يقع أرخبيل زنجبار في تانزانيا قبالة الساحل الشرقيّ للقارّة الإفريقيّة.
تاريخيّاً هو عقدة تجارية بين المحيط الهندي والبحر المتوسط والأمريكيَّتَين. موقعه على الساحل الشرقيّ لإفريقية جعل منه محطًّة ومركز وصل بين الثقافات التاريخيّة التي مرَّت على تلك المنطقة، فشكَّلت مكانته الجغرافية تاريخَه الخاص.
وقد خضع لحكومات وسلطات مختلفة على مرِّ التاريخ ارتبطت بالتجار والمبشِّرين الذين مرُّوا به.
فالقوارب التجارية من البرتغال وشبه الجزيرة العربيّة والهند وإنكلترا وحتَّى الأمريكيَّتَين تلاقت وتبادلت بضائعها وسلعها التجارية على شواطئ زنجبار، ليكون لهذه الدول الأثر في تكوين ثقافة زنجبار العالمية.
تأسَّست المدينة الأولى في زنجبار من خليط من الأنماط والتأثيرات والعلاقات الحضارية التي شكَّلتها الجزيرة وتكيَّفت معها
شاركغرد
وقد أقام في زنجبار سلاطين عمان وتجّارها وبنى أغنياء الهند فيها أهمَّ صروحهم المعمارية. وصاحبَ ذلك كلَّه الاتّجارُ بالعبيد والاقتصاد التجاريّ اللذَان ساهما بفتح الأرخبيل على ثقافات الشعوب المجاورة.
وضمن هذا الحوار والتبادل الثقافيّ، تأسَّست المدينة الأولى في زنجبار من خليط من الأنماط والتأثيرات والعلاقات الحضارية، التي شكَّلتها الجزيرة وتكيَّفت معها.
ويُعتبر المستوصف القديم من أهمّ المعالم الحضاريّة الباقية في زنجبار، وقد عنيت بترميمه "شركة تنمية الثقة" التابعة للـ"آغا خان"، فأُعيد إلى حالته القديمة وأصبح معلماً سياحيّاً هامّاً. غير أنَّ ترميمه سمح باستخدامه لأغراض جديدة لضمان أهميَّته وصِلاته الاقتصادية والاجتماعية.
وكانت أعمال الإعمار والترميم في المستوصف القديم ثمرة العلاقات الودّيّة والمبادلات التجاريّة المتواترة بين السلاطين العمانيِّين والتجار الهنديِّين. كُلِّف التاجر ثوريا توبان بأعمال المستوصف، حيث كان مسيطراً على تجارة زنجبار وطوَّر علاقات قويّة بوكالاتها الحكوميّة علاوةً على علاقته بالسلطان برغش بن سعيد في عمان.
وكان السلطان برغش بدوره راعياً للمدينة، فخلال فترة حكمه تبدَّلت المدينة عن طريق إقامة مبانٍ مهمَّة جديدة على الواجهة البحرية منها "بيت العجائب".
عمل معماريّ هجين
الهدف الأوَّلي من بناء المستوصف كان إقامة مستشفًى لخدمة أهالي زنجبار. غير أنَّ مرض توبان وموته ووقوع بعض النزاعات، أدّيا إلى تأخير أعمال البناء ومن ثمَّ تغيير خطّة العمل. مهمّة المبنى الأخيرة كانت أن يضمَّ في طابقه الأرضيّ مستوصفاً وفي طابقه الأول شققًا سكنيّة.
الأثر الهنديّ في طراز المستوصف تمثَّل برغبة من زعيمها توبان الذي فوَّض مجموعة من الحرفيِّين الهنديِّين بأعمال البناء، فأُشرفت على التصميم وأعمال البناء شركة مقرُّها بومباي.
وأدَّى ذلك إلى تشييد بناء ذي زخارف معقَّدة على الطريقة الهندية استُخدمت فيه تقنيات رائعة من التجصيص والنحت على الخشب. وبغض الطرف عن ذلك الأثر الهندي الزخرفيّ، فإنَّ المستوصف يتماشى مع الشكل النصف بيضويّ التقليديّ في زنجبار، والذي يأخذ فناؤه الداخليّ ارتفاعاً مزدوجاً.
