوب، للدكتور راغب السرجاني.
[1] الترمذي: السنن، كتاب فضائل القرآن، باب ما جاء في فضل القرآن (2906)، والدارمي (3332)، وقال حسين سليم أسد: إسناده حسن.
[2] القرطبي: الجامع لأحكام القرآن 16/312.
[3] وهبة الزحيلي: التفسير الوسيط 3/2471.
[4] وهبة الزحيلي: التفسير الوسيط 3/2474.
[5] سيد قطب: في ظلال القرآن 6/3343.
[6] مسلم: كتاب الإمارة، باب فضيلة الإمام العادل وعقوبة الجائر... (1827)، والنسائي (5379)، وأحمد (6492).
[7] القرطبي: الجامع لأحكام القرآن 16/322، 323.
[8] البخاري: كتاب المظالم، باب لا يظلم المسلمُ المسلمَ ولا يسلمه (2310)، ومسلم: كتاب البر والصلة والآداب، باب تحريم الظلم (2580).
[9] الزمخشري: الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل 4/369.
[10] مسلم: كتاب البر والصلة والآداب، باب تحريم الغيبة (2589)، وأبو داود (4874)، والترمذي (1934)، وأحمد (8973)، والدارمي (2714)، وابن حبان (5758).