لماذا حارب الحسين يزيداً و لم يحارب معاوية ؟
هذا المقال احد فصول كتاب من وحي الثورة الحسينية للعلامة الفقيد السيد هاشم معروف الحسني .
السؤال الذي يراود الأذهان في المقام و يفرض نفسه هو ان الحسين ( عليه السَّلام ) لقد عاصر معاوية مع أبيه و أخيه و عاصره بعد أخيه كما ذكرنا نحواً من عشر سنوات و كان وحده مهوى الافئدة و محط آمال المعذبين و المشردين و المضطهدين و لم يترك معاوية خلال تلك المدة من حكمه باباً من أبواب الظلم الا و انطلق منه و لا منفذا للتسلط على الناس إلا و أطل منه فقتل آلاف الصلحاء و عذب و شرد و اضطهد مئات الالوف بلا جرم ارتكبوه و لا بيعة نقضوها ، و كان ذنبهم الأول و الأخير هو ولائهم لعلي و آل علي و كان القدوة لجميع من جاء بعده من الأمويين في جورهم و استهتارهم بالقيم و المقدسات و تحوير الإسلام إلى الشكل الذي يحقق أحلام أبي جهل و أبي سفيان و غيرهما من طواغيت القرشيين و الأمويين ، و لم يكن ولده إبن ميسون إلا صنيعة من صنائعه و سيئة من سيآته ، فلماذا و الحالة هذه قعد عن الثورة المسلحة في عهد معاوية مع وجود جميع مبرراتها و اكتفى بالثورة الإعلامية في حين ان المبررات التي دفعته على الثورة على يزيد كانت امتدادا لتلك التي كان يمارسها معاوية من قبله .
هذا التساؤل يبدو و لأول نظرة سليما و مقبولاً و لكنه بعد التدقيق و متابعة الأحداث التي كان المسلمون يعانون منها و واقع معاوية بن هند و الوسائل التي كان يستعملها لتغطية جرائمه لم يعد لهذا التساؤل ما يبرره ذلك لأن الواقع المرير الذي فرض على الإمام أبي محمد الحسن بن علي ( عليه السَّلام ) ان يصالح معاوية و يتنازل له عن السلطة الزمنية فرض على الحسين ان لا يتحرك عسكريا في عهد معاوية و أن يفرض على شيعته و أصحابه الخلود إلى السكينة و انتظار الوقت المناسب ، لأن الحسن لو حارب معاوية في تلك الظروف المشحونة بالفتن و المتناقضات مع تخاذل جيشه و تشتيت أهوائهم و آرائهم ، و مع شراء معاوية لأكثر قادتهم و رؤسائهم بالأموال و الوعود المغرية بالإضافة إلى ما كان يملكه من وسائل التضليل و الإعلام التي كان يستخدمها لتضليل الرأي العام ، لو حارب الحسن في تلك الظروف فكل الدلائل تشير إلى أن الحرب ستكلفه نفسه و نفس أخيه الحسين و إستئصال المخلصين من أتباعه و شيعته و لا ينتج منها سوى قائمة جديدة من الشهداء تضاف إلى القوائم التي دفنت في مرج عذراء و دمشق و الكوفة و غيرها من مقابر الشهداء الأبرار .
و بلا شك فان الإمام أبا محمد الحسن لم يكن يتهيب الشهادة لو كانت تخدم المصلحة العامة و تعدُّ المجتمع الإسلامي إعداداً سليما للثورة و التضحية بكل شيء في سبيل المبدأ و العقيدة كما فعلت ثورة الحسين في حينها التي قدمت للإنسان المسلم نمطاً جديداً من الثوار لا يستسلم للضغوط مهما بلغ حجمها و لا يسام على انسانيته و دينه و مبدأه مهماً كانت التضحيات ، و لم يكن الحسين أقل إدراكاً لواقع المجتمع العراقي من أخيه الحسن ، فقد رأى من خيانته و تخاذله و استسلامه للضغوط مثل ما رأى اخوه و أبوه من قبله لذلك كله فقد آثر التريث لبينما تتوفر لشهادته ان تعطي النتائج التي تخدم الإسلام و تبعث اليقظة و الروح النضالية في نفوس المسلمين و راح يعمل على تهيئة المجتمع الإسلامي للثورة و تعبئته لها بدل ان يحمل على القيام بثورة ستكون فاشلة في عهد معاوية و تكون نتائجها لغير صالحه .
لقد مضى على ذلك في حياة أخيه و بعد وفاته ففي حياته حينما جاءته وفود الكوفة تطلب منه ان يثور على معاوية بعد أن يئسوا من استجابة أخيه ، قال لهم : لقد صدق أخي أبو محمد فليكن كل رجل منكم حلسا من احلاس بيته ما دام معاوية حيا كما جاء في الأخبار الطوال للديمري ، و بعد أخيه كتبوا إليه و وفدوا عليه يسألونه القدوم عليهم و مناهضة معاوية فأصر على موقفه الأول و قال لهم : أما أخي فأرجو أن يكون قد وفقه الله و سدده فيما فعل و أمام انا فليس من رأيي أن تتحركوا في عهد معاوية فالصقوا بالأرض و أكمنوا في البيوت و احترسوا من الظنة و التهمة ما دام معاوية حياً ، إلى كثير من مواقفه التي تؤكد بأنه كان يرى أن الثورة على معاوية لا تخدم مصلحة الإسلام و المسلمين و أن الخلود إلى السكينة و الإبتعاد عن كل ما يثير الشبهات و ضغائن الأمويين عليه و على شيعته و أنصاره في حياة معاوية أجدى و أنفع لهم و للمصلحة العامة و في الوقت ذاته كان كما ذكرنا يعمل لإعداد المجتمع و تعبئته بانتظار اليوم الذي يطمئن فيه بأن شهادته ستعطي النتائج المرجوة .
