المختبر الأكثر برودة في الكون جاهز لسبر أغوار الكَمّ
مختبر الذرات الباردة - التابع لوكالة ناسا - سوف يتيح للفيزيائيين التعامل مع الظواهر الكمية كما لم يتسن لهم من قبل.
إليزابيث جيبني
ستعمل الأجهزة الموجودة في مختبر الذرّات الباردة - التابع لوكالة ناسا - على تبريد الذرات إلى ما يقرب من درجة الصفر المطلق
يوشك علماء فيزياء الكَمّ أن يكون لهم ملعب خاص في الفضاء؛ إذ تم تصميم مختبر الذرّات الباردة - التابع لوكالة ناسا، والذي كان من المقرر إطلاقه إلى محطة الفضاء الدولية في يوم 20 مايو - ليكون أبرد مكان في الكون المرصود. وسوف يستخدم الباحثون المختبرَ لاستكشاف الظواهر الكمية التي يستحيل رصدها على سطح الأرض.
تهدف المهمة - التي تبلغ تكلفتها 83 مليون دولار أمريكي - إلى دراسة ميكانيكا الكَمّ على المستوى العياني، وذلك عن طريق تخليق حالة للمادة، تُعرف باسم تكاثف بوز-آينشتاين، وهي سُحُب من مئات الآلاف من الذرات التي تنحى إلى سلوك مسلك الموجات التي تتناغم معًا ككيان كَمِّي واحد، وذلك عند تبريدها لما فوق الصفر المطلق بقليل.
يقول كمال أودريري، مدير البعثة في مختبر الدفع النفّاث (JPL) في باسادينا بكاليفورنيا: "أعتقد أن مجرد القدرة على إجراء هذه التجارب في الفضاء إنجازٌ ضخم في حد ذاته".
عادةً ما تقوم قوى الجاذبية على الأرض بتشتيت هذا التكاثف في غضون بضع ثوان. ويُعتبر أقرب حالات حدوث تكاثف بوز-آينشاتين في ظروف مشابهة لظروف الفضاء هو أثناء تلك المهام القصيرة داخل أحد صواريخ الأبحاث، أو أثناء السقوط لمدة 9 ثوان عند ركوب أبراج الملاهي. ولكن، في حالة الطفو داخل المحطة الفضائية، فإن هذا التكاثف يجب أن يكون قادرًا على البقاء لمدة 10 ثوانٍ على الأقل. وهذه المدة طويلة بما يكفي لكي يمكن تبريدها إلى مستويات قياسية من درجات الحرارة المنخفضة، التي قد تصل إلى 20 جزءًا من التريليون من درجة واحدة فوق الصفر المطلق. وهذا المستوى ربما يكون أبرد درجة حرارة معروفة في الكون، وذلك حسب قول أودريري.
ويقول جريتشن كامبل، عالِم الفيزياء الذرية بالمعهد الوطني الأمريكي للمعايير والتكنولوجيا في جيذرزبيرج بولاية ميريلاند، إن التكاثف الأبرد وطويل الأمد "سيوسع آفاق دراسة الفيزياء الأساسية، وهذا هو ما كان يتمناه الناس على مدار ما يقرب من 15 عامًا".
معدات أقل حجمًا
من النادر وجود مساحات متاحة على المحطة الفضائية. ولذا، فقد تحتم على المهندسين تصغير حجم معدات الفيزياء الذرية التي عادة ما تشغل مساحة توازي مساحة غرفة كبيرة، بحيث لا يتجاوز حجمها حجم صندوق التبريد. وستُستعمل هذه الأجهزة في تبريد ذرات الروبيديوم والبوتاسيوم، عن طريق تشتيت ضوء الليزر من على الجسيمات في جميع الاتجاهات؛ وذلك لإبطاءها حتى تصل إلى حالة السكون التام تقريبًا. ومن ثم، تستخدم الأجهزة الحقول المغناطيسية لاحتجاز السحابة. ولتكوين التكاثف، يتم استخدام تقنيات تبريد أخرى لدفع درجة حرارة السحابة أقرب فأقرب إلى الصفر المطلق، مثل كشط أكثر الذرات نشاطًا باستخدام "سكين" من موجات الراديو، وأيضًا توسيع المصيدة؛ للسماح للسحابة بالتمدد.
اضطر المهندسون أيضًا إلى تصميم دروع واقية؛ لحماية التكاثف الحساس من التداخل مع المكونات المكتظة، وحمايتها من المجال المغناطيسي المتغير للأرض. وفي حين أن رواد الفضاء سيقومون بفك وتثبيت المعدات، فإن التجارب ستُجرى فقط عندما يكون أعضاء الفريق نائمين؛ لتقليل الاضطراب الناتج عن أي تحركات.
لقد خرجت هذه التقنية بشكل أبسط مما كان مُخطَّطًا له في البداية، وذلك بعد أن نتج عن نسخة أكثر تعقيدًا من المختبر تسرُّب أثّر على غرفة التفريغ، وهدَّد بتأخير المشروع. ولذا، لن يتمكن الفيزيائيون بعد من تحقيق هدفهم النهائي، المتمثل في قياس التداخل الذري في الفضاء، وهي عملية تتضمن تقسيم موجة الكَمّ الخاصة بالتكاثف إلى موجتين، وإعادة تجميعهما. وتسمح أنماط التداخل الناتجة للعلماء بتحليل آثار الجاذبية بدقة مبهِرة، وكذلك اختبار إمكانية استخدام التكاثف كوسيلة استشعار للدوران والجاذبية بالغة الدقة. وحسب قول روبرت طومسون، عالِم المشروع الخاص بالبعثة بمختبر الدفع النفاث، من المنتظر وصول المعدات الأكثر تطورًا بحلول نهاية عام 2019.
