الدولة السلجوقية هي إحدى الدول السُّنِّية القوية التي قامت في إيران والعراق وسوريا وآسيا الصغرى. وتُنسب هذه الدولة إلى سلجوق زعيم عشائر الغُزّ التركمانية، التي هاجرت واستقرت في بُخارى.
استولى أحد أحفاد سلجوق وهو (طُغْرُلبك) على إقليم خراسان سنة (429هـ= 1037م). ولما ضعف البويهيون في بغداد وكان قد اشتد ظلمهم للخلفاء، استنجد الخليفة العباسي القائم بأمر الله بالسلطان السلجوقي طغرلبك لإنقاذه من البويهيين؛ فانتهز السلطان هذه الفرصة، وسار بجيوشه إلى بغداد، ودخلها في عام (447هـ= 1055م)، واعترف الخليفة به سلطانًا على جميع المناطق التي تحت يده، وأمر بأن يُذكر اسمه في الخطبة.
واستطاع طغرلبك أن يقضي على تمرد أخيه (إبراهيم ينال)، وثورة البساسيري الشيعي، وأن يعيد الأمن والاستقرار إلى بلاد الرافدين.
ظلت العلاقة الطيبة قائمة بين الخلافة العباسية والسلطنة السلجوقية ما يقارب ثمانية عشر عامًا، لكن سرعان ما نشب الخلاف بين الطرفين؛ بسبب محاولة طغرلبك الاستئثار بجميع السلطات في العراق حتى تلك المتعلقة بالخليفة، إضافةً إلى أنه حمل موارد العراق المالية إلى الخزانة السلجوقية.
وبعد وفاة طغرلبك استطاع خليفته ألب أرسلان أن يوسّع نفوذه على حساب الدولة الفاطمية، فانتزع منها حلب ثم مكة والمدينة، وتقدم إلى بلاد الروم وانتصر عليهم في معركة ملاذكرد، وضم إليه شطرًا من بلادهم في آسيا الصغرى.
وقد حافظ ملكشاه على ما تركه أبوه ألب أرسلان، واستطاع القضاء على الثورات التي حدثت في بداية عهده، ونشر العدل والأمن والطمأنينة في البلاد. وكان مما يميز ملكشاه أنه كان مولعًا بالفلك، وشجع دراسة العلوم الدينية والعقلية بمعونة وزيره المشهور (نظام الملك) الذي أسس المدرستين العظميتين اللتين تعرفان باسمه في بغداد ونيسابور.
وبعد وفاة السلطان ملكشاه سنة (485هـ= 1092م)، تفككت الدولة السلجوقية وبدأت عوامل الضعف والانهيار تدب في أوصالها؛ وذلك لتنافس الأمراء على عرش السلطنة، فضعفت بالتالي سيطرة الدولة على مختلف أقاليمها، مما جعلها عاجزةً عن التصدي لـ الحملات الصليبية. هذا إضافةً إلى الحركة الباطنية التي أعاقت جهاد السلاجقة، وعملت على التصفية المستمرة باغتيال سلاطين السلاجقة وزعمائهم وقادتهم.
كان من مآثر السلاجقة تمسكهم الشديد بالإسلام، وميلهم القويّ إلى أهل السُّنة والجماعة. ووصل المسلمون في عهدهم إلى درجة عظيمة من التقدم في كثير من علوم الحضارة، وازدهرت في عهدهم الفنون بجميع أنواعها.
قصة الدولة السلجوقية
ينحدر السلاجقة من قبيلة قنق التركمانية، وتمثل مع ثلاث وعشرين قبيلة أخرى مجموعة القبائل التركمانية المعروفة بالغز وفي منطقة ما وراء النهر _ تركستان حاليًّا- استوطنت عشائر الغز وقبائلها الكبرى تلك المناطق وعرفوا بالترك أو الأتراك، ثم تحركت هذه القبائل في النصف الثاني من القرن السادس الميلادي بالانتقال من موطنها الأصلي نحو آسيا الصغرى[1].
ينتسب السلاجقة إلى جدهم دقاق الذي كان وأفراد قبيلته في خدمة أحد ملوك الترك يعرف باسم بيغو، وكان دقاق في هذه المرحلة من تاريخ السلاجقة مقدم الأتراك، وكان سلجوق بن دقاق في خدمة بيغو كما كان والده من قبل حيث كان يشغل وظيفة مقدم الجيش، في هذا الوقت كانت مظاهر التقدم وعلامات القيادة بدت واضحة عليه، حتى أن زوجة الملك أخذت تثير مخاوف زوجها منه لما رأت من حب الناس له وانصياعهم إليه، إلى الحد الذي أغرته بقتله، وما أن عرف سلجوق بذلك حتى أخذ أتباعه ومن أطاعه وتوجه إلى دار الإسلام وأقام بنواحي جند- قريبًا من نهر سيحون- وفيها أعلن سلجوق إسلامه وأخذ يشن غاراته على الكفار الترك.
بعد وفاة سلجوق في جند، خلف عددًا من الأولاد ساروا على سياسة والدهم في شن الغارات على الترك الوثنين وبذلوا جهودًا كبيرة في حماية السكان المسلمين، فازدادت قواتهم وتوسعت أراضيهم وقد أكسبهم ذلك كله احترام الحكام المسلمين المجاورين لهم، فقد غزا ميكائيل بن سلجوق بعض بلاد الكفار من الترك فقاتل حتى استشهد في سبيل الله[2].
ترك ميكائيل من الأولاد بيغو، وطغرلبك، وشغري بك داود، فدانت لهم عشائرهم بالطاعة، ثم يمموا شطر بخارى، فخشى أميرها خطرهم، فأساء جوارهم وأراد الإيقاع بهم، فالتجئوا إلى بعراخان ملك تركستان واحتموا به، واستقر الأمر بين طغرلبك وأخيه داود على ألا يجتمعا عند بغراخان حتى لا يحيط مكره السيئ بهم، وقد برهنت الأيام على بعد نظر السلاجقة فقد حال بغراخان دون اجتماع هذين الأخوين عنده فلم يوفق، فاحتال على أسر طغرلبك وتم له ما أراد، فثارت ثائرة داود وقصد بغراخان في عشائره ليخلص أخاه وأحل الهزيمة بجنده، وأطلق أخاه وعاد إلى جند وبقوا هنالك حتى زالت الدولة السامانية[3].
