مقابر بغداد القديمة بين الاهمال والتغييب
إنتابني شعور بالإستغراب من بعض دعواتٍ قرأتها في صحف وفي مواقع انترنيتة قبل فترة، يـُطالب فيها (كـُتـّابها) بتهديم المقابر الآثارية والتاريخية الموجودة في بغداد، و ما زادني إستغراباً أن أصحاب تلك الدعوات زعموا أن تلك المقابر لم تعد تحظى بـ(الحرمة) وأنّ قـِدَمَها وإستحالة هياكل موتها الى رفات بات يُشكّـلُ مسوغاً لهدمها وإزالتها.
هي دعوة غريبة حقاً وتكاد تقترب من النزعات المتطرفة التي تدعو الى هدم القبور وعدم إضفاء الإحترام والقدسية لها والتي تتبناها بعض التيارات المتطرفة السلفية او التكفيرية المعروفة.
وعلى العموم، فمن المفيد التذكير بإن معظم مقابر بغداد التاريخية ( مقبرة الشيخ عمر السهروردي، مقبرة (المنطقة)، مقبرة الشيخ جنيد البغدادي، مقبرة الغزالي، مقبرة الشيخ عبد القادر الكيلاني، مقبرة الشيخ معروف البغدادي، مقبرة الإمام الاعظم ((الخيزران)) في الاعظمية، فضلا عن مقبرة قريش في الكاظمية، وغيرها) كلها مقابر موغلة في التاريخ ولها من الإحترام والقدسية التي تحظى بها منذ عصور وقرون متمادية.
وليس بخافٍ أن تلك المقابر – ولعل أخر لم نستحضرها- تـُعد مدافن تحظى بالكثير من الإجلال والتقديس لأنها مثوى ومراقد للعشرات -إن لم نقل أكثر- من الشخصيات المبرزة (علماء دين كبار، متصوفون عظام، أدباء بارزون، مؤرخون، شعراء، قادة تاريخيون كبار، فلاسفة لامعون، رحالة، خطاطون، أساتذة ومؤدبون، …) وغير ذلك من التصنيف الذي سيطول إن تقصينا تاريخياً كل الاسماء اللامعة والمبرزة ممن كانت تلك المقابر مثواهم الأخير.
كان من المفروض أن تكون الدعوات في الزمن العراقي الجديد عقب زوال عصر الطغمة الديكتاتورية بضرورة إستثمار تلك المقابر وإعادة الاهتمام بها وإلباسها لباساً معمارياً لا يخلو من اللمسات المعمارية الاسلامية وتأهيلها كمناطق دينية أو مرافق سياحية وآثارية (سيما أن بعضها فريد في معماريته ويحوي أقدم القباب المخروطية السلجوقية في العالم الاسلامي).
ولا ريب أن ذلك التأهيل وإعادة الإعمار ستكون مدعاة لاستجلاب الزوار والحجيج والسياح من مختلف بقاع العالم الاسلامي ممن يـُكِـنـّون عظيم التقدير والتقديس لمراقد عديدة في تلك المقابر، أصحابها شخصيات معروفة من “الصحابة التابعين، والمحدثين، والأولياء، والمتصوفة، والعلماء الكبار”.
كما كان يفترض أن تأتي الدعوات لإعادة إعمار تلك المراقد والإهتمام بها والإعلان عنها والترويج لها إسلامياً وعالمياً والتعريف بمن دفن فيها، والسعي لإقامة معارض الكتب والدوريات المتخصصة، واصدار الفهارس والمطويات والكتيبات التعريفية باسماء العظماء والاولياء المدفونين فيها، وإقامة المهرجانات، والندوات، والملتقيات الدينية والادبية والثقافية، على مقتربات تلك المراقد والمزارات كجزءٍ من تنشيط السياحة الدينية والآثارية في البلاد والذي لا يخفى أنها تشكل عصباً إقتصادياً واعداً باتت دول بميزانياتها الضخمة تعتمد عليه أو يَدرُ عليها أرباحاً خيالية كما في تونس والمغرب وسورية وإيران فضلا عن مصر وغيرها من البلدان.
إن الدعوات بهدم الاضرحة والمقابر القديمة دعوات غير مدروسة وتنم عن عدم علم وعدم إحاطة بالقيم التاريخية والآثارية والاسلامية التي تشكلها تلك المقابر بما تحويه من مراقد لأناس عظام قدسهم معاصروهم ومن تلاهم لقرون متتالية. ولا شك أن تلك الدعوات هي دعوات غير ناضجة وسوف لن تجد لها صدى لدى المسؤولين عن العاصمة بغداد، إن لم يكن العكس حيث ستكون مدعاة للإلتفات الى تلك المقابر التاريخية والتوجه لاعمارها وجعلها أماكن يرتادها السياح والحجيج لإلتماس العبر والفيوضات منها.