صناعة السينما هي عالم واسع بكل تأكيد، والذي يجعله عالمًا فريدًا هو مدى تنوّع عوامل صنعه وإنتاجه. بداية من الحبكات المميزة، مرورًا بالمخرجين المتفردين، ووصولًا إلى الفنيّات الصغيرة التي تفرّق فيلماً عن الآخر. لكن ما علاقة هذا بـ”الأفلام والعلم”؟ دعونا نُكمل.
العنصر الأشد أهمية ورصانة في صناعة السينما هو عنصر الحبكة. فالقصة عندما تكون محبوكة على قدرٍ عالٍ من الدقة، فالعمل الفني تزيد نسبة نجاحه ويرتفع تقييمه لدى النقاد. تتنوع الحبكات بين الواقعية، الفانتازية، النفسية، والكثير بالمنتصف.
لكن يوجد تصنيف واحد يهواه الملايين دون تفرقة، تصنيف الخيال العلمي. والخيال العلمي من أصعب التصنيفات في الواقع، لأنه يحتاج إلى دراسة عميقة للأرضية العلمية للعمل الفني. لذلك اليوم سوف نتحدث سويًّا عن علاقة الأفلام بالعلم، مُناقشين أسباب نجاح بعض الأفلام العلمية، وفشل أخرى. بينما نُسلط الضوء على نماذج فنية بارزة ضمن ذلك التصنيف البديع.
الأفلام والعلم: لماذا هذا المزيج هو الأصعب ؟
المميز بالمرئيات بشكلٍ عام هي أنها تستطيع أن تأخذ الحالة الشعورية للكاتب، وتنقلها إلى المشاهد كما يريدها المؤلف أن تُنقل. وبين المؤلف والمُشاهد يقبع المُخرج، ذلك الشخص الذي يتفهم نزعة المؤلف نحو الكمال، ونزعة المشاهد نحو المتعة، ليقرر بعد ذلك الأسلوب وطريقة العرض اللذان سيستخدمها لتلبية النزعتين كلتيهما. لكن ماذا إذا كان الفيلم علميًّا؟ هنا كل محور من السابقين سوف يتأثر بكل تأكيد.
عندما يكون الفيلم علميًّا، يجب على المؤلف أن يتعمق بشدة في ثنايا وخبايا الفكرة التي يقوم بسردها في صورة سيناريو. فهنا يجب عليه أن يقوم بعمل أرضية علمية صلبة تمامًا. لماذا؟ ببساطة لأنه عند صياغة تلك الأرضية بصورة مُحكمة، ستخرج كل التفاصيل والفنيّات الصغيرة للمشاهد بصورة واضحة ودقيقة. وكذلك لن يتم انتقاد الفيلم بصورة سلبية من الناحية العلمية إذا كان ذا أرضية صلبة. وتلك الصلابة لا تتأتي عبر البحث الشخصي فقط، بل بالاستعانة بأساتذة جامعات وعلماء في المجال العلمي الخاص بالفيلم، مما يُعطي مصداقية أكثر للفكرة والتفاصيل.
أيضًا تمحور الفيلم حول فكرة علمية، هذا يضع المؤلف في مأزق. لأنه لا يضمن أن فكرته وتفاصيله بالفعل ستصل كلها إلى المُشاهد عبر قناة الاتصال، ألا وهي المُخرج. لذلك يجب في الأفلام العلمية أن يكون مُخرجوها على قدر من الإبداع والتفرّد. فالمخرج هنا من المُشترط أن يفعل الأفاعيل كي يصل بالحبكة التي أمامه إلى القمة، وذلك عبر دراستها وتحليل محتواها جيدًا، ليرى إذا كانت تلك الحبكة تصلح أن تُغمس في قالب من الفانتازيا المبهرة، أم قالب من الدستوبيا القاتمة، أم أي قالب إخراجي آخر مُحتمل.
العائق الثالث هو تقبل المُشاهد للفيلم نفسه. فهناك العديد من المشاهدين ومحبي الأفلام العلمية الذين لا يتقبلون نوعية معينة بسبب ضعف قوتها على صعيد المصداقية. فعلى سبيل المثال لا تصنع لي فيلمًا عن علم الطاقة، ثم تقرن نظرية النسبية بطاقة الإنسان الروحية وتقول أن الطاقة الإنسانية يُمكن أن تحول لمادة عن طريق انبعاجات ميتافيزيقية في الزمكان الدوري لقيثارة السماء! لذلك هنا يجب على الكاتب والمخرج أن يوحدا الجهود من أجل إنتاج عمل خالي بشكل كبير من الأخطاء، مما يجعله حاصلًا على رضا المجتمع العلمي والفني على حدٍ سواء.
الأفلام والعلم: لماذا هذا المزيج هو الأكثر تميزاً ؟
ببساطة الناس يعشقون ما يجهلون. حينما تشرح لأحد شيئًا لا يعلمه (حتى وإن كان مُختلقًا) بصورة شيقة وسلسلة، فأنت حتمًا الآن اكتسبت ثقته وقلبه وشغفه وكافة شيء. وهذا لأنك نزعت عنه لثام الجهل وألبسته ثوب المعرفة البرّاق. وحينما يعرف الإنسان ما كان يجهله، فإنه يسعد أيما سعادة ويشرع في تحصيل المزيد دون شك. وتلك النقطة الأخيرة هي مفتاح نجاح الأفلام العلمية.
