[الوصايا بالجار]
السلام عليكم ورحمة الله وبركاتة
روى المُصنِّف بإسناده الصحيح عن عائشة رضي الله عنها عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال (مَا زَالَ جِبْرِيلُ يُوصِينِى بِالْجَارِ حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّهُ سَيُوَرِّثُهُ)
هذا من الأحاديث الصحيحة المشهورة التي تضمَّنت الحث البليغ في الوصية بالجار والاعتناء به، فإن هذا الحديث يقول بأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - في توصيته بأن يستوصى بالجار خيرا حتى ظنَّ الرسول - صلى الله عليه وسلم - من كثرة ما أوصاه جبريل بجاره أنه سيجعله وارثا من الورثة الذين يرثوا فيه الجار جاره. (مَا زَالَ جِبْرِيلُ يُوصِينِى بِالْجَارِ حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّهُ سَيُوَرِّثُهُ) كما يرث الوالد ولده، أو كما يرث الولد والده، هذا من باب عناية الشارع الحكيم بالوصية بالجار ..

ومن ذلك الحديث التالي وهو أيضا، وهو أيضا حديث صحيح يرويه المُصنِّف عن أبي شريك الخذاعي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال (مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فليُحسن إلى جَارَهُ، وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ، وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ)

هذا الحديث يختلف بعض الشيء عن الحديث السابق وإن كان يلتقي به في الموضوع العام من حيث الوصية بالجار، حيث أن في هذا الحديث يأمر بالإحسان إلى الجار، والإحسان ليس مقصورا في القول والكلام فقط وإنما يتعدَّاه إلى العمل، بل هذا هو الأهم، فما يُشعرنا إلى ذلك قوله عليه الصلاة والسلام (تصدَّقوا ولو بشِق تَمرَة، فإن لم تجدوا فبكلمةٍ طَيبة)
فالكلام أهم منه العمل؛ لذلك حضَّ عليه الصلاة والسلام على الصدقة وإخراج الزكاة من المال، فإن لم يجد الإنسان المال فحينئذٍ ينزل إلى الدرجة الدُّنيا وهو حسن الكلام.

فحينما يأمر الرسول عليه السلام في هذا الأحاديث بالإحسان إلى الجار، فمعنى هذا الإحسان: الإحسان إليه عمل وذلك بإكرامه كما سيأتي في بعض الأحاديث أن الرسول عليه الصلاة والسلام أمر أبى ذر بأنه إذا طبخ طبخةً أن يُكثر مرقها ليُعطي جاره من مَرقفه، هذا هو الإحسان العملي، وهذا بالطبع ليس المقصود المرق بالذات، لكن هذا بالنسبة للإحسان العملي إلى الجار يجري مجرى الكلمة الطيبة بالنسبة للصَّدقة إذا لم يجد المتصدِّق الصدقة،

كذلك الجار الذي يريد أن يطبخ طبخةً يأمره الرسول عليه الصلاة والسلام بأن يُكثر مرقها، لماذا؟؟ لأن ليس كل إنسان يستطيع أن يُكثر الطَّبخة نفسها، مثلا: إذا كان كيلو لحم يضع عادةً نصف كيلو ماء فالرسول عليه السلام يقول هنا أكثر المرقة (حط كيلو ماء لكي توزع على الجيران من هذه المرقة) لكن الأولى من هذا بالطبع بدل ما تطبخ كيلو لحم أطبخ اثنين، ثلاثة أربعة، لكن هذا ليس كل إنسان يستطيعه لاسيما في هذا الزمان الذين كان فيه أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يجد الكثيرون منهم قوت يومهم؛ لذلك أوصاهم بأن يُكثر المرقة،

لكن أنا رأيي ليس الوقوف عند المرقة، لكن الوصول إلى نفس اللحم؛ لكن هذا قد لا يستطيعه الكثيرون فليُكثر المرقة على الأقل، هذا من تفسير قوله عليه الصلاة والسلام: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليُحسِن إلى جاره) يعني عملا وليس فقط قولا، فإذن الإحسان إلى الجار يشمل أن تهدي إليه شيئا من طعامك، من شرابك، من فاكهتك أو من أي شيء يتيسَّر إليك.

