لو أني أعلم أن هذا هو رمضاني الأخير لوصلتُ رحمي، واجتهدتُ في ذلك حتى لم أدع قريبًا لي إلا وصلته، وقمتُ بزيارته، ولم أقتصر على الاتصالات الهاتفية؛ فعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الرَّحِمُ مُعَلَّقَةٌ بِالْعَرْشِ تَقُولُ: مَنْ وَصَلَنِي وَصَلَهُ اللهُ، وَمَنْ قَطَعَنِي قَطَعَهُ اللهُ»[1]. وأنا أُريد من الله عز وجل أن يصلني ويرحمني.
وسأبحث عن المرضى منهم وأعودهم؛ فإن الله يكون عندهم؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ اللهَ تعالى يَقُولُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: يَا ابْنَ آدَمَ؛ مَرِضْتُ فَلَمْ تَعُدْنِي. قَالَ: يَا رَبِّ؛ كَيْفَ أَعُودُكَ وَأَنْتَ رَبُّ الْعَالَمِينَ؟ قَالَ: أَمَا عَلِمْتَ أَنَّ عَبْدِي فُلاَنًا مَرِضَ فَلَمْ تَعُدْهُ، أَمَا عَلِمْتَ أَنَّكَ لَوْ عُدْتَهُ لَوَجَدْتَنِي عِنْدَهُ..»[2].
فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم حريص على صلة الرحم؛ فيستأذن ربه ليستغفر لأُمِّه ويزورها في قبرها؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اسْتَأْذَنْتُ رَبِّي أَنْ أَسْتَغْفِرَ لأُمِّي فَلَمْ يَأْذَنْ لِي، وَاسْتَأْذَنْتُهُ أَنْ أَزُورَ قَبْرَهَا فَأَذِنَ لِي»[3].
وسأبحث عن المحتاجين من أقاربي؛ فأساعدهم بمالي؛ فعن سلمان بن عامر الضبي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الصَّدَقَةُ عَلَى الْـمِسْكِينِ صَدَقَةٌ، وَعَلَى ذِي الْقَرَابَةِ اثْنَتَانِ: صَدَقَةٌ وَصِلَةٌ»[4].
ولا يمنعني من تلك الصلة أن هناك مَنْ يقطعني؛ فسأذهب إليه وأصله، ومَنْ أخطأتُ في حقِّه سأعتذر له رحمة بنفسي من عذاب الله؛ فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لَيْسَ الْوَاصِلُ بِالْـمُكَافِئِ وَلَكِنِ الْوَاصِلُ الَّذِي إِذَا قُطِعَتْ رَحِمُهُ وَصَلَهَا»[5].
وكما أهتمُّ بوالدَيَّ في حياتهما، سأصل رحمهما من بعد موتهما؛ فعن عبد الله بن عمر أنَّ رجلاً من الأعراب لقيه بطريق مكَّة، فسلَّم عليه عبد الله، وحمله على حمارٍ كان يركبه، وأعطاه عمامةً كانت على رأسه، فقال ابن دينارٍ: فقلنا له: أصلحكَ الله إنَّهم الأعراب؛ وإنَّهم يَرْضَوْنَ باليسير. فقال عبد الله: إنَّ أبا هذا كان وُدًّا لعمر بن الخطاب، وإني سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إِنَّ أَبَرَّ الْبِرِّ صِلَةُ الْوَلَدِ أَهْلَ وُدِّ أَبِيهِ»[6].
وقد حرص الصحابة على صلة الرحم بكل سبيل؛ فعن سُعدى بنت عوف المرية[7] قالت: دخل عليَّ طلحة بن عبيد الله يومًا وهو خاثر[8]، فقلتُ له: ما لك؟ لعلَّك رابك[9] من أهلك شيء فنُعتبك[10]. فقال: لا والله، ونِعْمَ خليلة المرء المسلم، ولكن مالٌ عندي قد غمني. فقلتُ: ما يغمُّك، عليك بقومك. قال: يا غلام؛ ادع لي قومي. يعني فقسمه بينهم، فسألتُ الخازن كم أعطى، فقال: أربعمائة ألف[11].
وقد جاءه ذات مرَّة رجل وسأله برحم؛ فقال: ما سُئِلْتُ بهذا الرحم قط قبل اليوم، وقد بعتُ لي حائطًا بسبعمائة ألف درهم وأنا فيه بالخيار؛ فإن شئتَ ارتجعتُه وأعطيتُك، وإن شئتَ أعطيتُك ثمنه[12].
ـــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــ
[1] البخاري: كتاب الدعوات، باب الدعاء بالموت والحياة، (5989)، ومسلم: كتاب البر والصلة والآداب، باب صلة الرحم وتحريم قطيعتها، (2555)، واللفظ له.
[2] مسلم: كتاب البر والصلة والآداب، باب فضل عيادة المريض، (2569)، وابن حبان (269).
[3] مسلم: كتاب الجنائز، باب استئذان النبي صلى الله عليه وسلم ربه تعالى في زيارة قبر أمه، (976).
[4] الترمذي: كتاب الزكاة، باب ما جاء في الصدقة على ذي القرابة (658)، وقال: حديث حسن. والنسائي (2363)، وابن ماجه (1844)، وأحمد (16272).
[5] البخاري: كتاب الأدب، باب ليس الواصل بالمكافئ، (5645)، والترمذي (1908)، وأبو داود (1697)، وأحمد (6524).
[6] مسلم: كتاب البر والصلة والآداب، باب فضل صلة أصدقاء الأب والأم ونحوهما، (2552)، وأبو داود (5143)، وأحمد (5653).
[7] سعدى بنت عوف بن خارجة بن سنان بن أبي حارثة المرية، امرأة طلحة بن عبيد الله، لها صحبة.
[8] خاثر النفس؛ أي: ثقيلها غير طَيِّبٍ ولا نَشِيطٍ. ابن منظور: لسان العرب، مادة (خثر)، 4/230.
[9] ما رابك من أمر؛ أي: جعلت فيه التهمة والظن. ابن منظور: لسان العرب، مادة (ريب)، 1/441.
[10] نُعتبك؛ أي: نُرضيك. ابن منظور: لسان العرب، مادة (عتب)، 1/576.
[11] ابن عساكر: تاريخ دمشق، تحقيق: عمرو بن غرامة العمروي، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، 1415هـ= 1995م، 25/100، 101.
[12] ابن عساكر: تاريخ دمشق، 25/100.
من كتاب رمضان الأخير للدكتور راغب السرجاني