فقاعات، وحلقات، ودوّامات
يقول طومسون إن النسخة الحالية من المختبر لا تزال تتيح استكشاف فيزياء جديدة. ومن المقرر أن تقوم خمسة فرق بإجراء التجارب ضمن المختبر؛ إذ يخطط فريق منهم لاستخدام موجات الراديو والمجالات المغناطيسية؛ لاحتجاز التكاثف في شكل فقاعة قطرها 30 ميكرومترًا تقريبًا، أي ما يقرب من نصف قطر شعرة الإنسان. وتقترح ميكانيكا الكَمّ أنه نظرًا إلى أن الفقاعة رقيقة وبلا حواف، فإن التكاثف ينبغي أن يَصدُر عنه سلوك يختلف عن سلوكه حال كونه في شكل قرص، أو كرة على سطح الأرض. على سبيل المثال، قد يشكل التكاثف دوامات تُعرف بـ"الدوَّارات" بسهولة أكبر، وذلك حسب قول كورتني لانيرت، عالمة الفيزياء النظرية بكلية سميث في نورثامبتون بولاية ماساتشوستس. أما على الأرض، فدائمًا ما تنتهي محاولات تشكيل الفقاعات إلى أشكال قصعية(ما سامع بهيجي شكل من قبل ) عند سقوط السائل.
وتوضح لانيرت: "لا يمكننا مطلقًا الوصول إلى هذا الشكل، إلا إذا استطعنا التخلص من الجاذبية".
ستحاول مجموعة بقيادة إيريك كورنيل، من جامعة كولورادو في بولدر، والحائز على جائزة نوبل في عام 2001، لمشاركته في اكتشاف تكاثف بوز-آينشاتين، وَضْع أنظمة غير مألوفة وضعيفة الترابط، تُعرف بحالات "إيفيموف". سُميت هذه الحالات الكمية بهذا الاسم، تيمنًا بعالِم الفيزياء النظرية الروسي فيتالي إيفيموف، الذي اقترح وجودها في عام 1970. وتظهر هذه الحالات الكمية بشكل غير متوقع حينما لا تستطيع الذرات أن تترابط ترابطًا قويًّا بما يكفي لتكوين مجموعات ثنائية الذرات، وإنما يكون كل ما بوسعها تكوين مجموعات ثلاثية الذرات فقط. تتشابه هذه الحالات مع حلقات بورومين - وهي حلقات مرتبطة بطريقة يتفكك فيها النظام، إذا تمت إزالة أيّ حلقة – وتستقطب اهتمام علماء الفيزياء النووية، لِمَّا لها من أوجه تشابه مع الأنوية ثلاثية الجسيمات، التي تتكون من نيوترونات وبروتونات، وهي أنوية نادرة وغير مفهومة بشكل جيد. ويأمل الفريق في تشكيل أبسط حالات إيفيموف، ولكنهم يأملون أيضًا في تكوين نُسخ مُثارة ومتضخمة من تلك الحالات، تترابط فيها الذرات مع بعضها البعض، على الرغم من كونها متباعدة فيما بينها بمقدار عرض جرثومة بكتيريا واحدة.
وتشير مارين موسمان، الفيزيائية بجامعة ولاية واشنطن في مدينة بولمان، إلى أن المجموعة قد تكون قادرة أيضًا على تشكيل مجموعات رباعية من هذه الذرات، تُعرف باسم "الرباعيات" tetrramers.
وتضيف موسمان أن علماء الفيزياء الذرية سيجدون بيئة العمل في محطة الفضاء غير اعتيادية، لأسباب تتعلق بالحاجة إلى ترتيبات أكثر عملية. فلقد اعتاد العلماء تركيب معداتهم الخاصة، وضبط التجارب أثناء إجرائها. أمّا في حالة مختبر الذرات الباردة، يعمل كثيرون في منشأة مشتركة للمرة الأولى، ويتحتم عليهم إجراء التجارب بمساعدة باحثي مختبر الدفع النفاث، الذين يقومون بتشغيل المختبر من على سطح الأرض". وتستطرد موسمان: "لقد اعتاد علماء فيزياء الجسيمات فعل ذلك من البداية، لكن يبدو الأمر شديد الغرابة بالنسبة لنا في الفيزياء الذرية".
ويقول طومسون - الذي عمل على إنشاء هذا المختبر منذ انضمامه إلى مختبر الدفع النفاث في عام 1997 - إن عملية الإنشاء نجحت "بشكل أفضل مما توقع معظمنا". ويعتقد طومسون أن النسخة الحالية من المختبر هي خطوة نحو إنشاء مختبرات أكثر تعقيدًا للفيزياء الذرية في الفضاء، ويذكر في هذا الصدد التعاون الجاري بين وكالة ناسا والمركز الألماني لشؤون الفضاء الجوي (DLR) لإنشاء مختبر يُدعى BECCAL (مختبر تكاثف بوز-آينشتاين والذرّات الباردة). ويشير إلى اضطلاع تجارب عديدة بالفعل في المحطة الفضائية باختبار تأثيرات الجاذبية المنخفضة، ولكن بالنسبة إلى الغالبية، تُعتبر الجاذبية الميكروية القصوى مهمة غير ضرورية. يضيف طومسون: "نحن نقوم بإحدى التجارب التي ستُبْرِز حقًا ما يمكن لمحطة الفضاء القيام به.