الحلم التاسع لفيرا بافلوفنا - فيكتور بيليفين
يمكننا أن نرى الأنانة (الإيمان بالذات) تتطابق
مع الواقعية البحتة اذا أمعنا التفكير بها بدقة.
لودفيغ فينغشتاين.
تسارعت البريسترويكا (إعادة البناء) في المرحاض في شارع تفيرسكي المشجر في وقت واحد بعدة اتجاهات. فالزبائن صاروا يطيلون الجلوس في القمرات، ساعين لتأخير لحظة الفراق مع قصاصات الصحف الجريئة؛ وقد بان على الوجوه المتحجرة للمثليين الجنسيين المزدحمين في الصالة القرميدية الصغيرة حدس الحرية التي طال انتظارها، والتي لا تزال بعيدة المنال، لكن لا شك في قدومها؛ وارتفعت عالياً مقاطع المنولوجوات الفاحشة التي يذكر فيها الى جانب الاله الرب قادة الحزب والحكومة؛ وازدادت انقطاعات الماء والكهرباء.
لم يفهم أحد من المشتركين في هذا كله حقاً لماذا يشترك فيما يجري، - لا أحد سوى عاملة النظافة في المرحاض الرجالي فيرا، وهي كائن غير محدد العمر والجنس تماماً، كحال جميع زملائها. كانت التغييرات التي بدأت، بالنسبة لفيرا غير متوقعة أيضاً- لكن بمعنى التاريخ الدقيق لبدايتها والشكل المحدد لمطهرها فقط، وليس بمعنى مصدرها، لأن هذا المصدر كان هي نفسها.
بدأ كل شيء، عندما فكرت فيرا في ذات يوم لأول مرة في حياتها ليس بمغزى الوجود، كما كانت تفعل سابقاً، بل بسره. والنتيجة هي، أن ألقت الخرقة في دلو الماء والصابون الداكن وأطلقت شيئاً ما شبيهاً بـ «آخ» هادئة. الفكرة كانت غير متوقعة ولا تطاق، واهم ما في الأمر أنها غير مرتبطة بشيء مما يحيط بها - بل خطرت فجأة على بالها الذي لم يستدعه أحد؛ واستنتجت من هذه الفكرة، ان كل هذه السنوات الطوال من العمل الروحي التي ضاعت في البحث عن فكرة، تبين أنها ذهبت سدىَ لأن المسألة؛ كما تبين، تكمن في السر. لكن فيرا هدأت بشكل او آخر وصارت تباشر التنظيف. وبعد أن مضت عشر دقائق وجرت معالجة القسم الأكبر من الأرضية المكسوة بالبلاط، ظهر رأي جديد – مفاده ان هذه الفكرة يمكن ان تخطر على بال أناس آخرين مشغولين بالعمل الروحي، وحتى أنها من المرجح أن تكون قد خطرت في بالهم، لا سيما اذا كانوا أكبر في السن وأكثر خبرة. وأخذت فيرا تفكر، من يستطيع القيام بهذا من المحيطين بها، وسرعان ما فهمت بشكل لا يشوبه الخطأ، أنه لا يجب عليها الذهاب بعيداً، بل ينبغي التحدث الى مانياشا عاملة التنظيف في المراحيض المجاورة، المماثلة، لكنها للنساء.
كانت مانياشا أكبر منها بكثير وهي عجوز نحيفة، يصعب تقدير عمرها، لكنها دخلت سن الشيخوخة؛ عندما تتطلع فيرا فيها، لا تعرف لماذا تتذكر عبارة «بطرسبورغ دوستويفسكي»، ربما لأنها صففت شعرها بشكل ضفيرة شيباء منسدلة على ظهرها. كانت مانياشا الصديقة الكبرى لفيرا؛ وفي كثير من الأحيان تتبادلان نُسَخ كتابات بلافاتسكايا وراماتشاركا، الذي لقب عائلته الحقيقي كما تقول مانياشا هو زيلبيرشتاين، وتذهبان الى سينما «اليزيون» لمشاهدة فايسبيندر وبيرغمان، لكنها لم تتحدثا بمواضيع جدية؛ ان قيادة مانياشا للحياة الروحية لفيرا خفية جداً وغير مباشرة، لهذا لم يظهر لدى فيرا إحساس بأن هذه القيادة موجودة.
لم يتطلب الأمر من فيرا عندما تتذكر مانياشا إلا أن تفتح الباب الخدمي الذي يربط المرحاضين (تؤدي إليهما من الشارع مداخل مختلفة) فتظهر مانياشا. وهنا أخذت تتحدث بارتباك عن مشكلتها؛ استمعت اليها مانياشا من دون ان تقاطعها.
قالت فيرا:
- يبدو أن البحث عن مغزى الحياة - في حد ذاته المغزى الوحيد للحياة. أولاً ، ليس كذلك- اتضح ان معرفة سر الحياة، خلافاً لفهم مغزاها، يساعد على توجيه الوجود، أي يقضي فعلياً على الحياة السابقة، ويبدأ حياة جديدة، وليس مجرد حديث عن هذا،- ولكل حياة جديدة سيكون مغزى خاصاً بها. واذا ما توصلنا الى السر فلن يبقى أي إشكال مع المغزى.
- هذا ليس صحيحاً تماماً،- قاطعتها مانياشا التي كانت تستمع اليها باهتمام.- وبعبارة أدق، هذا صحيح تماماً، ما عدا أنك لا تأخذين بعين الاعتبار طبيعة النفس البشرية. هل حقاً تعتقدين انك طالما عرفتِ هذا السر، فقد انحلت جميع مشاكلك؟.
- طبعاً،- أجابت فيرا.- أنا متأكدة. ولكن كيف لي أن أعرفه؟
فكرت مانياشا للحظة ومن ثم قررت شيئاً، وقالت:
- توجد هنا قاعدة واحدة. اذا كان هناك من يعرف هذا السر، وأنت تسألين عنه ، فليزمه أن يكشفه لك.
- لماذا إذاً لم يعرفه أحد؟
- مهلاً، البعض يعرفه، ولم يخطر ببال الآخرين أن يسألوا، أجابت مانياشا. - ها أنت، مثلاً، هل سألت أحداً في وقت ما؟
- اعتبري ، أني سألتك،- قالت فيرا بسرعة.
- اذاً امسكي بيدك الأرض، قالت مانياشا.- لكي تقع مسؤولية ما يحدث كلها عليكِ.
- أيعقل أن لا يكون ذلك دون هذه المشاهد من مسرحيات غوستاف مايرينك؟ - تمتمت فيرا بسخط، وهي تنحني نحو الأرض وتلامس بكفها مربع القرميد البارد.- حسناً وماذا؟
دعت مانياشا فيرا اليها بإصبعها، ومسكتها من رأسها وانحنت بحيث صارت أذن فيرا مقابل فمها بالضبط، وهمست بعبارة ليست طويلة.
وفي هذه اللحظة دوى هدير خلف الجدران.
- هذا، كل ما في الأمر؟- تساءلت فيرا وهي تعدل استقامتها. أومأت مانياشا برأسها.
