فكرة واحدة تأتي بها عالمة أو عالم واحد كفيلة بأن تنقذ مئات الملايين من البشر. ونحن إذ نطلَّع على السّيناريوهات المختلفة للأضرار التي قد يتسبّب بها تغيّر المناخ النّاتج عن الاحتباس الحراري، ندرك أنّه عاجلاً أو آجلاً سيتسبّب زحف الصّحراء بفقدان ثلث الأراضي الصّالحة للزّراعة في القرن الحادي والعشرين. وهذا يأتي في وقت سيشهد فيه كوكبنا زيادة سكانية كبيرة تستدعي التّفتيش عن الطّرق والسّبل لإطعام المليارات من البشر.
ماغنوس لارسن (Magnus Larsson) هو واحد من العقول الجميلة التي تفتّش عن حلول غير اعتيادية مدفوعاً بحبه للناس وللأرض.
هو مهندس سويدي يقَّسّم وقته بين استوكهولم ولندن، وهو صاحب مشروع كبير جداً ويستعين بكائن صغير جداً لتحقيقه.
ماغنوس لارسن يريد بناء جدار من موريتانيا في غرب القارة الإفريقية إلى جيبوتي في شرقها. وهذا الجدار الكبير الذي يضاهي سور الصّين العظيم في طوله يريد بناءه بواسطة البكتيريا.
ومعه كان هذا اللقاء المثير:
س: ماغنوس لارسن. من أنت؟!
أنا مهندس أعيش وأعمل في لندن، مقسّماً وقتي بين هذه المدينة واستوكهولم. وأنا شخص جئت إلى عالم هندسة العمارة (Architecture) بعد أن أمضيت جزءاً من عمري كصحافي ومؤلف نصوص في شركة إعلانية.
وقد أنهيت للتو دراستي، وكان مشروع تخرجي هو "مشروع الكثبان" (Dune Project).
س: من أين جاءتك فكرة استخدام البكتيريا في بناء جدار رملي على عرض القارة الأفريقية؟ ولماذا اخترت التّفكير في بناء هذا الجدار؟
لقد طُلب مني التّفكير بنوع جديد من الهندسة المعمارية المتكيّفة (Adaptive Architecture) أثناء دراستي. وهذه الهندسة المتكيّفة تأتي في إطار الهندسة المعماريّة المستدامة (Sustainable Architecture) كاستجابة للقضايا البيئيّة (Environmental Issues).
وقد كانت المجموعة التي أعمل معها في جمعيّة الهندسة المعماريّة في لندن مهتمّة بدراسة ما يسمى بالاستراتيجيّات التّخفيفيّة (Mitigatory Strategies).
أعطيك مثالاً على هذه الاستراتيجيّات: إذا كان لديك مدينة معرضّة للطّوفان، فبامكانك تصميم وبناء جدار حول هذه المدينة لتحميها أو للتّخفيف من وطأة الطّوفان.
وما أردنا القيام به هو التّفكير بحلول غير بناء جدار حول المدينة. أي أن ندرس خيارات أخرى مثل السّماح للمدينة بالتّعرض للطّوفان وفي هذه الحالة نفكّر بتصميم مبانٍ قادرة على التكيّف مع متغيرات البيئة. وهكذا نصل في نهاية المطاف للتّفكير بطرق جديدة في تصميم المباني والمدن.
وكلّ واحد من أعضاء المجموعة إختار أن يدرس ظرفاً محدداً من الظّروف القاسية الموجودة في الطّبيعة. وقد إنتهى بي المطاف إلى دراسة الصّحارى والتّصحّر، وربما بسبب جمال المشهد الطّبيعي في الصّحراء. لكن ما إن بدأت بالتّعمق في المواضيع المتّصلة بالتّصحر حتى أدركت أنها مشكلة كبيرة جدّاً وهي لا تنال الإهتمام اللّازم من وسائل الأعلام. وكنت كلّما أغوص في مشكلة التّصحّر يتبيّن لي أنّه من الممكن معالجتها عبر نوع من الإختراع الهندسي (Architectural Invention).
وهكذا بدأت أتعرّف إلى المشاكل النّاتجة عن التّصحّر في أفريقيا، واطَّلعت على مشروع الجدار الأخضر الذي يمتد من غرب القارة إلى شرقها.
س: الجدار الأخضر هو مشروع مشترك بين عدد من الدّول الأفريقية لوقف زحف الصّحراء ويقوم على زرع الأشجار...
نعم، وقد كان رئيس نيجيريا السّابق خلف هذا الاختراع، وهو الآن بإدارة الاتحاد الافريقي ويهدف إلى زرع جدار من الأشجار من موريتانيا في الغرب إلى جيبوتي في الشّرق.
