ان بحث طبيعة النفس، في الواقع، لم يكن وليد الدراسات الفلسفية الحديثة، بل ان جذوره ضاربة في القدم، قدم النظر العقلي ذاته. فمختلف المذاهب الفلسفية الحديثة التي تناولت طبيعة النفس، استمدت الكثير من آرائها وعناصر تفكيرها من الفلسفات السابقة عليها.
فتصور ديكارت واتباعه عن النفس، وكونها جوهراً مفارقاً للمادة، ليس بالتصور الجديد في الفلسفة، اذ سبقهم في ذلك، الشرقيون أولاً، ثم أفلاطون الذي اشتهر بثنائيته عن النفس والجسم.
وانكار الماديين المحدثين، كتوماس هوبز وغيره، لجوهر العقل ليس بالانكار الجديد ايضاً، حيث نجد شبيهاً له، لدى قدامى فلاسفة اليونان الماديين، كديموقريطس ومن حذا حذوه.
ولكن بالرغم من هذا، ربما نجد بعض الاسهامات لدى اولئك أو هؤلاء كما سيتضح لنا من خلال البحث.
ويمكن تقسيم النظريات التي تناولت حقيقة الانسان الى ثلاث نظريات رئيسية هي: النظرية الروحية، والنظرية المادية، والنظرية الحيادية أو نظرية الشخص، ولندرس كلاً من هذه النظريات على حدة.
أولاً: النظرية الروحية :
وهي النظرية التي تقول بوجود جوهر لا مادي في الانسان، به تتكون حقيقته. ومن الفلاسفة المحدثين يعد ديكارت خير من يمثل الروحيين. يقوم مذهب ديكارت في النفس، على التمييز الحاسم بين الجسم والنفس، والتأكيد على ان لكل منهما خصائصه المميزة. فالجسم، هو كل ما يمكن تحديده بشكل، والذي يمكن أن يحتويه مكان، ويشغل حيّزاً في الفراغ، بحيث يبعد عنه اي جسم آخر، وهو الذي يدرك باحدي الحواس الخمس أو أكثر. ويمكن تحريكه الى جهات متعددة، وحركته هذه ليست نابعة من ذاته، بل طارئة عليه من الخارج، لانه لا يمكن الاعتقاد بان حركة الجسم، حركة ذاتية نابعة من طبيعة الجسم. في حين أن النفس لا تتصف بكل هذه الصفات، وانما تتسم بسمة اساسية، ألا وهي التفكير.
وفي تفرقة أخري بين الجسم والنفس، يذهب ديكارت الى ان الجسم لا يتصور الا منقسماً اذ من المستطاع تصور النصف لأصغر الأجسام، بينما النفس لا تتصور منقسمة، فلا يمكننا تصور نصف نفس ألبتة، وهذا راجع أيضاً الى مادية الجسم وروحانية النفس.
وبايجاز شديد، فالمادة عند ديكارت شيء ممتد لا مفكر، في حين ان النفس شيء مفكر لا ممتد.
وما ذكره ديكارت بشأن السمات الأسياسية لكل من النفس والجسم لينتهي أخيراً الى تجرد النفس، قد سبقه اليه ابن سينا. ولكن خلافاً لديكارت، لم يمر ابن سينا مر الكرام على هذا الموضوع المهم، بل ذكر عدة براهين متينة على تجرد النفس الانسانية، منها ان القوة العقلية غير ذات وضع، ولا تقبل الانقسام، ولا يمكن الاشارة اليها، اي باختصار ليست لها خصائص المادة اطلاقاً.
واحد براهين الشيخ الرئيس، والذي له صلة بالبحث، هو بايجاز شديد: ان العقل عندما يعقل او يدرك الموجودات الخارجية، فانه يأخذ عنها صورة مفارقة للمادة، ولا يمكن ان تكون المدركات الخارجية هي بنفسها مجردة عن الأبن والوضع والمادة، لان هذا بديهي البطلان، فبقي اذن أن يكون العقل هو المفارق للمادة، بحيث يأخذ عنها صورة مجردة. اذن فالصورة العقلية العارضة للنفس، مستغنية عن المادة ولوازمها، فمحلها وهو النفس، مستغن ايضاً عن المادة، للتلازم الموجود بين العارض والمعروض.
