سُئل حكيم شرقي عن أرقى شكل من أشكال اليوغا، فوقف باتجاه الشرق، ورفع ذراعيه في رهبة إلى السماء، ثم نظر بتواضع نحو الأرض، في حالة تقديس لهذا الوجود المتعالي، ودخل في حالة تأمل، ثم انحنى قليلًا في وضع الركوع، ثم وقف، ثم سجد، ثم جلس هامسًا.
يتناقل المسلمون الأوائل في أمريكا هذه الحكاية عن الشيخ الصوفي باوها محيي الدين، الذي دفن في كوتسفيل بنسيلفانا بأمريكا، وهو أول مسلم يُدفن في الولايات المتحدة، وأوّل ناشر للإسلام هناك، بحسب تقارير.
ولا شكّ أنّ المسلمين المتدينين يشعرون براحة عندما يؤدّون فريضة الصلاة، وتُعزّز صلواتهم السلوكيات الحسنة، من برّ الوالدين للأمانة والثقة، وتجعلهم أكثر إنتاجية، ويعتبرون تلك الراحة والأخلاقيات الحميدة دليلًا على صحة معتقداتهم الدينية، تمامًا مثل نظرة المسيحي واليهودي إلى طقوسهما الدينية.
ولكن ماذا لو نظرنا إلى فريضة الصلاة باعتبارها تمرينًا تأمليًا، وشكلًا من أشكال اليوغا، تلك الحركات والكلمات التي تعكس خشوع واستسلام صاحبها لله، القوة العظمى الخيّرة عند المسلمين؟ كيف تؤثر تلك الصلاة في صاحبها الذي يداوم عليها؟ ماذا يقول علماء النفس والأعصاب عنها؟
هل يشبه تأثيرها تأثير اليوغا والتأمل البوذي وطقوس الأديان الأخرى؟ هل هي مختلفة؟ إلى أي درجة؟ وماذا عن تنظيمات القاعدة والدواعش والمتعصبين؟ كيف تؤثر فيهم تلك الفريضة؟
الصلاة الإسلامية: حالة حضور لا اسم لها
الصلاة فريضة على المسلمين، وهي تتكوّن من سلسلة حركات متتابعة: وقوف وركوع وسجود، تصحبها جمل من القرآن أو أذكار تُنطَق جهرًا أو همسًا، وتشترط على المصلي استحضار وجود الله أمامه.
يقول كبير ادموند هيلمنسكي، خبير في التجربة الصوفية الإسلامية، في كتابه "الحضور الحي: طريقة الصوفية إلى اليقظة وجوهر الذات": إنّ الوقوف والركوع في الصلاة تمرين للمفاصل الرئيسية للعظام، خاصةً العمود الفقري، حيث تُدلّك الأمعاء، وينتقل رد الفعل إلى الكبد، وتَنشط القشرة الأمامية للدماغ عندما تُوضع على الأرض في هيئة السجود.
ويضيف أنّ الصلاة شكل يجمع بين حضور الذهن، والدقة العقلية، والتأكيد، والإخلاص، والشعور بالامتداد، وإذا واظبتَ عليها 5 مرات يوميًا يصبح لها تأثيرات عميقة على الجسد والروح بحسب هيلمنسكي.
وقد عمل هيلمنسكي مترجمًا للعديد من الكتب الصوفية، وروّج لسنوات للأعمال الصوفية، وكتابات جلال الدين الرومي، وهو منتج وكاتب موسيقى صوفية، وممثل للتقاليد المولوية التي أسسها الصوفي المسلم جلال الدين الرومي.
يحلّل هيلمينسكي حالة العبادة بأن الجسم يشعر بارتياح من الوزن بسبب التوزيع المتساوي للقدمين، واستقامة الظهر تعمل على تحسين وضع الوقوف، والعقل تحت سيطرة الفكر، وتشحذ الصلاة الرؤيا عبر تركيز البصر على الأرض، حيث تتحد مراكز الدماغ العليا والدنيا لتشكيل الهدف.
ويتحدث هيلمنسكي في الصلاة عن حالة يُسمّيها "الحضور"، يُعرّفها بأنّها موضوع مشترك عبر التقاليد الدينية العظيمة، وتحمل العديد من الأسماء، الصحوة، التذكر، الانتباه، ذكر، حضور، ويُفضل هيلمنسكي أن يعتبرها حالة بلا اسم على الإطلاق.
