المال الحرام وتاثيره
طلب الحرام وعدم الاجتناب عنه. ولا ريب في كونه مترتباً على حب الدنيا والحرص عليها، وهو أعظم المهلكات، وبه هلك اكثر من هلك، وجل الناس حرموا عن السعادة لأجله، ومنعوا عن توفيق الوصول إلى الله بسببه. ومن تأمل يعلم أن أكلالحرام أعظم الحجب للعبد من نيل درجة الأبرار، وأقوى الموانع له عن الوصول إلى عالم الأنوار، وهو موجب لظلمة القلب وكدرته، وهو الباعث لخبثه وغفلته، هو العلة العظمى لخسران النفس وهلاكها، وهو السبب الأقوى لضلالتها، وخباثتها، هو الذي أنساها عهود الحمى، وهو الذي أهواها في مهاوى الضلالة والردى وما للقلب المتكون من الحرام والاستعداد لفيوضات عالم القدس! وأنى للنطفة الحاصلة منه والوصول إلى مراتب الانس وكيف يدخل النور والضياء في قلب أظلمته أدخنة المحرمات؟ وكيف تحصل الطهارة والصفاء لنفس اخبثتها قذرات المشتبهات؟
ولأمر ما حذر عنه أصحاب الشرع وأمناء الوحي غاية التحذير، وزجروا منه أشد الزجر، قال رسول الله (ص): إن لله ملكا على بيت المقدس، ينادى كل ليلة: من أكل حراماً لم يقبل منه صرف ولا عدل ": أي لا نافلة ولا فريضة. وقال (ص): " من لم يبال من أين اكتسب المال، لم يبال الله من أين أدخله النار ". وقال (ص): " كل لحم نبت من حرام فالنار أولى به ". وقال (ص): " من أصاب مالا من مأثم، فوصل به رحماً أو تصدق به أو أنفقه في سبيل الله، جمع الله ذلك جمعاً، ثم ادخله في النار ". وقال (ص): إن أخوف ما أخاف على أمتي من بعدي هذه المكاسب الحرام، والشهوة الخفية، والربا ". وقال (ص): " من اكتسب مالا من الحرام فان تصدق به لم يقبل منه، وإن تركه وراءه كان زاده إلى النار "[ هذه النبويات ـ عدا الخامس ـ مذكورة في (إحياء العلوم): 2/81، وصححناها عليه. اما الخامس، فقد رواه في (الوسائل) عن (الكافي): كتاب التجارة، أبواب ما يكتسب منه، الباب1، الحديث1.].
وقال الصادق (ع): " إذا اكتسب الرجل مالا من غير حله ثم حج فلبى، نودى: لا لبيك ولا سعديك[10]! وان كان من حله، نودي لبيك وسعديك! ". وقال (ع): " كسب الحرام يبين في الذرية ". وقال (ع) في قوله تعالى:
" وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباءً منثوراً "
" ان كانت اعمالهم أشد بياضاً من القباطى، فيقول الله عز وجل لها: كوني هباء. وذلك أنهم كانوا إذا شرع لهم الحرامأخذوه ".
وقال الكاظم (ع): إن الحرام لا ينمى، وان نمى لم يبارك فيه، وإن انفقه لم يؤجر عليه، وما خلفه كان زاده إلى النار ". وفي بعض الأخبار: " أن العبد ليوقف عند الميزان، وله من الحسنات أمثال الجبال، فيسأل عن رعاية عياله والقيام بهم، وعن ماله من أين اكتسبه وفيم انفقه، حتى تفنى تلك المطالبات كل أعماله، فلا تبقى له حسنة. فتنادى الملائكة: هذا الذي أكل عياله حسناته في الدنيا، وارتهن اليوم باعماله " وورد: " أن اهل الرجل واولاده يتعلقون به يوم القيامة، فيوقفونه بين يدي الله تعالى، ويقولون: يا ربنا خذ لنا، بحقنا منه، فانه ما علمنا ما نجهل، وكان يطعمنا من الحرام ونحن لا نعلم. فيقتص لهم منه "[(إحياء العلوم): 3/30،].