لكن مع الأسف الشديد لقد وصل المسلمون في حالة سيئة جدا من التفكك الاجتماعي بحيث أنَّه لم يعد هناك أية صلة بين الجار والجار حتى ربما ولا بالكلام، ذلك لأنك قد تعيش بين جارين فلا تجد أحدًا منهما يحضر المسجد، فتجد نفسك غريبا من بينهم وهذه الغرابة تجعلك أيضا غريبا عن تطبيق مثل هذه الأحاديث الكريمة الجليلة التي بها يريد الرسول عليه الصلاة والسلام أن يُحقق الترابط بين المسلم وبين جاره حتى لو كان هذا الجار يهوديا، يعني الإسلام لا يقتصر فقط في الأمر أو في الوصية بالجار أن يعني فقط الجار المسلم بل حتى ولو كان غير مسلم ينبغي أن تستوصي به خيرا كما سيأتي قريبا في بعض الأحاديث الصحيحة.
[حق الضيف]
وفي تمام هذا الحديث الثاني، فقرتان أخريان، الفقرة الثانية بعد الأولى قوله عليه الصلاة والسلام (ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليُكرم ضيفه) هذا أيضًا من مكارم الأخلاق ومحاسن الأعمال التي جاء بها الرسول - صلى الله عليه وسلم - من ربه –عز وجل – إلى هذه الأمَّة، فهو يقول: (ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليُكرم ضيفه)