ضحكت فيرا بريبة فنشرت مانياشا برأسها.
ضحكت فيراً بريبة. فنشرت مانياشا يديها، كما لو أنها تقول ليس هي من ابتدعت هذا، ولا تتحمل المسؤولية عليه. هدأت فيرا. وقالت:
- أتعرفين، أني دائماً كنت أشك بشيء من هذا القبيل.
ضحكت مانياشا وقالت.
- هكذا يقول الجميع.
- وماذا في الأمر،- قالت فيرا.- سأحاول في البداية بشيء بسيط. كأن تكون هنا لوحات على الحيطان وتصدح موسيقى.
- أعتقد، يمكنك فعل ذلك،- أجابت مانياشا، - ولكن خذي بنظر الاعتبار أنه ربما سيحدث نتيجة لجهودك شيء ما غير متوقع وليس له علاقة بما أردتِ فعله. العلاقة تظهر في وقت لاحق فقط.
- ماذا يمكن ان يحدث؟
- انظري أنت بنفسك.
* * *
لم تُتح المشاهدة عاجلاً، بل بعد بضعة أشهر، وفي تلك الأيام البشعة من تشرين الثاني، التي يقرقع فيها تحت الأقدام شيء لا هو بثلج ولا هو بماء، ويحمل فيها الهواء ما هو ليس ببخار ولا بضباب تتلألأ من خلاله زرقة قبعات الشرطة والكدمات القرمزية للافتات.
حدث ذلك على النحو التالي: دخل الى دورة المياه عدد من البروليتاريين المحتفلين يحملون كمية كبيرة من الأسلحة الأيديولوجية - زهور قرنفل ورقية ضخمة على أعمدة خضراء طويلة وتعويذات على رقائق خاصة من الخشب الرقائقي. وبعد أن قضوا حاجتهم وضعوا رماحهم الثنائية الألوان الى الحائط، وحجبوا المبولات بلافتاتهم المبللة- كانت في الأعلى كتابة غير مفهومة «ساحب الأنابيب التاسع» – وقاموا بنزهة صغيرة في مكان ضيق أمام المرايا والمغاسل. سادت رائحة نبيذ البورتو بشكل اقوى من رائحة البول والكلور؛ وصدحت أصوات عالية. في البداية تناهت الى الأسماع أصوات ضحك وكلام، ثم فجأة حل الهدوء، وسأل صوت رجالي صارم:
- ماذا تسكب، أيها القحبة، على الأرضية متعمداً؟
- أنا لست متعمداً، اخذ يهذي صوت عالٍ غير واثق،- إنها القنينة غير قياسية، عنقها أقصر. وكنت أصغي اليك. جرّب بنفسك، يا غريغوري! يدي دائماً بطريقة أليه..
وهنا دوّى صوت ضربة بشيء خفيف، وضجت أصوات بكلمات استحسان بذيئة، لكن بعد هذا سرعان ما انتهت النزهة بشكل أو آخرن وتلاشت الأصوات بعد أن عوَّت بِدويٍ في نهاية المطاف من السلّم المؤدي الى الشارع. وبعد ذلك فحسب قررت فيرا أن تلقي نظرة من خلف الزاوية.
جلس في وسط الصالة القرميدية على الأرض رُجَيل وجهه مُدمّى ومن وقت الى وقت يبسق دماً على القرميد المسكوب عليه نبيذ البورتو. وما أن رأى فيرا حتى أصابه الفزع لسبب ما ونهض على رجليه وركض نحو الشارع، تحت السماء المكشوفة. بقيت خلفه في الصالة قرنفلة مكسرة ومبللة ولافتة صغيرة ذات كتابة مائلة: «نموذج البريسترويكا لا بديل عنه!» لم تفهم فيرا على الإطلاق ماهية المغزى الكامن في هذه الكلمات، ولكن خبرتها الطويلة في الحياة قالت بشكل واضح: بدأ شيء جديد، وحتى لم تصدّق انها أثارت هذا الجديد. وعلى سبيل الاحتياط أخذت الزهرة العملاقة واللافتة ونقل1تها الى حجرتها، التي تمثل قمرتين طرفيتين (لتبديل الملابس) –الحاجر بينها مرفوع، والمكان كافٍ تماماً لوضع الدلاء والماسحات والكرسي الذي يمكن أحياناً أخذ قسطاً من الراحة عليه.
بعد هذا سارت الأمور كسابق عهدها مدة طويلة (وأي جديد عسى أن يحدث في دورة المياه؟). جرت الحياة بشكل رتيب وقابل للتكهن سوى أن عدد القناني الفارغة التي تُجمع في اليوم صار اقل والناس صاروا أكثر شراً.
ولكن ذات مرّة ظهرت جماعة في دورة المياه، جاءت ليس لقضاء الحاجة بشكل صريح. كانوا يرتدون بدلات جينز متشابهة ونظارات داكنة، وكانت معهم أداة قياس مطوية وشيء اختصاصي على حامل ثلاثي القوائم- لم تعرف فيرا اسمه - عادة ينظر فيه بعض الناس في الشوارع الى عصا ذات خطوط بيانية بهيئة معينة. قاس الضيوف باب المدخل وتطلعوا باهتمام في البناية كلها وغادروا، من دون ان يستعملوا جهازهم البصري. وظهروا مرة أخرى بعد عدة أيام، برفقة شخص يرتدي معطفاً مطرياً بنياً ويحمل حقيبة أوراق بنية – عرفته فيرا، انه مدير جميع دورات المياه في المدينة. تصرف القادمون بشكل غير مفهوم - انهم لم يناقشوا شيئاً أو يقيسوه، كما في المرة السابقة، وإنما كانوا يتمشون الى الأمام والى الخلف، صادمين بأكتافهم ظهور الكادحين المتبولين (يا لهذا العالم المتغّير!)، ويتوقفون من وقت الى آخر، ناظرين بتأمل الى شيء ما، لا تراه فيرا ولا الزائرين، لكنه، على ما يبدو، رائع: ويمكن تخمين ذلك من خلال الابتسامات على وجوههم ومن خلال الوضعيات الرومانسية العجيبة، التي تسمرت بها أجسادهم،- ما كان بمقدور فيرا أن تعبر عن مشاعرها بالكلمات، لكنها فهت كل شيء بشكل صحيح، وتراءت أمام عينيها لعدة لحظات نسخة من لوحة كانت معلقة عندهم في ملجأ الأطفال "للرفاق كيرون وفيروشيلوف وستالين في موقع إنشاء قناة بيرلومورسك – بالطيسكي".
وبعد يومين عرفت فيرا، أنها صارت تعمل في تعاونية خاصة.
* * *
بقيت مهامها، على العموم، كالسابق، لكن كل شيء حولها تغّير بشكل لا يصدّق. فقد جرى تصليح للمكان بشكل سريع وبالتدريج وبلا إيقاف للقدرات الإنتاجية. في البداية بدّلوا القرميد السوفيتي الباهت اللون على الجدران الى الواح بلاط كبيرة عليها صور زهور خضراء. ثم عدّلوا القمرات - فقد كسيت جدرانها بالبلاستيك جوزي اللون، وبدلاً عن مقاعد مراحيض الاشتراكية المنتصرة وضعت أواني ولائم وردية وبنفسجية اللون، ونصبت في المدخل حواجز دوارة، كالتي في المترو- لكن الدخول لم يكن خمس كوبيكات كما في المترو بل عشر كوبيكات.
