دأب الباحثون في العادة و أولئك المشتغلون في مساير المعرفة الكلية، على وضع الفلسفة و الكلام في مقابل بعضهما، و المقارنة بينهما. و من البديهي أن هذه المقارنة إن لم تكن ناقصة فهي على الأقل محدودة.
و ما سنضطلع به في هذا البحث هو دراسة أقسام المعرفة الثلاثة الماثلة في: الفلسفة و الحكمة، و الكلام و تحليلها.
و أول ما ينبغي أن نتشبه إليه على سبيل المقدمة، أن تعريف الفلسفة جاء أدق و أكمل و أشمل في رؤية فلاسفة المشرق الإسلامي، و ما هو عليه في رؤى الأقاليم الأخري . و بتعبير آخر: إنّ التعريف الذي طرح للفلسفة في المشرق هو أدق و أكمل.
و علينا قبل أن نبحث في الفلسفة من خلال رؤيةالشرق، أن نشير اختصارا إلي نظرية الغرب حولها.
انطلاقا من هذه الزاوية بالذات نجد أن الفلسفة تتحرك في ثلاثة مجالات، هي:
المجال الأول : رحلة ما قبل العلم، التي يعبّر عنها أحيانا بمرحلة «النظرية» نظير «النظرية الذرّية» التي ذهبت الى أنّ بنيةالأجسام تتقوّم بالذرّات .
و أول من قال بمذهب الذرّة هم الفينيقيون سنة (1200 ق. م) ثم طرح مجددا على أيدي البراهمة الهنود في حدود سنة (480 ق. م) و بعدهم بواسطة دمكريت حوالي سنة (400 ق. م) ثم جاء الدور لمتكلمي المسلمين الذين طرحوه على نحو أشمل و أدق، و من بعدهم بقرون دخل المذهب ميدان العلم بواسطة جورج طومسون و آخرين.
المجال الثاني: مرحلة ما بعد العلم. أي حين توفرت مسائل كلية من نتائج العلم. ففي هذه المرحلة صار ينظر الى معطيات البحوث العلمية المتزايدة بوصفها مقدمات لاستخلاص النتائج الفلسفية. و ذلك من قبيل المعطيات الناتجة عن الحركة الفيزيائية، و حركة الكواكب، و التفاعلات الكيميائية . فمحصلة البحث في هذه المرافق اكتسبت في الدرس الفلسفي عنوانا كليا انصبّ على بحث «الحركة» بمعناها الكلّي، و دراسة طبيعة ارتباطها بالمادة.
المجال الثالث: ثمة حقل في البحث الفلسفي يتحرك في إطار المسائل الكلية التي تمتد في كل المراحل، سواء تلك التي تسبق العلم أو تليه أو ترافقه، مثل مسألة الوجود و فيما إذا كان متناهيا أم غير متناهٍ، و الزمان، و طبيعة العامل المحرّك للتاريخ، و حقيقة ارتباط الجسم بالروح، و الأصول السامية للقيم، و غير ذلك.
إنّ ما يمكن أن نستخلصه من حصيلة الدراسات التي أنجزت في حقل المعارف الكلية للفلسفة الغربية، تكمن في ترافق أول مرحلة لبروز رؤية الفلسفة حول«الواقعيات» مع انبثاق الأسئلة و الاستفهامات التي أثيرت، و طبيعة الأجوبة التي جاءت و هي تتجاوز المشاهدة العينية (الحسية) إلى أفق أرفع.
صحيح أن الفلسفة تكتسب من خلال هذا الضرب من ضروب الممارسة معنى كليا عاما، بيد أن الصحيح أيضا أنّ قدرا مهما من الأسئلة و الاستفهامات المثارة يمكن طرحها في مجال العلوم بعيدا عن الفلسفة .
تعريف الفلسفة:
نأتي الآن إلي تعريف المشرق للفلسفة، و بالذات الشرق الإسلامي، الذي أفرز ما يمكن أن نصفه بأدق تعريف و أكمله. و في هذا السياق بلغ التعريف أوجه من زاوية الدقةو التكامل مع انبثاق النظام الفكري لصدر المتألهين الشيرازي، بحيث نستطيع القول: إن تعريف صدر الدين الشيرازي هو الأشمل في نطاق منظومة الفكر الفلسفي التقليدي (الكلاسيكي) .
