الترادف: لفظ مشتق من الفعل: رَدِفَ، أو المصدر: الردف، والردف: ما تبع الشيء. وكل شيء تبع شيئاً، فهو رِدْفُهُ، واذا تتابع شيءٌ خلف شيء، فهو الترادف والجمع الرادفي. يقال: جاء القوم رُدافى أي بعضهم يتبع بعضاً.
والترادف: التتابع. وقد فسّر الزجاج قوله تعالى : «بألفٍ من الملائكة مُردفين » معناه: يأتون فرقة بعد فرقة. وقال الفراء: مردفين: متتابعين.
وأردف الشيء بالشيء وأردفه عليه: أتبعه عليه. قال الزجاج: يقال: ردفتُ الرجل اذا ركبتُ خلفه، وأركبته خلفي. وردف الرجل وأردفهُ: ركب خلفه، وارتدفه خلفه على الدابة. ورديفك: الذي يرادفك، والجمع رُدفاء وردافى. والرديف: المرتدف، والجمع رداف. واستردفه: سأله أن يردفه.
والمترادف: كل قافية اجتمع في آخرها ساكنان، سمي بذلك لان غالب العادة في أواخر الأبيات ان يكون فيها ساكن واحد، فلما اجتمع في هذه القافية ساكنان مترادفان كان أحد الساكنين ردف الآخر ولاحقاً به.
الترادف اصطلاحاً
أما الترادف اصطلاحاً فانه أطلق مجازاً علي عدة استعمالات مجازية، أشهرها ما تواضع عليه علماء فقه اللغة من اطلاقه على كلمتين أو اكثر تشترك في الدلالة على معنى واحد. لان «الكلمات قد تترادف على المعنى الواحد أو المسمّى الواحد، كما يترادف الراكبان على الدابة الواحدة. وعلى هذا فالعلاقة في هذا الاستعمال المجازي هي التشابه».، حيث شُبهت الكلمتان في ترادفهما وتتابعهما ودلالتهما على المعني الواحد بالراكبين وترادفهما على الدابة الواحدة.
وهذا ما صرح به الجرجاني في كتابه التعريفات، مشيراً الى الصلة بين المعنى اللغوي والاصطلاحي للترادف بقوله: «المترادف ما كان معناه واحداً وأسماؤه كثيرة وهو ضد المشترك، أخذ من الترادف الذي هو ركوب أحد خلف آخر، كأن المعنى مركوب واللفظان راكبان عليه كالليث والأسد...».
أما التعريف الجامع لمصطلح الترادف فنجده في كتاب المزهر للسيوطي الذي أفرد له فصلاً خاصاً بعنوان: معرفة الترادف نقلاً عن الامام فخر الدين قوله: «هو الألفاظ المفردة الدالة على شيء واحد باعتبار واحد. قال: واحترزنا بالافراد عن الاسم والحد، فليسا مترادفين، وبوحدة الاعتبار عن المتباينين، كالسيف والصارم، فانهما دلاّ على شيء واحد، ولكن باعتبارين: أحدهما على الذات والآخر علي الصفة».
تاريخ ظهور مصطلح الترادف
عرّف العلماء موضوع الترادف وتناولوه بالدراسة والبحث قبل ان يعرفوا له مصطلحاً خاصاً يشيرون به اليه، وينعتوه به، فكانوا يعبرون عنه بتعريفه، كما فعل الأصمعي ذلك عندما ألّف كتاباً عن الترادف، عنونه بالتعريف التالي: (ما اختلف ألفاظه واتفقت معانيه).
وكذلك اشار اليه ابو العباس المبرد في كتابه: (ما اتفق لفظه واختلف معناه) بألفاظ قريبة من هذا، وذلك في معرض كلامه على تقسيمات الألفاظ، حيث قال: «من كلام العرب اختلاف اللفظين لاختلاف المعنيين، واختلاف اللفظين والمعنى واحد، واتفاق اللفظين واختلاف المعنيين.. واما اختلاف اللفظين والمعنى واحد، فقولك: ظننتُ وحسبتُ، وقعدتُ وجلستُ، وذراع وساعد، وأنف ومَرسن»، جاعلاً الترادف أحد أقسام كلام العرب الثلاثة.
