تأديب قضاعة
سرية ذات السلاسلالحدث الذي نحن بصدده أعتبره من أعظم الأحداث في تاريخ الأرض مطلقًا، فقد كان بالفعل لحظة فارقة فرَّقت بين مرحلة ومرحلة أخرى مختلفة تمامًا عن سابقتها، وكان له تداعيات كبيرة، ليس في الجزيرة العربية فقط، ولكن في العالم أجمع، وليس في زمانه فقط، ولكن في زماننا أيضًا.
هذا الحدث العظيم هو فتح مكة.
ولا شك أنه كان هناك أحداث كثيرة جدًّا قادت إلى هذا الفتح العظيم، وكانت مقدمات له، وهذه المقدمات هي موضوعنا.
لكن قبل أن نبدأ في هذه التفصيلات وتلك المقدمات، نودُّ أن نكمل نقطة مهمة كنا قد تحدثنا عنها في السابق ولم نتناولها بالشرح والتفصيل، تلك النقطة هي أنه في بداية العام الثامن من الهجرة حدثت مشكلتان كبيرتان للأمة الإسلامية:
المشكلة الأولى: وهي قتل الحارث بن عمير الأسدي رضي الله عنه سفير رسول الله صلى الله عليه وسلم لعظيم بُصْرَى، وكان الذي قتله -كما ذكرنا- شُرَحبيل بن عمرو الغساني.
وكان من جرَّاء هذه المشكلة أن أخرج الرسول صلى الله عليه وسلم جيشًا كبيرًا إلى مؤتة بقيادة الأمراء الثلاثة (زيد وجعفر وعبد الله بن رواحة) كما فصَّلنا سابقًا، وكان من نتائجه ذلك النصر العظيم الذي تم في هذه الموقعة كما بيَّنَّا، الأمر الذي انتهت معه تقريبًا معالجة هذه المشكلة، واستعادت الأمة الإسلاميه هيبتها إلى حدٍّ كبير، وذاع صيتها، ليس في مؤتة فقط، ولكن في الجزيرة العربية بكاملها.
أما المشكلة الثانية، فقد حدثت في وقتٍ متزامن مع المشكلة الأولى (مقتل الحارث بن عمير)، وهي اعتداء قبائل قضاعة على مجموعة من صحابة الرسول صلى الله عليه وسلم، وكانوا خمسة عشر رجلاً، قُتل منهم أربعة عشر، وَارْتُثَّ (حُمِلَ) الأخير من بين القتلى، وعاد إلى المدينة المنورة، وشرح للرسول صلى الله عليه وسلم تفاصيل تلك الخيانة التي قامت بها قضاعة، وذلك الغدر الذي فعلته مع صحابته.
وهنا كان لا بد للرسول صلى الله عليه وسلم أن يقف وقفة جادة مع قبيلة قضاعة؛ كي لا تهتز صورة الدولة الإسلامية في الجزيرة العربية. وبالفعل قرر صلى الله عليه وسلم أن يُخرِج جيشًا كبيرًا إلى مناطق قضاعة.
الإعداد للسرية
كان قرار الرسول صلى الله عليه وسلم هذا بمجرد عودة الجيش الإسلامي من مؤتة إلى المدينة المنورة، وكانت أحداث مؤتة قد وقعت في جمادى الأولى في السنة الثامنة من الهجرة، وفي جمادى الثانية من نفس العام أخرج الرسول صلى الله عليه وسلم الجيش الثاني متجهًا إلى قضاعة.
كانت منطقة قضاعة تسمى (السلاسل)، وذلك أنه كان فيها عين أو بئر بهذا الاسم؛ فسميت المنطقة بكاملها (ذات السلاسل)، ومنه عُرف هذا الجيش أو تلك السرية التي خرجت إلى هذه المنطقة في التاريخ باسم سرية ذات السلاسل[1].