ولما ملك إيلك خان بخارى عظم نفوذ أرسلان بن سلجوق – عم داود وطغرلبك – الذي سار إلى أذربيجان، ولكنه لم يلبث أن أسر وحبس، وقد دارت بين السلاجقة والغزنويين في عهد مسعود –ابن يمين الدولة محمود الغرنوي- معارك طاحنة في عهد مسعود، انتهت بإقطاع دهستان لداود، ونسا لطغرلبك، وفراوة لبيغو، ولقب كل منهم بلقب دهقان، وبعث إليهم بالخلع، ولكن هؤلاء الأخوة من عشيرة السلاجقة لم يطمئنوا إلى دعوة السلطان مسعود، وأخذوا يخادعونه بإظهار الطاعة له، وطلبوا إليه أن يطلق عمهم أرسلان (بن سلجوق) ولكن هذا الصلح لم يتم وأنشغل مسعود ببلاد الهند[4].
طغرلبك
هو السلطان أبو طالب محمد بن ميكائيل بن سلجوق التركي الملقب بطغرلبك، ذلك الرجل الذي أنقذ الله عز وجل به الخلافة العباسية من السقوط للأبد وأنقذ الله به أهل السنة من الضياع في براثن التشيع, وأنشأ دولة هي أعظم الدول التي ظهرت في الإسلام هذه الدولة سيطرت على معظم أملاك المسلمين وكانت دولة سنية تحب الحق وإظهار العدل والشرع, هذه قصة رجل أعاد لمقام الخلافة هيبتها ومكانتها بعد أن ضاعت على يد المفسدين وملوك دولة بني بويه الشيعية.
كان طغرلبك كريمًا إلى حد كبير فقد روى المؤرخون أن أخاه إبراهيم ينال أسر بعض ملوك الروم فافتدى نفسه بأربعمائة ألف دينار، فأبى إبراهيم وحمله إلى السلطان طغرلبك، فأرسل إمبراطور الروم إلى الأمير نصر الدولة بن مروان يطلب وساطته عند طغرلبك في إطلاق سراحه، فما كان من طغرلبك إلا أن قام وأطلق سراح هذا الرومي وأرسله دون أن يأخذ منه فداء، وقد قدر الإمبراطور هذا الصنيع وعبر عن إعجابه به وتقديره إياه، ورد مع رسوله إلى طغرلبك الكثير من الهدايا[5].
بعد ذلك وفي سنة (429هـ= 1037م) استولى طغرلبك على مرو حاضرة خراسان وذكر اسمه في خطبة الجمعة بلقب ملك الملوك، وفي شهر شعبان سنة 429هـ التقى جيش طغرلبك بجيش الغزنوبيين عند باب مدينة سرخس وانتصر عليهم انتصارًا حاسمًا وشتت شملهم وطاردهم في كل مكان وغنم أموالهم، فكانت هذه الموقعة كما يقول ابن الأثير: "هي التي ملك السلجوقيون بعدها خراسان ودخلوا قصبات البلاد" وفي هذا الشهر استولى طغرلبك على نيسابور وأقيمت له الخطبة على منابرها وذكر اسمه مقرونًا بلقب السلطان الأعظم، واستقر بدار الإمارة وجلس للمظالم يومين في الأسبوع على ما جرت به العادة في هذه البلاد[6].
وفي سنة (433هـ= 1041-1042م) استولى السلاجقة بقيادة طغرلبك عل بلاد الديلم وكرمان، وانتقل السلاجقة في فتوحهم من نصر إلى نصر حتى جاءت سنة 438هـ التي حاصر فيها طغرلبك مدينة أصبهان وصالحه صاحبه على مال يؤديه إليه وعلى أن يقيم له الخطبة بأصبهان، وفي السنة التالية عقد الصلح بين أبي كاليجار البويهي والسلطان طغرلبك السلجوقي وحدث بينهم مصاهره[7].
هكذا قامت دولة السلاجقة العظام في خراسان وفارس، وأضحت جيوشهم على أهبة الاستعداد لدخول العراق وذلك لإنقاذ الخلافة العباسية من سيطرة البويهين الشيعة.
الوضع الداخلي في بغداد عشية زحف السلاجقة باتجاه الغرب
كانت الأسرة البويهية الشيعية تسيطر على العراق قبل قدوم السلاجقة حيث أسس البويهيون في فارس والعراق والأهواز وكرمان والري وهمذان وأصفهان إمارات وراثية أدت إلى إيجاد نوع من الاستقرار السياسي في دولة الخلافة العباسية، وقد سيطر البويهيون على مقاليد الأمور، وتصرفوا بشكل مطلق لكن هذا الاستقرار كانت تشوبه بعض الاضطرابات الناتجة عن النزاعات المذهبية بفعل تشيع الأسرة البويهية[8].
كان الوضع الداخلي في بغداد مزعزعًا تشوبه حالة من الفوضى وعدم الاستقرار مما ساعد على تعبيد الطريق أمام مهمة دخول السلاجقة إليها وضم العراق إلى دولتهم التي أسسوها في خراسان وإيران، وذلك بفعل الخلافات الأسرية داخل البيت البويهي، إذ قامت النزاعات والتنافسات بين الأمراء البويهيين من جهة وبينهم وبين الجند من جهة أخرى، كما انتشرت الفتن بين الجند، بالإضافة إلى رغبة السلاجقة في إنقاذ الدولة العباسية السنية.
ففي عام (424هـ= 1033م) ظهر التنافس واضحًا بين جلال الدولة البيويهي وبين ابن أخيه أبي كاليجار، وخطب لهذا الأخير في بغداد، وغدت المدينة مسرحًا للشغب والمنازعات المذهبية والأسرية.
ولما توفى جلال الدولة في عام (435هـ= 1044م) لم يتمكن ابنه الملك العزيز من الاحتفاظ بالحكم طويلاً، مما دفع أبو كاليجار إلى تثبيت أقدامه في الحكم، واستقر في بغداد في عام (436هـ= 1045م).
نتيجة لهذا التنافس الأسري، وبفعل ثورات الجند المستمرة فقد الأمن في بغداد، وقد شعر الخليفة العباسي بهذا التفكك والانحلال، ورأى أن الدولة البويهية عاجزة عن إقرار الأمور في العراق[9].