ويعد ديكارت من أول الثنائيين المحدثين، الذين فرقوا تماماً بين النفس والجسم، ورأوا أنهما جوهران مختلفان، بل ومتضادان، ويذهب ديكارت الى أبعد من ذلك عندما يقرر أن النفس ليست بحاجة الى اي مكان، ولا تعتمد على أي شيء مادي، بل حتى لو لم يوجد الجسم، لكانت النفس موجودة بتمامها، لأنه طالما هناك تفكير، فلابد أن تكون نفس تفكر، لان التفكير هو من أهم صفات النفس.
فالنفس عند ديكارت، جوهر قائم بذاته، مجرد عن المادة وأعراضها، ومن أهم خواصها التفكير، أو بعبارة أدق، التفكير بكل أنواعه، فيما يرى ديكارت، أي الشك، والفهم، والتصور، والاثبات، والنفي، والارادة، والتخيل، والرغبة.
هذه هي نظرية ديكارت في النفس، وهي كما نعلم، منبثقة من شكه المعروف. فديكارت لما شك في كل شيء، لم يستطع الشك في أنه يفكر، وبالتالي لم يشك في وجوده، حيث انتهى أخيراً الى مبدئه الشهير «أنا افكر، اذن فأنا موجود»، والذي اشتهر ب «الكوجيتو» الديكارتي، ولم يسلم مبدأ ديكارت هذا، من الطعن والنقد، سواء من حيث اصالته، او قيمته الفكرية.
أما من حيث الاصالة، فقد اتهم ديكارت بأنه متاثر بأوغسطين (354- 430 م) في الكوجيتو، اذ ان هذا الأخير أورد حجة تشبه كثيراً مبدأ ديكارت، من حيث استخدام اوغسطين للشعور بالفكر، كدليل على اليقين، وثمة شبه قوي بين عبارات كل من أوغسطين وديكارت، نبه عليه الباحثون في عهد ديكارت نفسه، الا أن ديكارت نفى عن نفسه تهمة التأثر بأوغسطين، والأخذ عنه، وقال ان اوغسطين استعمل الفكر ليدلل على الوجود الذاتي، وهذا امر يسير، في حين انه يستخدم الفكر للبرهنة على تجرد النفس، وبينهما بون شاسع. ولم يسلم الباحثون لديكارت دفاعه بشأن مغايرة الفكرتين، لان اوغسطين ايضاً يستدل بالفكر على مفارقة النفس للمادة.
وأشار غير واحد من الباحثين، كأرنولد وسواه، الى وجود شبه قوي بين دليل اوغسطين والكوجيتو الديكارتي.
وهناك من المعاصرين من ذهب الى تأثر ديكارت بابن سينا ايضاً، فعد برهان الرجل الطائر الذي ساقه الشيخ الرئيس للبرهنة على وجود النفس الانسانية، من «الأفكار التي سبقت الكوجيتو الديكارتي، ومهدت له».
هذا فيما يتعلق بمدي اصالة ديكارت في مبدئه الشهير. ولنتحدث حول القيمة الفلسفية لهذا المبدأ.
أعترض بعض الفلاسفة، على النتائج التي توصل اليها ديكارت من فكرته هذه. وأول نقد نجده من الفلاسفة المحدثين، هو نقد ديفيد هيوم الذي وجه جلّ نقده على جوهرية النفس التي أكد عليها ديكارت وتوصل اليها عن طريق الفكر، أي أنه كائن يفكر، أو جوهر كل صفاته التفكير بمختلف مظاهره. فالنفس عنده كما رآينا، جوهر قائم بذاته، لا يحمل اي صفة من صفات المادة.
ينقد هيوم فكرة جوهرية النفس هذه، ويرة ان الكوجيتو لا يدل في الحقيقة، على وجود جوهر، بل أنه يدل على وجود حالات نفسية، وحوادث عقلية عند ادراكها. اذن لا يدل الكوجيتو على ان النفس جوهر كما أراد ان يثبت ذلك ديكارت.
وفي الحق، أن نقد هيوم لا يدور حول جوهرية النفس فحسب، بل يشمل تجرد النفس أيضاً كما سيأتي في موضعه.
