الحركة العمرانية في النجف
يمكننا إيجاز مراحل التطور العمراني في مدينة النجف بثلاث مراحل هي: -
المرحلة الأولى تمثل الجهود الأولى المبذولة لجلب الماء لمدينة النجف – لقد عانى سكان مدينة النجف معاناة كبيرة من شحة الماء على طول تأريخ هذه المدينة، حيث تبعد النجف عن شاطئ الفرات الكوفي (10 كم) ولأن بين النجف والفرات أرضا تأخذ بالارتفاع من (26 م) فوق مستوى سطح البحر إلى (60 م)، أدى إلى معاناة المدينة من شحة المياه وانعدامها(110) ، حيث كانت قلة الماء في المدينة من العوامل التي ساعدت على هجرة السكان منها(111) ، ونرى شدة المعاناة واضحة على السن الشعراء النجفيين حيث عاش الماء القراح صورة في خواطر الشعراء في هذه المدينة العطشى، فهاموا وتغنوا بصورته وهو في القدح وبمذاقه في الفم وبأثره في الأحشاء(112) .
ولهذا السبب بذل الحكام والسلاطين والوزراء دون انقطاع أو كلل أو ملل الجهود والأموال لتوفير المياه لسكانها وكانت الجهود الأولى لإيصال ماء الفرات إلى النجف تعود إلى الحارث بن عمرو ذلك في عصر ما قبل الإسلام بأمر من تبع(113) أحد ملوك اليمن، وذلك حسب ما ذكره الطبري بقوله ((سار تبع حتى نزل الحيرة قرب الفرات، فآذاه البق، فأمر الحارث بن عمرو أن يشق له نهراً إلى النجف ففعل وهو نهر الحيرة))(114) .
والمحاولة الثانية كانت قناة (آل أعين)(115) وهي من المحاولات الاولى في العصر الإسلامي خلال العصر العباسي في القرن الثالث الهجري، حيث قام بها سليمان بن أعين المتوفي بعد عام 250 هـ. وذلك بإجراء الماء إلى النجف عن طريق استخراجه لعين دوارة في مكان يعرف بـ((قبة الشنيق))(116) في جنوب النجف.
والمحاولة الثالثة تتمثل في قناة ((آل بويه)) وتعد من أهم القنوات التي أنشأت في مدينة النجف لإيصال الماء إليها، وهي قناة آل أعين نفسها(117) , حيث قام بإصلاحها وبنائها عقد الدولة البويهي وعرفت باسمه وذلك لاستمرارها بأداء وظيفتها لفترة طويلة من الزمن(118) .
واستمرت بعد ذلك جهود الخلفاء والسلاطين في إيصال الماء إلى النجف من اجل النهوض بها ودعمها بمستلزمات العيش كافة، لذا اجتهد السلطان – سنجرين – ملكشاه السلجوقي(119) ، بدعم جهود والده السابقة لإيصال الماء إليها حيث ذكر ابن الجوزي في حوادث عام 479 هـ ((وتقدم – ملكشاه – باستخراج نهر من الفرات بطرح الماء إلى النجف فبدئ به))(120) .
أما المرحلة الثانية من مراحل التطور العمراني لمدينة النجف فهي تتمثل ببناء أسوارها.
إن وقوع مدينة النجف على حافة الهضبة الغربية جعلها مفتوحة إلى الصحراء وعرضة للغزاة(121) ،لاسيما الأعراب الذين يحيطون بهذه المنطقة، وانطلاقاً من أهمية الأمن الذي يتوفر بتحصين المدينة اعتبر السور من الوسائل الرئيسة المهمة في المدينة الذي يساعد على حفظ الأمن والاستقرار(122) .
ويمتد تاريخ أسوار مدينة النجف مع الجذور التاريخية(123) ، حيث ارتبط نشوءها بمشهد الإمام علي (ع) من جانب، وبمدينة النجف من جانب آخر(124) . لأن بناء الأسوار كان في بداية الأمر حول المرقد المقدس ضمن نطاق محدد ثم على أثر توطن الناس في المدينة ألزمت الظروف الجديدة بناء سور يحمي السكان المقيمين بها.
وأول سور بني في النجف كان حول المشهد المقدس من قبل محمد بن زيد العلوي صاحب طبرستان في القرن الثالث الهجري بعدما عَمَّر القبر الشريف، وقد اغفل المؤرخون السنة التي شيد فيها هذا السور. ومن المحتمل انه بني خلال الربع الأخير من القرن الثالث الهجري في حدود عام (287 هـ) حيث انه عمر القبة وعمر سوراً حولها(125) وينسب بناء السور الثاني في مدينة النجف إلى أبي الهيجاء عبد الله بن حمدان، باعتمادنا على قول ابن حوقل: ((وقد شيد أبو الهيجاء عبد الله بن حمدان هذا المكان وجعل فيه حصاراً منيعاً))(126) ، ولم تحدد المصادر تأريخ تشييد هذا السور ومن المحتمل أن بناءه يرجع إلى الربع الأول من القرن الرابع الهجري وتحديداً في عام ( 312 هـ) أو ما بعده لأنه حج خلال هذا العام(127) .