أما محمد بن القاسم الأنباري فقد جعله أحد ضربي كلام العرب، وذلك بعد كلامه عن الأضداد والمشترك اللفظي، قائلاً: «.. وأكثر كلامهم يأتي على ضربين آخرين: احدهما ان يقع اللفظان المختلفان على المعنيين المختلفين، كقولك: الرجل والمرأة، والجمل والناقة، واليوم والليلة، وقام وقعد، وتكلم وسكت، وهذا هو الكثير الذي لا يحاط به. والضرب الآخر ان يقع اللفظان المختلفان على المعنى الواحد، كقولك: البُرّ والحنطة، والعَيْر والحمار، والذئب والسيد، وجلس وقعد، وذهبَ ومضي».
وهكذا فاننا لا نجد اشارة صريحة الى مصطلح الترادف في الأقوال الثلاثة الاخيرة لكل من الأصمعي والمبرد وابن الانباري، رغم ان هذه التسمية الاصطلاحية كانت قد ظهرت صراحة، ولأول مرة على ما يبدو، علي لسان أبي العباس ثعلب المتوفي سنة ، المعاصر للأخيرين، ولكنهما قد سارا في تصنيفهما لكلام العرب وعدم تسمية المترادف على خطا سيبويه ، حيث جعل الترادف احد تقسيمات الألفاظ دون التصريح بتسميته، بقوله: «اعلمْ أنّ من كلامهم اختلاف اللفظين لاختلاف المعنيين، واختلاف اللفظين والمعنى واحد، واتفاق اللفظين واختلاف المعنيين.. فاختلاف اللفظين لاختلاف المعنيين هو نحو: جلس وذهب، واختلاف اللفظين والمعنى واحد نحو: ذهب وانطلق، واتفاق اللفظين والمعنى مختلف قولك: وجدتُ عليه من الموحدة، ووجدت اذا ارادت وجدان الضّالّة».
يتضح مما مضى ان العلماء كانوا قد تناولوا موضوع الترادف في سياق تقسيمات الألفاظ التي نهج سبيلها سيبويه، ليضعوا بذلك اللبنات الاولي لظهور المصطلحات الخاصة بموضوعات فقه اللغة العربية فيما بعد.
وما ان يحل القرن الرابع الهجري حتي نجد مصطلح الترادف كنظائره: من المشترك اللفظي والأضداد والفروق وغيرها قد استوى عوده، وغدا عنواناً لكتب بذاتها في هذا الموضوع، كما في كتاب: «الألفاظ المترادفة والمتقاربة في المعنى» لعلي بن عيسي الرماني . ووروده صراحة في كتاب (الصاحبي في فقه اللغة العربية ومسائلها وسنن العرب في كلامها) لأحمد بن فارس وذلك في معرض كلامه مفتخراً بالعربية: «وان أردت ان سائر اللغات تبين ابانة اللغة العربية فهذا غلط، لانا لو احتجنا ان نعبِّر عن السيف وأوصافه باللغة الفارسية لما امكننا ذلك الا باسم واحد، ونحن نذكر للسيف بالعربية صفات كثيرة، وكذلك الأسد والفرس وغيرهما من الأشياء المسماة بالأسماء المترادفة».
وكذلك في قوله: «ومما لا يمكن نقله البتة اوصاف السيف والاسد والرمح وغير ذلك من الأسماء المترادفة. ومعلوم ان العجم لا تعرف للأسد غير اسم واحد، فأما نحن فنخرج له خمسين ومائة اسم».
الاختلاف حول ظاهرة الترادف
ظهر اهتمام علماء العربية بموضوع الترادف، وخاضوا في الحديث عنه منذ بدأت أولى جهودهم في وضع أسس وقواعد اللغة العربية، وجمع ألفاظها، وترتيبها وتصنيفها، وشرح معانيها ودلالاتها. ومنذ ذلك الحين دب الخلاف فيما بينهم، حول اصالة الترادف في العربية، فمنهم من أثبته فيها، وغالى في الدفاع عن موقفه، ومنهم من أنكره، ليصرح باستحالة وقوعه عقلاً ونقلاً.