وعندما اكتملت هذه التغييرات رفع مرتب فيرا الى مائة روبل بالتمام والكمال في الشهر وأعطيت ملابس عمل جديدة: قبعة حمراء ذات حافة ورداء شبيه بالمعطف اسود اللون بياقة – كل شيء كما في المترو، لكن على الياقات والعلامات لمع ليس حرف «م» بل خطان متموجان متقاطعين مثبتان في قطعة نحاس خفيفة. ان القمرتين، اللتين كان بإمكانها سابقاً النوم فيهما قليلاً، تحولنا الى مخزن لورق التواليت، ولا يمكن لها الآن حتى ان تحشر نفسها هناك. صارت فيرا تجلس قرب الحاجز الدوار في كشك خاص يشبه عرش الشيوعيين الماركسيين في فيلم «أيليتا»، تبتسم وتُصَرِّف النقود؛ وظهرت في إيماءاتها سلاسة سعيدة، تشبه تماماً بائعه في سوق يليسيفسكي (محل لبيع المواد الغذائية شهير يقع في وسط موسكو اعدم في زمن اندروبوف مديره - م) رأتها ذات مرّة في طفولتها وظلت تتذكرها طوال حياتها- كانت تلك شقراء ومليئة أنوثة تقطِّع سمك السلمون الأحمر على خلفية لوحة جدارية تصوِّر سهلاً تغمره أشعة الشمس، حيث مباشرة على بعد نصف متر تدلى عنقود عنب بارد، - كان الوقت صباحاً والمذياع يصدح بأغنية رقيقة وكانت فيرا لم تزل صبية ترتدي ثوباً من الشيت الأحمر.
رنَّت النقود بمرح في الحواجز الدوارة - كان يمتلئ منها كل يوم كيس ونصف او كيسان كبيران من الكتان. فكرت فيرا بشكل غامض: «يبدو أن فرويد قارن في أحد كتبه بين الغائط والذهب. وهو على كل حال، رجل ذكي، وهذه حقيقة... فلماذا يكرهه هكذا الناس... وها هو نابوكوف...» وانغمست بأفكار عادية متأنية عادة ما تتكون من البداية وحدها، ولا تصل الى نهايتها لأن أفكاراً أخرى تحل محلها.
* * *
غدت الحياة بالتدريج أفضل: اذ ظهرت في المدخل ستائر قطيفة خضراء، يجب على الزائر، عندما يدخل، أن يفتحها بكتفه، وعلى الجدار عند المدخل لوحة، اشتريت من مطعم بيلميني (أكلة روسية عبارة عن عجين وبداخله لحم وتسلق في الماء - م) أعلن إفلاسه، تصوِّر في أفق غريب عربة ترويكا: ثلاثة خيول بيضاء مقرونة في عربة ثلج مليئة بالتين، يجلس فيها ثلاثة أشخاص غير مبالين أبداً بالذئاب المحتشدة الراكضة خلف العربة - اثنان يعزفان على آلة هارومونيكا يرتديان معطفان قصيران من فرو الغنم وامرأة بدون هارمونيكا (من هنا بدت الهارمونيا علامة للجنس). والشيء الوحيد الذي أثار استياء فيرا كان هدير أو دوي بعيد، أحياناً كان يصل الى سمعها من وراء الجدار- لم تستطع ان تجد تفسيراً، لما يمكن أن يأزز تحت الأرض بهذا الشكل الغريب، لكنها فيما بعد اهتدت الى أن هذا هو المترو وهدأت.
وفي القمرات كان يخشخش ورق تواليت حقيقي - ليس كما في السابق. وظهرت على المغاسل قطع الصابون، والى جانبها - صناديق كهربائية معلقة على الحائط لتجفيف الأيدي. وباختصار، عندما قال أحد الزبائن الدائمين لفيرا أنه يأتي الى هنا، وكأنه ذاهب الى المسرح، لم تندهش فيرا للمقارنة، بل حتى كانت ممتنة له جداً.
كان المدير الجديد شاباً متورد الخدين يرتدي سترة جينز ونظارات سوداء- نادراً ما يأتي الى المكان، وكما فهمت فيرا، انه يشرف على دورتي مياه أو ثلاث أخرى. تراءى لفيرا أنه شخص ذو قدرة وغامض، لكن في أحدى المرّات تبيّن لها ان الذي يدير الجميع ليس هو على الإطلاق.
عادة عندما كان الشاب المتورد الخدين يدخل من الشارع، يطوي نصف الستارة القطيفة الخضراء بحركة قصيرة وسلطوية من يده، فيبدو وجهه ذو الإهليجين الزجاجيين السوداوين بدل العينين، ومن ثم يدوي صوته الرقيق. وفي هذه المرّة كان كل شيء على العكس: في البداية سمعت فيرا صوته عالياً مداهناً مدوياً على السلَم وجواباً عليه أيضاً هناك جأر صوت عميق متشامخ، وانفتحت الستارة وبدلاً عن اليد والنظارات السوداء بدا ظهر مستقيم غير محني يرتدي جينز- وتقهقر مدير فيرا هذا الى الخلف ووضَّح شيئاًعلى الماشي، وعلى اثره سار قزم سمين كبير السن ذو لحية حمراء طويلة ، بقبعة كيبي حمراء وقميص داخلي مستورد أحمر اللون قرأت فيرا عليه:
What I really need
is less shit
from you people
كان القزم صغيراً جداً، لكنه متماسك بشكل بدا فيه أطول الجميع. وبعد أن القى نظرة سريعة على المكان، فتح حقيبة أوراقه، واستل حزمة أختام ومهر بواحدة منها ورقة قدمها على مهل مدير فيرا. بعد ذلك أعطى تعليمات قصيرة ووخز بطن الشاب ذي النظارات السوداء بإصبعه، ثم قهقه وولى- حتى ان فيرا لم تلحظ كيف اختفى: وقف مقابل المرآة – وإذا به غير موجود، وكأنه غار في مسلك مفتوح تحت الأرض خاص بالأقزام فقط.
بعد أن انجز القزم الأختام ،هأ مدير فيرا، وازداد طولاً وقال عدة عبارات غير موجهة لأحد، فهمت منها فيرا، ان القزم-في حقيقة الأمر شخصية كبيرة ويشرف على جميع دورات المياه في موسكو.
- يا له من مدير، مديرنا الآن، - تمتمت فيرا مع نفسها، وهي ترن بالنقود المعدنية على طبق مطروح أمامها وتقدم المناديل ذات الاستعمال لمرة واحدة – رهيب حقاً.