ولكن مَن يختار صلى الله عليه وسلم لقيادة هذه السرية ذات المهمة الصعبة المتمثلة في حرب قبيلة كبيرة قوية (قضاعة)، والتي تقع في شمال الجزيرة العربية، وعلى مسافة كبيرة من المدينة المنورة، وليس لها مدد تمامًا كما كانت ظروف موقعة مؤتة؟!
قد يعجب الكثيرون لاختيار الرسول صلى الله عليه وسلم لقيادة هذه السرية عمرو بن العاص رضي الله عنه، لكن حين نحلل أمر هذا الاختيار نجد أنه اختيار في غاية الحكمة من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ووجه العجب في هذا الاختيار أنه لم يكن قد مرَّ على إسلام عمرو بن العاص رضي الله عنه إلا شهور قليلة، حيث إنه أسلم في صفر سنة ثمانٍ من الهجرة، أي أنه مر على إسلامه ثلاثة أو أربعة أشهر فقط، ثم اختير ليكون قائدًا لسرية مهمة في حرب عظيمة للمسلمين.
أوجه الحكمة في اختيار عمرو بن العاص
إن الحكمة في اختيار رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمرو بن العاص دون غيره، تتبدى فيما يلي:
أولاً: أنه صلى الله عليه وسلم اختاره ليتألف قلبه؛ فقد كان عمرو بن العاص شخصية محورية في مكة المكرمة، وكان انضمامه للمعسكر الإسلامي وجيش المدينة المنورة بمنزلة إضافة كبيرة، وكان على المسلمين أن يحافظوا عليها قدر المستطاع.
فقد كان لعمرو بن العاص تاريخ طويل في العداء مع المسلمين، بداية من أوائل أيام مكة، ومرورًا بسفره إلى الحبشة لإعادة المسلمين المهاجرين هناك إلى مكة المكرمة، ثم خروجه بعد ذلك مرات متعددة لقتال المسلمين.
وهو في الوقت نفسه شخصية ليست كبيرة في المقام فقط، ولكن أيضًا كبيرة في السن؛ إذ كان يبلغ من العمر وقت إسلامه سبعًا وخمسين سنة، أي من كبار قادة قريش، ومن دهاة العرب، وكان لا بد أن يحفظ له مكانته في داخل الدولة الإسلامية حتى يستمر في المسيرة معها.
فهذا كان أول سبب، وقد رأينا كيف عظَّم الرسول صلى الله عليه وسلم من قدر خالد بن الوليد رضي الله عنه، عندما أخذ الراية والقيادة في غزوة مؤتة، وأخبر أنه سيف الله المسلول، كما جاء في حديثه صلى الله عليه وسلم، ورفع قدره كثيرًا في الدولة الإسلامية.
ولا شك أن أقدام خالد بن الوليد رضي الله عنه كانت أثبت بعد موقعة مؤتة عنها قبل ذلك؛ وذلك أنه أصبح له إضافة ودور، وأصبح له وضع في الدولة الإسلامية، وكان الناس بصفة عامَّة ينظرون إليه على أنه حقق نصرًا مهيبًا، الأمر الذي ثبتت معه أقدامه بإذن الله.
وهو الأمر نفسه الذي أراد أن يفعله الرسول صلى الله عليه وسلم مع عمرو بن العاص رضي الله عنه، يعطيه قيادة الجيش، فيحقِّق انتصارًا، فتصبح له مكانة في داخل الدولة الإسلامية، ومن ثَمَّ تثبت أقدامه.
ثانيًا: ليس هذا فحسب، إنما كان هناك أمر آخر غاية في الأهمية، ويعبر عن مدى عمق نظرة الرسول الحكيم صلى الله عليه وسلم؛ إذ إن أم عمرو بن العاص كانت من فرع من قبيلة قضاعة يسمَّى (بَلِيّ).
