حسين مني و أنا من حسين
ما هذه التي ملكتني من يومين ، وأنا أريد أن اعدّ هذا الحديث ؟
ما للكلمات تموت على شفتيّ حتى كدتُ أن أيأس ، وأن ألقي اليراع ؟
ثم ما لي أريد أن أقول يا للبشرى ، فيكتب قلمي يا للأسى ، فهل أنا في حفل مولد أم في ذكرى شهادة ؟
لا أكتمكم ـ أيها السادة ـ أني بكيت قبل أن أكتب ، و بكيت بعد ما كتبت ، و ما أدري ما هو شأني إذا وقفت لأقرأ لكم ما كتبت ؟
ما هذه العاطفة العاصفة التي لا تفارق ذكر الحسين ( عليه السلام ) حتى عند الإبتسامة لميلاده ؟
و قد قال الأثر الكريم : إن الرسول ( صلى الله عليه و آله ) بشّر في يوم ميلاده فبكى ، وأنه دخل على ابنته الصديقة ( عليها السلام ) ليحضنها بوليدها فبكت ، و أن أهل البيت الطاهر ( عليهم السلام ) قد استقبلوا هذا الوليد الحبيب بالإبتسامات و الدموع .
. . بدموع الحزن . . نعم ، وأحزان أهل البيت هي الأفراح لهم في الصميم!! .
أحزان أهل البيت ( عليهم السلام ) هي أفراحهم الأثيرة عندهم ، لأن الغايات العظمى التي أنيطت بهم لا تتحقق إلاّ بهذه الأحزان .
و كان السهم الذي ينالونه من قِبل هذا الوليد هو السهم الأوفر ، ولذلك كان بمقدمة أكبر ، وعلى ذلك المقياس الخاص بهم كان فرحهم بمولده أكبر .
الحسين شريك جده ( صلى الله عليه و آله )
أيها السادة !
يقول العلماء ـ و هم يفسرون كلمة الرسول ( صلى الله عليه و آله ) المشهورة أو المتواترة : ( حسين مني و أنا من حسين ) . .
. . يقولون : إن الكلمة تعني أن الحسين ( عليه السلام ) شريك جدّه في الدعوة .
ومن عقائد شيعة أهل البيت : أن الأئمة الإثني عشر ( عليهم السلام ) أجمعين شركاء لجدهم الرسول ( صلى الله عليه و آله ) في الدعوة ، فهو المؤسّس لها ، والقيّم الأكبر عليها ، وهم ـ من بعده ـ الأمناء القوّامون على حفظها . . فما هذه الخاصة التي يعنيها العلماء بقولتهم تلك ؟
إن الجواب عن هذا ـ مبسطاً ـ يتصعب به القول و يطول ، وحسبي أن أقف ناحية واحدة تتصل بموضوعي الذي بدأت به الحديث .
إن الإسلام دين الله العظيم الذي اصطفاه للناس ، وتوجّ به الشرائع ، وختم به الأديان . . إن هذا الدين منهاج إنساني متكامل ، شرّعه الله لتنظيم هذه المجموعة الضخمة من الغرائز والعواطف والمشاعر والأحاسيس . . لتنظيم هذه المجموعة التي يسمّونها ( الإنسان ) .
والإنسان ـ كما تعلمون ـ موجود واحد ، و ركائزه النفسية المذكورة ، وإن كثرت وتنوعت أثارها واختلفت تأثيرها ، إلا أنها متشابكة متداخلة ، ووحدتها ـ بعد ـ آتية من قِبَل القوة الحيوية الواحدة ، التي تحرّك جميع هذه القوة ، والطاقة العامة الواحدة التي تمدّها ، و الإرادة الإنسانية الواحدة التي تصرّفها ، والعقل المفكّر الواحد الذي يماك أن يتحكّم فيها .
ومن أجل هذه الوحدة بين نواحي الإنسان ، وهذا التّشابك بين غاياتها ، وبين مجالات نشاطها ، أصبحت كذلك متبادلة التأثير ، فلكل واحدة منها أثر قويّ أو ضعيف في سلوك الأخرى ، وفي اتجاهاتها إلى أهدافها .