كانت تحب ان تعطي انطباعاً بأنها تستوعب كل ما يجري، كما يجب ان تستوعبه أي فيرا أخرى مجردة، تشتغل عاملة تنظيف في دورة للمياه، وحاولت ان لا تفكر بكونها هي بالذات من أيقظت هذه القوى التحت أرضية وأيقظتها من أجل الضحك ولكي تعلّق على الحائط لوحة. أما بخصوص الموسيقى، فإنها افترضت ان رغبتها قد تحققت في هاتين آلتي الهارمونيا المرسومتين وعلى كل حال، بقدر ما كانت حياة فيرا في السابق مملة ورتيبة، بقدر ما غدت الآن ممتعة وهامة. وصارت فيرا الآن دائماً ما ترى ناساً مدهشين باختلاف أنواعهم- منهم العلماء ورواد الفضاء والممثلين، وفي احدى المرات زار دورة المياه أبو الشعب الصديق بوت مير سوب -كان ذاهباً الى الكرملين ولم يتحمل. كان معه كثير من الناس، وطوال ما هو جالس في القمرة، بالقرب من كشك (حجرة) فيرا عزف على مزامير طويلة ثلاثة من الأطفال الطلائع، القلقين المجمِّلين وجوهم بالمساحيق، لحناً حزيناً مطولاً بشكل مؤثر وجميل جعل فيرا تبكي خلسة.
بعد هذه الحادثة سرعان ما جلب مدير فيرا معه آلة تسجيل ومكبرات صوت، وفي اليوم التالي صدحت الموسيقى في المرحاض. وأضيفت مهمة اخرى الى مهام فيرا الأن- ان تقلب شريط التسجيل وتبدله. عادة ما يبدأ الصباح بـ «ميسي» و«ريكفيما» لجوزيف فيردي؛ يظهر أوائل الزائرين المضطرين في العادة عندما يفلح صوت السوبرانو العالي الانفعالي من الجزء الثاني ان يسأل الله الخلاص من الموت الأبدي.
- ليبيرا مي دوميني دي مورتي ايتيرنا، - رددت فيرا بصوت منخفض، ومع إيقاع الضربات الثقيلة للأوركسترا غير المرئية. كانت ترن بالنحاس على الطبق. وعادة ما تضع بعد ذلك «اوراتويو الميلاد» لباخ او شيئاً من هذا القبيل، باللغة الألمانية، ولموضوع روحي، وكانت فيرا التي تفهم هذه اللغة مع بعض الصعوبات، تستمع، كيف يدعو بمرح الأطفال ذوو الأصوات المهموسة البعيدة الرب الذي أرسلهم الى عالم الدنيا بشيء ما.
- اذاً لماذا خلقنا الله؟- أجاب الكورس بإيمان راسخ، - لنقوم بتمجيده.
- أهكذا؟ - أعادت مغنية السوبرانوا السؤال بارتياب.
- هو كذلك بلا شك!- عجلت التأكيد أصوات الأطفال من الكورس.
ومن ثم عندما يصل الوقت الى الساعة الثانية او الثالثة، تقوم فيرا بتشغيل موسيقى موزارت، وتهدأ روحها المضطربة على مهل، هائمة فوق أرضية رخامية باردة لصالة كبيرة، تجلجل فيها آلتا بيانو بعزف من السّلم الصغير، مقاطعةً إحداهما الأخرى.
وعندما يحل المساء تضع فيرا فاغنر، وهنا لم تستطع أسُود الفالكيري الطائرة في المعركة لعدة لحظات أن تفهم ما هذه الجدران القرميدية، والتمعت المغاسل للحظة قرب خيولهم المندفعة بجنون.
كل شيء سيظل رائعاً لو لا حادثة غريبة واحدة، في البداية لم تكن ملحوظة، وحتى انها بدت هلوسةً. صارت فيرا تلاحظ رائحة غريبة، بصراحة القول- زنخة (رائحة كريهة) لم تثر اهتمامها في السابق. ولسبب لا يمكن تفسيره كانت هذه الرائحة الكريهة تظهر فجأة عندما تصدح الموسيقى- وبصورة أدق لم تكن تظهر فجأة بل تبرز. ففي باقي الوقت كانت موجودة أيضاً-الحقيقة، أنها من البداية ملازمة لهذا المكان، ولكن قبل مدة معينة لم يُشعَر بها لأنها كانت منسجمة مع كل الأمور الأخرى- ولكن عندما ظهرت اللوحات على الجدران وصدحت الموسيقى، هنا صارت تُلحظ تلك النتانة المرحاضية المميزة الرهيبة التي لا يمكن وصفها والتي يمكن ان تعطي بعض التصور عنها عبارة «باريس ماياكوفسكي».
وفي أحدى المرات في المساء مرّت مانياشا بفيرا، واستمعت الى استهلال لسمفونية «القرصان» وشعرت فجأة كذلك بالرائحة الكريهة.
- ألم تفكري، يا فيرا، ولا مرّة ، لماذا تشَكِّل هذه المراحيض إرادتنا وتصورنا؟ سألت هي.
- فكرتُ،- أجابت فيرا.- افكر منذ زمن بهذا، ولم أستطع أبداً أن أفهم. أعرف ماذا ستقولين الآن. ستقولين أننا انفسنا نخلق العالم من حولنا، وسبب وجودنا في المرحاض- أرواحنا ذاتها. ثم ستقولين، لا يوجد أي مرحاض في الواقع، وإنما يوجد انعكاس للمحتوى الداخلي على الشيء الظاهري، وان ما يبدو رائحة كريهة ما هو في حقيقة الأمر إلا أحد مكونات الروح المتمظهرة. ثم ستتلين شيئاً من أشعار سولوغوب.
- وأخبرتني الكواكب، - قاطعتها مانياشا بترنيمة، - أني نفسي خلقت الطبيعة...
- يا سلام، يا سلام، أو شيء آخر من هذا القبيل. هل كل شيء أكيد؟
-ليس تماماً. إنك ترتكبين خطأك الاعتيادي، القضية تكمن في كون المهم في الأنانة (نظرية تقول ان الأنا أصل كل شيء - م) هو الجانب التطبيقي حصراً. وقد قمتِ أنتِ بشيء في هذا المجال-فعلى سبيل المثال، هذه اللوحة ذات عربة الترويكا او آلة السنطور هذه - دن، دن! ولكن هذه الرائحة الكريهة - لماذا نخلقها وفي أي لحظة؟
- فيما يتعلق بالجانب العملي أنا استطيع ان أجيبكِ،- قالت فيرا،- لا يصعب عليَّ الآن ان أزيل الرائحة الكريهة والمرحاض نفسه.
- وليس صعباً عليَّ كذلك،- أجابت مانياشا. أنا أزيلها فعلاً كل مساء. لكن، مهلاً، ماذا سيحل بعد؟ هل تفكرين فعلاً، أن هذا ممكن؟
فتحت فيرا فمها للإجابة، لكنها بدلاً عن ذلك أخذت تسعل على يدها لمدة طويلة.
مدّت مانياشا لسانها.
مرّ يومان او ثلاثة، وها قد أزاح الستارة الخضراء في المدخل عدة زائرين، ذكَّروا فيرا على الفور بأولئك الأوائل الذين يرتدون سترات جينز والذين بدأ كل شيء بهم. لكن هؤلاء كانوا يرتدون الجلد إضافة الى أن وجوهم أكثر تورداً - وفيما عدا ذلك تصرفوا كأولئك: كانوا يسيرون على مهل في البناية، ويتطلعون بشكل دقيق في كل ما حولهم. وسرعان ما عرفت فيرا ان دورة المياه ستُغلق وسيكون هنا متجر للأغراض المستعملة.