دخول السلاجقة بغداد
حين شارف السلاجقة على العراق، كان أبو الحارث أرسلان البساسيري، أحد قادة بني بويه الأتراك المتشيعين يسيطر على بغداد وما جاورها، ويتمتع بنفوذ كبير لدرجة أنه أضحى يخطب له على المنابر في العراق والأهواز، ولم يعد بإمكان أي من الخليفة العباسي أو الملك البويهي اتخاذ أي قرار يتعلق بأمور الدولة إلا بعد موافقته، وقد شكل هذا القائد خطرًا حقيقيًا على الخلافة العباسية والدولة البويهية.
أما خطره على الخلافة العباسية فقد تجلى في عام (446هـ= 1054م)، حين نشب الخلاف بينه وبين الخليفة القائم مما دفعه للاتجاه نحو الفاطميين، أما خطره على الدولة البويهية فقد تجلى في الخلاف الذي نشأ بينه وبين الملك الرحيم البويهي مما هدد النفوذ البويهي في العراق بعد ضياع أملاك البويهيين في إيران على يد السلاجقة.
في هذا الجو المضطرب استنجد الخليفة بالسلطان السلجوقي طغرلبك طالبًا مساعدته ضد البساسيري، انتهز السلطان هذه الفرصة، وسار بجيوشه إلى بغداد، ودخلها في عام (447هـ= 1055م)، واعترف الخليفة به سلطانًا على جميع المناطق التي تحت يده وأمر بأن يذكر اسمه في الخطبة، وهكذا دخل العراق ضمن دائرة نفوذ السلاجقة العظام[10].
العلاقة بين الخلافة العباسية والسلطنة السلجوقية
أقام طغرلبك في بغداد ثلاثة عشر شهرًا، عمل في أثنائها على تدعيم النفوذ السلجوقي في عاصمة الخلافة، وتوثيق صلة السلاجقة بالخليفة، كما عملت الخلافة من جانبها، على تقوية الروابط بينها وبين هذه القوة الجديدة، فتزوج القائم من أرسلان خاتون خديجة ابنة داوود جفري بك، أخ طغرلبك وذلك في عام (448هـ= 1051م)، فتم بذلك التقارب بين البيتين العباسي والسلجوقي، واستقر نفوذ السلاجقة في العراق[11].
تمرد البساسيري:
في غمرة هذه الانتصارات التي حققها طغرلبك، قام البساسيري، من مقره الجديد – الرحبة – بعدة حركات ارتدادية عسكرية، بهدف إخراج السلاجقة من بغداد.
فعلى الصعيد العسكري، نجح في الاستيلاء على الموصل، بعد أن هزم السلاجقة قرب سنجار في عام (448هـ= 1056م)، وأخذ يستعد لدخول بغداد، وعلى الصعيد السياسي أعلن انضمامه إلى الفاطميين وخطب للخليفة الفاطمي الذي أرسل إليه الخلع، مما أحدث اضطرابات مذهبية عنيفة.
في هذا الوقت عانى طغرلبك من عدة صعوبات داخلية، اضطرته للخروج من بغداد في عام (449هـ= 1057م)، وسار إلى الموصل لوضع حد للمشاكل التي أثارها البساسيري ضده، فبسط نفوذه على ديار بكر، ثم عاد إلى بغداد حيث استقبله الخليفة بالترحاب ولقبه (ملك المشرق والمغرب) ويدل هذا التلقيب على أن هذا الخليفة، اعترف لطغرلبك بما أضحى تحت يده من البلاد في المشرق، وأذن له باستخلاص المغرب من الفاطميين[12].
ثورة إبراهيم إينال
ثم حدث أن واجه طغرلبك مشكلة جديدة تمثلت بتمرد قام به أخوه إبراهيم اينال في بلاد الجبل، فاضطر للخروج من بغداد مرة أخرى لقمع هذا التمرد، فانتهز البساسيري ذلك، ودخل بغداد في شهر ذي القعدة (450هـ= 1058م)، وخطب فيها للخليفة الفاطمي مدة عام كامل، وخرج الخليفة منها إلى عانة- بلد مشهور بين الرقة وهيث من أعمال الجزيرة - ملتجئا إلى قريش بن بدران، وأخذ يراسل طغرلبك يستغيث به.
عودة طغرلبك إلى بغداد
ويبدو أن الخلافة الفاطمية، لم تكن تملك القوة الكافية لإمداد البساسيري حتى تحتفظ بما وصلت إليه، كما يبدو أن ثقتها في هذا الرجل لم تكن كبيرة لذلك لم تتحرك للقيام بعمل جدي وتركته يواجه الموقف منفردًا أمام قوة السلطان الذي ما لبث أن عاد إلى العراق، بعد أن فرغ من إخماد تمرد أخيه، وأضطر البساسيري إلى الخروج من بغداد لعدم قدرته على الوقوف في وجه الجيش السلجوقي، ومن ثم قتل في عام (451هـ= 1059م).
وبعد أن دخل طغرلبك بغداد دعا الخليفة للعودة إلى عاصمته واستقبله في النهروان، وأبدى اغتباطه بعودته، وبذلك استتب الأمر للسلاجقة في العراق وأصبحوا يمثلون ظاهرة جديدة في حياة دولة الخلافة العباسية، فقد اختلف موقفهم تجاه الخلافة عن موقف البويهيين بشكل عام فكانوا يحترمون الخلفاء تدينًا ينبع من عقيدتهم ونشأتهم السنية.
ومن جهة أخرى استطاع السلاجقة أن يوحدوا المشرق الإسلامي من جديد تحت رايتهم ويمدوا رقعته في غربي آسيا إلى حدود البوسفور عن طريق جهاد الدولة البيزنطية، ويستولوا على معظم بلاد الشام من الفاطميين.
ظلت العلاقة الطيبة قائمة بين الخلافة العباسية والسلطنة السلجوقية ما يقارب ثمانية عشر عامًا منذ أن أعلن طغرلبك قيام دولته في خراسان، خصوصًا أنهم كانوا يحترمون الخلافة العباسية ويقدرونها.
لكن سرعان ما نشب الخلاف بين الطرفين، بسبب محاولة طغرلبك الاستئثار بجميع السلطات في العراق، حتى تلك المتعلقة بالخليفة، بالإضافة إلا أنه حمل موارد العراق المالية إلى الخزانة السلجوقية، فقد أناب عنه في حكم بغداد، قبل أن يعود إلى عاصمته الري، موظفًا سلجوقيًا أطلق عليه اسم (العميد) كما عين موظفًا آخر لحفظ الأمن يعرف بـ (الشحنة) يأتمر بأمره، ويتمتع بنفوذ كبير حتى على الخليفة، وترك في بغداد حامية عسكرية، وضمن بعض المدن لخواصه[13].