وقد أحاط هذا السور بالسور الذي أشاده العلوي من قبل فكان بداية للتوسع الذي اخذ يطرأ على المرقد الشريف بعد توافد الزائرين عليه والسكن حوله(128) .
أما السور الثالث فينسب بناؤه إلى عضد الدولة البويهي وذلك على أثر التوسع الكبير الذي شهدته النجف، حيث يبلغ محيط السور ألفين وخمسمائة خطوة(129) .
وقد حدد الشيخ جعفر محبوبة موقعه ((عند أول سوق الصفارين اليوم وهو يبتعد عن الصحن الشريف بـ 199 م))(130) .
وهذا يعطينا دلالة واضحة على حجم التوسع الذي شهدته مدينة النجف خلال القرن الرابع الهجري حيث أخذ عدد السكان يتزايد بصورة مطردة، وقد ذكر الخونساري إلى أن السلطان مسعود بن بويه الديلمي أمر ببناء سور مشهد النجف(131) ، ولم يحدد لنا الخونساري تأريخ بناء هذا السور أو سنة وروده إلى المشهد الشريف، ويرجح الدكتور الحكيم انه شيد هذا السور في اواخر القرن الرابع الهجري(132) ، وذلك لأن الشاعر حسين بن الحجاج المتوفي عام 391 هـ كان موجوداً عند زيارته للمرقد، حيث وقف بين يديه وأنشد قصيدته المشهورة(133) :
يا صاحب القبة البيضاء على النجف من زار قبرك واستشفى لديك شفي
إلا أن المرجح هو أن مسعوداً لم يأمر ببناء السور وإنما عمر القبة فقط. حيث أن من الثابت أن عضد الدولة البويهي هو الذي زار النجف عام 371 هـ وفرق على مجاوري المرقد من الفقراء ثلاثة آلاف درهم،و بنى الرواق العلوي الذي أصبح مأوى لطلاب العلم وبقي هذا البناء حتى عام 753 هـ(134) .
ويظهر من كتب التأريخ التي بين أيدينا أن السورين المذكورين آنفاً لم يكونا يحيطان بالنجف على الوجه، حيث تقول هذه الكتب أن أول سور أحيط بمدينة النجف كان عام (400هـ)، فقد ذكر ابن الأثير ((وفيها مرض أبو محمد بن سهلان فأشتد مرضه فنذر أن شوفي بنى سوراً حول مشهد أمير المؤمنين (ع) فعوفي فأمر ببناء سور عليه فبنى))(135) .
وقد تولى واشرف على بنائه ابو اسحاق الارجاني(136) وقد وقع الدكتور المظفر في وهم عندما أشار إلى أن محيط السور يقدر بـ (1250 م)(137) ، حيث أن هذا الرقم ينتمي إلى السور الذي أقامه عضد الدولة البويهي وقد أشار السيد ابن طاووس إلى ابواب هذا السور بقوله ((انه في عام 575 هـ كان للسور بابان هما باب السلام الكبير وباب عبد الحميد النقيب بن أسامة))(138) .
وقد شهدت مدينة النجف تطوراً عمرانياً كبيراً في عهد الدولة الجلائرية مما حدى بالسلطان اويس الجلائري المتوفي سنة 776 هـ أن يأمر ببناء سور جديد للنجف يبعد عن السور السابق حوالي (75 م) وكان محيطه (1721 م)(139) ، وله باب كبير يدعى ((باب البلدة)) وبقي هذا السور قائماً حتى نهاية القرن الثامن عشر الميلادي، وقد وصفه عدد من الرحالة الذين زارو مدينة النجف ومنهم الرحالة الايطالي (تكسيرا) الذي زار النجف عام (1604 م) حيث ذكر انه مهمل ومهدم من عدة أماكن(140) . وذكر الرحالة نيبور في رحلته إلى النجف عام (1765 م)، أن في السور ثلاثة أبواب هي باب المشهد وباب النهر وباب الشام، وكان هذا الباب مغلقاً ويمكن الدخول إلى المدينة من خمسين موضعاً(141) .
لكن الرحالة السيد عباس المكي الذي زار النجف عام (1131 هـ) وصف السور بأنه مكين(142) .
أما السور الأخير وهو السور السادس وذلك إذا ما اعتبرنا أن السور الأول يمثل الجدار الأول الذي بني حول المرقد الشريف، وقد بني عام (1203 هـ) و بقي شاخصاً إلى منتصف القرن الماضي(143) ، وجدد بناءه سنة 1217 هـ وحفر حوله خندق عميق(144) ، وقد أقيمت في هذا السور الأبراج المكتنفة بالمعاقل والمراصد والمخافر، وجعل في طبقاته مزاغل وهي متقاربة في الصغر والكبر وذلك لوضع فوهات المدافع والبنادق عند الحاجة(145) ، والسبب في ذلك يعود إلى حماية النجف من هجمات الوهابيين المتلاحقة(146) ، وقد تم تجديد السور مرة ثانية سنة (1233 هـ)(147) . كما هو واضح في (الشكل 1) الذي يبين مراحل تطور الأسوار.