فمن فضائل ومكارم الأخلاق: إكرام الضيف، والبيت المُسلِم هو الذي تطرقه أقدام الضيوف، وكلَّما كَثُرت أقدام الضيوف إلى البيت، كلما كان هذا البيت أقرب إلى الإسلام وأشد تحقيقًا له، و كثيرون منَّا في هذا الزمان لا يعلم أن نزول المُسلم في بيت أخيه المُسلم ضيفا هذا حقٌ شرعيٌ له، كما أن للفقير الحق في مال الغني كما قال تبارك وتعالى: {وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} [المعارج:24]
كذلك الضَّيفُ -ولو كان غنيا -إذا نزل في بلد غريب عنه فله على المسلمين حق الضيافة، فلا يجوز لهؤلاء المسلمين أن يُجمعوا على عدم ضيافة هذا الضيف، يعني ضيافتهم فرض كفاية لهذا الغريب، إذا قام به أحدهم سقط عن الباقين، وإذا لم يقُم به أحد منهم فهم قد وقعوا في الإثم أجمعين،
وأغرب من هذا فمن الأحكام الغريبة في الإسلام والتي تؤكِّد حق الضيف أنه أي ضيف نزل بلدا –قلنا - فله الحق أن ينزل ضيفا على فرد من أفراد البلد، فإذا لم يفعلوا فله الحق شرعًا بأن يطالب بحق الضيافة، حق القِرى، حق الإيواء والضيافة، والقاضي الشرعي طبعا يحكم له، إذا دخل القرية وما أحد أضافه بيقيم دعوة: إنه أنا مثلا رحت عند فلان وما قبلني، وفلان ما قبلني ضيفا، وحينئذٍ يحكم القاضي على هذا البيت الذي لم يقبل ضيافة هذا الغريب مقدارا يكفيه يوم مثلا أو أكثر، يقول الرسول - صلى الله عليه وسلم - في بعض الأحاديث الصحيحة: (حقُّ الضيافة ثلاثة أيام، فما زاد فجائزة)
أي نافلة، فكل ضيف ينزل على مسلم فله حق الضيافة عليه ثلاثة أيام، فإذا أحب أن يضيف صاحب الدار أن يزيد كرما وفضلا أبقاه عنده ما شاء من الزيادة بعد الثلاث، أما الثلاث فهو حق ليس له فيه مِنَّة على الغريب، حق واجب له عليه، فإن زاد فهذا نافلة.
هذا مما أدَّب الرسول - صلى الله عليه وسلم - صاحب الدار، ولكن لم ينس أن يتوجَّه بالتأديب إلى الضيف، فإن بعض الضيوف يكونون ثُقلاء في الحقيقة، فإنهم بعد أن يمكثوا الحق المُعطى لهم في الشرع وهو ثلاث أيام يظلُّون مرابطين لا يتحرَّكون، وكأنَّهم هذا أيضا من حقِّهم، فالرسول - صلى الله عليه وسلم - لمثل هؤلاء:
فإذا انتهت هذه الثلاثة أيام فليرحل ولا يُحرِّج صاحب البيت، هكذا أدَّب الرسول - صلى الله عليه وسلم - كلَّا من المضيف والضيف، حق الضيافة مع الزمن ومع تطور المسلمين بما يُسمونه بالمدنية الحاضرة، ومن آثار المدنية الحاضرة القضاء على كثير من الآداب الإسلامية ومنها الضيافة وبحُكم هذا التأثُّر بالمدنية الغربية اليوم يكاد يموت معنى الضيافة في البلاد الإسلامية، ولذلك كان كنتيجة طبيعية أن تكثُر الفنادق في المدن الإسلامية لقاء أن الناس أماتوا حق الضيافة، فقلَّ من يأتي وينزل ضيفا، حتى المسلمين منهم والذين لا يزالون على شيء من التمسُّك بالإسلام،
ماتت هذه المعانيلذلك ينزل في الفندق، نتيجة ذلك أن أصبح نساؤنا أيضًا يتضايقن ممَّا لو نزل فيهنَّ ضيفٌ، هذا كله سببه عدم التأثُّر بالسُّنَّة، والتضايق هذا نجده مع عدم كثرة الضيوف بحكم موت هذه المعاني الجميلة، فكيف يكون وضع نسائنا لو كان الوعي الإسلامي منتشرا بين المسلمين جميعا إذن لوجب على أصحاب البيوت أن يفتحوا أبوابهم على الأقل كل يوم ضيف أو ضيفين، لأن السفر اليوم كثير وكثير جدا، إذن لا يُمكن أن نُصلح وضعنا ومجتمعنا إلَّا بالعلم.
لذلك نحن نقول لابد من التصفية والتربية، لابد من تصفية العلوم التي تلقينا قسمًا كبيرا منها محرَّفا عن الكتاب والسنَّة، فلا بد من تصفيته، ثم لابد من أن نربي أنفسنا على هذا العلم المُصفَّى، فمن هذا العلم قوله عليه الصلاة والسلام (ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليُكرم ضيفه)
وإكرام الضيف إنزاله في المنزل المناسب له وتقديم ما يُمكن من الطعام والشراب ثلاثة أيام، ثم بعد ذلك إمَّا أن يُزاد في إحسانه إن كان مستطاعا أو يُعتذر إليه ....
ومن تمام الحديث:
(ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت)
وهذا أدبٌ أيضا من آداب الإسلام السامية والعالية، وأعتقد وأقولها صريحةً: إن النساء أحق وأوجب من يجب عليهنَّ أن يتأدَّبن بهذا الأدب، نقول هذا لأن النساء أنفسهن يشهدن بأنهن يتكلَّمن أكثر من الرجال، أليس كذلك؟، لذلك الواجب عليهن –كالرجال طبعا - أن يتذكروا جميعا هذا التوجيه النبوي الكريم وهو قوله عليه الصلاة و السلام (ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت)، ولذلك قالوا في الحكم القديمة: (إن كان الكلام من فضة فإن السكوت من ذهب)، هذا أدب من آداب الإسلام العامة إذا إلا بيتكلَّم أو بيسكت سواء كان في بيته أو في دكَّانه أ, أو إلى آخره، فليُفكِّر إذا كان وجد في الكلام خيرا فالأحسن يتكلَّم، إن كان ما فيه خير الكلام فالأحسن أن لا يتكلَّم، يعني أن هذا النفَس ما يروح سُدى، فإمَّ أن يصمُت عن الكلام ويسكت، وإما إذا تكلَّم فليتكلَّم بخير.
والحمد لله رب العالمين