ومما زاد الأمور تفاقمًا، محاولة السلطان ربط البيتين العباسي والسلجوقي بالمصاهرة، فخطب ابنة الخليفة متجاوزًا بذلك تقاليد الخلافة العباسية، وهذا مطمح لم يسع إليه أحد من قبل، ويبدو أن إقدامه على هذه الخطوة، كان وسيلة لتدعيم نفوذه السياسي برابطة أدبية قوية مع الخلافة العباسية، لكن الراجح أن السلاجقة طمعوا في منصب الخلافة، إلا أنهم افتقروا إلى شروط النسب باعتبارهم أعاجم، وهدى التفكير طغرلبك إلى الزواج من ابنة الخليفة أملًا في أن يلد منها ولدًا يكون له من شرعية النسب وقوة السلاجقة ما يوصله إلى سدَّة الخلافة.
كانت ردَّة الفعل سلبية؛ فقد انزعج الخليفة القائم من ذلك واستعفى السلطان فلم يعفه، واضطرَّ إلى قبول طلبه وزوَّجه ابنته في عام (455هـ= 1063م)[14].
وفاته:
وتوفى السلطان طغرلبك رمضان (455هـ= 10 سبتمبر 1063م).
آلب أرسلان (محمد) الأسد الشجاع
خلف طغرلبك وكان "عادلًا، حسن السيرة، كريمًا، رحيمًا، شفوقًا على الرعيَّة، رفيقًا على الفقراء، بارًّا بأهله وبأصحابه ومماليكه، كثير الدعاء بدوام ما أنعم به عليه، كثير الصدقات يتصدَّق في كلِّ رمضان بخمسة عشر ألف دينار، ولا يعرف في زمانه جناية ولا مصادرة بل يقنع من الرعايا بالخراج في قسطين رفقًا بهم"[15].
وزيره نظام الملك:
أعتمد عليه ألب أرسلان في الوزارة وكان عالمًا عادلًا حليمًا كثير العفو وكان مجلسه حافلًا بالفقهاء وأئمة المسلمين وأهل الخير والصلاح، وقد أشتهر ببناء المدارس في البلاد وخصَّص لها الكثير من النفقات[16].
"وكان وزير صدق يكرم العلماء والفقراء، ولمَّا عصى الملك شهاب الدولة قتلمش وخرج عن الطاعة، وطمع في أخذ الملك من ألب أرسلان وكان من بني عم طغرلبك، فجمع وحشد واحتفل له ألب أرسلان فقال له الوزير: أيها الملك لا تخف، فإني قد استخدمت لك جندًا ليليًّا يدعون لك وينصرونك بالتوجه في صلواتهم وخلواتهم، وهم العلماء والصلحاء، فطابت نفسه بذلك"[17].
- المدارس النظامية
وقال بعض المؤرخون أنها أنشئت في عهد نظام الملك وقال البعض الآخر أنها أنشئت قبل ذلك بكثير، المهم أنَّ هذه المدارس قامت بدورٍ هامٍّ في تاريخ السلاجقة؛ حيث عملت هذه المدارس على إعداد الإنسان الصالح والمصلح لغيره، وأعتبر هذا الهدف مهمًّا لبناء الأمَّة الصالحة[18].
وكان عهد ألب أرسلان على الرغم من قصره (455-465هـ) حافلًا بجلائل الأعمال؛ ففي السنة الأولى من حكمه أخضع ختلان وهراة وصغانيان في الشمال الشرقي، وكان أًصحابها قد شقوا عصا الطاعة، ورد البيزنطيين في آسيا الصغرى على أعقابهم بعد أن فتح كثيرًا من قلاعهم وغنم غنائم لا تحصى وأسلم كثير من أهل هذه البلاد، وقد أشترك ملكشاه بن ألب أرسلان والوزير نظام الملك في هذه الحروب سنة 456هـ، وبعد قليل أخضع ألب أرسلان جند حيث دفن جده الأكبر سلجوق مما جعل لها أهمية خاصة في نظره، وقمع الثورة التي قامت في فارس وكرمان، وفي سنة 457هـ أخذ في بناء المدرسة النظامية ببغداد، وفي السنة التالية ولى عهده ابنه ملكشاه، فبايعه أمراء دولته، وذكر اسمه في الخطبة في جميع البلاد التي دانت لسلطانه، وأقطع بلاده أفراد البيت السلجوقي.
كذلك أقطع ألب أرسلان من بلاد خصومة الفاطميين حلب ومكة والمدينة، وأقيمت الخطبة بحلب للخليفة العباسي القائم وللسلطان ألب أرسلان[19].
موقعة ملاذكرد
قام ألب أرسلان بحملة كبيرة ضد الأقاليم النصرانية المجاورة لحدود دولته، وقاد جيشه نحو جنوب أذربيجان واتجه غربًا لفتح بلاد الكرج والمناطق المطلة على بلاد البيزنطيين، وكان سكان الكرج يكثرون من الإغارة على أذربيجان فأصبحوا مصدر قلق لسكان المنطقة، وانضم إليه وهو في مدينة مرند في أذربيجان أحد أمراء التركمان ويدعى طغتكين، وكان دائم الإغارة على تلك المنطقة عارفًا بمسالكها.
بعد ذلك أجتاز الجيش السلجوقي نهر الرس –نهر يخرج من قاليقلا ويمر بأران- في طريقة إلى بلاد الكرج مما أضطر ملك الكرج أن يهادن ألب أرسلان وصالحه على دفع الجزية، بعد ذلك أصبح الطريق مفتوحًا أمام السلاجقة للعبور إلى الأناضول بعد السيطرة بعد أن سيطروا على قلب أرمينية، كان ذلك تحديًا لبيزنطة وأدرك أن ألب أرسلان يصبغ غزوه للبلاد بصبغة الجهاد الديني وأن الحرب بين المسلمين والبيزنطيين أمرًا لا مفر منه[20].