واعتراض هيوم هذا، صائب الى حد كبير، اذ ان قضية «انا أفكر اذن فأنا موجود» تثبت وجود «الأنا» أو «النفس» فقط، ولكنها لا تبين لنا طبيعة هذه «الأنا»، هل هي جوهر أم عرض، مادية أو غير مادية؟ ويمكننا ان نصوغ نقد هيوم لمبدأ ديكارت، بأسلوب دقيق، ألصق بالفلسفة، وأقرب الى النظر المجرد فنقول:
ان شعور الانسان بذاته، أو ان شئت: معرفة المرء بوجوده، هو أمر واضح بل بديهي لكل فرد، فكل انسان يشعر بنفسه ويحس بذاته. وبعبارة أخرى: ان كل انسان يدرك ذاته ويعي وجوده، ويعد نفسه شيئاً موجوداً، وهو عالم بهذا الادراك، شاعر بهذا الوعي، أي أنه يدرك ذاته، ويدرك أنه يدرك. اذن كل واحد من أفراد البشر يؤمن بهذا المبدأ «أنا موجود»، ويدركه بالوجدان ولكن السؤال الذي يثور هو: ما هي طبيعة «الأنا»، أهي مادية أو مفارقة للمادة؟ هذا هو السؤال المهم، أما عبارة «أنا موجود» فقضية بدهية لا تحتاج الى برهنة، لان وجود «الأنا» أمر بدهي كما قلنا.
من هنا يتبين وهن برهنة ديكارت على اثبات وجود النفس، حيث اتخذ طريق التفكير لاثبات «الأنا» أو النفس، فقال «أنا افكر، اذن فأنا موجود» وهذا ليس بصائب، لان الوجود والتفكير واضحان، بل قل بديهيان لكل انسان. لان الشعور بالتفكير فرع على الشعور ب «الأنا» او النفس ذاتها.
ومن المعاصرين، نذكر نقد برتراند راسل للكوجيتو الديكارتي. يرى راسل أن لفظة «أنا» لا تعني شيئاً سوي أنها وردت تمشياً مع النحو، فلا داعي لها اطلاقاً. ثم ان عبارة «انا موجود» أو «سقراط موجود» لا تدل على شيء جديد، فهي لا تدل على اكثر من الاخبار عن أمر بديهي، لانه لا يمكن تقسيم الأشياء الموجودة في العالم الى نوعين: نوع موجود، ونوع غير موجود.
وعلى هذا لا نستطيع ان نقول شيئاً ذا دلالة عندما نقول عن شيء انه موجود. كل ما في الأمر ان الكلمة التي تدل على «موجود» تدل علة شيء لا أكثر.
اذن فعبارة «أنا موجود»، لا يمكن ان تعطينا كل هذه النتائج الميتافيزيقية التي استنتجها ديكارت منها.
ثم يستمر راسل في نقده لديكارت، فيرى ان هناك خطأ ناشئ عن مقولة ديكارت «أنا كائن مفكر»، والمبني على فلسفة الجوهر، التي تفترض ان العالم مؤلف من اشياء ثابتة. ولا يأت راسل بجديد في هذا الباب، اذ سبقه هيوم في ذلك كما رأينا.
هذا هو مجمل نقد راسل لديكارت، وهو وجيه الي حد كبير، ويشبه كثيراً ما ذكرناه قبل قليل من كون شعور الانسان بنفسه أمر واضح بدهي. ويستند راسل في نقده الى حقيقة اساسية: هي أن كل الاشياء موجودة، وكل الموجودات اشياء، ولا يوجد شيء في العالم يتصف باللاوجود، حتى يفتقر الى اثبات كونه موجوداً، أو ان شئت لا يوجد شيء غير موجود، حتى نضطر ان نشير الى انه موجود. هذه أهم الاعتراضات الموجهة ضد الكوجيتو الديكارتي.
وثمة اعتراضات أخري وجهها بعض المعاصرين الى ثنائية ديكارت، سوف نرجؤها الى موضعها المناسب في نهاية هذا الفصل باذن اللّه تعالى.
الا ان هناك موضوعين جوهريين، يجب النظر فيهما قبل ان نختتم الحديث عن ديكارت؛ أولهما: مدى علاقة الكوجيتو الديكارتي ببرهان الرجل الطائر وهل يبحثان مسألة واحدة أم لا؟
والثاني: اعتراض أساسي على فكر ديكارت. ولننظر فيهما على التوالي.
قبل الخوض في الموضوع الأول، لابد لنا من بيان مقدمة هي: ان العلم ينقسم الى قسمين: حضوري وحصولي.
العلم الحضوري: هو ذلك العلم الذي يكون فيه عين الواقع المدرك او المعلوم حاضراً لدي المدرك او العالم (الذي هو النفس الانسانية)، مثل علم النفس بذاتها، وبحالاتها الفكرية والانفعالية، او في حالة اعتزامنا تنفيذ عمل وتصميمنا على ذلك، او عندما يصيبنا فرح أو سرور، او بالعكس هم وحزن، فان حقيقة الارادة والتصميم والفرح، والهم، واضحة لدينا، نجدها من غير وساطة آلة او قوة من قوى النفس. وهذا يعني ان العلم والمعلوم كليهما شيء واحد في هذا العلم.
