نكران الذات – عبد المحسن عباس الوائلي
هو التضحية الكبرى ولا يتحلى بها الا من كان رمزا يمتلك كل مقومات الشجاعة والشرف فيصمت لانه يعرف قوة الصمت وفوائده وهناك اسطورة للاغريق تحكي عن مدينة عاش اهلها حياة الفوضى المترفة.. غارقين في ملذاتهم.. سابحين في اهوائهم.. حتى داهمهم وحش كاسر.. احال حياتهم جحيما.. وامنهم رعبا.. تسطع شمسهم على اشلاء قتلى.. وتغرب على نحيب ثكالى.. حتى اضحت مدينتهم كاطلال سجن واسع.. لايستطيعون مغادرته..
اجمع اهل الرأي والشورى على خطة يعيدون بها تنظيم مدينتهم وحياتهم على واقع حتمي.. فقسموا انفسهم الى فئات.. منهم من يقوم بالحراسة على حدود مدينتهم ومنهم من يسهر على امنها.. وفئة جندت لزراعة الارض واحتياجاتها.. واخرى للتجارة والتسويق.. وجماعة للعلم والتعليم..
وبالتطبيق الفعلي لهذا التخطيط المنظم.. ازدهرت المدينة اقتصادا.. واستتبت امنا.. وارتقت علما.. وعلت شأنا.. حتى ظهر في المدينة رجل اعلن انه لن يهدأ له بال.. ولن يستقر له حال.. حتى يخلص مدينته وقومه من هذا الشر الذي يهدد المدينة وذاك الخطر المترصد بهم.. ونذر حياته ثمنا وروحه قربانا..
جهز نفسه واعد عدته.. واتخذ لنفسه رفيقا اختاره ليكون ساعده في رحلته تلك..
تجمع كل اهل المدينة والقرى المحيطة لوداعه ومؤازرته بالتمنيات والاماني بالعودة والنصر.. وسارا.. حتى غابا عن الانظار.. ولم يغادر المودعون مكانهم.. منتظرين قدومه.. آملين عودته..
مرت الساعات طويلة.. والايام ثقيلة. حتى تقابل الرجل والوحش.. وكانت مواجهة صعبة..
ولحظات حاسمة.. استطاع الرجل ان ينهي حياة غريمه بطعنات قاتلة.. خر بعدها صريعا.. وانتهى. وانتهت معه حياة الرعب والفزع التي عاشتها المدينة وعايشها القوم..
وفي طريق العودة.. كان رفيقه لايكف عن الثرثرة والتهليل عن كيفية استقبال المدينة واهلها.. وحفلات التكريم.. وكلمات الثناء التي تنتظرهم.. وكان الرجل في هم اخر.. وخوف اشد من لحظات صراعه مع الوحش..
لم يبهر الرجل انتصاره على الوحش ولم يحجب عنه وضوح الرؤية فقد كان يعلم تماما ان اختفاء هذا الوحش من حياة قومه.. هو عودتهم لحياتهم الاولى.. فطلب من صديقه ان يكون على مستوى الانتصار.. والمسؤولية ان يخفى الحقيقة..
ان يلوذ بالصمت.. فالصمت هنا قوة.. لايقدرها الا من هو اقوى! واتفقا على هذا.. وسارا.. وما ان وصلا مشارف المدينة حتى كانت جموع المحتشدين.. المنتظرين..
المتلهفين لعودتهم ومعرفة ما جرى.. وانهالت اسئلة الاستفسار.. ولم يتكلم الرجل.. فقالوا الهزيمة! واثر الصمت.. ففسروه بالفشل! وتراشقت كلمات السخط والاستهجان حرابا من كل جانب ومكان..
وكان صديقه ينظر اليه… فيرى دموعه وقد تحجرت في عينيه!.. فهو يعرف الحقيقة..
وقادر على تحمل الموقف.. وقادر ايضا على انكار ذاته.. فيصمت ويبقى صامتا لحماية شعبه.
ترى هل نحظى برجل ينكر ذاته لينقذ هذا الشعب المغلوب على امره منذ عقود طويلة.