نذكر من ذلك الخلاف ما جري بين عالمين كبيرين في العربية هما: أبو علي الفارسي وابن خالويه، في مجلس من أعظم مجالس العربية في الأدب والعلم أيام الدولة الحمدانية، حيث نقل السيوطي حكاية عن أبي علي الفارسي، قوله: «كنتُ بمجلس سيف الدولة بحلب، وبالحضرة جماعة من أهل اللغة، وفيهم ابن خالويه، فقال ابن خالويه: أحفظُ للسيف خمسين اسماً، فتبسّم أبو علي وقال: ما احفظ له الا اسماً واحداً، وهو السيف. قال ابن خالويه: فأين المهنَّدُ والصّارم وكذا وكذا؟ فقال أبو علي: هذه صفاتٌ: وكأنّ الشيخ لا يفرِّقُ بين الاسم والصفة».
أصحاب الترادف
أما من أثبت وجود الترادف في العربية، أي وجود كلمات عديدة مترادفة، تشترك في الدلالة على معنى واحد اشتراكاً تاماً، أو أسماء عديدة تشير الى مسمى واحد، فأنهم يعللون ذلك بان العرب انما أوقعت اللفظين علي المعنى الواحد «ليدلّوا على اتساعهم في كلامهم، كما زحفوا في أجزاء الشعر، ليدلّوا على الكلام واسع عندهم، وان مذاهبه لا تضيق عليهم عند الخطاب والاطالة والاطناب».
وكما رأينا في قصة خالويه السالفة الذكر، فأن أصحاب هذا المذهب كانوا يفتخرون بمعرفتهم بالألفاظ المترادفة، ومن ذلك ما روي: أن هارون الرشيد قال للأصمعي: «يا أصمعي، أن الغريب عندك لغير غريب، فقال: يا أمير المؤمنين، ألا أكون كذلك وقد حفظت للحجر سبعين اسماً».
ولم يكتف هؤلاء بالتفاخر بحفظ الأسماء المترادفة في مجالس الأدب والعلم، بل شرعوا بالتأليف في موضوع الترادف، ومنهم الأصمعي صاحب رسالة (ما اختلفت الفاظه واتفقت معانيه)، وابن خالويه الذي ألّف كتابين، أحدهما في أسماء الأسد، والثاني في أسماء الحية. ومنهم ايضاً: الرماني الذي ألّف (كتاب الالفاظ المترادفة والمتقاربة في المعنى). وكذلك ألّف الجواليقي رسالة بعنوان: (ما جاء على فعلتُ وأفعلتُ بمعنى واحد). وألّف ابن مالك كتاب (الألفاظ المترادفة في المعاني المؤتلفة). أما مجد الدين الفيروزآبادي صاحب القاموس فقد ألّف كتابين: أحدهما في أسماء العسل سمّاه: (ترقيق الأسل لتصفيق العل)، أورد فيه ثمانين اسماً للعسل، والآخر بعنوان: (الروض المسلوف فيما له اسمان الي ألوف).
ومن أصحاب هذا المذهب ممن كتب في الترادف ابن جني حيث أشار اليه في (باب في استعمال الحروف بعضها مكان بعض) مستدلاً به على وقوع الترادف بقوله: «وجدت في اللغة من هذا الفن شيئاً كثيراً لا يكاد يحاط به». وفيه يحكم على من يُنكر ان يكون في اللغة لفظان بمعني واحد، ويحاول أن يوجد فرقاً بين قعد وجلس، وبين ذراع وساعد، بأنه متكلّف.
ويبدو ان اصحاب الترادف لم يكونوا متفقين تماماً في نظرتهم لهذه الظاهرة في اللغة، فهم، كما يري الدكتور احمد مختار عمر، كانوا فريقين: «الأول: وسّع في مفهومه، ولم يقيّد حدوثه باي قيود، والثاني: كان يقيِّد حدوث الترادف، ويضع له شروطاً تحدُّ من كثرة حدوثه، ومن الأخيرين الرازي الذي كان يري قصر الترادف على ما يتطابق فيه المعنيان بدون أدنى تفاوت».
وعلى أي حال فان مثبتي الترادف يرون أن وجوده في اللغة أمر ضروري، وانه لا يخلو من فوائد، أهمها:
1. أنه يُكثر من طرق الاخبار عما في النفس، فانه ربما نُسي أحدُ اللفظين او عسُر النطقُ به، فيلجأ الى اللفظ الآخر.
2. احتياج أهل اللغة الى الشرح والتفسير والبيان.
3. التوسع في سلوك طرق الفصاحة، وأساليب البلاغة في النظم والنثر: وربما أتى الشاعر بالاسمين المختلفين للمعني الواحد في مكان واحد تأكيداً ومبالغة، كقول الحطيئة:
ألا حبّذا هندٌ وأرضٌ بها هندُ وهندٌ أتي من دونها النأيُ والبعدُ
قالوا: فالنأي هو البعد.