فيذكِّر ذلك الطراز بترف وكماليَّة الأبنية والأماكن والبيوت العمانيّة. تلفُّ المبنى من الداخل والخارج سلسلة من الشرفات، تلك الميزة التي يتَّسم بها الساحل الإفريقيّ الشَّرقيّ. فهي توفِّر ظروف الطقس الملائمة من السماح بهبوب الرياح وسريانها داخل فناء المبنى لتبريده.
نرى في هذا المثال الأثر الكبير الذي شكَّلته الرعاية الهنديّة في إيجاد طراز هنديّ مهيمن وأيضاً يحمل بدوره أبعاداً عمانية من قبيل الترتيب المكانيّ والتخطيطيّ.
ومن جهة أخرى، نرى أثر تميُّز المناخ في الساحل الإفريقيّ الشرقيّ من خلال خاصيَّة الشرفات الداخليّة والخارجيّة.
البناء بشكله النهائيّ هو عمل معماريّ هجين استُوحِيَ من دمج عناصر مختلفة جعلت المستوصف القديم عملاً معماريّاً لا تمكن إقامته إلّا في زنجبار، فكان أحد خصائص المدينة متفرِّدة به بغضِّ النظر عن العناصر والطرازات المعمارية المتعدِّدة التي استُعينَ بها.
المستوصف القديم
من الممكن فهم الموازنة السابقة بين الطرازات المعماريّة من خلال المشهد المعماريّ الكُلِّيّ في زنجبار. فعلى سبيل المثال نرى أنَّ محكمة العدل العليا متميِّزة بقبَّة عربيّة عمانيّة وبطوب مطليّ بالأبيض مع طراز التحصينات المغاربيّة. ومن جهة أخرى نرى المتاريس وقد بُنيَت عليها شرفات تشبه القلاع الصغيرة هي على الأرجح أحد وجوه الأثر البرتغالي في قصور زنجبار.
بدأ هذا الطِّراز بالظهور في الفن المعماري الزنجباريّ منذ عام ١٦٩٨ كما نرى في الحصن القديم.
أيضاً تتربَّع على المبنى ساعة بريطانية كانت قد أُضيفت خلال الحكم الاستعماريّ البريطانيّ. وتُظهر أمثلة أخرى عديدة هذا الحشد من الطرازات والأشكال والأساليب المعمارية، نذكر منها الحمّامات الفارسية والنصب التذكاريّ وهو مبنى شُكّل على طراز آيا صوفيا في إسطنبول.
عالمية المنهج والطراز المعماري في زنجبار
يكشف لنا كلّ من هذه المباني اختلافات حضاريَّة تشابكت وتجاورت في فترات زمنية معيّنة. من منظار كلِّيّ شامل تبرهن هذه المباني على عالمية المنهج والطراز المعماري والأسلوبي في حضارة زنجبار. يظهر ذلك في المنشآت المحلية كطراز أبواب المنازل كما في المنشآت المدنيّة كالأبنية العامّة الكبيرة.
إنَّ النَّظر في جميع هذه التأثيرات والعوامل المتداخلة يجعل النزهة في زنجبار تأخذ أشكالاً وأبعاداً مختلفة تماماً، فطراز المدينة يروي حكاية زنجبار التاريخية والثقافية والمعمارية عبر التراكمات والطبقات المعماريّة والثقافية التي دُمِجَت مع الزمن لتُعطي الارخبيل طرازه العالمي الذي يتفرّد به.
يشكر الباحث الدكتور بلال الأرفه لي لإشرافه على البحث والأكاديمية العربية الألمانية للعلماء الشباب لتنظيمها مؤتمراً دولياً عن الحضور الثقافي العربي الألماني في زنجبار ألقيت فيه نسخة موسعة من هذا البحث.