جاء الرسول صلى الله عليه وسلم رحمة للبشرية، وإنقاذًا لها من براثن الغواية والضلال، وإخراجًا لها من الظلمات إلى النور، وحتى يصل بالبشر جميعًا إلى أعلى مراتب الأخلاق الإنسانية في كل تعاملاتهم في الحياة، وقد صرَّح بهذا الأمر حين قال صلى الله عليه وسلم: "إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق"[1].

ومن المعلوم أن العالَمَ عامةً والعرب خاصة في زمن نشأة النبي صلى الله عليه وسلم، وقبل بعثته قد ذاق من ويلاتِ الحروب الكثير والكثير، وكانت القبائل العربية تتقاتل فيما بينها لأتفه الأسباب، بل من دون أسباب أصلاً على حَدِّ قول شاعرهم:

وأحيانًا على بكر أخينا *** إذا لم نجد إلا أخانا[2]

وقد جاء الإسلام العظيم لينتزع الناس من هذه الحياة بالغة السوء، ولينقلهم نقلة هائلة إلى حيث الأمن والأمان والهدوء والسكينة، ومن ثَمَّ كان الرسول صلى الله عليه وسلم أحرص ما يكون على إبعاد الناس تمامًا عن الحروب، وعن كل ما يؤدي إليها، انطلاقًا من الرسالة السامية التي جاء بها من عند الله عز وجل نورًا وهدايةً وأمنًا ورحمةً للإنسانية كلها.

السلام في الإسلام

إن من يراجع آيات القرآن الكريم يدرك بما لا يدع مجالاً للشك أن الأصل في التعامل مع غير المسلمين هو تقديم السلام على الحرب، واختيار التفاهم لا التصارع، ويكفي أن كلمة السلم بمشتقاتها قد جاءت في القرآن الكريم مائة وأربعين مرة، بينما جاءت كلمة الحرب بمشتقاتها ست مرات فقط!!

والفرق بين العددين هو الفرق بين نظرة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى كلا الأمرين، ففي معظم أحواله صلى الله عليه وسلم كان يبحث عن الطرق السلمية والهادئة للتعامل مع المخالفين له، ويحرص على تجنُّب الحرب ما استطاع إلى ذلك سبيلاً، وذلك إلى حدٍ قد يتعجب له المحللون والدارسون كثيرًا.

لقد قال الله تعالى: {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا} [الأنفال: 61].

هذه الآية الكريمة من كتاب الله عز وجل تُبَرْهِنُ بشكل قاطع على حب المسلمين وإيثارهم لجانب السلم على الحرب، فمتى مال الأعداء إلى السَّلْمِ رضي المسلمون به، ما لم يكن من وراء هذا الأمر ضياع حقوقٍ للمسلمين أو سلب لإرادتهم..

قال السدي وابن زيد: معنى الآية: إن دعوك إلى الصلح فأجبهم[3].

ويقول الأستاذ سيد قطب رحمه الله عند تفسيره لهذه الآية: التعبير عن الميل إلى السلم بالجنوح تعبير لطيف، يلقي ظل الدَّعة الرقيق، فهي حركة جناح يميل إلى جانب السلم، ويُرخي ريشه في وداعة[4]!!

وتأتي الآية التي بعدها لتؤكد أيضًا أن التشريع الإسلامي أحرص ما يكون على تحقيق السلام، فلو أن الأعداء أظهروا السلم، وأبطنوا الغدر والخيانة؛ فلا عليك من نياتهم الفاسدة، واجنح للسلم قال الله تعالى: {وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ} [الأنفال: 62]، أي أن الله يتولى كفايتك وحياطتك[5].

ويرى شيخ الأزهر السابق جاد الحق[6] رحمه الله أنه أصبح واجبًا على المسلمين أن يقيموا علاقات المودة والمحبة مع غيرهم من أتباع الديانات الأخرى، والشعوب غير المسلمة نزولاً عند هذه الأُخوَّة الإنسانية، منطلقًا من الآية الكريمة:

{يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [الحجرات: 13]، معتبرًا هذه العلاقات هي التي تجسد معنى التعارف الوارد في الآية؛ فتَعَدُد هذه الشعوب ليس للخصومة والهدم؛ وإنما هو مدعاة للتعارف والتوادِّ والتحابِّ[7].

ويرى الشيخ محمود شلتوت[8] أيضًا أن السلم هو الحالة الأصلية التي تهيئ للتعاون والتعارف وإشاعة الخير بين الناس عامة، وإذا احتفظ غير المسلمين بحالة السلم، فهم والمسلمون في نظر الإسلام إخوان في الإنسانية[9].