فكان ذهاب عمرو بن العاص رضي الله عنه إلى قضاعة وأمُّه منها، سيعطي بُعدًا مهمًّا في القتال، فهو قد يتألف قلوب هؤلاء القوم، وذلك حين يرون واحدًا منهم على رأس الجيش الذي أتى إليهم، الأمر الذي قد يفتح بينهم حالة حوار أو مفاوضات وقبول لفكرة الإسلام، وفي الوقت نفسه فلن يأخذهم الكبر والعناد والفجور والخصام، فتزداد الهوة بينهم وبين الإسلام. وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يقرب -دائمًا- قلوب الناس إلى الإسلام، وكان إسلام الناس أحبَّ إليه من أموالهم صلى الله عليه وسلم.
ثالثًا: أن أم عمرو بن العاص رضي الله عنه كانت من قضاعة، ولا شك أن عمرو بن العاص قد ذهب إلى قضاعة أكثر من مرة، فهو إذن أعرفُ بديارهم ومساكنهم وطرقهم ودروبهم أكثر من غيره من الصحابة.
من هنا كان اختيار الرسول صلى الله عليه وسلم لعمرو بن العاص اختيارًا عسكريًّا مهمًّا؛ لأنه عبقرية عسكرية وقيادة فذة، واختيارًا دعويًّا؛ لأنه سيتألف قلوب قضاعة أكثر من غيره، وفي ذات الوقت فهو أعلم بالطريق من غيره، ولهذه الأمور كان اختيار عمرو بن العاص فيه من أوجه الحكمة الكثيرُ.
إسناد رسول الله مهمة القيادة إلى عمرو
حين أراد الرسول صلى الله عليه وسلم أن يبلغ عمرو بن العاص بهذه المهمة العظيمة، أرسل إليه، ثم قال له: "خُذْ عَلَيْكَ ثِيَابَكَ وَسِلاَحَكَ ثُمَّ ائْتِنِي".
يقول عمرو -كما جاء في رواية ابن حبان والحاكم وأحمد، وهي صحيحة-: فأتيته وهو يتوضأ صلى الله عليه وسلم، فصعَّد فيَّ النظر، ثم طأطأ فقال: "إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أَبْعَثَكَ عَلَى جَيْشٍ، فَيُسَلِّمُكَ اللَّهُ وَيُغَنِّمُكَ، وَأَرْغَبُ لَكَ مِنَ الْمَالِ رَغْبَةً صَالِحَةً"[2].
أي أنك ستذهب إلى موقعة ستنتصر فيها بإذن الله ويكثر مالك، وذلك أن أربعة أخماس الغنائم توزع على الجيش.
وهنا قال عمرو بن العاص رضي الله عنه: يا رسول الله، ما أسلمتُ من أجل المال، ولكني أسلمت رغبةً في الإسلام، وأن أكون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وليست هذه فقط هي المنقبة، ولكن المنقبة العظيمة فيما سيقوله الرسول صلى الله عليه وسلم، فقد قال: "يَا عَمْرُو، نِعْمَ الْمَالُ الصَّالِحُ لِلْمَرْءِ الصَّالِحِ"[3].
فقد شهد له صلى الله عليه وسلم بالصلاح، وبأنه من الصالحين.
وبالفعل أمَّره صلى الله عليه وسلم على الجيش الإسلامي، على رأس ثلاثمائة من وجوه الأنصار والمهاجرين من الصحابة.
وهنا أيضًا تتجلى عظمة الصحابة رضوان الله عليهم في قبولهم قيادة هذا البطل الإسلامي الجديد، بما فيهم من وجوه المهاجرين والأنصار ممن لهم تاريخ طويل في الإسلام، وصل فيه بعضهم إلى عشرين سنةً متصلة، ومع ذلك قَبِلوا أن يترأس عليه في هذا الجيش من كان عمره في الإسلام أربعة أشهر فقط.