وفتحت في السور بوابتان هما الباب الكبير مقابل مدينة الكوفة وباب الثلمة من جهة الغرب وبعد ذلك فتحت باب ثالثة سميت بباب السقائين، وأطلق عليها عند عامة الناس ((باب شتابية)) وتم فتح هذا الباب خلال ولاية محمد علي باشا في عهد السلطان عبد العزيز(148) .
ثم فتح باب آخر جنب الباب الكبير ثم بعد ذلك وخلال الحكم الوطني للعراق فتحت أبواب أخرى بعد أن قررت الحكومة توسيع المدينة خارج السور حيث باعت أراضي سكنية وشجعت الناس على السكن والبناء فيها فأصبح في السور ثمانية أبواب(149) .
وقد كلفت هيئة علمية بإجراء كشف موقعي على الجزء الباقي من السور الأخير عام 1976 م، من قبل الهيئة العامة للآثار والتراث، وأوضحت في تقريرها(150) ، الذي أعدته بأن بعضاً من أجزاء هذا السور مازالت قائمة في الجهة الشرقية حيث تمتد إلى مسافة (250 م) وكان هذا الجزء المدعم بثلاثة أبراج (شكل 2، لوح 1) كبيرة، ومن صفاته الأخرى انه سميك عند القاعدة وأقل سمكاً من الأعلى مزود باستحكامات دفاعية جيدة متشابهة لتلك التي عثر عليها في الآثار الآشورية القديمة(151) .
وقد ترتب على وجود الأسوار حول مدينة النجف آثار منها ايجابية، وأولها إنها صدت الهجمات التي قام بها بعض الأعراب على المدينة ثم إنها صدت أهم الهجمات الهمجية للوهابيين الذين قصدوها من شبه الجزيرة العربية وقد وصف المؤرخ ((لونكريك)) تلك الهجمات بأنها قوية وشديدة غير أن قبة علي بن أبي طالب (ع) بقيت ثابتة داخل سورها المنيع(152) . أما عن الآثار السلبية المترتبة على بناء الأسوار فأننا نلاحظ إلى يومنا هذا كيف أن الأسوار قد حدت من توسع المدينة القديمة مما نتج عن ذلك نشوء الشوارع والأزقة الضيقة التي تحول اليوم دون الاستخدام الأمثل للطرقات، ولابد لنا هنا من الإشارة إلى موقف الفقهاء من بناء الأسوار حيث اعتبر الإسلام بناء الأسوار والأبراج من الأمور المهمة التي تساعد على حماية الناس وحفظ النفس(153) .
ما المرحلة الأخيرة من مظاهر التطور العمراني في مدينة النجف فهي تمثل ظهور السكن، حيث ارتبط ظهور العمارة في مدينة النجف بظهور القبر الشريف ضمن البقعة الجغرافية التي تسمى بـ((الذكوات البيض)) وهي شبه جبلية محيطة بقبر الإمام علي (ع) والتي أشار إليها الأمام صادق (ع) عند تحديد موضع قبر جده أمير المؤمنين (ع) ((أنه بين الذكوات البيض))(154) وهذه الربوات تعرف بتسميات مختلفة منها ((جبل شرشفاه)) الذي يقع اليوم في محلة العمارة و((جبل النور)) الذي يقع اليوم في محلة البراق، و((جبل الديك)) و((عرين الأسد)) في محلة المشراق(155) ، التي انتشر السكن فيها شيئاً فشيئاً.
إلا أن بداية الاستيطان وانتشار المساكن كانت بقرب القبر الشريف ولا يوجد أي نص محدد يؤكد لنا في أي جهة بدأ انتشار المساكن في مدينة النجف، إلا أن الدكتور المظفر له رأي في هذا الموضوع حيث يقول ((أنشأت المساكن أول الأمر شمال المرقد في سنة 174 هـ وإن أول جانب نشأت فيه هو ما يعرف اليوم بطرف المشراق)).
وأخذت المساكن تمتد قرب المرقد وجنوبه وظهرت محلات سكنية كمحلة الرباط، والحجية، والتي كان موقعها قرب جامع الهندي حالياً، ومحلة الزنجيل والتي تشمل اليوم ((عكد الحمير))(156) فقد غيرت أسماء المحلات والأزقة من أسمائها الأصلية بمرور الزمن.
وهناك عدد من المنشآت الأخرى التي أنشأت في مدينة النجف منها المساجد كمسجد عمران بن شاهين ومسجد الطوسي وسنأتي على ذكرها ضمن فصل العمارة الدينية.