أما أبو هلال العسكري وهو من منكري الترادف فانه لا يري في النأي والبعد لفظين مترادفين، بل هما عنده لفظان متباينان، «وذلك أن النأي يكون لما ذهب عنك الى حيث بلغ، وأدنى ذلك أن يقال له نأي. والبعدُ تحقيق التروّح والذهاب الى الموضع السّحيق، والتقدير: أتى من دونها النأيُ الذي يكون أول البعد، والبعد الذي يكاد يبلغ الغاية».
ومن هنا ننتقل الى رأي الفريق الثاني الذي ينكر الترادف.
منكرو الترادف
أما أصحاب هذا الفريق فقد أنكر وجود الترادف ورفضه «رفضاً تاماً، ومن هؤلاء أبو عبد اللّه محمد بن زياد الأعرابي ، وأبو العباس أحمد بن يحيي ثعلب ، وأبو محمد عبد اللّه بن جعفر بن درستويه، وابو علي الفارسي .»، اضافة الى الخطابي وابن فارس وأبي هلال العسكري .
وأغلب هؤلاء ينطلقون في انكارهم لظاهرة الترادف من مبدأ كون اللغة توقيفية النشأة لان «واضع اللغة حكيم، لا يأتي فيها بما لا يفيد صواباً، فهذا يدل على ان كل اسمين يجريان على معنى من المعاني، وعين من الأعيان في لغة واحدة، فان كل واحد منهما يقتضي خلاف ما يقتضيه الآخر، والا لكان الثاني فضلاً لا يحتاج اليه. والى هذا ذهب المحققون من العلماء، واليه اشار المبرّد في تفسير قوله تعالي: «لكلّ جعلنا منكم شرعةً ومنهاجاً » قال: فعطف شرعة على منهاج، لان الشرعة لأولى الشيء والمنهاج لمعظمه ومتّسعه».
ولهذا فانهم يوصمون رأي من يؤمن بالترادف بأنه فاسد في القياس، والعقل، ومخالف للحكمة، والصواب حيث «لا يجوز أن يكون لفظان مختلفان لمعنى واحد، الا ان يجيء أحدهما في لغة قوم، والآخر في لغة غيرهم»، كما جاء ذلك على لسان ابن درستويه. وقد ذهب مذهبه أبو هلال العسكري الذي ألّف كتاباً للرد على أصحاب الترادف سمّاه: (الفروق اللغوية) ضمنه ثلاثين باباً في الفرق بين معان تقاربت حتى أشكل الفرق بينها، نحو: العلم والمعرفة، والفطنة والذكاء، والارادة والمشيئة، والغضب والسخط، وغيرها. وفيه يرد على من يعترض على موقفه قائلاً: «ولعل قائلاً يقول ان امتناعك من أن يكون للفظين المختلفين معنى واحدٌ ردٌّ على جميع أهل اللغة، لأنهم اذا ارادوا ان يفسروا اللبّ، قالوا: هو العقل، أو الجرح، قالوا: هو الكسب، او السكب، قالوا: هو الصبّ، وهذا يدل على ان اللُّب والعقل عندهم سواء، وكذلك الجرح والكسب والسكب والصب، وما أشبه ذلك، قلنا: ونحن ايضاً كذلك نقول، الا أنا نذهب الى ان قولنا اللبّ، وان كان هو العقل فانه يفيد خلاف ما يفيد قولنا العقل. ومثل ذلك: القول، وان كان هو الكلام، والكلام هو القول، فان كل واحد منهما يفيد بخلاف ما يفيده الآخر».
وهذا كما يبدو نظير رأي معاصره الخطابي في رسالته: (بيان اعجاز القرآن) الذي تناول فيه موضوع الفروق بين الألفاظ المتقاربة في المعاني، والتي يحسب اكثر الناس أنها متساوية في افادة بيان مراد المخاطب، مشيراً الي كثير من الالفاظ القرآنية: كالعلم والمعرفة، والحمد والشكر، والبخل والشح، قائلاً: «والأمر فيها وفي ترتيبها عند علماء اللغة بخلاف ذلك، لان لكل لفظة منها خاصية تتميز بها عن صاحبتها في بعض معانيها، وان كانا قد يشتركان في بعضها».