وقد خرج الجيش الإسلامي وسنرى موقعة وكأنها صورة مصغرة من موقعة مؤتة، وكأن الله عز وجل أراد أن يحقق لعمرو بن العاص ما حقق لخالد بن الوليد قبل ذلك؛ لتثبت أقدامهما في الإسلام.
تجلي عبقرية عمرو بن العاص الحربية
منذ اللحظات الأولى لخروج عمرو بن العاص رضي الله عنه بالجيش ظهرت عبقريته الفذة في الحروب، فمن أول الطريق قرر أن يسير بالمسلمين ليلاً ويكمن نهارًا؛ وذلك لئلاّ ترصده عيون الأعداء إن كانت على الطريق، ووصل -بالفعل- بالجيش الإسلامي إلى قضاعة دون أن يعلموا أنه قد زحف إليهم.
وبدأ أيضًا بعبقرية واضحة وبحكمة عسكرية لافتة للنظر، يبث العيون هنا وهناك حتى يستطلع أعداد العدو، وقد وجد بالفعل أن أعدادهم كبيرة، وعلم رضي الله عنه أن طاقته لن تكون قادرة على مواجهة هذه الأعداد الكبيرة من قضاعة.
والحقيقة أن عمرو بن العاص رضي الله عنه كان في غاية الواقعية، ولم يكن متهورًا على الإطلاق، وما كان ليندفع بجيشه أبدًا إلا بعد دراسة متأنية للواقع الذي هو مُقبِل عليه، وسنرى مثل ذلك كثيرًا في فتوحاته رضي الله عنه في فلسطين وفي مصر.
فحين وجد رضي الله عنه أن أعداد قضاعة كبيرة، أرسل إلى الرسول صلى الله عليه وسلم في المدينة المنورة يطلب منه المدد، وأمر الجيش الإسلامي ألاّ يقاتل حتى يصل ذلك المدد.
وبالفعل أرسل الرسول صلى الله عليه وسلم إليه مددًا في نحو مائتين من الصحابة من وجوه الأنصار والمهاجرين رضي الله عنهم أجمعين، وعلى رأسهم أبو عبيدة بن الجرَّاح رضي الله عنه أمين هذه الأمة، ومن السابقين، ومن العشرة المبشرين بالجنة، وصاحب تاريخ طويل مع المسلمين.
وكان تحت إمرة أبي عبيدة بن الجراح في هذا المدد عددٌ كبير من السابقين، في مقدمتهم أبو بكر الصِّدِّيق وعمر بن الخطاب رضي الله عنهما، وكفى بهما! وكان معظم المائتين من السابقين، وكلهم على هذا المستوى العالي من الإيمان، وأصحاب خبرة وسبق وتاريخ طويل في الإسلام.
صورة حضارية رائعة
حين وصل المدد إلى عمرو بن العاص انضم المائتان إلى الثلاثمائة، فأصبح عدد الجيش تمام الخمسمائة، ولكن تُرى من الذي يكون أمير هذا الجيش؟! أهو عمرو بن العاص أم أبو عبيدة بن الجراح؟!
والحقيقة أن الأمر لم تتحدد معالمه بعدُ، فحين أراد المسلمون الصلاة تقدم أبو عبيدة بن الجراح ليؤمَّ المصلين، وكانت العادة أن قائد الجيش هو الذي يؤم الناس في الصلاة.
فقد اعتقد أبو عبيدة رضي الله عنه أنه هو الأمير؛ لأنه قد جاء على إمرة مائتين من وجوه الأنصار والمهاجرين، وفيهم أبو بكر وعمر، فتقدم هو ليقود الصفوف.
وهنا ما كان من عمرو بن العاص إلا أن تقدم، وقال لأبي عبيدة: "إنما قدمت عليَّ مددًا لي، وليس لك أن تؤُمَّنِي، وأنا الأمير، وإنما أرسلك النبي صلى الله عليه وسلم إليَّ مددًا".