بمعنى ان وجود العلم هو عين وجود المعلوم، ويكون فيه ظهور المعلوم عن العالم بواسطة حضور المعلوم بنفسه لدى العالم او المدرك، دون وساطة اي قوة أخري.
ولهذا سمي بالعلم الحضوري، ويمكن عند التأمل تقسيمه الى ثلاث شعب هي:
1 علم النفس الحضوري بذاتها.
2 علم النفس الحضوري بالأفعال التي تصدر منها.
3 علم النفس الحضوري بالقوى والوسائط التي بها تقوم بهذه الأفعال.
أما العلم الحصولي: فهو العلم الذي تحضر فيه صورة المدرك أو مفهومه لدى المدرك ، لا أن يحضر واقع المعلوم عند العالم كما في العلم الحضوري. فحقيقة العلم وحقيقة المعلوم، أمران مختلفان في العلم الحصولي. وذلك كعلم الانسان بالعالم الخارجي مثل: الأرض والسماء والبحار والأشجار الخ حيث لدينا صورة مطابقة لها في أذهاننا، لا أنها تكون بحقيتها في نفوسنا.
وهو بخلاف العلم الحضوري، لا يكون فيه واقع المعلوم عين واقع العلم، بل بحصول صورة المدرَك عند المدرِك، ومن هنا سمي بالعلم الحصولي.
وكل معلوماتنا عن العالم الخارجي انما هو من نوع العلم الحصولي، الذي لابد فيه من وجود وساطة قوة من قوى النفس.
بعد هذه المقدمة نقول: ان الانسان في المرحلة السابقة لوجدان الفكر في نفسه يجد وجوده، اي أن الانسان قبل ان يجد وجود الفكر في نفسه، يجد وجوده. اذ ان وجوده أمر بديهي، فديكارت عندما يقول: انا افكر، يظهر انه لم يجد الفكر المطلق، بل وجد الفكر المقيد (باضافة انا)، لأنه قبل ان يجد فكره كان واجداً نفسه.
ولنر الآن، هل أن ديكارت متاثر بابن سينا في برهانه المعروف بالرجل الطائر، أو بعبارة اخري: هل أن برهان الرجل الطائر يتفق مع الكوجيتو الديكارتي؟
في الحق أن ثمة بوناً شاسعاً بين البرهانين (اذا صح تسمية الكوجيتو بالبرهان). ذلك ان ابن سينا دخل عن طريق المشاهدة المباشرة للنفس، والتي تحدث من غير واسطة (القسم الأول من اقسام العلم الحضوري)، فأثبت وجود نفسه بغض النظر عن أي شيء آخر اطلاقاً. في حين ان ديكارت دخل عن طريق شهود الآثار النفسية (القسم الثاني من اقسام العلم الحضوري) عندما جعل وجود الفكر واسطة ومبدأ، وعده دليلاً على وجود النفس.
ومن الطريف حقاً، ان ابن سينا تعرض لمبدأ ديكارت «أنا افكر فأنا اذن موجود» في احد آثاره القيمة والمشهورة في نفس الوقت، ثم اقام الدليل على بطلانه ببرهان متين. ولنستمع الى الشيخ الرئيس، وهو يبين لنا خطأ الاستدلال بالفكر على وجود الذات، وذلك بعد بيان برهان الرجل المعلق في الفضاء، حيث يقول تحت عنوان «وهم وتنبيه» ما نصه:
«ولعلك تقول: انما اثبت ذاتي بوسط من فعلي، فيجب اذن ان يكون لك فعل تثبته في الفرض المذكور، أو حركة او غير ذلك. ففي اعتبارنا الفرض المذكور جعلناك بمعزل من ذلك. وأما بحسب الأمر الأعم، فان فعلك ان اثبتَّه فعلاً مطلقاً، فيجب ان تثبت به فاعلاً مطلقاً لا خاصاً، هو ذاتك بعينها، وان أثبتَّه فعلاً لك، فلم تثبت به ذاتك، بل ذاتك جزء من مفهوم فعلك، من حيث هو فعلك، فهو مثبت في الفهم قبله، ولا أقل من أن يكون معه، لا به، فذاتك مثبتة لا به».