يقول صدر المتألهين: «اعلم أنّ الفلسفة استكمال النفس الإنسانية بمعرفة دقائق الموجودات على ما هي عليه، و الحكم بوجودها تحقيقا بالبراهين، لا أخذا بالظن و التقليد، بقدرالوسع الإنساني. و إن شئت قلت: نظم العالم نظما عقليا على حسب الطاقة البشرية ليحصل التشبّه بالباري تعالي».
ثم يذكر بعد أسطر، الفلسفة النظرية في إشارة بالغة الأهمية، حيث يقول: «أما النظرية فغايتها انتقاش النفس بصورة الوجود على نظامه بكماله و تمامه، و صيرورتها عالما عقليا مشابها للعالم العيني».
صحيح أنّ هذا القيد (تشابه عالم العقل بعالم الواقع و العين) جاء في مجال تحديد هدف الفلسفة و غايتها، إلاّ أنه في الحقيقة جزء من تعريف الفلسفة نفسها. و السبب، أنّ النظام العقلي لعالم الوجود الذي يختزنه الذهن لا يمكن أن يكون مستندا إلى العلم و قائما علي حقائق الموجودات، من دون أن يستند إلي العالم الواقعي و يعتمد على الجانب العيني [العالم الخارجي ] .
ثمة إشارات مهمة ينطوي عليها تعريف صدر المتألهين نمرّ عليها اختصارا من خلال النقاط التالية:
أولا: كان الأولي به أن يعبّر ب«الحكمة» بدلا من الفلسفة في القسم الأول من التعريف؛ اي في قوله: «إنّ الفلسفة استكمال النفس الإنسانية بمعرفة حقائق الموجودات على ما هي عليه» و كذلك الحال في الشطر الأخير من التعريف الثاني؛ أي قوله: «. . . ليحصل التشبه بالباري تعالي» و ذلك لوجود عبارة «استكمال النفس الإنسانية». و السبب أنّ الفلسفة بمعناها العام تجعل «استكمال النفس» هدفا و غايةحسب ما يذهب إليه بعض أصحاب النظر الفلسفي قبل صدر المتألهين و بعده، خصوصا أولئك الذين يبعدون عن حيّزها معرفة حقائق الوجود انطلاقا من الرؤية الإلهية و ما وراء الطبيعة.
و ربما لهذا السبب بالذات اقترنت الفلسفة بالحكمة في رؤية صدر المتألهين حيث عبّر عن الفلسفة بالحكمة، حين أراد بعد أسطر أن يقسّم الفلسفة إلي: نظرية تجردية، و عمليةتعلقية.
ثانيا: حين نأخذ بنظر الاعتبار طبيعة الاتجاهات و أدوات الإدراك و العلم بعالم الوجود، فإن ذلك سيكون باعثا علي محدودية كمية و كيفية في المعلومات و المعارف، باستثناء موردين هما: العلم الحضوري، و معرفة اللّه اللذين لايحتاجان إلى الواسطة أصلا.
في ضوء ذلك يكون قيد «بقدر الوسع الإنساني» في التعريف ضروريا جدا. و إذا كان بعض المفكرين لا يأخذ هذا القيد بنظر الاعتبار أو لا يذكره أصلا، فمردّ ذلك يعود إلي بداهته لا غير . إلاّ أننا حين نذكر القدرة و الوسع الإنساني كقيد ضروري في تعريف الفلسفة؛ سنواجه إشكالا في قوله: «بمعرفة حقائق الموجودات على ما هي عليه» ذلك لأنّ هذا القيد يجعل لنا، و على نحو كامل دورا مزدوجا نكون فيه في الوقت نفسه لا عبين و نظّارا على صفحة الوجود .
و مثل هذا الدور يمنعنا من إقامة صلة علمية أو معرفية مع الواقعيات.