كان عمرو بن العاص ما زال حديث عهد بالإسلام، وكان -كما ذكرنا- كبير السن؛ إذ يبلغ السابعة والخمسين من عمره، أي تقريبًا أكبر من أبي عبيدة بعشر سنين، وكان له تاريخ عسكري معروف، إضافةً إلى أنه من فرسان قريش ودهاة الحرب، الأمر الذي رأى فيه أنه أحق بالإمارة، ليس لكونه عسكريًّا وعبقريًّا في إدارة الجيوش فقط، وإنما أيضًا لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قد وضعه على إمارة الجيش الأصلي.
والحقيقة أن الصحابة في عادتهم ما كانوا يتنازعون الإمارة بهذه الصورة، إلا أنه بعد أن قال عمرو بن العاص هذا الكلام تكلم المهاجرون، وكان أبو عبيدة رجلاً حَيِيًّا، فتحرَّج أن يتكلم عن نفسه، فقالوا لعمرو: "كلا، بل أنت أمير أصحابك وهو أمير أصحابه".
وهذا بالطبع لا يمكن أن يحدث، إذ لا يمكن أن يكون في الجيش قائدان، فقال عمرو ثانية: "لا، بل أنتم مدد لنا".
وحين رأى أبو عبيدة هذا الاختلاف ما كان منه إلا أن خاطب عمرو بن العاص بكلمات قلَّ أن نجد أشباهها في أمثال مواقفها، وهي تعبر عن عمق فَهْم أبي عبيدة لقضية الإمارة في الإسلام، فقد قال له: "لتطمئن يا عمرو، ولتعلمَنَّ أن آخر ما عهد إليَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن قال: (إِذَا قَدِمْتَ عَلَى صَاحِبِكَ فَتَطَاوَعَا وَلاَ تَخْتَلِفَا)، وإنك والله إن عصيتني لأطيعنَّك"[4].
فأطاع أبو عبيدة بن الجراح رضي الله عنه، وصلى عمرو بن العاص رضي الله عنه بالناس، وفيهم أبو عبيدة وأبو بكر الصديق وعمر بن الخطاب، وفيهم الكثير والكثير من المهاجرين والأنصار، الجميع يصلي وراء عمرو بن العاص حديث الإسلام، والذي لم يسلم إلا منذ أربعة أشهر فقط.
وهذه بالطبع صورة حضارية رائعة في تاريخ المسلمين، ومظهر من مظاهر الوحدة، ومن أبلغ أسباب النصر؛ إذ الجميع يعمل في سبيل الله، لا يتهافت أحد منهم على إمارة.
وقفة مع موقف عمرو بن العاص
مع موقف عمرو بن العاص رضي الله عنه السابق، كان لا بد أن نقف معه وقفة. وحقيقة الأمر أنه رضي الله عنه لم يخطئ في هذا الحدث؛ إذ كان لديه حجج قوية.
فالرسول صلى الله عليه وسلم بعث إليه، وأمَّره على هذا الجيش، وقال له: إنه يريد أن يسلمه الله عز وجل وأن يغنمه. أي أن هناك ما يفسر وبصورة واضحة لعمرو بن العاص وللصحابة وغيرهم أن الرسول صلى الله عليه وسلم اختاره لإمارة هذا الجيش.
وعلى الجانب الآخر، فإن أبا عبيدة كان قد جاء بمائتين من الصحابة مددًا لعمرو بن العاص، ولم يصرح له الرسول صلى الله عليه وسلم بأنه هو الأمير على الجيوش، فكان مفهومًا أنه جاء مددًا فقط.
وفي الوقت نفسه فعمرو بن العاص ليس بالعقلية العسكرية البسيطة، وإنما كان بالفعل قائدًا وعسكريًّا، يشهد له الجميع من المسلمين وغير المسلمين بكفاءته اللافتة للنظر في الجزيرة العربية، وهو الأمر الذي كان معه موقف عمرو بن العاص موقفًا سليمًا.