وهكذا نري أن ابن سينا يصرح بوضوح، أن اثبات الذات بأثر من آثارها (كالفكر مثلاً) أمر باطل. ذلك ان المستدل، ان كان يريد اثبات الأثر المطلق (الفكر المطلق) فهذا يثبت ذاتاً مطلقة لا خاصة، وان كان يريد اثبات فعل خاص به ليثبت ذاته، فذاته ثابتة قبل ذلك. اذ أن «أنا أفكر» تدل علي وجود الذات، فهي من قبيل تحصيل حاصل.
مما سبق يظهر بوضوح، ان الكوجيتو الديكارتي فكرة باطلة من أساسها، هذا أولاً، وأنها لا تشبه برهان الرجل الطائر، وهذا ثانياً، وان كان ديكارت متأثراً بابن سينا فانه قد اساء فهمه ولم يدرك مقالته، وهذا ثالثاً، وان كان ديكارت متأثراً باوغسطين ففكرة اوغسطين باطلة ايضاً تبعاً لبطلان الكويجتو، وهذا رابعاً.
اذن فما ذكره بعض الباحثين من وجود شبه قوي بين فكرة ديكارت، وبين برهان الشيخ الرئيس، ليس بسديد.
ولنبحث الآن، الاعتراض الجوهري على فلسفة ديكارت. من المعروف ان ديكارت شك في كل شيء، شكاً عارماً لم يبق له على شيء. فلم يشك في العالم الخارجي وما حوله من أشياء مادية فحسب، وانما شك في جسمه وعلومه وفي مصادر المعرفة. بل افترض ان هناك من يضلله ويشككه دائماً في كل شيء، حتى في مسائل الرياضيات، بل وحتى في البديهيات. وفي ذلك يقول: «... بحيث أضل حتى في الأمور التي يخيل لي ان معرفتي بها قد بلغت من البداهة شأناً عظيماً جداً».
ثم بدا له، أنه مهما بلغ به الشك، فلا يستطيع الشك في أنه يفكر، أي أن الفكر هو الشيء الوحيد الذي لا يشك فيه «أنا افكر، اذن فأنا موجود»، تلك هي مقولته الشهيرة التي توصل اليها. وجعلها كقاعدة لفلسفته كلها.
اذن فشك ديكارت حتى في «الأمور التي بلغت من البداهة شأناً عظيماً جداً» أمر مسلم به على حد تعبيره. فاذا كان ذلك، اذن فالأوليات العقلية المحضة كمبدأ عدم التناقض، هو الآخر لم يسلم من شكه أيضاً.
اذن كيف توصل ديكارت الي نتيجة مبدئه؟ لانه بافتراض عدم امتناع التناقض يمكن القول:( انا افكر، اذن فانا موجود) ، و(أنا افكر، اذن فانا غير موجود) ، قضيتان صحيتان.
وايضاً: (أنا افكر وفي نفس الوقت أنا لا أفكر بتاتاً) ، عبارتان سليمتان.
فالملاحظ انه بانعدام مبدأ عدم التناقض، لا يمكن اثبات او نفي أي شيء. فهذا المبدأ هو الأساس لجميع العلوم والمعارف الانسانية وباهماله لا يثبت لدينا علم ولا تقوم لنا معرفة. واكد الفلاسفة منذ القدم على هذا المبدأ، وصرحوا ان بانكاره، لا يمكن ان تثبت اي حقيقة. اذن من المستحيل ان يصل ديكارت الى مبدئه الشهير مع انكاره لاستحالة التناقض. وهذا يعني انهيار فلسفة أبي الفلسفة الحديثة من أساسها، بانهيار مقولته الذائعة الصيت، لان مقولته هذه، هي الأساس لبقية آرائه ونظرياته كما أسلفنا.
وبعد ان انهينا من دراسة النظرية الروحية، نبحث فيما يلي النظرية المادية.
ثانياً: النظرية المادية :
النظرية المادية في النفس، هي على النقيض من النظرية الروحية، تنكر وجود جوهر مجرد في الانسان، وتفسر الحياة النفسية، تفسيراً آلياً محضاً.
وهذه النظرية قديمة، ظهرت لاول مرة لدى قدماء الاغريق، حيث اشتهر بها الذريون مثل: لوقيبوس ويموقريطس، في القرنين الرابع والخامس قبل الميلاد، وغيرهم من الماديين، الذين عرفوا بآرائهم المادية في تفسير الحياة وفي طبيعة النفس. الا أن هذه النزعة المادية، انحسرت بظهور كبار فلاسفة اليونان، كسقراط ومن بعده افلاطون وارسطو.