وقد اعترف العلماء القدامى، من منكري الترادف، حين تناولوا مسألة الفروق بين الألفاظ، بجهلهم بالفروق الدقيقة بين بعض الالفاظ التي يُظن أنها مترادفة، وان عدم معرفتهم بتلك المعاني المتفاوتة ليس دليلاً على اتحادها في المعنى، ولا يبرر اطلاق لفظ الترادف عليها، فقد نُقل عن ابن الأعرابي قوله: «كل حرفين أوقعتهما العربُ على معنى واحد، في كل واحد منهما معنى ليس في صاحبه، ربما عرفناه فأخبرنا به، وربما غمض علينا، فلم نُلزم العرب جهله».
ولهذا عكفوا على استخراج الفروق الدقيقة بين الألفاظ، وسير أغرار الكلمات للوقوف على أسرارها وكشف ما غمض منها، وراحوا يتفكّهون بها في مجالسهم وفي مصنفاتهم، واحياناً يتفاخرون بمعرفتهم بها على أصحاب الترادف. فهذا أبو علي الفارسي الذي أشرنا الى مناظرته مع ابن خالويه، نجده يُنكر على عريمه اطلاقه لفظ الاسم على المهند والصارم، خاتماً روايته بقوله: «وكأن الشيخ! لا يفرِّقُ بين الاسم والصفة». ولا يخفى على متذوِّقٍ للغة ما في هذه الجملة من تحامل واستصغار! وان كان ذلك لا يفدح في صحة مذهبه في التفريق بين الأسماء والصفات، خاصة وانه لا يكاد يحيد عن معاصره احمد بن فارس الذي صرّح باتباعه مذهب أستاذه ثعلب في هذا، فهو يقول: «ويسمّى الشيءُ الواحد بالأسماء المختلفة، نحو: السيف والمهند والحسام. والذي نقوله في هذا ان الاسم واحد وهو السيف، وما بعده من الألقاب صفاتٌ. ومذهبنا ان كل صفة منها فمعناها غير معني الأخرى... وقال آخرون ليس منها اسم ولا صفة الا ومعناه غير معني الآخر. قالوا: وكذلك الأفعال، نحو: مضى وذهب وانطلق، وقعد وجلس، ورقد ونام وهجع، قالوا: ففي (قعد) معنى ليس في (جلس)، وكذلك القول فميا سواه. وبهذا نقول، وهو مذهب شيخنا أبي العباس أحمد بن يحيي ثعلب».
ثم نراه يذكر الفروق بين الألفاظ دون أن يهمل تفسير ما يذهب اليه، فيما يتناول من فروق بين الالفاظ والمفردات. بقوله: «ونحن نقول: ان في (قعَدَ) معنى ليس في (جلس). ألاترى انا نقول: (قام ثم قعدَ)، و(أخذهُ المقيمُ والمُقعِدُ) و(قَعَدَتِ المرأةُ عن الحيضِ)، ونقول لناس من الخوارج: (قَعَدٌ)، ثم نقول: (كان مضطجعاً فجلسَ)، فيكون القود عن قيام، والجلوس عن حالة هي دون الجلوس، لانّ (الجَلْسَ: المرتفع) فالجلوس: (ارتفاعٌ عما دونه. وعلى هذا يجري الباب كله».
وابن فارس، مع ذلك، لا يدّعي اختلاف اللفظتين في مثل هذا النوع من الأمثلة، بل يعزو التعبير عن الشيء بالشيء، او اللفظ باللفظ، كأن يقال النأي هو البعد. وغيره. يعزوه الي ما أسماه ب (المشاكلة): وهي ضربٌ من تقارب المعاني دون تطابقها.
ثم انه يعرِّج بعد ذلك على ذكر نماذج من تلك الفروق الدقيقة التي غدت فيما بعد باباً يطرقه العلماء والمصنفون في علوم العربية، يحذون فيه حذوه، فيقتبسون منه عناوين أبوابه، ويستشهدون بأمثلته وشواهده. ومن ذلك ما نجده في الباب الثالث من كتاب فقه اللغة وأسرار العربية، لأبي منصور عبد الملك بن اسماعيل الثعالبي الذي وسمه ب : (في الأشياء تختلف أسماؤها وأوصافها باختلاف أحوالها)، وهي مما كان يتصوره عامة الناس من المترادفات، فجاء على ذكر ما فيها معان تتباين فيها مع غيرها من نظائرها، فقد أورد في الفصل الأول منه ما يلي :
«لا يقال كأس ألاّ اذا كان فيها شراب، والاّ فهي زجاجةٌ.