لقد أبقوها عاملة تنظيف، بل حتى أيام التصليح منحوها إجازة مدفوعة الأجر- استرخت فيرا جيداً وأعادت قراءة عدة كتب حول الأنانة، لم تتناولها يد على الإطلاق. وعندما ذهبت في اليوم الأول الى العمل الجديد لم تجد شيئاً يذكرها بأن في هذا المكان في وقت ما كانت دورة مياه.
حالياً هناك رف طويل يبتدأ من المدخل، تُباع عليه مختلف الحاجيات الصغيرة، ثم- في المكان الذي كانت فيه المبولات، انحشرت منصة طويلة عليها ملابس وتقابلها ركيزة عليها أدوات كهربائية، وفي النهاية القصوى للقاعة عُلقت أشياء شتوية - سترات ومعاطف مطرية جلدية وفروات من الجلد المدبوغ وبدلات نسائية وخلف كل منصة بيع تقف الآن بائعة.
صار عملها أقل بكثير، والنقود- وفيرة. وغدت تسير في المحل برداء عمل ازرق جديد وتجتاز بلطف بين الزائرين المحتشدين، وتمسح بخرقة قماش حافة زجاج المنصات، التي يتلألأ خلفها برقائق معدنية مختلفة الألوان خاصة بعيد رأس السنة («كل أفكار القرون! وكل الأحلام! وكل العوالم» – همست فيرا بصوت منخفض) أنواع العلكة وواقيات الحمل الرجالية، ولمعت الكلابات والمشابك البلاستيكية وومضت النظارات والمرايا والسلاسل والأقلام.
ومن ثم، أثناء استراحة الغداء، يجب عليها كنس الأوساخ التي جلبها الزائرون بأعقاب أحذيتهم، وبعد ذلك بإمكانها ان ترتاح الى المساء.
الموسيقى الأن تصدح طوال النهار- أحياناً حتى عدة أنواع من الموسيقى – أما الرائحة الكريهة فقد زالت، وهذا ما أخبرت به فيرا بفخر مانياشا التي جاءت اليها ذات مرة عبر الباب في الجدار. فزّمت هذه شفتيها.
- أخشى، أن لا يكون الأمر بهذه البساطة. وطبعاً، من جانب، نحن فعلاً نخلق كل ما حولنا، ولكن من جانب آخر- ما نحن أنفسنا إلا انعكاس لما يحيط بنا. لهذا كل قدر فردي في أي بلد- هو تكرار مجازي لما يجرى للبلاد وأن ما يجري للبلاد يتكون من آلاف الحيوات المنفصلة.
- وماذا يعني؟ -لم تفهم فيرا.- ما علاقة هذا بالحديث؟
- علاقته، - قالت مانياشا،- أنك تقولين أن الزنخة تلاشت. إنها لم تختفِ إطلاقاً. وستصطدمين بها ثانية.
منذ الوقت الذي حُوّلت فيه دورة المياه الرجالية الى النصف الذي تعمل فيه مانياشا وتوحدت مع دوره المياه النسائية، تغيرت مانياشا جداً- صارت تتحدث أقل، وقلما حلت ضيفةً على أحد. وخسرت بنفسها هذا بالتوازن المتحقق بين إين ويان، لكن فيرا في قرارة نفسها اعتقدت ان القضية تكمن في الحجم الكبير لأعمال التنظيف، والحسد اتجاهْ الشكل الجديد لحياتها هي فيرا،- والحسد مغطى بتفلسف ظاهري. ومع هذا لم تفكر فيرا تماماً بمن علمها كل ما هو لازم لتحقيق استحالة الشكل. ويبدو أن مانياشا أحست بتغير علاقة فيرا بها، لكنها تعاملت مع هذا بهدوء كما ينبغي، لكنها صارت نادراً ما تمر بها.
سرعان ما فهمت فيرا أن مانياشا كانت محقة. وحدث ذلك بالشكل الآتي: في أحدى المرات، عندما كانت تنحني عن الواجهة الزجاجية، لاحظت بطرف عينها شيئاً غريباً- رجلاً لطخاً بالغائط. كان على مسافة كبيرة عنها ويتحرك من خلال حشد المتبضعين لمنصة الأجهزة الكهربائية. ارتعشت فيرا وحتى أنها أسقطت الخرقة - لكنها عندما أدارت رأسها، لكي تنظر الى هذا الرجل كما ينبغي، تبين، أنه جرى لها خداع بصر- في حقيقة الأمر كان يرتدي مجرد سترة جلدية بنية مائلة الى اللون الأحمر.
لكن بعد هذه الحادثة صارت مثل خداعات البصر هذه تحدث أكثر وأكثر. فتارة يتراءى لفيرا فجأة ان على المنصة المزعجة أوراق مدعوكة، وينبغي عليها أن تتمعن بالنظر اليها عدة لحظات لكي ترى شيئاً أخراً. وتارة تبدأ تتخيل أن الزجاجات الغالية (ثمن الواحد منها ثلاثة الى أربعة رواتب سوفيتية) التي تحمل أسماء حكايات والمرتبة على رف طويل وراء ظهر البائعة، ليس عبثاً، ان تكون في ذات المكان الذي كانت تَخرُّ فيه المبولات بنشاط؛ وحتى الاسم نفسه «ماء التواليت» البارز بخط احمر على صفيحة الكارتون، اكتسب فجأة معنى تلميحي. ودائماً ما يهدر الآن خلف الجدران تقريباً طوال الوقت شيء - ما بصوت خافت، ولكن يهدر بصرامة وكأنه مارد يهمس بهدوء: لم يكن الصوت عالياً، لكنه ولَّد إحساساً بقوة غير اعتيادية.
أخذت فيرا تتفحص الزائرين الجدد. في النهاية صارت تلاحظ غرابة في ملابسهم: بعض الأشياء التي يرتدونها بدت باستمرار غائطاً، أو، بالعكس، الغائط الملطخ عليها بدا باستمرار شيئاً ما. وجوه الكثيرين كانت ملطخة بالبراز على شكل نظارات سوداء؛ البراز غطى أكتافهم على شكل سترات جلدية وجينز يلتصق بأرجلهم. كلهم كانوا ملطخين بدرجات متفاوتة: ثلاثة او أربعة كانوا ملطخين بالكامل، من الأرجل حتى الرأس وواحد - ملطخ على عدة طبقات؛ وقد أقبل عليه الناس باحترام كبير.
