تمر بنا في حياتنا لحظاتُ حرٍّ شديدة ترتفع فيها درجة الحرارة إلى مستوًى يرهق معظم البشر، وللعلماء تفسيرات في ارتفاع درجة الحرارة في يوم عن يوم آخر؛ ولكن هناك تفسير نبوي عجيب لمثل هذه الأيام الحارة!

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اشْتَكَتِ النَّارُ إِلَى رَبِّهَا، فَقَالَتْ: يَا رَبِّ أَكَلَ بَعْضِي بَعْضًا، فَجَعَلَ لَهَا نَفَسَيْنِ: نَفَسٌ فِي الشِّتَاءِ، وَنَفَسٌ فِي الصَّيْفِ، فَشِدَّةُ مَا تَجِدُونَ مِنَ الْبَرْدِ مِنْ زَمْهَرِيرِهَا، وَشِدَّةُ مَا تَجِدُونَ مِنَ الْحَرِّ مِنْ سَمُومِهَا"[1].

إن أشد أيام الحرِّ في السنة راجعة إلى ريحٍ حارة تأتي من جهنم!

هذا ونحن هنا في الدنيا، فما بالنا بحرِّ النار يوم القيامة، ونحن وقوف في المشهد العظيم..

إن الناس يوم القيامة يحشرون في صعيد واحد كبير يضم البشر أجمعين، وبينما هم في هذا الموقف العسير إذا بالنار يُؤتى بها قريبًا من أرض المحشر!

روى مسلم عَنْ عَبْدِ اللهِ بن مسعود رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "يُؤْتَى بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لَهَا سَبْعُونَ أَلْفَ زِمَامٍ، مَعَ كُلِّ زِمَامٍ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ يَجُرُّونَهَا"[2]..

تخيل هذا الموقف الرهيب، وقرابة الخمسة مليارات ملك يجرون جهنم إلى أرض المحشر، وهي - كما وصف الله عز وجل – {تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ} [الملك: 8]..

ودرجة الحرارة المنبعثة آنذاك من النار لا يمكن تصورها، فنحن في الدنيا نتعب من ريح يوم واحد أتى من النار، وهي أبعد ما يكون عن كوكبنا، فما بالنا في هذا اليوم وهي قريبة من الخلائق!
وكما تقترب النار فإن الجنة كذلك تقترب!
قال تعالى: {وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ} [الشعراء: 90]، وأزلفت أي قُرِّبت..

والسعيد حقًّا في ذلك اليوم من كان قريبًا من الجنة، بعيدًا عن النار..

ولذلك اعتبر رسول الله صلى الله عليه وسلم من يسأل عن شيء يقرب من الجنة ويباعد عن النار موفقًا مهديًّا..

روى أَبُو أَيُّوبَ رضي الله عنه أَنَّ أَعْرَابِيًّا عَرَضَ لِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ فِي سَفَرٍ، فَأَخَذَ بِخِطَامِ نَاقَتِهِ - أَوْ بِزِمَامِهَا ثُمَّ قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ - أَوْ يَا مُحَمَّدُ - أَخْبِرْنِي بِمَا يُقَرِّبُنِي مِنَ الْجَنَّةِ، وَمَا يُبَاعِدُنِي مِنَ النَّارِ، قَالَ: فَكَفَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ نَظَرَ فِي أَصْحَابِهِ، ثُمَّ قَالَ: "لَقَدْ وُفِّقَ، أَوْ لَقَدْ هُدِيَ"، قَالَ: "كَيْفَ قُلْتَ؟" قَالَ: فَأَعَادَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "تَعْبُدُ اللهَ لَا تُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا، وَتُقِيمُ الصَّلَاةَ، وَتُؤْتِي الزَّكَاةَ، وَتَصِلُ الرَّحِمَ، دَعِ النَّاقَةَ"[3]..
فأنت ترى تعليق رسول الله صلى الله عليه وسلم على هذا السؤال بأنه توفيق أو هدى..

ومثاله ما حدث مع معاذ بن جبل رضي الله عنه عندما سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم قائلاً: "يَا رَسُولَ اللَّهِ أَخْبِرْنِي بِعَمَلٍ يُدْخِلُنِي الجَنَّةَ وَيُبَاعِدُنِي عَنِ النَّارِ"، قَالَ: "لَقَدْ سَأَلْتَنِي عَنْ عَظِيمٍ، وَإِنَّهُ لَيَسِيرٌ عَلَى مَنْ يَسَّرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ"[4]، ثم سرد له صلى الله عليه وسلم أمورًا كثيرة..

إن البعد عن النار أمر عظيم حقًّا..

وإنه ليسير على من يسَّره الله عليه..

ما رأيكم في عمل يباعد عن النار مسيرة سبعين سنة؟!

وهذه المباعدة معنوية ومادية!

