التربية بالحبفلماذا التربية بالحب؟
مضى زمن كان التعليم فيهِ بالشدّة والضربِ، وتحطيم شخصيّة الطفل، وإلغاء إرادته، وكبت مواهبه وإبداعِه، وعدم الإصغاء له بكلمة.. وأصبح الناس يذكرون ذلك منتقدين متندّرين، ولكنّ مسالك أكثر المعلّمين والآباء لم تختلف عن ذلك إلا قليلاً، ولم يأخذوا البديل المناسب في طرائق التربية والتعليم وأساليبها.. ولا يقتصر اللوم على المعلّمين والآباء فهم جزء من منظُومة المجتمع الثقافيّة والتربويّة، الذي تقوم علاقاته كلّها على هذا الأسلوب، وتدور في فلكه.
ومعَ غيبة التصور الصحيح للتربية الإسلامية المنهجيّة المؤصّلة أخذَ الناس يتّبعون كلّ صيحة في التربية تَأتي من هنا أو هناك، ويلتقطُون جزئيّات متناثرة، ربّما كانت صحيحة بحجمها وحدّ ذاتها، ولكنّها ليست صحيحة إذا اتخذت عامةً شاملة، أو كانت منهجًا مستقلاًّ بنفسه.. فسمعنا عن التربية بالترفيه.. والتربية الاستقلالية التي يترك فيها للناشئ الحبل على الغارب.. وتوقّع ما شئت في المستقبل القريب وما بعده.. ونبقى أحوج ما نكون إلى نوع من التربية التي تلاحظ كينونة الإنسان الفطريّة، وطبيعته النفسيّة، وعلاقاته الإنسانيّة.. وليس شيء كذلك إلا التربية بالحب! ودون إغفال لمطالب الجوانب الأخرى من كينونته.
يحظى الحب برصيد ضخم من الحضور والتأثير في كينونة الإنسان وسلوكه، فلا نبعد في القول إذا قلنا: إنّ الإنسان مخلوق عاطفيّ بالدرجة الأولى، تغلب عليه العاطفة، وتتحكّم بسلوكه، ويقاد منها أكثر من أن يقاد بعقله، أو مطالب جسده.
وهناك جملة من الحقائق والمعاني تؤكّد ذلك، ينبغي أن تكون حاضرة في تصوّر المربِّي، وتعامله مع الطفل والناشئ.. ونجمل هذه الحقائق في النقاط التالية:
الحب هو الأداة السحرية في التأثير والتغيير:
يُعتَبرُ الحبُّ أرقى أساليب التواصل الإنسَاني، الذي يحظى بالقبول العام من جميع الناس، على اختلاف أجناسهم وثقافاتهم وقيمهم.. فلا يختلفُ على تقديره والاعتراف به اثنان، فهو من رصيد الفطرةِ، الذي يأبى التحريف والتشويه؛ ففي داخل كل إنسان سويّ وهاجسه طلبُ الحبّ والتطلّع إليه، فلا عجبَ إذا قُلنا: إنّه الأداة السحريّة في التأثير والتغيير!
الحب راحة للقلب من شتّى المتاعب:
إنّ عاطفة الحبّ بصورة عامّة هي حالة منَ الانسجام النفسيّ، والاطمئنان الداخليّ، الذي يضفيه الإنسان على ما حوله، فيعينه على أداء عمله أيًّا كان نوعه بحيويّة وإيجابيّة.. ومَن كان الحبّ هاديه وحاديَه في عمله، فلن يشعر بشيء من التعب مهما بذل من جهد، وواجه من عقبات.
الحب يجعل العمل متعة نفسية وعقلية لا محنة وبلاء:
ويرقى الحب بالإنسان درجة أخرى، فيستلذُّ التعب، ويستعذبُ البذل والنصب، فيصبر الإنسان ويجالد، ويستعذب الصبر، ولا يحسّ بمعاناته، وهنا بؤرة الإبداع والتألّق ومنطلقه.. ويكونُ لسانُ حال العامل المستمتع بعمله، كحال ذلك المُحبّ العاشق إذ يقولُ:
عذابُه فيـك عـذبُ *** وبعـدُه منك قُربُ
وأنت عندي كرُوحي *** بل أنتَ منها أحبُّ
يَكفي مـن الحُبِّ أنّي *** لمـا تُحِـبُّ أحِبُّ
وشتّان بين مَن يرى عمله محنة، لا يعرفُ كيفَ يتخلّص منها، ومن يراه متعة نفسه، ولذّة روحه!! فكيف يكون عطاؤه وإبداعه، ونجاحه وتأثيره؟
الحب ثروة لك لا تنضب ورصيد لا ينقُص:
عندما تبذر الحب أيّها المربِّي تفتح لنفسك رصيدًا لا يُسرق، ولا ينتُقصُ، بل يزيد مع الأيّام وينمو، من حيث لا ِتحتسب ولا تدري.. فالقلوب التي أحبّتك، وكان لك معها مواقف ومواقف.. لن تنساك، ولن تنسى معروفك معها وإحسانك، وإخلاصك وتضحيتك، ومواقفك التربويّة المؤثّرة.