الخروج للقتال
خرج روماونس ملك الروم في جمع كثير من الروم والروس والكرج والفرنجة وغيرهم من الشعوب النصرانية، حتى قدر هذا الجمع بثلاثمائة ألف جندي، أعدهم الإمبراطور لملاقاة السلطان السلجوقي، الذي ما إن علم باقتراب الروم ومن معهم حتى استعد للأمر، وكان في قلة من أصحابه لا تقارن بعدد الروم ومن معهم من الجنود، وكان الجيش السلجوقي يبلغ عدده قرابة خمسة عشر ألفًا، ولم يكن لديه وقت لاستدعاء مدد من المناطق التابعة له، وقال ألب أرسلان قولته المشهورة: "أنا أحتسب عند الله نفسي، وإن سعدت بالشهادة ففي حواصل الطيور الخضر من حواصل الطيور الغبر رمسي، وإن نصرت فما أسعدني وأنا أمسي ويومي خير من أمسي".
هجم السلطان السلجوقي بمن معه على مقدمة الأعداء وكان فيها عشرون ألفًا معظمهم من الروس، فأحرز المسلمون عليهم انتصارًا عظيمًا وتمكنوا من أسر معظم قادتهم.
عرض الصلح ولكن!
أرسل السلطان ألب أرسلان وفدًا من قبله إلى إمبراطور الروم وعرض عليه المصالحة ولكنه تكبر وطغى ولم يقبل العرض، وقال: هيهات!! لا هدنة إلا ببذل الري- أي بدخول مدينة الري السلجوقية- مما أغضب السلطان السلجوقي، وقال له إمامه أبو النصر محمد بن عبد الملك البخاري الحنفي: إنك تقاتل عن دين وعد الله بنصره وإظهاره على سائر الأديان، وأرجو أن يكون الله قد كتب باسمك هذا الفتح فالقهم يوم الجمعة في الساعة التي يكون فيها الخطباء على المنابر، فإنهم يدعون للمجاهدين[21].
اندلاع المعركة:
أعد المسلمون العدة للمعركة الفاصلة واجتمع الجيشين يوم الخميس الخامس والعشرين من ذي القعدة سنة 463هـ فلما كان وقت الصلاة يوم الجمعة صلى السلطان بالعسكر ودعا الله تعالى وقال: نجن مع القوم تحت الناقص - يقصد قلَّة العدد- وأريد أن أطرح نفسي عليهم في هذه الساعة يدعى فيها لنا والمسلمين على المنابر، فإما أن أبلغ الغرض وإما أن أمضي شهيدًا إلى الجنة، فمن أحب أن يتبعني منكم فليتبعني، ومن أحب أن ينصرف فليمض مصاحبًا فما هاهنا سلطان يأمر ولا عسكر يؤمر فإنما أنا اليوم واحد منكم، وغاز معكم، فمن تبعني ووهب نفسه لله تعالى فله الجنة أو الغنيمة، ومن مضى حقت عليه النار والفضيحة، فقالوا: مهما فعلت تبعناك وأعناك عليه، فبادر ولبس البياض وتحنط استعدادًا للموت وقال: إن قتلت فهذا كفني، ثم وقع الزحف بين الطرفين، وحمل المسلمون على الأعداء، ونصر الله المسلمين عليهم، فقتلوا منهم مقتله عظيمة وأسروا منهم جموعًا كبيرة، كان على رأسهم ملك الروم نفسه[22].
قصة أسر إمبراطور الروم
إن أحد غلمان سعد الدولة جوهر –آثين- هو الذي أسر الإمبراطور رومانوس، فأراد قتله، فقال له خادم مع الملك: لا تقتله فإنه الملك، وكان هذا الغلام قد عرضه سعد الدولة جواهر-أحد أمراء ألب أرسلان- على الوزير نظام الملك فردَّه استحقارًا له، فأثنى عليه جواهر، فقال نظام الملك مازحًا: عسى أن يأتينا بملك الروم أسيرًا، ومن العجيب أنَّ هذا الغلام هو الذي أسر الإمبراطور[23].
أخبر ألب أرسلان بنبأ أسر الإمبراطور فأمر بإحضاره، فلمَّا أُحضِر ضربه السلطان ثلاث مقارع بيده وقال له: ألم أرسل إليك في الهدنة فأبيت؟ فقال: دعني من التوبيخ وأفعل ما تريد، فقال السلطان: ما عزمت أن تفعل بي إن أسرتني؟ قال: أفعل القبيح، قال السلطان: ما تظن أنني أفعل بك؟ قال: إما أن تقتلني وإما أن تشهرني في بلاد الإسلام، والأخيرة بعيدة وهي العفو وقبول الأموال واصطناعي نائبًا عنك، قال: ما عزمت على غير هذا، ففداه السلطان بألف ألف دينار وخمسمائة ألف دينار، وأن يرسل إليه عساكر الروم في أيِّ وقتٍ يطلبها، وأن يُطلق كلَّ أسيرٍ في بلاد الروم[24].
أمَّا الروم فبادروا وملَّكوا آخر، فلمَّا قرب أرمانوس شعر بزوال ملكه، فلبس الصوف وتصوَّف، وترهَّب ثم جمع ما وصلت يده إليه نحو ثلاثمائة ألف دينار، وبعث بها واعتذر. وقيل: إنَّه غلب على ثغور الأرمن[25].
أمَّا أهم الدروس المستفادة من هذه الموقعة هو الإخلاص لله تعالى والاستعداد للموت في سبيله؛ فعلى الرغم من الفرق الكبير بين عدد المسلمين والبيزنطيين إلَّا أنَّ المسلمين استطاعوا الانتصار على البيزنطيين وليس الأمر عدد ولا عتاد ولكنَّه نصرٌ من الله عز وجل عندما كانت النية خالصة لله عز وجل.
ومن الأمور التي يجب الإشارة إليها في هذه الموقعة هو دور العلماء في تثبيت القادة والجنود وتذكيرهم بالله واليوم الآخر، فعندما يصلح حال العلماء يصلح أحوال الرعية وبالتالي يصلح حال الأمة كلِّها.
ولهذا نجد أنَّ موقعة ملاذكرد كان لها أثرٌ بالغ؛ فقد انتشر السلاجقة في آسيا الصغرى وضموا إلى ديار الإسلام مساحةً تزيد عن 400 ألف كيلومتر، كما تعتبر هذه الموقعة نقطة تحول في التاريخ الإسلامي؛ فلأوَّل مرَّةٍ يقع الإمبراطور نفسه أسير في أيدي المسلمين، وتعدُّ هذه الموقعة أكبر نكسة في تاريخ الإمبراطورية البيزنطية؛ إذ أصبحت الأراضي البيزنطية تحت رحمة السلاجقة ولذلك يُسمِّيها بعض المؤرِّخين باسم الملحمة الكبرى[26].