وقد درست هذا المشروع وأدركت أن المسألة لا تنحصر بزراعة الأشجار فقط، بل علينا الاهتمام بها وصيانتها، وهنا يدخل العامل الهندسي بحيث نبني الهيكل الذي يحضن هذه الأشجار.
وفكرة بناء هيكل تهدف أيضاً إلى تقريب الناس من هذه الأشجار حتى يقوموا بما يلزم كحمايتها من الضّرر النّاتج عن البيئة أو عمل الإنسان.
س: بعد أن بلورت فكرة المشروع، ما هي الخطوة الثّانية التي قمت بها؟
قمت بالتّفكير بكيفيّة بناء الهيكل والمواد المتاحة لذلك. ولأن مبدأ البناء المستدام يقوم على استخدام المواد المتاحة في الطّبيعة وليس إدخال مواد غريبة، وبما أن الصّحراء يوجد فيهاالكثير من الرّمال، أضف إلى ذلك جمال الكثبان الرّملية الرّائع، فقد قرّرت استخدام رمال الصّحراء كمواد للبناء. ولكن لفعل ذلك كان عليَّ أن أجد طريقة للتّجميد.
وبالفعل، بدأت بأبحاث معمّقة حول الموضوع وتعرّفت إلى أبحاث فريق علمي في جامعة يو.سي.دايفس في تكساس في الولايات المتّحدة الأميركية. وكان هؤلاء يعملون على تقنية تجميد الرّمال لسنوات طويلة.
س: كانوا يعملون على تصليب وتجميد الرّمال كطريقة لزيادة صلابة الأرض أثناء حدوث الزّلازل.
نعم، لأنّه أثناء الزّلازل تتصرّف الرّمال كسائل، ما يتسبب بانهيار أساسات المنازل المبنية عليها. وكانت طريقتهم تقوم على حقن الرّمال بنوع معيَّن من البكتيريا وهي باسيللوس باستوري (Becillus Pasteuri)، التي تدخل بين حبيبات الرّمل وتتفاعل معها لإنتاج مادة السيليكايت (Silicate) التي تعمل كمادة لاصقة للحبيبات بعضها ببعض.
س: الصين تبني جداراً من الأشجار يمتد إلى 5000 كيلومتر، من أجل وقف زحف الصّحراء. هل اتّصل بك الصينيون لمناقشة اقتراحك؟
لم يحدث هذا حتى الآن، ومع ذلك فإن مشروعي يمكن تطبيقه في أمكنة عدة على الكوكب مثل الصّحارى قرب خط الاستواء، والصّحراء الأُوستراليّة، والصّين، والولايات المتّحدة الأميركية، والشّرق الأوسط. وكلّ هذه الأمكنة مرشّحة للاستفادة من مشروعي. أما في الصّين فالأخبار تتحدّث عن زحف الكثبان على العاصمة بايجينغ.
س: هل نلت جوائز تقديرية؟ وممّن؟
التّقدير الأوّل الذي تلقيته كان من مؤسسة هولسيم وهي شركة سويسرية مصنّعة للإسمنت، وفي الحقيقة قد أكون منافساً لهم في حقل عملهم في المستقبل.
وهولسيم مؤسسة مستقلة تمنح الجوائز للمهندسين وقد نلت الجائزة الأولى عن فئة "الجيل الأحق" من المهندسين. وبعدها بدأت الصّحف والمجلّات العالمية المتخصّصة وغيرها من وسائل الاعلام المكتوبة والمتلفزة بالاضاءة على مشروعي.
س: إذا أردت تعديل اختراعك لنقل من أجل حماية بعض المدن من الطّوفان، مثل مدينة جدة في المملكة العربيّة السّعودية، فهل باستطاعتك فعل ذلك؟
من الصّعب الجواب على سؤالك لأنّني لم أطّلع على ظروف مدينة جدّة بالتّحديد. لكن بشكل عام اختراعي يشبه بناء الهياكل الاسمنتيّة، وتالياً لا أجد من تطبيق إختراعي ما يمنع للتّخفيف من قوة أي طوفان، وربما بناء هياكل وأشكال تسمح بمرور مياه الطّوفان بداخله من دون أن يتأذّى المحيط.
س: ماذا عن السّياحة، هل يمكن استخدام البكتيريا لبناء أشكال من الرّمل داخل الصّحراء مثل مطعم رمليّ؟ أو ربما فندق رمليّ؟
بالطبع، لكن بما أنّه لم يقم أحد بتنفيذ هكذا فكرة من قبل، فإن الأمر يحتاج إلى مزيد من الأبحاث.