حام حول المكان كثير من الأطفال. أحد الأولاد ذكرّ فيرا بأخيها الذي غرق في وقت سابق في معسكر للطلائع، وتابعت بانتباه ما يجرى معه. في البداية كان بكل بساطة يخبر المتبضعين، من الملطخين بالبراز، أين يمكن ان يشتروا هذا او ذاك من الأشياء، وحتى أنه كان يسعى راكضاً نحو الداخلين ويسألهم:
- ماذا تحتاجون؟
وسرعان ما أخذ يبيع حاجة صغيرة بنفسه، وذات مرّة عندما كانت فيرا تزيح على الأرض دلواً باتجاه منصة عليها قطع سوداء كبيرة من غائط ذي اسم ياباني صارم، رفعت رسمها عينيها ورأت وجهه الذي يشع سعادة. وبعد أن نظرت الى الأسفل، شاهدت أن رجليه اللذين كان فيهما في السابق حذاء، ملطختان الآن بشكل كثيف بالشيء نفسه الملطخ به أكثر الواقفين حولها وبحركة غريزية بحتة - مسحتهما بالخرقة، وفي اللحظة التالية أزاحها الولد بصورة فظة للغاية.
- يجب ان تنظري تحت الأقدام، أيتها الحمقاء العجوز، - قال لها وأظهر لها كفه من جيبه بشكل سمج احتقاراً وبعد تفكير للحظة أومأ لها بقبضته.
وفجأة فهمت فيرا، طالما أنها أدارات العالم، جاءت اليها الشيخوخة وليس أمامها الأن سوى الموت.
لم تعد فيرا ترى مانياشا منذ زمان طويل. وصارت العلاقة بينهما في المدة الأخيرة اكثر بروداً، والباب في الجدار الذي يؤدي الى النصف الذي تعمل فيه مانياشا لم يفتح منذ زمان طويل. وأخذت فيرا تتذكر بأي ظروف عادة ما كانت مانياشا تظهر، وتَبَين، أن الشيء الوحيد الذ يمكن ان يقال بهذا الصدد هو انها كانت أحياناً تظهر وكفى.
باتت فيرا تتذكر تاريخ علاقتهما، وكلما تذكرت أكثر، كلما أصبحت قناعتها أرسخ بأن الذنب في كل شيء يقع على عاتق مانياشا، رغم انها لا يمكن ان تحدد ما هذا الـ «كل». لكنها قررت ان تثأر واعدت العدة للقاء مانياشا - هكذا سمّت ما أعدته «عدة»، وحتى مع نفسها لم تسمِ الأشياء بأسمائها الحقيقية، وكأن مانياشا تستطيع من خلف الجدار ان تقرأ أفكارها وتخاف ولا تأتي.
يبدو أن مانياشا لم تقرأ شيئاً من خلف الجدار، لأنها جاءت ذات مرة مساء. وبدت متعبة ومتجهمة، بحيث ان فيرا فسرت مع نفسها بصورة تلقائية، ان لدى مانياشا عمل كثير. ونسيت فيرا خططها السابقة وحدثتها بحيرة وفزع عن هلوساتها. فانتعشت مانياشا.
- هذا مفهوم تماماً - قالت مانياشا.- فالقضية تكمن في كونك تعرفين سر الحياة، لهذا انت قادرة على رؤية الوظيفة الميتافيزيقية للأشياء. ولأنك لا تعرفين مغزاها فإنك غير قادرة على تمييز حقيقتها الميتافيزيقية. لهذا تتصورين ان ما ترينه - هو هلوسات. هل حاولت تفسير هذا بنفسك؟
- كلا، - قالت فيرا بعد أن فكرت.- يصعب عليّ جداً أن أفهم. ربما شيء ما يحوّل الأشياء الى براز. بعض الأشياء تتحول، وبعض لا يتحول- كلا....آه... فهمت، على ما يبدو.انها، بحقيقتها ليست غائطاً، بل أشياء. وعندما تأتي الى هنا، تتحول الى غائط... أو حتى ليس هكذا - وانما الغائط الذي نعيش فيه يصبح ملحوظاً عندما يقع عليها.
- نعم ، هذا أقرب،- قالت مانياشا.
- يا الهي...,أنا أظن: أنها لوحات وموسيقى... يا لي من حمقاء. أن ما حولي في حقيقة الأمر دورة مياه، وأي موسيقى يمكن أن تكون هنا... ومن المذنب؟ حسنا، ما يخص الغائط مفهوم – الصمام فتحه الشيوعيون.
- باي معنى؟- سألت مانياشا.
- بهذا المعنى وبذاك... كلا، اذا هناك مذنب في هذا، فهو انت يا مانياشا، أنهت فيرا فجأة كلامها ونظرت بسوء الى صديقتها السابقة، بسوء كبير، بحيث خطت تلك خطوة صغيرة الى الوراء.
- لماذا أنا بالذات؟ أنا، على العكس، كم مرّة قلت لك، ان كل هذه الأسرار لا تجلب لك نفعاً، اذا لم تدركي مغزاها. ماذا بك يا فيرا؟ اتجهت فيرا نحو مانياشا، وعيناها تنظران الى الأسفل وجانباً؛ أخذت تلك تتراجع عنها نحو الخلف الى أن وصلتا الى باب صغير ضيق حرج يؤدي الى النصف الذي تعمل فيه مانياشا. توقفت مانياشا ورفعت عينها نحو فيرا.
- فيرا، ماذا تنوين؟
- أريد ان أضربك بالساطور،- أجابت فيرا بجنون وأخرجت من تحت الرداء عدتها الرهيبة كماشة خلع المسامير على رأس فأس. ومباشرة على ضفيرتها، كما عند فيدور ميخائيلوفيتش (دوستويفسكي في «الجريمة والعقاب» -م).
- أنت، بطبيعة الحال، قادرة على فعل ذلك،- قالت مانياشا وهي متوترة ،- لكني أحذرك: عندها لن ترى إحدانا الأخرى أبداً.
- نعم، أستطيع أن أتصور هذا، لست حمقاء،- همست فيرا بإيحاء وهي تهدد وهوت بقوة بالساطور على رأس مانياشا الأشيب.
دوى رنين وقعقعة، وفقدت فيرا الوعي.
وعندما أفافت من جرّاء الهدير خلف الجدار، اكتشفت أنها مضطجعة في قمرة القياس وفي يدها ساطور، وفوقها انشق ثقب، في مرأة طويلة تقريباً بطول قامة إنسان، محيط الثقب بقدر حبة الثلج الكبيرة.
«يسينين» (الشاعر- م) ،- فكرت فيرا.
تراءى لها أن أكثر ما هو مرعب أن أي باب لم يكن في الجدار، كما تبين، ولم تفهم ماذا تفعل مع كل تلك الذكريات، التي ظهر فيها ذلك الباب. لكن حتى هذا لم تكن له أي أهمية - فجأة لم تعرف فيرا نفسها ذاتها. قيّل لها أن جزءً من روحها اختفى- الجزء الذي لم يسبق لها ان شعرت به، والآن فقط أحست به، كما يحدث مع الناس، الذين يعذبهم الألم في الأطراف المبتورة. كأن كل شيء بقي في مكانه - لكن أختفى شيء رئيسي، يعطي معنى للأشياء الأخرى؛ خُيِّلَ لفيرا أنها استُبدِلت بصورة مستوية على ورقة، وارتفع في روحها المستوية كره للعالم المستوي من حولها.