و ما يمكن أن يقال في حلّ هذا الإشكال، أن غرض صدر المتألهين و أي فيلسوف آخر من وضع القيد آنف الذكر في التعريف، إنّ ما يجب أن يكون عليه الهدف المباشر للفيلسوف في بحثه الفلسفي هو معرفة الواقعيات كما هي عليه و ما يحول عادة دون تحقيق هذا المستوي من المعرفة، و يضفي على المعرفة الفلسفية ضربا من ضروب المحدودية الكمية و النوعية، هي طبيعة العقبات الماثلة في الأهداف و الوسائل و الرؤى الشخصية و المتبنيات الأساسية.
غاية ما في الأمر، أن علينا أن نتنبه إلي أنّ هذه المحدّدات الطبيعية هي غير تلك الذرائع المتكلّفة التي تأسر عبّاد الذات و الأهواء مما يبتلي به المقلدون.
ثالثا: ورد في نصّ التعريف قوله: «و الحكم بوجودهات حقيقا بالبراهين لا أخذا بالظن و التقليد» فإذا كان المقصود منه إثبات جميع المسائل الفلسفية لابدّ أن يكون من خلال البرهان؛ و أنّ الاكتفاء بالظنّ و التقليد لا معنى له في البحث الفلسفي، ففي ذلك إشارة إلى قاعدة ضرورية. لأنّ استناد الدرس الفلسفي إلي البرهان و اعتماده عليه هو مما يقود إلي نتائج مؤثرة على صعيد تقدّم الفكر البشري فيم عرفته للعالم.
أمّا إذا كان القصد أن جميع ثمرات الفكر الفلسفي و معطياته المعرفية تستند إلي البرهان، فعلينا أن نذعن إلى عدم صحة هذه المقولة مطلقا لافتقارها إلى «التمامية و الكلية» خصوصا و نحن نري أن قدرا معتدا به من الاستنتاجات الفلسفية القائمة علي أصول و مباني معينة، لا ينال قبول جميع المفكرين و رضاهم. من ذلك مثلا أنّه كان يستدل على قدم الزمان و لا تناهيه بعجز الذهن على تصوّر بداية و نهاية للزمان، بيد أنّ هذا المعنى لم ينل رضا جميع المفكرين و المشتغلين بالفلسفة. تماما كما في الاختلاف الحاصل حول أصالة الوجود و الماهية، ففيما ذهب السبزواري في المنظومة إلى أصالة الوجود مستدلا على ذلك بأنه منبع كل شرف، نرى أنّ أمثال الميرداماد ذهب إلي القول بأصالة الماهية و لم يرفى استدلال السبزواري سوى كونه مصادرة على المطلوب، إذ يمكن أن يقال في المقابل أنّ الأصالة للماهية لكونها منبع كلّ شرف.
معنى الحكمة في ضوء التعريف: إذا كان غاية الفلسفة في ضوء التعريف هو:
1. استكمال النفس الإنسانية.
2. التشبّه باللّه تعالى ؛فسيتضح معنى الحكمة. فحين نأخذ بنظر الاعتبار الموضوعين الآنفين اللذين يعبران عن حقيقة واحدة فسنصل الى تعريفٍ للحكمة، و الى ان الفلسفة بمعناها الاصطلاحي العام الذي يعني تحصيل المعرفة بأجزاء و روابط عالم الوجود لا يكون لها ثمة معنى لدى المفكرين أن تاخذ بنظر الاعتبار الغاية و الهدف المذكورين أعلاه؛ الاّ اذا اخذنا الفلسفه بما يدل عليه معنى اللفظ اليوناني من مفهوم حبّ الحكمة.
و اذا شئنا أن نعرف الحكمة في اكثر مواردها استعمالا فنستطيع أن نقول في جملة واحدة: ان الحكمة هي عبارة عن معرفة حقائق العناصر الاربعة: الذات، الله، عالم الوجود، النوع البشري . و ذلك بما يتسع الانسان من استعداد و امكان في البحث عبر سيره التكاملي. و هذه المعرفة كما تدلنا آيات القرآن هي اكبر أهداف بعثة الانبياء.
ملاحظة: هذا المقال مكتوب بالفارسية بقلم الشيخ محمد تقي الجعفري، و قد نقله إلى العربية الأستاذ خالد توفيق.