ولا يقال مائدة الا اذا كان عليها طعام، والا فهي خوان.
ولا يُقال كوز ألا اذا كانت له عروة، والا فهو كوبٌ...».
وهكذا حتى آخر الفصل فالباب ثم بقية الكتاب. ولا يخفي ما لهذه الأعمال الجليلة من فضل كبير في صيانة اللغة العربية، وحفظ مفرداتها، وتسجيل لدقائق ألفاظها، مما لا نكاد نعثر عليه في معاجم اللغة الكثيرة التي قلما تشير الى معاني الألفاظ بمقارنتها بمثيلاتها من الأسماء التي تقترب معها في الدلالة على بعض المسميات.
الترادف في نظر الباحثين المعاصرين
ان الخلاف الذي نشب عند القدامى، في نظرتهم الى الترادف، نكاد نلمحه بشكل أو بآخر لدى الباحثين المعاصرين، فقد قطعت العلوم اللغوية الحديثة شوطاً بعيداً في مجال الكشف، والبحث، وتم التوصل الى معلومات، وحقائق مهمة في مجال الأصوات، واللهجات، وعلم الدلالة، مما جعل نظرة المحدثين الى موضوع الترادف تتصف بالكثير من الموضوعية والدقة، قياساً الي النظرة اللغوية القديمة.
فالنظرة الحديثة الي الترادف تتمثل في الشروط اللغوية التي وضعوها، والتي لابد من تحققها حتى يتحقق الترادف في الألفاظ. ونقصد به الترادف التام، لأنهم قسموه الى نوعين:
1. ترادف تام أو كامل.
2. ترادف جزئي، أو شبه ترادف.
الترادف التام
ويقصد به اتفاق الكلمتين في المعنى اتفاقاً تاماً. وقد اشترطوا لهذا الاتفاق والاتحاد في المعنى ما يلي:
اولا: أن يكون في ذهن الكثرة الغالبة من أفراد البيئة الواحدة فاذا تبين بدليل قوي ان العربي كان حقاً يفهم من كلمة (جلَسَ) شيئاً لا يستفيده من كلمة (قعَدَ) قالوا: انه ليس ترادفاً كاملاً.
ثانيا: الاتحاد في البيئة اللغوية الواحدة: أي أن تنتمي الكلمات الى لهجة واحدة، أو مجموعة منسجمة من اللهجات. وانطلاقاً من هذه النقطة لا ينبغي أن نلتمس الترادف من لهجات العرب المتباينة، وقد تنبّه علماء فقه اللغة العربية القدامى الى ذلك، قال حمزة الاصفهاني: «وينبغي ان يحمل كلام من منع (الترادف) على منعه في لغة واحدة، فأما في لغتين فلا يُنكره عاقل».
ثالثا: الاتحاد في العصر: فان مرور الزمن كفيل بخلق فروق بين الالفاظ، او ان هذه الفروق تغيب عن أذهان الناس شيئاً فشيئاً، مثل: المشرفي، والمهنّد، واليماني، حيث تستعمل الثلاثة بمعني السيف، وقد غاب عن الكثيرين ان معنى المشرفي: صنع في دمشق، والمهنّد: صنع في الهند، واليماني: صنع في المين، وان لكل منها صفاته.
رابعا: ألا يكون أحد اللفظين نتيجة تطور صوتي للآخر، كما في (أزّ) و(هزّ) و(الجثل و(الجفل): بمعنى النمل، حيث يمكن اعتبار احدى الكلمتين اصلاً، والأخري تطوراً صوتياً لها.
ووفقاً لهذه المعايير التي وضعها المحدثون، سيكون من الصعب جداً العثور على الفاظ من الترادف التام في العربية، وستخرج النماذج التالية من هذا النطاق ايضاً:
أ. حامل وحُبلي: لأن الأولى راقية ومؤدبة، والثانية مبتذلة، وقد استعمل القرآن الكريم الأولى فقط، منها في قوله تعالي: «ووصينا الانسان بوالديه حملته أمه وهناً علي وهنٍ وفصاله في عامين أن اشكر لي ولوالديك اليّ المصير».