الحب يختصر الطريق ويطوي لك المراحل:
ومن منّا من لا يريد إنجاز عمله في أقرب وقت، وأقلّ جهد؟! ولكنّ الطبيعة المتعجّلة للإنسان تحسب أنّ الحبّ وما يتطلّبه من الرفق والحلم عائق عن سرعة الإنجاز، وتحقيق الأهداف.. وتلك من خدع النفوس وتلبيساتها.
الحبُّ ضمانة قطعيّة للنجاح بإذن الله.. والناجحون هم الذين يمنحون الحبّ دائمًا، وما لم يتحقّق نجاحه بالحبّ، فهو مستعصٍ على النجاح في أغلب الأحوال.. ولا يعني الحبّ الخروج عن الحكمة في معالجة المواقف، وإعطاء كلِّ مقام ما يقتضيه.
الحب سبيل اكتشاف المبدعين ورقيّهم وإبداعهم؛ فالحبّ يجعل الطفل أو الناشئ يقبل بكلّيّته على العلم، ويستجيب غاية الاستجابة لمعلّمه، ويبذل قصارى جهده في التعلّم؛ حبًّا بالعلم، وإرضاءً لمعلّمه، فتتفتّح مواهبه، ويظهر إبداعه، وما كان ذلك ليكون لولا حبّه لمعلّمه.
الحبّ يغيّر تفكير المتعلّم وأسلوبه ومواقفه.. فكثيرًا ما يتّخذ بعض المتعلّمين موقفًا من التعلّم عامّة، أو من تعلّم بعض العلوم، لسبب من الأسباب، وربّما كان أهمّها موقف بعض المعلّمين منه أو سلوكه معه، وعندما يتهيّأ له المعلّم المحبّ، يغيّر له تفكير وأسلوبه وموقفه؛ فيقبل على العلم بعد إدبار، ويحبّ المادّة التي كان يبغضها أشدّ البغض، ويكيّف حياته وسلوكه وفق ما يرضي معلّمه المحبوب، ويقرّبه إليه.. وقد رأيت على ذلك من النماذجِ والأمثلة الكثيرَ.
الحبّ دليل العقل وسعة الأفق.. عندما يسلك المعلّم سبيل الحبّ في علاقته بأحبّائه الأطفال والناشئين، فهذا يعني أنّه يعي أهمية الحبّ وثمراته وآثاره، وهذا دليل نضج عقله، وسعة أفقه؛ لأنّه لا يقف في التعامل معهم عند اللحظة الراهنة.
مغانمُ الحبّ تستحقّ كل نصب.. وعندما يطلق المعلّم لخياله العنان في رؤية ما وراء الحبّ من مغانم وآثار إيجابيّة كثيرة، فإنّه لا يستكثرُ ما يتحمّل في سبيله من عناء ونصب.
الحبّ قفزة من الكمّ إلى الكيف، ومن الصورة إلى الحقيقة.. فالأطفال الذين لا يتجاوبون مع معلّميهم، ويتّقون غضبهم وعقوبتهم بالأداء الظاهريّ للأعمال المطلوبة منهم، فتكون أعمالاً شكليّة غير مثمرة، ويتدنّى مستوى تحصيلهم العلميّ تبعًا لذلك.. هؤلاء الأطفال إذا أحبّهم معلّموهم، وأحبّوا معلّميهم يكون لهم مع التعليم شأن آخر، ولن يقف تعليمهم عند الصورة الظاهرة، والأداء الشكليّ دون تفاعل واستجابة حقيقيّة، وإنّما سيكون أداء نوعيًّا متميّزًا، وإتقانًا مبدعًا.
بالحب نحل المشكلات ونستغني عن تدخل الآخرين:
وإنّي -والله- لأشفق من قلبي على أولئك المعلّمين الذين لا يزالون يستنجدون بإدارة المدرسة، أو بأولياء الأمور لحلّ مشكلاتهم مع طلابهم! وكثير من هذه المشكلات تكون تافهة صغيرة، يعرضها المعلّم وكأنها كبيرة من الكبائر المستعصية على الحلّ.. والأنكى من ذلك أن يكون هذا الموقف من المرشد الطلاّبيّ نفسه.. فلا عتب على المعلّم بعد ذلك ولا جناح.. وخير لهؤلاء أن يستنجدوا بالحب، ليروا من النتائج العجب.