وفاة ألب أرسلان:
توفى في جمادي الآخرة سنة 465هـ وقيل أنه تُوفِّي عن عمر أربعين سنة أو إحدى وأربعين سنة[27].
ملكشاه (465-485هـ= 1072-1092م)
كان ملكشاه كما وصفه ابن خلكان: "أحسن الملوك سيرة حتى كان يلقب بالسلطان العادل"[28]، "وكان يجلس للمظالم بنفسه ويقضي بين الناس بالقسطاس المستقيم كما كان بابه مفتوحًا لكل قاصد بحيث يستطيع أي شخص من أفراد شعبه أن يتصل به في سهولة ويسر لرفع ظلامته أو التعبير عما لحقه من اضطهاد، وكانت السبل في أيامه آمنة، والقوافل تسير من بلاد ما وراء النهر إلى أقصى بلاد الشام في أمن وطمأنينة"[29].
خلف ألب أرسلان ابنه ملكشاه وتولى الحكم وهو في السابعة عشر أو الثامنة عشر من حكمه، وقد حدثت في بداية عهده عدة ثورات ولكنه استطاع القضاء عليها، وكان مما يميز ملكشاه أنه كان مولعًا بالفلك وشجع دراسة العلوم الدينية والعقلية بمعونة وزيره المشهور نظام الملك الذي أسس المدرستين العظميتين اللتين تعرفان باسمه في بغداد ونيسابور، وتعرف كل منهما باسم المدرسة النظامية كما أسس المدرسة الحنفية ببغداد[30].
مناصرته للمظلومين:
إن انتشار العدل من الأمور الهامة فبدونه تنهار الأمم، وقد انتبه ملوك السلاجقة لهذا الأمر
وجعلوه أساس دولتهم، ومثال على ذلك ما فعله ملكشاه عندما اشتكى إليه فلاح أن غلمانَا له أخذوا له حمل بطيخ هو رأس ماله، فقال: اليوم أرد عليك حملك، وبالفعل قام وأعطى الرجل حمله[31].
وأيضًا من الأمور التي تشير إلى عدله أنه أسقط مره بعض المكوس، فقال له رجل من المستوفين: يا سلطان العالم إن هذا يعدل ستمائة ألف دينار وأكثر، فقال: "ويحك إن المال مال الله والعباد عبيده والبلاد بلاده وإنما يبقى هذا لي عند الله ومن نازعني في هذا ضربت عنقه"[32].
وتوفى السلطان ملكشاه سنة 485هـ/ 1092م[33].
عهد التفكك والضعف وانهيار الدولة السلجوقية:
الدولة السلجوقيةبعد وفاة السلطان ملكشاه تفككت الدولة السلجوقية وبدأت عوامل الضعف والانهيار تدب في أوصالها بين أبنائه وإخوته وأحفاده، فضعفت بالتالي سيطرة الدولة على مختلف أقاليمها، ومن الأسباب التي أدت إلى هذا الضعف تنافس الأمراء على عرش السلطنة، الأمر الذي أحدث انقسامًا كبيرًا وبصفة خاصة بين بركياروق الابن الأكبر لملكشاه وأخيه الأصغر محمود، وانقسم السلاجقة إلى فريقين متنازعين كل منهما يجاهر بالعداء إلى الأخر[34].
وقد دب الضعف في أوصال دولة السلاجقة ففي عام ( 536هـ= 1141م ) انهزم السلطان سنجر، آخر السلاطين السلاجقة العظام أمام القراخطائيين، كما تجددت الخلافات السلجوقية الأسرية في كل مكان من خراسان والعراق في عام ( 541هـ= 1146م).
ولما توفى السلطان مسعود في عام ( 547هـ= 1152م ) فقدت الدولة السلجوقية في العراق ركنًا كبيرًا، فأصابها الوهن وأخذت بالتداعي وعمتها الاضطرابات، مما أدى إلى تقلص النفوذ السلجوقي في العرق شيئًا فشيئًا حتى زال في النهاية.
ازدادت أوضاع دولة سلاجقة العراق تدهورًا بعد وفاة محمد الثاني في عام ( 554هـ= 1159م)[35].
زالت دولة السلاجقة العظام في عام ( 552هـ= 1157م) بمقتل السلطان سنجر على أيدي الغز في حين زالت دولة سلاجقة العراق في عام ( 590هـ= 1194م ) بمقتل السلطان طغرل الثالث على يد علاء الدين تكش خوارزمشاه[36].
وعند الحديث عن تلك الفترة التي شهدت تدهور أوضاع السلاجقة لابد أن نشير إلا أن السلاجقة انقسموا إلى عدة فروع رئيسة وهي:
1- السلاجقة العظام:
ويطلق على طغرلبك، وألب أرسلان، وملكشاه، وهم الجديرين بهذا اللقب وهناك ثلاثة آخرون يضعهم البعض في هذا التصنيف وهم ركن الدين أبو المظفر بركياروق، وغياث الدين أبو شجاع محمد، ومعز الدين سنجر أحمد إلا أن هؤلاء الثلاثة خاضوا كثيرًا من الحروب ضد أبناء بيتهم وعانت الدولة في عهدهم من عوامل الفرقة والتمزق[37].
2- سلاجقة العراق:
ويطلق على أمراء السلاجقة الذين سيطروا على العراق والري وهمذان وكردستان وأستمر نفوذهم من سنة (511هـ= 1117م) إلى سنة (590هـ= 1194م) حيث تمكن الخوارزميون من القضاء عليهم.
3- سلاجقة كرمان:
وقد بدأ نفوذهم في الجنوب الشرقي لفارس وفي بعض مناطق الوسط سنة (433هـ= 1042م) واستمر حتى سنة (583هـ= 1187م) حين قضى التركمان على سلطانهم هناك.
4- سلاجقة الشام:
وكان نفوذهم في المناطق التي استولى عليها السلاجقة من الفاطميين أو الروم في الجزيرة والشام وانتهى نفوذهم سنة (511هـ= 1117م) على أيدي أتابكة الشام والجزيرة.
5- سلاجقة الروم:
كان نفوذهم في الأراضي التي استطاع السلاجقة الاستيلاء عليها من الروم في آسيا الصغرى وأستمر نفوذهم حتى سنة (700هـ= 1301م) حين استطاع الأتراك العثمانيون القضاء عليهم[38].