فحسناتك ستزداد بالقدر الذي يجنبك دخول النار، كما أنك يوم القيامة ستكون بعيدًا عن هذا الكيان الهائل مسيرة سبعين سنة كاملة..

إنه أمر يسير حقًّا!

تصوم يوم في سبيل الله!
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ صَامَ يَوْمًا فِي سَبِيلِ اللَّهِ، بَعَّدَ اللَّهُ وَجْهَهُ عَنِ النَّارِ سَبْعِينَ خَرِيفًا"[5]..

أليس عملاً يسيرًا يا إخواني وأخواتي؟!
امتناع عن الطعام والشراب والشهوة من الفجر إلى المغرب فقط في يوم من الأيام يجعل الله عز وجل مسافة وقوفك من النار يوم القيامة كمسيرة سبعين عامًا!!

وماذا لو صمنا ستة أيام؟!
عندها يباعد الله بيننا وبين النار أربعمائة وعشرين سنة!

ولماذا ستة أيام تحديدًا؟
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ صَامَ رَمَضَانَ ثُمَّ أَتْبَعَهُ سِتًّا مِنْ شَوَّالٍ، كَانَ كَصِيَامِ الدَّهْرِ"[6]..

فالآن أخي وأختي في الله انظروا إلى بركات هذا الصيام العظيم:
أولاً: حسنات تعادل صيام سنة كاملة (صيام الدهر لو حافظنا عليه كل سنة).

ثانيًا: مباعدة عن النار أربعمائة وعشرين سنة.

ثالثًا: اتباع سنَّة الرسول صلى الله عليه وسلم في صيام هذا العدد من الأيام من هذا الشهر تحديدًا، ولعل اتباع السنة في حد ذاته له من الأجر ما يزيد عن العمل نفسه، حيث إنه دالٌّ على حبنا لله، وطريق إلى حب الله لنا.. قال تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [آل عمران: 31].

رابعًا: هو محافظة على قدرتنا على الصيام، فنحن صمنا شهر رمضان بكامله، ثم يأتي شهر شوال بهذه الأيام الستة ليحفظ لنا هذه القدرة، فيمكن لنا بعد انتهاء شوال أن نقوم بالسنة النبوية الأخرى، وهي صيام ثلاثة أيام من كل شهر قمري..
قال أَبو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَوْصَانِي خَلِيلِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِثَلاَثٍ: "صِيَامِ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ، وَرَكْعَتَيِ الضُّحَى، وَأَنْ أُوتِرَ قَبْلَ أَنْ أَنَامَ"[7]

أيها المؤمنون والمؤمنات..
إنها فرصة جليلة للبعد عن النيران، والقرب من جنة الرحمن..
وعودة كريمة إلى الله عز وجل..

وما أحوجنا في هذه الأيام - وفي كل الأيام - أن نسرع الخطا إليه سبحانه.. فلا تفرِّطوا في هذا العمل الجليل، ولتحرص على حثِّ أهلك، وإخوانك وأخواتك، ومَنْ تعرف، ومَنْ لا تعرف، على اتباع هذه السُّنَّة، وليكن شعارنا دومًا: {وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى} [طه: 84]..

ونسأل الله أن يعز الإسلام والمسلمين.

[1] البخاري: كتاب مواقيت الصلاة، باب الإبراد بالظهر في شدة الحر، (512)، ومسلم: كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب استحباب الإبراد بالظهر في شدة الحر لمن يمضي إلى جماعة... (617).
[2]مسلم: كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب في شدة حر نار جهنم وبعد قعرها وما تأخذ من المعذبين، (2842).
[3]البخاري: كتاب الزكاة، باب وجوب الزكاة، (1332)، ومسلم: كتاب الإيمان، باب بيان الإيمان الذي يدخل به الجنة وأن من تمسك بما أمر به دخل، (13)، واللفظ له.
[4]الترمذي (2616)، وقال: هذا حديث حسن صحيح. والنسائي (11394)، وابن ماجه (3973)، وأحمد (22069)، وقال شعيب الأرناءوط: صحيح بطرقه وشواهده. وصححه الألباني، انظر: صحيح الجامع الصغير (5136).
[5]البخاري: كتاب الجهاد والسير، باب فضل الصوم في سبيل الله، (2685)، ومسلم: كتاب الصيام، باب فضل الصيام في سبيل الله لمن يطيقه بلا ضرر ولا تفويت حق، (1153).
[6] مسلم: كتاب الصيام، باب استحباب صوم ستة أيام من شوال إتباعًا لرمضان، (1164)، وأبو داود (2433)، والترمذي (759)، والنسائي (2862)، وابن ماجه (1716)، وأحمد (14341).
[7]البخاري: كتاب الصوم، باب صيام أيام البيض ثلاث عشرة وأربع عشرة وخمس عشرة، (1880)، ومسلم: كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب استحباب صلاة الضحى وأن أقلها ركعتان وأكملها ثمان ركعات، (721).

د.راغب السرجاني