ففي بداية أي فيلم علمي، الكاتب يرمي للمشاهد بأوراق لعبٍ كثيرة مقلوبة. ويشرع في فتح الأوراق بالترتيب وبشكل غير متسارع خلال المسار الزمني للأحداث. فعندما تُكشف الورقة الأولى، ينبهر المشاهد بشدة، الآن الفيلم قد امتلك عقل المشاهد! بعدها يستمر الفيلم في كشف الأوراق بالترتيب وهو ضامن أشد الضمان بأنه قد سلب روح وعقل المشاهد تمامًا وأنه الآن ينتظر بشغف وترقب ما الذي ستقوله الورقة القادمة حين يتم كشفها.
الأفلام والعلم: ما أوجه الخداع في هذا المزيج ؟
عندما نقول (فيلم علمي)، فنحن نقول (جرافيك متطور) بكل تأكيد. فالأفلام ذات الإطار العلمي غالبًا ما تتناول التكنولوجيا العلمية الحديثة، مما يُجبر مُنتج الفيلم على أن يأتي بالعديد والعديد من خبراء الجرافيكس ليقوموا بأبرع وأقوى الخدع الفنية والبصرية على الشاشة لإنتاج الفيلم بالشكل المتقن والمطلوب. فذلك الخداع البصري الجرافيكي يُغلف الفيلم بهالة من الإبهار والقوّة.
فأول عضو يستشعر المؤثرات الخارجية هو العين، فبالتالي أول شيء ينجذب إليه المشاهد هو الصورة. فكلما كانت التقنية المُستخدمة في إنتاج الصورة متطورة، كلما كانت الصورة نفسها متقنة، مما يترتب عليه اندهاش من قبل المشاهد. ذلك الاندهاش الذي سيرسخ بداخله شعورًا (وإن كان وهميًّا) بأن هذا الفيلم جبّار على الصعيد العلمي، حتى لو كان مزريًا على نفس الصعيد.
ولنوضح النقطة قليلًا دعونا نطرح مثالًا بسيطًا. الآن أنا مؤلف وأقوم بكتابة قصة عن مجموعة رواد فضاء ضلوا طريقهم بالفراغ ونفذ منهم الوقود تمامًا. وفجأة يمرون بجانب ثقب أسود ولا يستطيعون الإفلات منهم لأن الوقود معدوم. هذا فقط. أجل هذا فقط. هذه هل كل قصتي، وسأقوم بحشو الفيلم كله بالكثير والكثير من المشاهد المغلقة بالسفينة الفضائية كي أُبرهن على مدى بؤس وضياع الطاقم. لكن ماذا أفعل كي أُبهر المشاهد؟ أجل وجدتها!
الآن طلبت من المُنتج أن يقوم بالتعامل مع شركة جرافيك كبيرة ليصنعوا لي مُحاكاة حاسوبية جرافيكية تحتاج في عملية الـRendering إلى شهور طويلة، كي أحصل في النهاية على مشهد جرافيكي خلّاب وحابس للأنفاس لابتلاع الثقب الأسود للسفينة. وبعدها سأنهي الفيلم. في هذه الحالة سينسى الجميع نقص حنكتي ككاتب، ويركزون على عظمة وقوة المشهد الجرافيكي القابع بالنهاية. مرحى لي، فقد استطعت خداع المشاهد بكل بساطة.
الأفلام والعلم: علامات فارقة
عندما نتحدث عن الأفلام العلمية الناجحة، يجب أن نوضح أن أغلبها مبني على فكرة (الخيال العلمي)، وهو تصنيف يجمع بين القاعدة المعرفية العلمية، والفانتازيا، أي الخيال الجامح. هنا تحضرني بعض العناوين المُميزة بشدة والتي بالتأكيد قد مرت عليكم سابقًا في الأعوام الماضية وتركت في نفوسكم بصمات لا تُمحى. بالتأكيد Interstellar مثال ناجح جدًا تحت هذه الفئة، وهذا لأنه ليس موزونًا فقط على الصعيد العلمي، بل أيضًا على الصعيد الدرامي والجرافيكي سويًّا.
وكذلك فيلم The Martian الذي بُني على قاعدة علمية بسيطة، وخاض بعدها رحلة كفاح إنسانية على كوكب مقفر وعلّق قلوبنا معه حتى النهاية. بجانب Space odyssey 2001، ذلك الفيلم العظيم الذي جعل للذكاء الاصطناعي شهوات وطموحات، وعليها جابه البشر في دناسة أرواحهم. ودون شك لدينا مثال في عالم الدراما التلفزيونية، ألا وهو مسلسل Westworld، ذلك المسلسل الذي عزف على أوتار علم الأعصاب بشكلٍ مبهر حقًا. وأيضًا العديد من العناوين الأخرى التي سأتركها لكم لتفكروا فيها.
وفي الختام
الأفلام والعلم مزيج رائع ومدهش حقًا، لذلك في مقال اليوم تحدثنا قليلًا عن العقبات التي تواجه صناعة ذلك المزيج، لماذا هو مميز، ولماذا هو خادع في بعض الأحيان .
بقلم : أحمد سامي (آراجيك)