ولا نكاد نجد أثراً يذكر للمادية في الفلسفة الاسلامية، اللهم الا عند بعض المتفلسفين، أما فلاسفة الاسلام الكبار، فكلهم ذوو اتجاه روحي، يؤمن بوجود نفس مفارقة. وقد نجد عند بعض المتكلمين نزعة مادية واضحة، فيما يخص ماهية النفس طبعاً، فمنهم من أنكر وجود النفس، وعدَّ الانسان هو الجسم الذي يشاهد، وهذا رأي أبي بكر الاصم، ومنهم من اعتقد بوجود النفس، الا انه قال بماديتها، والى هذا لرأي ذهب النظام.
ويبدو أنه لم يكن للمادية شأن يذكر في الفكر الأوروبي في القرن الوسطى، حيث ظلت حبيسة الكتب، الى ان بعثت من جديد بعد عصر النهضة، وانتعشت لدى فلاسفة الانجليز الحسيين، الى ان بلغت ذروتها في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر للميلاد وامتدت حتى العصر الحاضر، متمثلة في بعض التيارات الفكرية كما سنرى.
وفي الحق، ان المادية لا تؤلف اتجاهاً واحداً، بل تشمل عدة اتجاهات؛ فهناك المادية الفلسفية، والسلوكية، ونظرية التماثل، ولكل اتجاه رؤيته الخاصة التي تميزه عن الاتجاهات الأخري، ولكنها جميعاً تدخل في اطار واحد هو تفسير الحياة العقلية تفسيراً آلياً بعيداً عن وجود النفس المجردة. وفيما يلي نستعرض كل اتجاه على حدة.
المادية الفلسفية :
وهي المادية التي ظهرت في بداية العصر الحديث، وتشبه الى حد كبير مادية القدامي. وهي سطحية وتفتقر الى العمق الفكري، وما يميزها عن السلوكية ونظرية التماثل، هو عدم استعانتها بنتائج العلوم، وخاصة فيما يتعلق بفسيولوجيا الأعصاب وتشريح المخ، وصلة الادراك بالجهاز العصبي. وذلك لعدم تقدم هذه العلوم حينذاك. وفلاسفة الانجليز الحسيون، هم من أهم ممثلي المادية الفلسفية.
يُعدّ توماس هوبز أول الماديين المدثين، فهو من جهة ينكر الجوهر اللامادي في الانسان، ويرى انه من الافكار الغامضة المتناقضة في ذاتها. من هنا يظهر أنه لا يؤمن بوجود النفس، أو على الأٌقل لا يعتقد بجوهريتها ومفارقتها للمادة. ذلك أنه يتخذ الحواس فقط كمصدر وحيد للمعرفة، فما لا يناله الحس، لا وجود له.
وبعد هوبز، جاء خلفه جون لوك ، والذي يُعد من أبرز ممثلي النزعة الحسية الانجليزية، ليؤكد على الاتجاه الحسي، ويدعم المذهب المادي.
يبدو لوك، لأول وهلة، من الثنائيين، حيث يميز بين النفس والجسم؛ ويرى ان النفس جوهر قائم بذاته، لان الصفات الأولية، كالاحساس، والادراك، والتفكير، والتخيل (والتي جمعها ديكارت تحت اسم التفكير)، بحاجة الى شيء يحملها، او الى شيء تكون هذه الصفات قائمة به. هذا الشيء هو جوهر هذه الصفات وهو النفس. فالجوهر حامل الصفات الانسانية.
ويذهب لوك، الى ان المؤلف بين الظواهر النفسية المتعددة، ليس هو النفس، وبعبارة أخرى، ان وحدة النفس والتي يسميها «الذاتية الشخصية»، لا تقوم بالنفس فبالرغم من قوله بجوهرية النفس، فانه يرى ان هذه الجوهرية ليست هي مصدر وحدة النفس، بل ان الشعور بالذات هو اساس وحدة النفس أو «الذاتية الشخصية» ، وهذه الذات هي التي تتصف بالتذكر، ولكن التذكر يستوجب استمرارية الذات أو الأنا الذي يتذكر، على حاله، أي أن يبقى الأنا هو هو.
وهذا امر لا يبحثه، لانه خارج عن نطاق التجربة، ولا يبحث كذلك عن ماهية الأنا، هل هي مجردة ام مادية؟ بسيطة ام مركبة؟ وهذه المسألة مرتبطة بمسألة أخرى هي: هل يمكن للمادة ان تفكر أم لا؟ وهذه المسألة غير قبالة للحل أيضاً، وذلك لجهلنا جوهر النفس، وجوهر المادة. اذن لا نستطيع التثبت فيما اذا كان التفكير يلائم طبيعة المادة او يلائمها.