- حسناً، انتظرا، - همست هي، من دون ان توجه كلامها الى أحد، سأريكم. وانعكس كرهها على ما يحيط بها- شيء ما يرتج خف الجدران، وزائرو المتجر او دورة المياه، او مجرد فجوة تحت الأرض، حيث جرت حياتها كلها (لم تعد فير الآن واثقة بأي شيء)، أحياناً ينقطعون عن ملاحظة الغائط الذي يلطخ منصات العرض وينظرون بفزع جانباً.
ضغطت قوة جبارة على الحائط من الخارج، وزمّر شيء ما وأهتز خلف السطحية المتقوسة الدقيقة - وكأن يداً هائلة كبست كأساً كارتونية، جلست في قعرها فيرا صغيرة جداً، محاطة بالمنصات وبقمرات القياس، كبستها ليس بقوة بعد، لكن بأمكانها في أي لحظة أن تفلطح واقع فيرا كله تماماً.
وحلت تلك اللحظة في احدى المرات في الساعة 40و19 تماماً (بالضبط عندما اعتقدت فيرا أن ثلاث قطع متشابهة من الغائط على رف شعبة الأدوات الكهربائية المنزلة تعرض بأرقام خضراء سنة ميلادها).
وقفت فيرا وبيدها الدلو مقابل قائمة للملابس، حيث علقت عليها بالتناوب فروات ومعاطف جلدية وبلوزات وردية اللون بغيضة، وكانت تنظر وهي شاردة البال الى المتبضعين الذين يتحسسون الياقات والأكمام القريبة والتي في الوقت نفسه يتعذر الوصول إليها، عندما وِخِزت بقوة في قلبها. وهنا صار التزمير خلف الجدار عالياً بشكل لا يُحتمل؛ اهتز الجدار، وانحنى وانشق، ومن الشق (تدفق تيار أسود بني اللون كريه بعد أن اسقط قائمة الملابس مباشرة على الناس الذين كانوا يصرخون من الرعب.
- آآ، آخ- تمكنت فيرا ان تخرج زفيراً، وفي اللحظة التالية رُفِعت من الأرض، وطُوحَ بها وضُربت بقوة بالحائط؛ وآخر ما حَفظ لها وعيها، هو كلمة «كارما» (في الهندوسية محصلة أفعال المرء كعامل مقرر لقدره في طور تناسخي تالٍ - م) مكتوبة بحروف سوداء كبيرة على خلفية بيضاء كالتي تُطبع بها تسمية صحيفة «برافدا» استعادت وعيها بسبب ضربة أخرى، هذه المرة ضعيفة، بأغصان طرية. الأغصان كانت فروع بلوطة عالية قديمة، ولم تفهم فيرا في اللحظة الأولى، بأي صورة يمكن لها أن تُضرَب فجأة بأغصان، وهي التي كانت للتو واقفة على أرضية تعرفها حتى آخر بلاطة قرميد.
تراءى لها انها تسبح على طول شارع تفيرسكي المشجر في تيار اسود - بني كريه الرائحة، يطبش في نوافذ الطابق الثاني او الثالث. القت نظرة فرأت فوق سطح الوحل شيئاً كأنه تل مكون من التيار الضارب من الأسفل في المكان نفسه الذي كان سابقاً سردابها.
حمل التيار فيرا الى الأمام باتجاه شارع تفيرسكي. ارتفع مستوى الحياة بسرعة لا تصدق- فالبنايات المتكونة من طابقين او ثلاثة على جانبي الشارع لم تعد ترى، أما المسرح الضخم القبيح صار يشبه جزيرة من الغرانيت - على ساحلها الشديد الانحدار وقفت ثلاث نساء يرتدين بدلات من الشاش الأبيض وضابط من الحرس الأبيض يتطلع في الأفق البعيد من تحت كفه المسند الى جبينه؛ فهمت فيرا ان هناك قدّمت للتو مسرحية «الأخوات الثلاث».
حملها التيار بعيداً. وكان تطفو الى جانبها عربة أطفال فيها رضيع يتطلع باندهاش الى الجانبين، وعليه قبعة صغيرة زرقاء فيها نجمة حمراء بلاستيكية كبيرة، ثم بدت بقربها زاوية عمارة في أعلاها برج دائري ذي أعمدة، عليه جنديان سمينان بسدارتين ذواتي أشرطة زرقاء يستعدان سريعاً لإطلاق النار من رشاش، وأخيراً، حملها التيار الى شارع تفيرسكايا الغارق تقريباً، وانسحبت باتجاه قمم معتمة بعيدة ذوات نجوم خماسية حمراء بالكاد ترى.
التيار الأن يتدفق أسرع بكثير مما كان قبل عدة دقائق؛ وكانت تُرى من الخلف واليمين فوق السطوح البارزة من الحمم البنية السوداء فوّارة مدوية هائلة بحجم نصف السماء، والتحق بضجيجها صليل رشاش بالكاد يمكن تمييزه.
- سعيد، من زار هذا العالم، - همست فيرا،- في لحظاته المهلكة...
لقد شاهدت نموذج كرة أرضية يطفو الى جانبها وحزرت ان هذا النموذج للكرة الأرضية هو من جدار التلغراف المركزي فجذَّفت باتجاههما وتشبثت بإسكندينافيا. ويبدو ان مع نموذج الكرة الأرضية اقتلع من جدار التليغراف المحرك الكهربائي أيضاً الذي يديرها. والآن اضفى على التصميم استقراراً - تسلقت فيرا بصعوبة في المحاولة الثانية على العتبة الزرقاء، واستوت على دولة الكادحين المميزة باللون الأحمر وأخذت تنظر. ترنح بعيداً في مكان ما برج اوستانكينا للتلفزيون، ولا زالت تُرى السطوح الشبيهة بالجزر، وكانت تسبح على مهل الى الأمام النجمة الخماسية الحمراء وكأنها محمولة على الماء، وعندما اقتربت فيرا منها غاصت حافاتها السفلى. تمسكت فيرا بالضلع الزجاجي البارد وأوقفت نموذجها (للكرة الأرضية). والى جانب هذا النموذج تأرجحت على سطح الوحل سدارتان اثنان لجنود ورباط عنق أزرق مشبع بالماء جداً في آنية بيضاء صغيرة - وبما أن هذه الأشياء لم تتحرك تقريباً، يمكن الاستنتاج أن التيار هنا كان ضعيفاً.
القت فيرا مرة ثانية نظرة من حولها واندهشت من البساطة التي اختفت فيها مدينة كبيرة عاشت قرون طوال، وسرعان ما اعتقدت ان جميع التغييرات في التاريخ، اذا ما حدثت، ستجري بهذا الشكل بالذات - بسهولة وكأنها تحدث بنفسها. لم ترغب بالتفكير مطلقاً - بل رغبت بالنوم، واضطجعت على السطحية البارزة للاتحاد السوفيتي، واضعة تحت رأسها قبضة يدها المُقرَّنة من الماسحة.