و بالفعل لقد اتسعت المعارضة في عهده و ظهرت عليها بوادر التغير و الميل إلى العنف و الشدة و بخاصة بعد أن جعل ولاية عهده لولده الخليع المستهتر ، فكان لكل حدث من أحداث معاوية صدى مدويا في أوساط المدينة و خارجها حيث الإمام الحسين الرجل الذي اتجهت إليه الأنظار من كل حدب و صوب و هو ما حدا بالأمويين إلى التحسس بهذا الواقع و التخوف من نتائجه . فكتب مروان بن الحكم إلى معاوية يحذره من التغاضي عن الحسين و أنصاره و جاء في كتابه إليه : ان رجالا من أهل العراق و وجوه الحجاز يختلفون إلى الحسين بن علي و أني لا آمن و ثوبه بين لحظة و أخرى ، و قد بلغني استعداده لذلك فاكتب الي برأيك في أمره ، و لم يكن معاوية في غفلة عن ذلك و كان قد أعد لكل أمر عدته بوسائله التي كان يهيمن بها على الجماهير المسلمة ، و الحسين يعرف ذلك و يعرف بأن ثورته لو كانت في ذلك الظرف ستنجلي عن استشهاده ، و ال إستشهاد بنظره لا وزن له و لا قيمة إذا لم يترك على دروب الناس و في قلوبهم وهجا ساطعا تسير الأجيال على ضوئه في ثورتها على الظلم و الطغيان في كل أرض و زمان .
و كان معاوية يدرك و يعي بما للحسين من منزلة في القلوب و بأن ثورته عليه ستزجه في أجواء تعكر عليه بهاء انتصاراته التي احرزها في معركة صفين و في صلحه مع الإمام الحسن بن علي ( عليه السَّلام ) ، و لو قدر لها ان تحدث بوم ذاك فسوف يعمل بكل ما لديه من الوسائل ليتخلص منه قبل استفحالها و قبل ان يكون لها ذلك الصدى المفزع في الأوساط الإسلامية و لو بواسطة جنود العسل التي كان يتباهى بها و يستعملها للفتك بأخصامه السياسيين حينما كان يحس بخطرهم على دولته و أمويته و لو تعذر عليه ذلك فسوف يمارس جميع أشكال الإحتيال و التضليل و المراوغة حتى لا يكون لشهادة الحسين ذلك الوهج الساطع الذي ينفذ إلى الأعماق و يحرك الضمائر و القلوب للثورة على دولته و أعوانها ، و لكي يبقى أثرها محدوداً لا يتجاوز قلوب أهله و محبيه و شيعته إلى حين ثم يطوي النسيان ذكراه كما يطوي جميع الذكريات و الأحداث .
و لعل ذلك هو الذي اضطر الحسين إلى التريث و عدم مواجهة معاوية بالحرب و دعوة أصحابه و شيعته الذين كانوا يراسلونه و يتوافدون عليه بين الحين و الآخر إلى أن يلتصقوا بالأرض و يكمنوا في بيوتهم و يحترسوا من كل ما يشير حولهم الظنون و الشبهات ما دام معاوية حياً .
و كما كان يعرف معاوية و أساليبه كان يعرف أن خليفته الجديد محدود في تفكيره ينساق مع عواطفه و شهواته و تلبية رغباته إلى أبعد الحدود بارتكاب المحارم و الآثام و التحلل من التقاليد الإسلامية و يندفع مع نزقه فيما يعترضه من الصعاب من غير تقدير لما وراءها من المخاطر ، و من أجل ذلك وقف من بيعته ذلك الموقف و اعتبرها من أخطر الأحداث على مصير الأمة و مقدراتها ، و لم يجد بدا من مقاومتها و هو يعلم بأن وراء مقاومته الشهادة و أن شهادته ستؤدي دورها الكامل و تصنع الإنتفاضة تلو الأخرى ، حتى النصر ، و لم يكن باستطاعة يزيد مواجهتها بالأساليب التي اعتاد ابوه تغطية جرائمه بها ، لأنه كما وصفه البلاذري في أنساب الأشراف من أبعد الناس عن الحذر و الحيطة و التروي صغير العقل متهوراً سطحي التفكير لا يهم بشيء إلا ركبه ، و من كان بهذه الصفات لا بد و أن يواجه الأحداث بالأسلوب الذي يتفق مع شخصيته ، و هو ما حدث في النهاية بالنسبة إليها وإلى غيرها من المشاكل التي واجهته خلال السنين الخمس التي حكم فيها بعد أبيه [1] .
[1] من وحي الثورة الحسينية : 18 .