هذا "الحضور" يشير إلى حالة وعي سامية، أو يقظة، ويؤثر على كيفية وجودنا لحظة بلحظة، كيف نرى حياتنا والبيئة المحيطة، وهذا النوع من الحضور مدفون تحت مخاوفنا الدنيوية، ورغباتنا، ومشاعرنا، ومشتتات الانتباه، إلى الدرجة التي وصف الحضور بأنه: "جواز سفر إلى الحياة الأعظم" عبر المعرفة، والممارسة، والفهم، لذا علينا غرس تلك الممارسات في أرواحنا وتعلّمها.
ويرى هيلمنسكي أن المسلم العابد تتحوّل حياته، ولكن هذا يتطلب ما يطلق عليه "العمل"، ويعني الممارسات الدؤوبة التي تجلب التحول بمرور الوقت، ويميز بين المعرفة الفكرية وبين فهم الأبدية، يقول: "الإدراك، في معناه الكامل ليس مجرد معرفة شيء ما، بل جعله حقيقة في ذاته".
"العمل" هو نهج الروح، وحياة الإنسان المتدين هي مقاومة لتقليص الواقع إلى مجرد الحياة "الدنيا"، ولكنها عابرة وواسعة وومتدة.
الصلاة واليوغا هل هما واحد؟
تعتبر الصلاة من أقرب الأشكال إلى اليوغا، بحسب ما كتبته الكاتبة ندى مصلحي في موقع "ديلي كريسب"، فالمسلم يُكرّس نفسه لله، إنّه لقاء بين المسلم والخالق، وتمنح الصلوات المسلم الشعور بأنّ الله هو المسؤول عن كل شيء، وتُعزّز السلام الداخلي، وتُشجّع على الهدوء والصفاء عبر تطوير التركيز في الصلوات.
التأمل أو الداينا في اليوغا، توصف بكلمات مثل: "العقل واضح، ومسترخٍ، ومركز على الداخل، عندما تتأمل أنت مستيقظ تمامًا ومنتبه، ولكن ذهنك لا يركز على العالم الخارجي، أو على الأحداث التي تحدث حولك".
ويُقلّل التأمل كذلك من الإجهاد، الأمر الذي يحسّن النوم، والمزاج، ويعزز عملية الأيض، وجهاز المناعة.
وبحسب الصلاة فإن الوقوف مستقيمًا يوجه الوعي الذاتي، والتحكم في صحة الجهاز العضلي والجلد والأمعاء والكبد والمرارة والنظر.
ويقابله في اليوغا وضع "ناماستي" وتعني "انحني احترامًا" ويضع اليوغي يديه على "شاكرا" القلب لزيادة تدفق الحب الإلهي، وينحني الرأس، ويغلق العينين، ويرفع اليدين إلى القلب كطريق للاستسلام إلى الله في القلب.
ويقابل الركوع عند اليوغا" أردا أوتاناسانا" وهو الانحناء بشكل مضاعف للأمام، ويعزز الصلة بين التنفس والحركة مما يهدئ الذهن، ويقوي العمود الفقري.
و"بالاسانا" هو نظير السجود، وأحد أشهر الأوضاع في اليوغا، ويساعد في تحرير من الألم والتوتر في أسفر الظهر والكتفين والصدر، ويقال إنها تُفعّل مناطق في العقل مسؤولة عن الارتباط الروحي مع الكون، والحماس للمساعي الروحية.
أما الجلوس بين السجدتين فنظيره "فرجاسانا"، ويفضل اليوغيون ممارسته بعد الطعام، حيث يساعد في التخلص من الإمساك، ومحاربة اضطرابات المعدة، وزيادة الدورة الدموية في الجسم، ويساعد وضع الجلوس هذا في تهدئة العقل، وتحقيق التناغم بين الورك والعضلات والفخذين.
ولكن...
هل تأثير الصلاة يماثل اليوغا؟
يرفض راحيل محمد في حسابه له على "كورا" هذه الفكرة، فالصلاة في الإسلام هي الصلاة، واليوغا هي اليوغا، الأولى فعل عبادة والثانية تأمل روحاني، والصلاة لا تُقارن باليوغا فهي واجب ديني، بينما اليوغا اختيار شخصي، لا يهم إذا فعلها أم لا، ويرى أن اليوغا بدعة ولا تجوز على المسلم، المسألة إيمانية ولا علاقة لها بتشابه الحركات.