الحبّ هو السبيل إلى تكوين الشخصيـة السوية:
الأطفال الذين يفتقدون حظّهم من الحبّ يفتقدون حظًّا كبيرًا من السواء النفسيّ، ويسهم المعلّمون والآباء الذين يفتقدون للحبّ في توريثهم عقدًا وأزمات نفسيّة هم بغنًى عنها.. فأيّ تعليم هذا الذي يبني من جهة، ويخرّب من جهة أخرى؟!
وأخيرًا فالحب من أهم قواعد التربية المتوازنة:
فالتقصير فيه، أو الخروج عنه خلل في التربية كبير يقود إلى الإخفاق، وعدم تحقيق الأهداف.. وتراكم ذلك في عملك يمنحك لقب (معلّم فاشل)! فهل ترضى لنفسك ذلك؟!
هذه المعاني ليست أحلامًا وخيالات، ولا فلسفة تعيش مع الورق، أو تحلّق في السماء.. وإنّما هي ثمرات طيّبة لسلوك عمليّ واقعيّ، لاحظته في علاقة ابنتي الصغيرة، عندما دخلت الروضة، وكانت شديدة التعلّق بأبويها، وقد ظننت أوّل الأمر أنّها لن تألف الروضة مهما عملَت معها من أساليب تربويّة جذّابة للأطفال، إلا بعد عدّة أسابيع.. ووطّنتُ النفس على أن أستقبل منها كلّ يوم أفانين من القول والفعل للتهرُّب من المدرسة.
ولكنّني فوجئت بها حقًّا وهي تحبُّ الروضة وتتعلّق بها منذ الأيّام الأولى.. وبحثت عن السبب.. فكان تلك المُعلّمة الفاضلة المتميّزة.. التي لم تكن تحمل شهادة علميّة عليا، ولم تكن ذات ثقافة واسعة، ولكنّها كانت تحبُّ الأطفال من قلبها، وذات روح عالية في التعامل الإنساني الراقي معهم.. عرفت ذلك عنها كلّه من مرآة ابنتي الصافية، التي كانت تتحدّث عنها كلّ يوم على سجيّتها، وبتلقائيّة فطريّة؛ تنقل كلماتها.. تذكر مواقفها.. تروي لنا معالجاتها للمشكلات.. تتحدّث عن حبّها للأطفال، وحبّ الأطفال لها، حتّى إنّهم ببراءتهم الطفوليّة حوّلوا أنشودة للأطفال، ليضمّنوا فيها اسمها، وتكون أنشودة يتغنّون بها عندما تدخل عليهم.. ولا أذيع سرًّا إذا قلت: إنّني أدعو لها بكلّ خير كلمّا ذكرت مواقفها مع ابنتي.. وأنا لا أعرف عنها سوى اسمها الأول.
فماذا فعلت هذه المُعلِّمة؟
إنّها لم تفعل أشياء صعبة أو مستحيلة.. كلّ ما فعلته أنّها قالت لهم بصدق: إنّي أحبّكم.. وترجمت قولها ببعض الأفعال والمواقف المحبّبة.. كانت تفتتح يومها معهم بهذه الكلمة: إنّي أحبّكم! فهل أنتم تحبّونني؟ فيجيبونها بصوت واحد: نعم، نحن نحبّك. وتمسح على رءوس الأطفال، وتقبّلهم.. وتكرّر هذه الكلمة على أسماعهم في اليوم عدّة مرّات، وتتّكئ عليها فيما تريد منهم، فما يكون منهم إلا الاستجابة السريعة لما تطلب.. وعندما ترى طفلة أو طفلاً حزينًا، أو يبكي تحتضنه، وتقبّله، وتمسح دموعه، ثمّ تسأله عن سبب بكائه.. وربّما أعطته شيئًا من الحلوى.. وأوّل الأسبوع تحتفي بأطفالها احتفاء مميّزًا، وتستقبلهم بالحلوى، والهدايا، والقبلات لكلّ طفل وطفلة، وتعبّر لهم عن شوقها الشديد لرؤيتهم.. فلا تسل عن أثر ذلك في قلوبهم.. فهنيئًا لهذه المُعلّمة مثل هذه الروح العالية! وهل تعجز أخواتنا المعلّمات أن يكنّ مثلها؟!
ومع هذه الحقائق والمعاني كلّها، فإنّنا كثيرًا ما نقصّر وننسى.. ونخرجُ عن مقتضى الحبّ ومطالبه، ونندفع وراء حظوظ النفس ورعوناتها، فنحتاج دائمًا إلى استحضار هذه المعاني في علاقاتنا مع الأطفال، وتربية النفس وتدريبها عليها، وضبطها بها، وألا نسمح لأنفسنا بتجاوزها؛ لأنّنا نريد أن يكون الحبّ طبعًا لنا وخُلُقًا.. ويتبادر إلينا سؤال المهم:
يتبع_>