ب. المرحاض، ودورة المياه، التواليت، والحمّام: فلكلٍ منها بيئتها الخاصة، الى جانب تفاوتها في درجة التلطُّف.
ت. عقيلته، وحرمه، وزوجته، ومراته: فالأولى: رسمية، لا تستخدم الا مع الشخصيات، والثانية: أقلّ رسميةً، والثالثة: عربية فصيحة، والرابعة: عامية. اضافة الى ما تحمل كل لفظة من دلالات اجتماعية، وثقافية، بالنسبة للمتكلم.
وخلاصة القول: ان المحدثين لا يشترطون الاتفاق التام في المعني حسب، بل يرون ايضاً ان مقياس الترادف في ألفاظ اللغة، يقوم على أساس مبدأ الاستعاضة: الذي يعني استبدال الكلمة بما يرادفها في النص دون أي تغيير في المعني، وذلك انطلاقاً من التعريف الذي وضعوه للترادف التام من أنه: «ألفاظٌ متحدةُ المعنى، وقابلة للتبادل فيما بينها في أي سياق».
الترادف الجزئي
أو ما يسمى بشبه الترادف، أو الترادف غير التام: وهو أن تتقارب الألفاظ في دلالتها علي الشيء الواحد. وهذا الترادف قد يكون:
1. توارداً وتجانساً في المعاني.
2. تطوراً صوتياً للالفاظ.
3. من الألفاظ المتقاربة في المعنى جداً، بحيث يصعب تحديد الفروق بينها.
4. باشتراك الالفاظ في مجموع الصفات التمييزية الأساسية، فالمكونات الأساسية لكلمة (أب) هي نفسها (والد) و(بابا).
وعلى هذا النوع، جاء معظم ما جاء في المعجم العربي من ألفاظ الترادف، ان لم تكن كلّها.
ومن هنا فأنّ الخوض في موضوع أسباب حدوث الترادف في العربية والوقوف على العوامل التي أدت الى وقوعه فيها انطلاقاً من هذا المبدأ سوف يُخرج جميع ما وضع في خانة المترادف من النوع الأول، أي: من نوع الترادف التام، ويدخله في النوع الثاني، أي: شبه الترادف، أو ما يسمى بالترادف الجزئي.
أسباب حدوث الترادف
ان كثرة وجود الألفاظ المترادفة في العربية، وامتلاء معاجم اللغة بهذا النوع من المفردات، لابد ان تقف وراء وقوعه عدة عوامل، أسهمت جميعاً في اثراء المعجم اللغوي العربي بهذا الكم الهائل من المترادفات الفاظاً وجملاً وتعبيرات.
ولعل أهم تلك العوامل، مايلي:
1. تعدد اللهجات العربية التي أسهمت في تشكيل اللغة العربية الفصحى الموحدة، وذلك عن طريق احتكاك لهجة قريش بلهجات القبائل الاخري، الموزعة في أطراف جزيرة العرب وأكنافها، وذلك لأن مكة كانت تعتبر قبل الاسلام، مركزاً دينياً وتجارياً وأدبياً وسياسياً، وقد «كانت قريش مع فصاحتها، وحُسن لغاتها، ورقة ألسنتها، اذا أتتهم الوفود من العرب تخيروا من كلامهم واشعارهم أحسن لغاتهم، واصفى كلامهم، فاجتمع ما تخيروا من تلك اللغات الى نحائزهم، وسلائقهم التي طبعوا عليها، فصاروا بذلك أفصح العرب».
وعلى هذا فقد غدت لهجة قريش مزيجاً من لهجات عديدة، وبهذه اللهجة المشتركة الموحدة نُظم الشعر الجاهلي، ونزل القرآن الكريم، وورد الحديث النبوي الشريف، وجاء أغلبُ كلام العرب.
2. اشتمال المعاجم العربية على لهجات القبائل المختلفة، لان جامعيها لم يقتصروا بالأخذ عن قريش وحدها، بل شدوا الرحال الى القبائل العربية الاخري، فنقلوا عن مثل: قيس عيلان، وأسد، وتميم، وكنانة، وغيرها.
3. الاقتراض من اللغات الاخري: الشقيقة، والأجنبية، حيث دخلت جماعات لغوية أجنبية كثيرة في البيئة العربية، فشاعت المفردات الاجنبية فيها، واستعملت الى جانب العربية. وقد جاء في المزهر، للسيوطي وفقه اللغة، للثعالبي نماذج من المفردات الأعجمية المستعملة في العربية، نورد منها علي سبيل المثال بعض النماذج الفارسية، مثل:
الكوز، والابريق: من الأواني.