وكان صلى الله عليه وسلم يجعل السلام من الأمور التي على المسلم أن يحرص عليها ويسأل الله أن يرزقه إياها، وكان يدعو فيقول: ‏"اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الْعَافِيَةَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.."[10]

كما كان الرسول صلى الله عليه وسلم يكره كلمة حرب ولا يحب أن يسمعها وفي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم: "أَحَبُّ الْأَسْمَاءِ إِلَى اللَّهِ: ‏عَبْدُ اللَّهِ ‏وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ، ‏وَأَصْدَقُهَا: ‏حَارِثٌ ‏وَهَمَّامٌ، ‏وَأَقْبَحُهَا: حَرْبٌ وَمُرَّةُ"[11]. وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يُغيّر اسم مَن اسمه حرب إلى اسم آخر أحسن وأجمل، فعَنْ ‏ ‏هَانِئِ بْنِ هَانِئٍ، ‏عَنْ ‏عَلِيٍّ ‏رضي الله عنه، ‏قَالَ: "لَمَّا وُلِدَ ‏الْحَسَنُ ‏سَمَّيْتُهُ ‏حَرْبًا،‏ ‏فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ‏فَقَالَ: أَرُونِي ابْنِي، مَا سَمَّيْتُمُوهُ؟ قَالَ: قُلْتُ:‏ ‏حَرْبًا، ‏قَالَ: "بَلْ هُو حَسَنٌ"،‏ ‏فَلَمَّا وُلِدَ ‏الْحُسَيْنُ ‏سَمَّيْتُهُ ‏‏حَرْبًا، ‏فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ‏‏فَقَالَ: "أَرُونِي ابْنِي، مَا سَمَّيْتُمُوهُ؟ قَالَ: قُلْتُ: ‏حَرْبًا، ‏قَالَ: "بَلْ هُوَ ‏حُسَيْنٌ"،‏ ‏فَلَمَّا وُلِدَ الثَّالِثُ سَمَّيْتُهُ ‏حَرْبًا‏، ‏فَجَاءَ النَّبِيُّ‏ ‏ صلى الله عليه وسلم ‏فَقَالَ: "أَرُونِي ابْنِي، مَا سَمَّيْتُمُوهُ؟" قُلْتُ: ‏حَرْبًا، ‏قَالَ: "بَلْ هُوَ ‏مُحَسِّنٌ"، ‏ثُمَّ قَالَ:‏ "‏سَمَّيْتُهُمْ بِأَسْمَاءِ وَلَدِ ‏هَارُونَ: ‏شَبَّرُ ‏وَشَبِيرُ ‏وَمُشَبِّرٌ[12].

فهذه هي نظرته للحرب، وهذه هي نظرته للسلم..

ألا حقًا ما أرحمها من نظرة!

[1] أخرجه الحاكم في المستدرك (4221)، وقال: هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجه، والبيهقي في سننه الكبرى عن أبي هريرة وفيه "صالح" بدل "مكارم" (20571)، وفي مسند الشهاب (1165)، وصححه الألباني، انظر: السلسلة الصحيحة (45).
[2] البيت للقطامي وهو لقب غلب عليه، واسمه عمير بن شييم، وهو شاعر إسلامي مُقِلّ، وكان نصرانيًّا فأسلم، وكان فحلاً في الشعر، رقيق الحواشي، كثير الأمثال. انظر: ديوان الحماسة 1/128، المبرد: الكامل ص17، المرزوقي: شرح ديوان الحماسة 1/104.
[3] انظر القرطبي: الجامع لأحكام القرآن 4/ 398، 399.
[4] سيد قطب: في ظلال القرآن 2/ 1545.
[5] راجع في هذا المعنى القرطبي: الجامع لأحكام القرآن 4/400.
[6] الشيخ جاد الحق علي جاد الحق، شيخ الأزهر السابق، ولد بمحافظة الدقهلية (1917م). تخرج في كلية الشريعة بجامعة الأزهر، وعُيِّنَ وزيرًا للأوقاف، ثم اختير شيخًا للجامع الأزهر. له مؤلفات عديدة منها: "الفقه الإسلامي.. مرونته وتطوره"، و"بحوث وفتاوى إسلامية في قضايا معاصرة". توفي (1996م).
[7] جاد الحق: مجلة الأزهر ص810 ديسمبر 1993.
[8] هو الشيخ محمود شلتوت، شيخ الأزهر الأسبق. من مواليد محافظة البحيرة بمصر (1893م). اختير شيخًا للأزهر سنة 1958م، من مؤلفاته: فقه القرآن والسنة، مقارنة المذاهب، يسألونك.. وهى مجموعة فتاوى، وتُرجِمت له كتب كثيرة لعدة لغات. توفى (1963م).
[9] محمود شلتوت: الإسلام عقيدة وشريعة ص453.
[10] أبو داود (5074)، وابن ماجة (3871)، وأحمد (4785)، وابن حبان (961)، ورواه البخاري في الأدب المفرد (1200)، والطبراني في الكبير (13296)، والنسائي في السنن الكبرى (10401)، وقال الشيخ الألباني: صحيح، وقال شعيب الأرنؤوط: إسناده صحيح رجاله ثقات.
[11] أبو داود (4950)، والنسائي (3568)، وأحمد (19054)، والبخاري في الأدب المفرد (814)، وقال الشيخ الألباني: صحيح، انظر: السلسلة الصحيحة (1040).
[12] أحمد (769) واللفظ له، ورواه الإمام مالك في الموطأ (660)، وابن حبان (6958)، والحاكم في المستدرك (4773) وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ورواه البخاري في الأدب المفرد (823)، وقال شعيب الأرنؤوط: إسناده حسن.
د.راغب السرجاني