والدين الذي يروم إصلاح الإنسان وتقويم أخلاقه وضمان الخير الأعلى له في حياته هذه الأولى المنقطعة وفي حياته الأخرى الدائمة ، لا محيد له من أن يسع هذه النواحي كلّها تنظيماً ، ويعمّها تهذيباً وإصلاحاً .
و كيف يبلغ غايته إذا هو لم يضع ذلك ؟
بل ، وكيف يمكنه أن يُصلح بعض نواحي الإنسان دون بعض إصلاحاً حقيقياً كاملاً ، بعد أن كانت لها هذه الوحدة الملحوظة ، وهذا الترابط المحسوس ؟
و هذه المحاولة البلهاء هي السقطة التي مُنيت بها المسيحية القائمة ، لما وزّعت هذا الكائن إلى جسد و روح ، ثم حاولت إعلاء الروح بإرهاق الجسد ، وكبح غرائزة . .
أقول : هي السقطة التي منيت بها المسيحية القائمة المخرّقة ، والافان دين الله الذي أنزله على السيد المسيح ( عليه السلام ) أسمى من هذا التفكير .
عموم الهدى يتطلّب عموم التربية
الإسلام منهاج متكامل ، شرّعه الله لتنظيم علاقات الإنسان وسلوكه ، وتهذيب غرائزه وعواطفه ، وإصلاح سرّه وعلانيته ، وأعماله وصفاته . .
و بديهيّ أن الدين لا يستطيع أن يدرك هذا المدى من الإنسان ، وأن يحقق له هذه الغاية مالم يثبّت عقائده و أسسه في عقل الإنسان ومشعره ، و ما لم يمتزج بعواطفه و أحاسيسه ، وبلحمه ودمه .
و كيف يملك أن يهدي العقل مالم يتّصل بالعقل ؟
و كيف يقوى أن يوجّه العاطفة مالم يمتزج بالعاطفة ؟
و كيف يقدر أن يهذّب الأخلاق والعادات ويصلحها إصلاحاً جذرياً مالم يتّصل بينابيعها من النفس ، وبجذورها من الطبع ؟
إن الدواء ـ مهما احتوى تركيبه من العناصر القوية الفعالة ـ لن يحقق الشفاء حتى ينفذ إلى مكمن الداء ، وان الدين ـ مهما جمع تشريعه من دقائق الحكمة ـ لن يقوّم طباع النفس حتى يصل إلى أعماق النفس .
و البراهين التي عضدت هذه الدعوة في كتباها الكريم ، وفي حديث رسولها العظيم ( صلى الله عليه و آله ) تنير آفاق النفس من الإنسان ، كما تضيء آفاق العقل ، فهي مدد للفكر ليقتنع ، وهي مدد للقلب ليؤمن ، وهي مدد للمشاعر والعواطف ، ومنافذ الشعور ومصادر الإحساس لتعترف وتتوجّه .
وبرهنة القرآن توليّة حين تمدّ الفكر ، وفعليه تمثيلية حين تكون مدداً للنواحي الاخرى .
ولكن العاطفة ـ أيها السادة ـ ولكن هذا الشعور الرقيق . . ولكن خفقة القلب الإنسان بالجمال ، تبغي ما هو أقرب من ذلك والصق . . إنها تبغي قرباً . . تبغي امتزاجاً . .
لقد تعودت عاطفة هذا الكائن أن يشفيها الاّ القرب ، فلابد للدعوة أن تلج العاطفة وتمزج بها .
فكيف السبيل ؟ . وكيف الوصول ؟
إلأّ بدم الفداء من وريد أبي الشهداء .
وقد قام حسين بهذا الدور من الدعوة ، أ فليس شريكاً لجده فيها ؟ [1]
[1] كتاب : من أشعة القرآن للشيخ محمد أمين زين الدين .