وفي الحق، أن نظرية لوك عن جوهرية النفس، غير واضحة، فبالرغم من ذهابه الى جوهرية النفس كما رأينا، فانه يعد تصور الجوهر «مبهماً غير مفيد، ولكنه لا يجازف برفضه رفضاً تاماً»، بل يقول بوجود جواهر أخري، وكلها محجوبة عن ادراك الانسان وهذه الجواهر هي: النفس واللّه والمادة.
هذا مجمل نظرية لوك في النفس، وكما نلاحظ، فان فيها الكثير من الخبط والاضطراب وهي غير متسقة مع بعضها البعض؛ فمن جهة تراه ينقد فكرة الجوهر، ومن جهة اخري يقول بوجود جواهر غير مدركة كالنفس.
ولو تجاوزنا هذه الهفوة، وقلنا ان رأيه الصحيح هو قوله بجوهرية النفس، لواجهتنا معضلة أشد من الأولى؛ ألا وهي اضطرابه وتشككه في امكان وجود النفس بصورة مستقلة عن الجسم، وكذا ارتيابه في تجرد النفس، وفي البراهين المساقة علة روحانيتها وخلودها. وهذا فرع على القول الأول والنتيجة المنطقية له، اذ كيف يستقيم القول بجوهرية النفس مع القول بماديتها وفنائها؟ اللهم الا ان يقال ان لوك يري النفس جوهراً مادياً زائلاً بزوال البدن، واذا صح هذا، فلا يوجد في الواقع فرق كبير بين من ينكر وجود النفس على الاطلاق، وبين من يقول بوجودها المادي. اذ ان نتيجة القولين واحدة، هي عدم وجود جوهر مجرد عن المادة، وفناء النفس بفناء الجسم. وهذا ليس ببعيد من الفيلسوف التجريبي، «فان لوك كقاعدة، يزدري الميتافيزيقا» ويعدها نوعاً من العبث.
وفيما يتعلق برأي لوك عن وحدة النفس، وذهابه الى أنها ليست مصدر وحدة الظواهر النفسية، بل أن الذات او الانا هو مصدر تلك الظواهر والجامع لها. فالملاحظ ان كلامه هذا يدل علي تميزه بين النفس والذات (الأنا)، تمييزاً زاد رأيه ضعفاً، وفلسفته انفكاكاً. فكون «الأنا»، لا النفس، مصدراً لمختلف الحالات والظواهر العقلية لدى الانسان، يعني أخيراً تعدد شخصية المرء، اذ ما هي العلاقة، التي تربط بين جوهر النفس (حامل الصفات)، وبين الذات (الجامعة لكل الظواهر العقلية)؟ هذا ما لم يرد عليه لوك نفسه.
ومما يدل على تردده، هو عدم تعرضه لمسائل مهمة، هي من صميم الدراسات النفسية؛ كالتذكر، الذي يستلزم بقاء الأنا هو هو كما قال آنفاً.
ولو أنصف لوك وتخلي عن ماديته، أو قل لو كان تفكيره الفلسفي عميقاً؛ لأدرك ان التذكر يستلزم استمرارية الحياة النفسية لدى الانسان، وهذه الاستمرارية لا تأتي الا بوجود أمر ثابت مفارق للمادة، والا كيف يمكن تفسير بقاء الذكريات لدى المرء، بالرغم من مرور عشرات السنين من عمره؟ مرة اخري نلاحظ تردده وشكه فيما يتعلق بماهية «الأنا» وبخصوص امكانية التفكير للمادة، وجهله جوهر النفس وجوهر المادة، وفيما اذا كان التفكير يلائم طبيعة المادة أم لا؟
وهكذا نلاحظ ان لوك في هذه المسائل ابعد ما يكون عن الثنائية، ولا يصح عدّه من القائلين بوجود جوهر روحاني قائم بذاته، في الانسان. واذا كان ولابد، فلتكن ثنائية مادية، اي بعكس ثنائية ديكارت تماماً. عندئذ تكون النفس عند لوك جوهراً مادياً، والجسم أيضاً كذلك. بل الحق ان لوك في كثير من المسائل المذكورة أقرب الى الشك منه الى اليقين. وهو قنين بان يجعل في مصاف الفلاسفة الشكاكين او اللاأدريين، على الأقل بالنسبة لآرائه في النفس. وهو يشبه خلفه هيوم في هذا الموقف، ولربما أسهمت آراؤه في تكوين شك هذا الأخير، الذي سنتناول رأيه في النفس فيما يلي.