س: تعاني المدن القريبة من الصّحارى من العواصف الرّملية التي تعطّل الحياة في بعض الأحيان. هل يمكن استخدام إقتراحك للتّخفيف من قوة هذه العواصف؟
العواصف الرّملية تكون كبيرة جداً، لذلك يمكن التفكير بإجراءات وقائية عبر نشر البكتيريافي أمكنة مختلفة على الطّبقة السّطحيّة للصّحراء، وربما أدّى ذلك للتّخفيف من العاصفة، وهذا موضوع قابل للدّراسة ولمزيد من الأبحاث.
س: اختراعك لا يوقف زحف الصّحراء فقط، بل قد يوفّر مأوى للحياة البريّة أيضاً؟
طبعاً، هذه الهياكل الرّملية ليست بالضّرورة للإنسان فقط، ولا شيء يمنع من أن تجد الحيوانات والنّباتات ملجأً لها داخل هذه الهياكل. وهذا يساعد على إنقاذ الأجناس المهدّدة بالانقراض.
س: هل يمكن استخدام البكتيريا التي اعتمدتها في مشروعك لإقامة أشكال جامدة أو صلبة من أنواع التّربة المختلفة وليس فقط رمال الصّحراء؟
نحتاج إلى مزيد من الأبحاث قبل أن يكون لدينا جواب قاطع على هذا السّؤال. ولكن بشكل عام فإنّ المسافة هي حجم الحبيبات في التّربة وليس نوعها، فإذا كانت بحجم حبيبات الرّمل عندها لا يوجد مشكلة.
س: إذا كان أحد المستثمرين العرب يقرأ هذه المقابلة الآن، وأعجبه اختراعك فهل سنشاهد مطاعم أو فنادق على طريقة ألف ليلة وليلة ذات يوم من الأيّام؟
سأكون سعيداً جداً لو أُتيح لي تنفيذ مشروع رائد كهذا في الصّحراء.
س: ماذا عن الصّناعة السّينمائية؟ نحن نعرف أنّه تمَّ بناء مدينة في الصّحراء التّونسيّة من أجل تنفيذ فيلم حرب النّجوم (Star Wars). أتعتقد أنّ السّينما قادرة على الأستفادة من إختراعك لبناء أشكال تنفع في أحد أفلام الخيال العلميّ؟
لم أفكر باختراعي بهذه الطّريقة، ولكنّها فكرة عظيمة أتمنّى أنّ تتحقّق. وإذا تحقّق ذلك فستكون طريقة مهمّة جداً للإعلان عن الاختراع.
س: إذا وجّهت لك أي جامعة عربية دعوة للتّحدث عن اختراعك، فهل ستلبي الدّعوة؟
بالتّأكيد أنا جاهز لتلبية هكذا دعوة في أي وقت.
س: إذا وجّه لك الطّلاب من قراء مجلة "علم وعالم" أسئلة فهل ستجد الوقت الكافي لإجابتهم؟
بكل سرور، سأحاول أن أجد الوقت للإجابة على أسئلة طلابكم القراء. وأنا أشعر بالسّرور حين يتفاعل معي النّاس الذين يطّلعون على اختراعي، فقد سبق و حدث هذا، وفاجأني البعض برسائلهم الإلكترونيّة التي تضمّنت أفكاراً مذهلة تستند إلى اختراعي.
س: إختراعك النّابع منك وأنت شخص واحد، سيترك أثراً على عشرات بل مئات ملايين النّاس المهدّدين بوجودهم بسبب زحف الصّحارى. ما هو شعورك حيال هذا؟
أنت تثير نقطة مهمّة وهي نقطة التّفكير المستدام (Sustainable Thinking) الذي يتّصل بكلّ المواضيع البيئيّة التي تؤثّر على كلّ النّاس على هذا الكوكب. وهذا التّفكير يُقرّب النّاس من بعضهم البعض مخترقاً الحدود بين الدّول والثّقافات حيث يشعر النّاس أنّهم يتشاركون بالمصير والتفكير لإيجاد الحلول لمشاكلهم المشتركة.
وإنّ أحد امتدادات مشروعي هو ربط الدّول عبر الصحراء الكبرى بعضها مع البعض الآخر وخلق قضيّة مشتركة لهم جميعاً.
س: السؤال الأخير: ماذا تقول للطّلاب العرب الذين سيختارون ذات يوم من الأيام إكمال تعليمهم الجامعي في تخصّص معيّن يختارونه؟
أقول لهم أنّه إذا واجهتهم مشكلة ألّا ينظروا إليها كمشكلة بل كفرصة لهم للإتيان بحلول تفاؤلية للمستقبل. وأقول لهم أيضاً أن يختاروا تصميم أشياء يمكن للنّاس أن يستخدموها وأن ينتفعوا منها.
منقول