وقد تولى عمرو بن العاص قيادة الخمسمائة رجل من الصحابة رضي الله عنهم، وظهرت عبقريته في أكثر من مرة منها:
1- أراد الجيش أن يوقد نارًا بغرض التدفئة من برودة الجو ليلاً، فطلبوا ذلك من عمرو بن العاص إلا أنه رفض ولم يجبهم إلى طلبهم، فذهب الصحابة إلى أبي بكر الصديق رضي الله عنه ليتوسط عند عمرو في إيقاد النار، وحين ذهب إليه أبو بكر الصديق يكلمه في ذلك، قال له عمرو بن العاص في منتهى الحزم: "لا يوقد أحد منهم نارًا إلا قذفته فيها".
سبحان الله! منع كل الناس من إيقاد النار، حتى غضب عمر بن الخطاب، وتحادث في ذلك الأمر مع أبي بكر الصديق، فأخبره أبو بكر بأن الرسول صلى الله عليه وسلم أمَّره على إمارة الجيش وهو أعلم. أي أنه صلى الله عليه وسلم أعلم بحكمته وبقدرته على إدارة الجيش، ونحن نسمع ونطيع.
وبالطبع كانت حكمة عمرو بن العاص رضي الله عنه في هذا الأمر واضحة؛ إذ إنه حين رجع الصحابة إلى المدينة المنورة، واشتكوا ذلك للرسول صلى الله عليه وسلم، سأله صلى الله عليه وسلم عن علَّةِ فعله، فقال: "كرهتُ أن آذن لهم أن يوقدوا نارًا؛ فيرى عدوُّهم قلتَهم"[5].
2- ومنها أيضًا أن الصحابة رضي الله عنه التقوا مع قضاعة في معركة هائلة، وقد استطاع عمرو بن العاص بخطة عسكرية بارعة أن يحقق فيها النصر، وتكررت من جديد صورة مصغرة لغزوة أو سرية مؤتة، فكان انتصار كبير بعدد قليل من الرجال على مجموعة ضخمة من قضاعة.
وبعد هذا الانتصار فرَّت قبائل قضاعة هنا وهناك، الأمر الذي حمَّس الصحابة رضي الله عنهم وفكروا في أن يتبعوهم، إلا أن عمرو بن العاص منعهم من ذلك، فاستجابوا لأمره، لكنهم حاروا في ذلك ولم يقتنعوا برأيه.
وحين عادوا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم اشتكوا له ذلك، فسأله صلى الله عليه وسلم عن ذلك الأمر، فقال: "يا رسول الله، كرهتُ أن يتبعوهم فيكون لهم مدد"[6].
وحين سمع ذلك منه صلى الله عليه وسلم، استحسنه وأقره.
3- أيضًا احتلم عمرو بن العاص رضي الله عنه في ليلة من ليالي سرية ذات السلاسل، وكانت هذه الليلة باردة، فأشفق رضي الله عنه أن يغتسل بالماء البارد في هذه الليلة، فتيمَّم ثم صلى بالناس صلاة الصبح، فاستغربوا ذلك.
وحين ذهبوا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم اشتكوا له أيضًا هذا الأمر، فسأله صلى الله عليه وسلم: "أَصَلَّيْتَ بِأَصْحَابِكَ وَأَنْتَ جُنُبٌ؟" فقال عمرو بن العاص: يا رسول الله، إني سمعت الله يقول: {وَلاَ تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا} [النساء: 29].
فخشي رضي الله عنه أن يغتسل بالماء البارد فيموت، فاجتهد هذا الاجتهاد، وضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يقل شيئًا[7]. وضَحِكُ الرسول صلى الله عليه وسلم إقرارٌ وقَبُول لذلك الاجتهاد الذي اجتهده عمرو بن العاص رضي الله عنه.