يُعد ديفيد هيوم من التجريبيين أيضاً، او الفلاسفة الشكاك المحدثين، وله رأي في النفس غريب. فهو من جهة يذهب الى ان النفس تختلف في طبيعتها عن الجسم، فلدى الانسان ظواهر نفسية متعددة، وحالات عقلية مختلفة، ولكنه من جهة اخرى يرى ان هذه الظواهر والحالات الفكرية، لا تفتقر الي جوهر، فليس ثمة جوهراً نفسياً قائماً بذاته، يتميز عن تلك الظواهر والحالات العقلية. وما العقل او النفس في الحقيقة، الا حملة من الظواهر الشعورية، أو ان شئت: مجموعة من الادراكات المتباينة والاحساسات المختلفة، كإدراك حسي بالموجودات الخارجية، او كاحساس بالبرودة او الحرارة، او بلذة او الم، او حب أو كره، او انفعال او تذكر او تخيل، ولكن بالرغم من كل هذا، فليس هناك، أي انطباع عن أي شيء يسمي بالجوهر.
اذن لم يتردد هيوم كسلفه لوك في هذه المسألة، بل ينكر جوهرية النفس بوضوح تام. ولدى التأمل، نلاحظ ان انكاره لا يشمل جوهرية النفس فحسب، بل يتعداه الى تجرد النفس ايضاً. فهيوم عندما ينفي جوهرية النفس، ينفي لا ماديتها بطريق أولي، اذ ليس من المعقول ان ينكر جوهرية النفس ويقول بتجردها في نفس الوقت. نعم، لو كان هيوم ينفي تجرد النفس فقط، لأمكن القول انه يذهب الى جوهريتها. فتكون النفس عنده حينئذ، جوهراً مادياً، هذا ممكن. أما وانه نفى جوهريتها من الأساس، فهذا يتضمن نفي للاماديتها لانه لا يمكن ان تكون النفس مجردة، ولا تكون في نفس الوقت جوهراً، أي تكون عرضاً من الأعراض فهذا هو التناقض بعينه. ذلك ان القائل بتجرد النفس، قائل بجوهريتها لا محالة، وان لم يصرح بذلك، بخلاف القائل بجوهرية النفس، لا يلزمه القول بروحانيتها. اذن فانكار هيوم لجوهرية النفس، هو في الواقع انكار لتجردها ايضاً، وان لم يصرح هو بذلك.
فاذا لم تكن النفس مجردة، بل ولم تكن، على الأقل، جوهراً، فماذا عساها ان تكون؟ يرى هيوم ان «النفوس ليست الا حزمة او مجموعة من الادراكات المختلفة، التي يعقب كل منها الآخر بسرعة لا يمكن تصورها، والتي تكون في تدفق دائم وحركة دائمة».
هذا هو أساس نظرية هيوم في النفس، وهي لا تخلو من سطحية، بل ومن تناقض، شأنها في ذلك، شأن اي نظرية مادية. اذ كيف يمكن الجمع بين كون النفس متميزة بطبيعتها عن الجسم، وبين كونها غير جوهرية وغير مجردة؟ كيف يتم هذا التمييز؟ وعلى أي نحو تصور هيوم وجود نفس متميزة عن الجسم ولكنها في نفس الوقت ليست بجوهر ولا مجردة. هذا هو التناقض والاضطراب بعينه، والذي لا يخلو منه فيلسوف مادي، مهما حاول ذلك.
ومما يدل على اضطراب فلسفة هيوم وسطحيتها، هو اعترافه بالجهل حول كيفية اتحاد الادراكات المتعاقبة في الذهن، وبقاء الصور العلمية فيه «أي كيف تفسر الذاكرة، وانفعالاتنا ظواهر منفصلة، وينتهي بالتصريح بان هذه المسألة عسيرة جداً علي عقله». ولو لم يكن هيوم تجريبياً وشكاكاً، لما عسرت هذه المسألة على عقله، ولفطن الى ان وجود الذاكرة في الانسان، من أهم البراهين الدالة على تجرد النفس الانسانية، كما مر قبل قليل. ان موضوع الذاكرة، في الحقيقة، من أهم المعضلات الجوهرية التي تواجه كل فيلسوف مادي، حيث لا يجد لها تفسيراً منطقياً طالما لا يؤمن بما وراء الحس والمادة.
منقول