السلاجقة والحروب الصليبية
كان من الطبيعي أن يقوم السلاجقة بالتصدي للحروب الصليبية وحماية العالم الإسلامي من أخطارها، ولكن ذلك لم يحدث بسبب تمزق دولتهم بعد ملكشاه، واشتعال الصراع فيما بينهم للسيطرة على الشام مما أدى إلى إتاحة الفرصة لنجاح الحملة الصليبية الأولى[39].
فقد أكتسح الصليبيون قوات سلاجقة الروم في آسيا الصغرى فاتجهوا إلى نيقية للاستيلاء عليها، وكان قلج أرسلان متغيبًا عن المدينة، وفرض الصليبيون الحصار على المدينة واضطرت الحامية إلى الاستسلام بعد أن عقدت صلحًا سريًا مع البيزنطيين المشتركين مع الصليبيين في الحصار على أن تسليم المدينة مقابل ألا يتعرض أحد للسلب والنهب وذلك في (491هـ= 1097م).
بعد ذلك استطاع الصليبيين الانتصار على السلاجقة في موقعة دوريليوم تلك الموقعة التي كان لها أثارًا بالغة لأن تلك الهزيمة جعلت السلاجقة يخسرون بعض ما كسبوه خلال أكثر من عشرين عامًا، ورغم هذه الهزيمة إلا أن السلاجقة اكتسبوا احترام الصليبيين بما تحلوا به من شجاعة، وبما اتبعوه من أساليب علمية في فنون الحرب[40].
بعد ذلك تقدم الصليبين إلى أنطاكية وحاصروها حتى استسلمت وفر أميرها السلجوقي باغي سيان، ثم ساروا إلى معرة النعمان –ينتسب إليها الشاعر أبو العلاء المعري– فحاصروها حتى استسلم أهلها فقتلوا منهم الكثير، ثم حدثت مذبحة بيت المقدس التي راح ضحيتها سبعين ألفًا من سكان المدينة.
وقد وقف السلاجقة عاجزين أمام طوفان الصليبيين، فقد كانت أوضاع دولتهم تنتقل من سيء إلى أسوأ، وكانت الخلافة العباسية جسمًا بلا روح، ولم يكن وضع الفاطميين في مصر بأفضل حال.
وظلَّ الأمر كذلك حتى ولى السلطان محمود بن محمد بن ملكشاه، عماد الدين زنكي إمارة الموصل والبلاد التابعة لها، فكان ذلك فاتحة خير للمسلمين، حيث استطاع عماد الدين مد نفوذه إلى الجزيرة والشام، وكان أعظم إنجاز حققه هو استرداد مدينة الرها من أيدي الصليبيين (539هـ= 1114م)[41].
مواقف مهمة
- الباطنية والسلاجقة:
الباطنية هي فرقة جعلت الباطل أساسًا لفهم أمور الدين وتلجأ إلى تأويل النصوص، وتضم هذه الفرقة القرامطة والخرمية والإسماعلية والحشاشين، واشتهرت هذه الفرقة بالعديد من محاولات الاغتيالات على مر التاريخ.
وقد ظهرت حركة الباطنية في العصر السلجوقي بصورة أقلقت سلاطين السلاجقة، فقد استطاع زعيمهم الحسن بن الصباح الاستيلاء على قلاع حصينة في فارس، أشهرها قلعة (أَلَموت) بنواحي قزوين التي ظلت معقل الحركة الباطنية لما يقرب قرنين من الزمان.
وقد حاول نظام الملك أن يضع حدًّا لنفوذ الباطنية وأمر بمطاردتهم في كل مكان، وأرسل جيشًا للاستيلاء على ألموت ولكنه قتل في (رمضان سنة 485هـ= أكتوبر 1092م) ورجَّح المؤرِّخون قيام الباطنيَّة بقتله[42].
وقد قام السلاجقة بمحاولات متتالية لتصفية قواعد الباطنية ومحاصرة نشاطهم و نجحت بعض تلك المحاولات وواجه بعضها الفشل.
وكان السلطان ملكشاه أول سلاطين السلاجقة الذين حاولوا مواجهة خطر الباطنية فأرسل إليهم جيشًا بقيادة أرسلان طاسن ولكنه هزم هزيمة منكرة.
وتعتبر الجهود التي قام بها السلطان غياث الدين محمد بن ملكشاه ضد الباطنية أخطر ما واجهته هذه الحركة في عهد السلاجقة، ففي سنة (500هـ= 1107م) توجه السلطان محمود بنفسه إلى أصبهان لحرب الباطنية الذين كانوا يعتصمون بقلعة (شاهدز) المنيعة بزعامة أحمد بن عبد الملك بن عطاش وقد نجح السلطان محمد في الاستيلاء على هذه القلعة وقتل زعيمها ابن عطاش وكثيرًا من الباطنية في ذي القعدة (500هـ= يونيو 1107م).
وفي عهد السلطان معز الدين سنجر (511-552= 1117-1157) قتل الباطنية وزيره معين الملك أبا نصر أحمد بن الفضل سنة (521هـ= 1127م) وأدرك السلطان مدى خطورتهم، فاتَّبع معم سياسة المهادنة[43].
ورغم وفاة زعيم الباطنية الحسن بن الصباح سنة (518هـ= 1124م) فإن السلاجقة لم يستطيعوا استرداد قلعة ألموت منهم، فظلت تحت سيطرتهم حتى استولى عليها المغول سنة (654هـ= 1256م)، ولم ينحصر نشاط الإسماعيلية الباطنية في عهد السلاجقة في بلاد فارس بل امتد إلى الشام وكانت له أثاره المدمرة، وأتسع نشاطهم في حلب في عهد أميرها السلجوقي رضوان بن تتش بن ألب أرسلان (488-507هـ= 1095-1131م) وحينما تصدى لهم أمير دمشق تاج الملوك بوري بن طغتكين سنة (523هـ= 1129م) وقتل منهم آلافًا تربَّصوا به وهاجموه سنة (525هـ= 1131م) وجرحوه جراحات خطيرة تُوفِّي متأثِّرًا بها في العام التالي.
وقد أثرت المتاعب التي أثارها الباطنية في وجه السلاجقة في قدرتهم على القيام بدور أكثر إيجابية في التعامل مع الصليبيين[44].