ومعنى هذا أنه كان هناك أكثر من مشكلة قد حدثت بين عمرو بن العاص والصحابة رضي الله عنهم، ورغم أن في الصحابة الكثيرين ممن لهم السبق والقدم، إلا أن الرسول صلى الله عليه وسلم أقرَّ آراء عمرو بن العاص رضي الله عنه، وهذه من أعظم مناقبه رضي الله عنه وعن الصحابة أجمعين.
وقد كانت هذه الموقعة بالفعل موقعة عظيمة، وقد انتصر فيها المسلمون، وازدادت سمعة الدولة الإسلامية هيبةً ورهبة في قلوب الناس، وذاع صيتها في كل مكان.
عمرو بن العاص بعد ذات السلاسل
بعد سرية ذات السلاسل ارتفعت ثقة الرسول صلى الله عليه وسلم بفقهِ وذكاء وأمانة وقيادة عمرو بن العاص رضي الله عنه، فأرسله إلى مهمة أخرى عظيمة، وهي السفارة إلى دولة عُمَان.
كانت عُمَان في ذلك الوقت دولة مشركة، وكان يحكمها رجل يُدْعَى جَيْفَرًا ومعه أخوه عَبْدٌ، وكان الاثنان يسيطران على منطقة واسعة من الأراضي في عمان وما حولها.
وقد أرسل الرسول صلى الله عليه وسلم لهم عمرو بن العاص يدعوهم إلى الإسلام، وإلى الانضمام إلى الدولة الإسلامية.
وبعد حوار طويل مع جيفر وعياذ تبدت فيه الحكمة الشديدة والذكاء الواضح من عمرو بن العاص رضي الله عنه، استطاع أن يقنعهما بالإسلام، وقد أسلما بالفعل، بل وأسلم شعبهما بالكامل، ودخلت دولة عُمان بكاملها في دولة المسلمين.
ولم يكتفِ الرسول صلى الله عليه وسلم فقط بجعل عمرو بن العاص سفيرًا عنه إلى جيفر وعياذ في عُمان، بل عيَّنَه صلى الله عليه وسلم جامعًا للزكاة هناك، وكان هو عامل الرسول صلى الله عليه وسلم بعد تثبيت جيفر وعياذ على زعامة البلاد.
ومن هنا سنرى أنه سيختفي ذكره رضي الله عنه منذ هذه اللحظة، وحتى آخر عهد السيرة النبوية من أحداث المدينة المنورة أو مكة المكرمة، وأنه سيظل هناك في منطقة عُمان إلى أن يلحق الرسول صلى الله عليه وسلم بربِّه.
أي أن الرسول صلى الله عليه وسلم في كل حياته المتبقية بعد إسلام عمرو بن العاص رضي الله عنه قد وثق فيه صلى الله عليه وسلم، وجعله واليًا من قِبله على هذه البلاد، ولم يكن من السهل أبدًا أن يقبل صلى الله عليه وسلم بولاية إنسان إلا إذا اطمأنَّ إلى دينه وكفاءته.
د. راغب السرجاني
[1] المباركفوري: الرحيق المختوم، دار الوفاء - مصر، الطبعة السابعة عشرة، 1426هـ- 2005م، ص338.
[2] رواه أحمد (17798، 17835) ترقيم النسخة الميمنية، وابن حبان في صحيحه (3211) ترقيم شعيب الأرناءوط، والحاكم في مستدركه (2130، 2926) ترقيم مصطفى عطا، وقال الحاكم: هذا الحديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه. وقال الذهبي في التلخيص: على شرط مسلم.
[3] الحديث السابق نفسه.
[4] الصالحي الشامي: سبل الهدى والرشاد، تحقيق عادل عبد الموجود وعلي معوض، دار الكتب العلمية - بيروت، 6/167.
[5] رواه ابن حبان في صحيحه (4540)، وصححه شعيب الأرناءوط.
[6] الحديث السابق نفسه.
[7] رواه أبو داود (334) ترقيم محيي الدين عبد الحميد، وصححه الألباني.