وعندما استيقظت، كان العالم يتكون من جزأين - سماء ما قبل المساء وسطح مستوي لا نهاية له، في غسق صار اسوداً تماماً. ولم يُرَ شيء آخر على الإطلاق؛ والنجمات الخماسية الحمراء غارت منذ زمن بعيد في القعر وأصبحت، الله يعلم، في أي عمق. فكرت فيرا بالأطلسي ومن ثم بالقمر وبعلاماته الست والتسعين - لكن هذه الأفكار القديمة المريحة كلها، التي كانت روحها تتقلب في داخلها بكل سرور كالعجينة، أصبحت في غير محلها، وغفت فيرا من جديد. ومن خلال الغفوة لا حظت فجأة أن كل ما حولها ساكن، - لاحظت ذلك، لأنه تناهت الى سمعها طبطبة الماء؛ جاءتها من تلك الجهة التي ارتفعت فيها فوق الأفق رابية الغروب: حمراء كبيرة.
اقترب منها قارب منفوخ بالهواء فيه مجذاف يقف فيه شخص طويل عريض المنكبين عليه سدارة نهضت فيرا مستندة على يديها وفكرت وهي تتطلع بالقادم اليها، بأنها وهي على نموذجها (للكرة الأرضية) تشبه، في الحقيقة، استعارة مجازية، وحتى فهمت نوع المجاز - خاص بها نفسها التي تسبح على كرة ذات تاريخ مريب في محيط الكون اللامتناهي.
اقترب القارب وعرفت فيرا أن الواقف فيه-هو المارشال بوت مير سوب.
- فيرا،- قال بلكنة شرقية قوية،- هل تعرفين من أنا؟
كان في صوته شيء غير طبيعي.
- أعرف ،- أجابت فيرا، - قرأت شيئاً عنك. لقد فهمت كل شيء منذ زمن طويل، لكن هناك مكتوب عن النفق.
- نفق؟ ربما .
شعرت فيرا ان جزء سطح نموذج (للكرة الأرضية) الذي جلست عليه، ينفتح من الداخل وتسقط في الفتحة المتكونة. جرى هذا بشكل سريع، لكنها على كل حال، تمكنت من ان تمسك بيديها حافة هذه الفتحة وأخذت تهز رجليها بعنف، محاولة ان تجد مسنداً، لكن لم يكن هناك شيء تحت قدميها ولا في الجوانب، سوى الفراغ المعتم الذي هبَّ في الهواء. بقيت فوق رأسها قطعة السماء المسائي الحزين على هيأة الصورة الظلية المألوفة، التي طوال الحياة تذكرها بجسد ثور معلق على جدار قسم اللحوم، تراءت لها فجأة أروع من كل ما يمكن لها أن تتصورّ، لأن سواها، لم يبق شيء على الإطلاق.
بلغت مسمعها الطبطبة من عالم اللحظة الخاطفة الرائع، الذي ولى الى الأبد، وضرب المجذاف الثقيل فيرا، في البداية بأصابع يدها اليمنى ومن ثم بأصابع اليد اليسرى؛ اخذ شبح الوطن المنير يدور واختفى بعيداً نحو الأسفل.
شعرت فيرا أنها تحلق في فضاء غريب - وهذا لا يمكن ان يسمى سقوطاً، لأنها لم يكن حولها هواء، وأهم ما في الأمر، لم تكن هي نفسها موجودة - حاولت ان ترى ولو جزءً من جسدها، فلم تستطع، رغم أن في المكان الذي جال بصرها فيه، كان يفترض ان تجد يديها ورجليها. بقيت هذه النظرة وحدها - لكنها لم تبصر شيئاً، وان النظرة، كما فهمت فيرا بفزع، موجهه الى جميع الاتجاهات في وقت واحد، بحيث لم تكن هناك حاجة لأن تلتفت. ثم لاحظت فيرا انها تسمع أصواتاً، - لكن ليس بأذنيها، بل إنها مجرد تدرك حديثاً يخصها هي بالذات.
- هنا واحدة من ذوات الانانة في المرحلة الثالثة، - قال صوت كأنه هادر ومنخفض. - ماذا تستحق على هذا.
- الانانة؟ - تساءل صوت آخر، وكأنه رفيع وعالٍ. - على الانانة لا تستحق شيئاً حسناً. تستحق السجن المؤبد في نثر الواقعية الاشتراكية. بصفة شخصية (في رواية).
- ليس لها مكان هنا. – قال الصوت المنخفض.
- وفي القوزاق لشولوخوف؟ - سأل الصوت العالي ناشداً الموافقة.
- المكان محجوز.
-أ و ربما في هذه، المسماة، النشر الحربي؟ قال الصوت العالي بحماس،- كأن تكون ملازماً في المفوضية الشعبية للشؤون الداخلية في فقرتين؟ لكي تخرج فقط من هذه الزاوية، وهي تمسح العرق عن جبينها، وتتطلع بثبات في المحيطيين بها؟ ولا شيء لديها سوى القبعة والعرق والنظرة الثابتة. وهكذا أبدية كاملة. ماذا تقولون؟
- قلت أن المكان كله مشغول.
- فما العمل؟
- لتقل لنا هي بنفسها، - هدر الصوت المنخفض في داخل كينونة فيرا.- إيه، يا فيرا! ما العمل؟
- ما العمل؟ - أعادت السؤال فيرا.- ماذا تعني بما العمل؟
كأن ريحاً هبت من حولها- لم تكن ريحاً، لكنها تشبهها، لأن فيرا أحسست انها تُحْمَل الى مكان ما، كالورقة التي تلعب بها الريح.
- ما العمل؟ - كررت فيرا بقوة الاستمرار، وفجأة فهمت كل شيء.
- حسناً! هدر بلطف الصوت المنخفض.
- ما العمل؟ ! حرفت فيرا بفزع.- ما العمل؟ ! ما العمل؟!
وكل صرخة من صرخاتها عجلت من سرعة هذا الشبيه بالريح؛ العجلة التي حملتها في الفراغ، صارت اسرع وأسرع، وبعد الصرخة الثالثة شعرت أنها سقطت في مجال امتداد موقع هائل، لم يكن موجوداً قبل هذه الصرخة، وبعد الصرخة صار حقيقة، لدرجة ان فيرا سقطت الآن عليه وكأنها من النافذة الى قارعة الطريق.
- ما العمل؟! صرخت للمرة الأخيرة، وبقوة رهيبة اصطدمت بشيء ما، ومن هذه الضربة
نامت - ومن خلال المنام تناهى الى سمعها صوت متمتم أحادي النغمة كأنه آلي:
- ... وظيفة مساعد المدير، أقنعت نفسي بشروط: أني استطيع المباشرة بالوظيفة، عندما أريد، ولو بعد شهر، ولو بعد شهرين. والآن أريد ان انتهز هذا الوقت: خمس سنين لم أرَ والديَّ العجوزين في ريزان - سأذهب اليهم. مع السلامة. فيراتشكاَ. لا تنهضي. غداً تستطيعين. نامي.
IIVXX
عندما خرجت فيرا بافلوننا في اليوم التالي من حجرتها، كان زوجها وميشا قد حشيا حقيبتين بالأشياء.
(هذا المقطع من رواية تشرنيشيفسكي»ما العمل؟» التي لمّح اليها الكاتب – المترجم)