أشهر علماء الدولة السلجوقية
- أبو إسحاق الشيرازي:
وهو من أشهر علماء المدارس النظامية وكان إمامًا في الفقه والأصول والحديث وفنون كثيرة ومن شعره:
أحب الكأس من غير المدام *** وألهو بالحساب بلا حرام
وما حبي لفاحشة ولكن *** رأيت الحب أخلاق الكرام
وقال:
سألت الناس عن خل وفي *** فقالوا: ما إلى هذا سبيل
تمسك إن ظفرت بود حر *** فإن الحر في الدنيا قليل
وقال:
ولو أني جعلت أمير جيش *** لما قاتلت إلا بالسؤال
لأن الناس ينهزمون منه *** وقد ثبتوا لأطراف العوالي
وقد امتدحه الشعراء في حياته، ومنهم عاصم بن الحسن حيث قال فيه:
تراه من الذكاء نحيف جسم *** عليه من توقده دليل
إذا كان الفتى ضخم المعاني *** فليس يضيره الجسم النحيل[45]
- الإمام الغزالي:
من أشهر علماء المدارس النظامية وكان له العديد من المؤلفات منها على سبيل المثال لا الحصر:
- المنخول في أصول الفقه
- الوجيز
- مآخذ الخلاف
- ميزان العقل
- تهافت الفلاسفة
- إحياء علوم الدين
- المنقذ من الضلال
- المستصفى في علم الأصول[46]
- عبد الملك الجويني:
يعتبر أيضًا من أشهر علماء العصر السلجوقي وكان له الكثير من المؤلفات منها:
ما هو في العقيدة:
- لمع الأدلة في قواعد أهل السنة
- الشامل في أصول الدين
- شفاء الغليل في بيان ما وقع في التوراة والإنجيل من التبديل
- رسالة في أصول الدين
- كتاب النفس
- مدارك العقول
وكان له مؤلفات في الفقه مثل:
- نهاية المطلب في دولة المذهب
- مختصر النهاية
- البرهان في أصول الفقه
- التلخيص في أًول الفقه[47]
أسباب سقوط دولة السلاجقة؟
لقد تضافرت عدة عوامل كانت سببًا في سقوط السلطنة السلجوقية منها:
- الصراع داخل البيت السلجوقي بين الأخوة والأعمام والأبناء والأحفاد.
- تدخل النساء في شئون الحكم
- إذكاء نار الفتنة بين الحكام السلاجقة من قبل بعض الأمراء والوزراء والأتابك.
- ضعف الخلفاء العباسيين أمام القوة العسكرية السلجوقية، فلم يتورعوا عن الاعتراف بشرعية كل من يجلس على عرش السلطنة السلجوقية والخطبة لكل منتصر قوي.
- عجز الدولة السلجوقية عن توحيد بلاد الشام ومصر والعراق تحت راية الخلافة العباسية.
- الانقسام الداخلي بين السلاجقة والذي وصل إلى الصدام العسكري مما أنهك قوة السلاجقة حتى انهارت سلطتهم في العراق.
- المكر الباطني الخبيث بالدولة السلجوقية، وتمثل في حملات التصفية المستمرة لاغتيال سلاطين السلاجقة وزعمائهم وقادتهم.
- الغزو الصليبي القادم من وراء البحار وصراع الدولة السلجوقية مع هذه الجحافل القادمة من أوربا[48].
[1] د/علي محمد الصلابي: دولة السلاجقة ص19.
[2] السابق نفسه ص21.
[3] حسن إبراهيم حسن: تاريخ الإسلام 4/ 8-10.
[4] السابق نفسه 4/10.
[5] السابق نفسه 4/24.
[6] حسن إبراهيم حسن: تاريخ الإسلام4/10.
[7] السابق نفسه 4/11.
[8] محمد سهيل طقوش: تاريخ الدولة العباسية ص223.
[9] د/ محمد سهيل طقوش: تاريخ الدولة العباسية ص238- 239.
[10] السابق نفسه ص239- 240.
[11] السابق نفسه ص240
[12] د/ محمد سهيل طقوش: تاريخ الدولة العباسية ص240 -241.
[13] د/ محمد سهيل طقوش: تاريخ الدولة العباسية ص241-242.
[14] السابق نفسه ص243.
[15] ابن كثير:البداية والنهاية 16/39.
[16] حسن إبراهيم حسن: تاريخ الإسلام 4/ 34.
[17] ابن كثير: البداية والنهاية 15/793.
[18] د/ علي محمد الصلابي: دولة السلاجقة ص283.
[19] حسن إبراهيم حسن: تاريخ الإسلام 4/ 26.
[20] د/ علي محمد الصلابي: دولة السلاجقة ص78.
[21] السابق نفسه ص 79.
[22] د/ علي محمد الصلابي: دولة السلاجقة ص79-80.
[23] حسن إبراهيم حسن: تاريخ الإسلام 4/ 27.
[24] السابق نفسه 4/27.
[25] د/ علي محمد الصلابي: دولة السلاجقة ص80.
[26] د/ علي محمد الصلابي: دولة السلاجقة ص80-81.
[27] السابق نفسه ص84.
[28] وفيات الأعيان 4/371-374.
[29] السابق نفسه 4/372.
[30] حسن إبراهيم حسن: تاريخ الإسلام 4/30-31.
[31] د/ علي محمد الصلابي: دولة السلاجقة ص88.
[32] ابن كثير: البداية والنهاية 16/132.
[33] حسن إبراهيم حسن: تاريخ الإسلام 4/36.
[34] السابق نفسه ص131.
[35] د/ محمد سهيل طقوش: تاريخ الدولة العباسية ص245-246.
[36] د/ محمد سهيل طقوش: تاريخ الدولة العباسية ص245-246.
[37] محمد قباني: الدولة العباسية من الميلاد إلى السقوط ص114.
[38] السابق نفسه ص114-115.
[39] محمد قباني: الدولة العباسية من الميلاد إلى السقوط ص115- 116.
[40] د/ علي محمد الصلابي: دولة السلاجقة ص 464- 465.
[41] محمد قباني: الدولة العباسية من الميلاد إلى السقوط ص116.
[42] محمد قباني: الدولة العباسية من الميلاد إلى السقوط ص117.
[43] السابق نفسه ص 117- 118.
[44] محمد قباني: الدولة العباسية من الميلاد إلى السقوط ص118.
[45] د/ علي محمد الصلابي: دولة السلاجقة ص 346.
[46] د/ علي محمد الصلابي: دولة السلاجقة ص362-363.
[47] السابق نفسه ص 355.
[48] د/ علي محمد الصلابي: دولة السلاجقة ص 175-176.
- قصة الإسلام