والخز، والديباج: من الملابس.
والياقوت، والبلور: من الجواهر.
والنرجس، والبنفسج، والسوسن، والياسمين: من الرياحين.
والمسك، والعنبر، والكافور، والصندل، والقرنفل: من الطيب. وغيرها كثير.
4. التطور اللغوي: وهو تتطور أصوات بعض الكلمات لتتخذ صوراً متعددة لكلمة واحدة في الأصل، كما في: (صقر) و(سقر) و(زقر). ومنه أيضاً ما ينتج عن القلب المكاني، كما في: (جذب) و(جبذ)، و(السباسب) و(البسابس)، وهكذا (اضمحل) و(امضحل).
5. التطور الدلالي: وله في هذا السياق شأن كبير، ويدخل فيه ما يلي:
أ. انتقال نعوت المسمى الواحد من معنى النعت والصفة الى معنى الاسم. كما هو الحال في: الحسام، والمهند، والصارم، واليماني، و...
ب. اهمال الفروق الدلالية بين الكلمات المتقاربة الدلالة. وهو ما يجعلها بمرور الزمن في حكم المترادفة. كما في: قعد وجلس، والظل والفيء، والآل والسراب، والمسكين والفقير، ونحوها.
ج. التخصيص والتعميم والنقل: وهي من أهم سبل التطور الدلالي التي تؤدي الى ايجاد مترادفات جديدة.
ومن أمثلة التخصيص: أي انتقال معني الكلمة من المعنى العام الى المعنى الخاص، لفظ (الحج)، ولفظ (السبت)، فقد ذكر ابن دريد: «ان الحج أصله قصدك الشيء، وتجريدك له، ثم خص بقصد البيت... ثم رأيت له مثالاً في غاية الحسن، وهو لفظ (السبت) فانه في اللغة: الدهر، ثم خص في الاستعمال لغة بأحد أيام الاسبوع، وهو فرد من أفراد الدهر».
أما التعميم: ومعناه انتقال معنى الكلمة من المعني الخاص الي المعني العام، فمن أمثلته: (النجعة)، و(المنيحة)، و(الوغي)، «وقد عقد ابن دريد في الجمهرة لذلك باباً، ترجم له (باب الاستعارات) وقال فيه: (النجعة): أصلها طلب الغيث، ثم كثر فصار كل طلب انتجاعاً. و(المنيحة): أصلها أن يعطي الرجل الناقة، فيشربُ لبنها، أو الشاة، ثم صارت كل عطية منيحة... و(الوغى): اختلاط الأصوات في الحرب، ثم كثرت فصارت الحرب».
ومن أمثلته ايضاً لفظ (الورد)، ولفظ (القرب). وقد «كان الاصمعي يقول: أصل (الورد): اتيان الماء، ثم صار اتيان كل شيء ورداً. و(القرب) طلبُ الماء. ثم صار يقال ذلك لكل طلب، فيقال: (هو يقرب كذا) أي: يطلبه، و(لا تقرب كذا)». وقد وردت كلمة (الورد) في القرآن الكريم بالمعنى العام لها كما في قوله تعالى: «يقدمُ قومه يوم القيامة فأوردهم النار وبئس الورد المورود».
أما النقل: وهو انتقال معنى الكلمة عن طريق المجاز الى معنى آخر، فمن أمثلته: (البأس) فانها في أصل معناها كانت خاصة بالحرب، ثم صارت تُطلق على كل شدة، فقيل: (لا بأس)، و(لا بأس عليك)، وهذا ما يمكن حمله على المجاز المرسل، «إذ أن العلاقة المجازية واضحة بين المدلولين، وهي التي سوغت اطلاق البأس بمعنى الحرب على كل شدة، وذلك لعلاقة السببية».
هذه الأمور مجتمعة اضافة الى أسباب اخري، ربما لا تقل أهمية عن هذه، ولكن يضيق المقام عن ذكرها، كان لها دور كبير في ضياع الفروق الدقيقة بين الألفاظ المتقاربة في المعنى، ومن ثم غدت مترادفة على مرِّ الأيام والسنين.
للامانة منقول ( بتصرف واعادة تنسيق)