ويختلف معه إروانسا لنا، حساب على كورا، يقول إنّه جرّب أنواعًا عديدة من ممارسات التأمل البوذية واليابانية، ويعدّ الصلاة تمامًا مثل التأمل، فالهدف هو جعل جسمنا مسترخيًا، ويدرب عقلنا على أن يظلّ واعيًا.
يتبع الناس الصلاة لأنّه يجب أن يخضعوا للرب الذي خلقهم، حتى وإن كانت الصلاة تُؤدّى بلا روح، يعتقد الكثير أن لحركاتها معنى قد يكون غامضًا.
أما حسن عوان، طبيب أمريكي فيحكي في موقع "المدينة انستيبتيوت"، أن ممارسته لليوغا جعلته يدرك الصلة بين شكل الصلاة الخارجي ومعناها الداخلي.
بفضل الكلمات والحركات التي تعتبر أصداءً للحالات الداخلية للرسول محمد، والعودة إلى حالة العبودية المثالية والقرب من الله، التي تميز الرحلة الداخلية للنبي كإنسان عالمي، ويضع أمامنا تحديًا لتحقيق الواقع الداخلي للصلاة.
ويتساءل البعض، خاصة غير المسلمين كيف تشبهون الصلاة باليوغا، بينما يمارس الصلاة تنظيم القاعدة وداعش، لماذا لا تطهرهم صلواتهم مثلما تفعل اليوغا؟
يجيب عالم الأعصاب نيوبيرغ أنّ الصلوات الدينية عمومًا تجربة تضعنا بالقرب من الحالة الدينية، وفهمنها لتلك الخبرة "الروحانية" مهم للغاية ويجعلنا نفهم كيف تعمل أدمغتنا.
عالم أعصاب: ذكر الله يختلف عن الكلام العادي
بدأ نيوبيرغ عمله في التسعينات في مجال مسح ما يحدث في أدمغتنا عندما نصلّي ونتأمل، لأن الممارسة الروحية يسهل رصدها.
ويجيبنا نوبيرغ عن التساؤل الأبدي، هل هناك فرق في أدمغة العقول المؤمنة التي تمارس صلواتها وبين الأدمغة التي لا تمارس الصلاة؟
بالنسبة لما يحدث في أدمغة الناس، يعتمد الأمر على طبيعة الممارسة، إذا انخرط العابد في تكرار ما يمارسه، مثل الركوع والجلوس أو يردّد ذكرًا معينًا "سبحان الله" مثلًا، مرارًا وتكرارًا، فإنّ هذه الممارسة تؤدي إلى تنشيط الفصوص الأمامية، وهي مناطق مسؤولة عن توجيه الانتباه، وتعديل السلوك، والتعبير اللغوي.
وعندما يُسلّم المصلون إرادتهم، أي عندما يتحدثون بألسنة باعتبارها وسيطة، ينخفض النشاط في الفصوص الأمامية ويزيد في المهاد، وهي بنية الدماغ الدقيقة التي تنظم تدفق المعلومات الحسية القادمة إلى عدة أجزاء من المخ، وهذا يعني أنّ كلمتهم تم توليدها من مكان مختلف عن مراكز الكلام العادية.
ويصرّ المتدينون على أنّ هذا يثبت أنّ كيانًا آخر هو من يتحدث خلال الممارسة، ويبحث غير المؤمنين عن تفسير عصبي، بينما يرفض المؤمنون النظر الى التأثير باعتباره عصبيًا، ويفضلون إرجاعه لقوى روحية غامضة ومقدسة.
تؤدي هذه الممارسات سواء كانت في إطار العبادة لله، أو في إطار تأمل يوغي محض إلى تقليل الاكتئاب والقلق والتوتر وتحسين الذاكرة والتركيز.
"الجينات والبيئة مسؤولة عن إيماننا بالله"
ولا يزال هناك جدل دائر حول ما إذا كانت هذه الممارسات أكثر فعالية عندما تكون على أساس اعتقادي، أم أنّ الإيمان بقوى عظمى غير مؤثر. يجيب الدكتور دين هامر مؤلف كتاب "الجين الإله: كيف يتم التوصل إلى الإيمان في جيناتنا" أنّ الأمر يعتمد بالدرجة الأولى على الجينات، هناك اختلافات جينية تجعل البعض أكثر عُرضة للتجارب الروحانية المتسامية عن الذات مقارنة بآخرين.