إن الطعام الحرام الذي يدخل إلى الدار ثم يدخل إلى بطونكم بعد اكتسابه من الرشوة، أكل أموال الناس بالباطل، من الربا، ومن... طعام غير مبارك، وطعام ستدخلون بسببه نار جهنم الحامية، وبسببه أيضاً ستكون دوركم ومنازلكم ممراً لعبور الشياطين الرجيمة:
(إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا) (النساء/ 10).
لقد ذكر الباري تعالى اليتيم في هذه الآية المباركة باعتبار أن أكل ماله بالباطل أكبر مصداق على الظلم، أو أكبر مصاداق على الأكل الحرام، لذا يكون معنى الآية، أن من يأكل المال الحرام، سيصلي سعيراً.
لقد علّق الإمام الصادق جعفر بن محمد"ع" على هذه الآية فقال: إن الذي لا يعطي الخمس من أمواله، ولا يزكّى، ويأكل أموال الرشوة، والربا، والغشّ، ومن طرق الحرام لا ينبغي له أن يظنّ بأنه يأكل خيراً، كلا، إنه يأكل ناراً "إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا"، وأن الذي يرى بعين البصيرة ناراً على مائدته حينما يكون قابضاً للزكاة أو الخمس، ويرى أبناءه يأكلون ناراً بدل الطعام الممدود أمامهم هو الذي قيل فيه:
(فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ) (ق/ 23).
ومثل هكذا أفراد لا يتأتى لهم إلا الرجوع إلى جادة الصواب والهداية، على العكس من أولئك الذين يظنون أنهم يأكلون خيراً بالرغم من أنهم لا يأكلون غير النار الممزقة لأمعائهم، ولكن لا يشعرون إلا بعد أن يكشف الله لهم عن أستار الحقيقة ليروا بأمهات أعينهم ماذا كانوا يأكلون؟.
إن الزوجة والأولاد الذين يتناولون طعامهم من تلك المائدة التي جلبها لهم ربّ الأسرة من أموال الحرام، ستتضح لهم الأمور على زمن الآخرة ليصبحوا من ألدّ أعداء ذلك الرجل، وسيقفون أمامه ليقولون له: لماذا أطمعتنا ناراً؟ لماذا لم تخرج الخمس من أموالك؟ إنك بإطعامك الحرام لنا جررتنا إلى عمل المعاصي وبذلك منعتنا من نيل السعادة الأبدية التي كان لنا أن نحظى بها لولا إطعامك لنا من أموال الحرام تلك!.
وتحكي الروايات لنا عن ذلك السيء الحظ الذي كان يعمل في الدنيا ليل نهار من أجل زوجته وأبنائه، وفي الآخرة يجدهم أمامه أعداءً ناقمين! يدعون الله عليه ويرجونه أن يزيد في عذابه باعتباره السبب في دخولهم النار بعدما أطعمهم من مالالحرام فقست قلوبهم، هذا من جهة، ومن جهة أخرى يأتي ليرى ميزان عمله وإذا به لا يجد إلاَّ ما يضرّه، إلا ما يدخله إلى نار جهنم.
قال تعالى في محكم كتابه العزيز:
(وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا ) (الفرقان/23).
إن هذه الآية المباركة تتحدث عن عدّة من الناس عبدوا الله كثيراُ فأقاموا الصلاة، وآتوا الزكاة، وحجّوا بيت الله الحرام، وزاروا قبر الإمام الحسين بن عليّ"ع" في كربلاء لأنهم خلطوا أعمالهم تلك بأكلهم الحرام فحشرهم الله بدون عمل صالح، فسخر البعض منهم وقال: هؤلاء الذين حوّلت أعمالهم إلى الغير ليتبؤوا هم مقاعد في النار جراء ما جنت أيديهم، ولقد كان أزواجهم وأبناؤهم في رفاه ونعمة في الدنيا، واليوم يدخلون جهنم بعد أن أضحى أبناؤهم وأزواجهم ألدّ أعدائهم بسبب ما حملوا لهم من أموال حرام.
فيا أيها المسلم الخيّر! احذر من أكل أموال الناس، واعلم بأن الذي جمع المال الحرام ليعيل أهله لم يفز إلا بجهنم ودعاء الشر ممن حمل إليهم تلك الأموال، فلا تكن جهنمياً باكتساب الأموال من الطرق المحرّمة التي لن تكون إلاَّ وبالاً عليك يوم القيامة.