ويرى أنّ الأمر يعتمد على البيئة المحيطة أكثر فيما إذا كانت ستعزز نزعته إلى الإيمان أم تتوجه روحانيته بعيدًا عن الدين تمامًا، ولكن بحسب هامر فإن العلم لن يحلّ محلّ الروحانية، لأنّ الاعتماد على الحقائق ليس له نفس الجاذبية العاطفية للروحانيات.
ويرى نيوبيرغ أنّ الصلاة لا تؤثر إلّا إذا صاحبها إيمان، يقول: ممارسات التأمل تكون أكثر فعالية عندما تعزز النظام العقائدي لصاحبها.
ولا يمكن إدماج تلك النشوة التي يشعر بها العابد المتدين في حالة ما قبل وجود تلك المعتقدات، وقد تسبب له هذه المشاعر انزعاجًا.
ومن جهة أخرى، عندما تعزز ممارسات التأمل والصلاة نظام معتقد سلطوي ومستبد، فإنها يمكن أن تؤدي إلى مزيد من التعصب والعنف تجاه ذوي المعتقدات المختلفة.
وفي كتاب شارك به نيوبيرغ مع مارك روبرت والدمان "لماذا نعتقد ما نعتقده"، يشير إلى وجود تداخل بين المعتقدات الروحية والاضطرابات النفسية، وغالبًا ما يُطوّر مرضى اضطرابات الوسواس القهري معتقدات دينية جامدة.
يشدد نيوبيرغ على أنّ الأشخاص الذين يختبرون أشياء مثل "لقد تجاوزت عقلي، تجاوزت ذاتي، تساميت عن الذات والموضوعية للعالم"، ثمّ يرون الكون ويختبرونه بطريقة مختلفة جدًا.
يقول: أعتقد أنّ هذه التجارب يجب أن تؤخذ على محمل الجد، وأعتقد أنّهم يخبروننا بشيء عن طبيعة الواقع، وكيف نتصور ذلك الواقع.
ولكن ماذا يحدث للمخ في تجربة التسامي تلك، يقول نيوبيرغ إن سبب هذه المشاعر انخفاض النشاط في فصوص دماغية "جدارية"، منطقة مسؤولة عن إدراك الأشياء الثلاثية الأبعاد في الفضاء، وقد يختبر المتأمل والمصلي إحساسًا بالوحدة مع كل الكائنات الحية، أو الوحدة لأنّ النشاط المنخفض يزيل الخطوط المدركة بين المتأمل والأشياء الأخرى.
الصلاة تؤدي إلى الراحة و"نقص" الإدراك بالواقع
ويقول نيوبيرغ عندما تتضرر الفصوص الجدارية بسبب الصلوات المقدسة يعتقد المرضى بأشياء غريبة حول أجسامهم، في بعض الأحيان يخلطون حول التوجيه المكاني للأشياء الخارجية، حيث اعتقد البعض أنّ إحدى ساقيه ليست ملكه، وأراد أن يرميها من على السرير، واستشهد بدراسة للدكتور بريك جونستون خلصت إلى أنّ الضرر الذي يلحق بالفص الجداري الأيمن أدّى إلى زيادة التجربة الذاتية للمرضى.
وهذا يفسر ذيوع الخرافات بين معشر المؤمنين، حيث يؤكدون على كرامات لمشايخهم وأوليائهم الصوفيين، ويفسرون الظواهر الطبيعية بأفكار تعتمد على خرافات، ويبدو وكأنهم يعيشون في عالم آخر لا يشاركهم فيه غير المؤمنين أمثالهم.
فالمؤمنون المسلمون فقط يؤمنون بالإسراء والمعراج لنبيهم، وكذلك يؤمن المسيحيون بأن جسد المسيح في السماء، ولا سبيل إلى إقناع الآخرين بتلك المعجزات التي يعتمد عليها إيمانهم لغير المؤمنين.
تجعلك الصلاة أكثر قبولًا لأفكار غير واقعية، ولانحيازات متعصبة، بقدر ما تهبك السلام النفسي، وتُعزّز من أخلاقياتك الحسنة، وتمنح لحياتك معنى وقيمة.
ويشير نيوبيرغ إلى أنّ التجارب الصوفية توصف بأنها سعيدة أو مبتهجة لأنها تشترك في العديد من المسارات العصبية نفسها في الفصوص الجدارية والجبهية التي تشارك في الإثارة الجنسية.
منقول.