يصادف الرابع عشر من شهر رمضان ذكرى استشهاد المختار بن عبيدة الثقفي رحمه الله
ووفاءً منّا لهذا المؤمن المجاهد الذي أفرح العلويين وأدخل السرور على الفاطميات بقتله أزلام بني اُميه المجرمين الذين قتلوا ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وآله والخيرة من أهل بيته وأصحابه سلام الله عليهم أجمعين، وتكريماً للدور العظيم الذي قام به، نقدّم لكم باقات من حياة هذا الثائر العظيم سائلين الله عزوجل القبول والنفع للمؤمنين.
المختار الثقفي ناصر أهل البيت
لقد تركت واقعة كربلاء وما رافقها من الجرائم التي ارتكبها الامويون من تمثيل بالقتلى وسلب ونهب وسبي لبنات رسول الله صلى الله عليه وآله اثرا في نفس كل مسلم وعبأت الجماهير للنهوض ودفعت بهم في الطريق الدامي الطويل طريق النضال بعد ان كان الامويون بقيادة معاوية يحاولون ان ينتزعوا الروح النضالية التي بعثها و غرسها الاسلام في نفوس المسلمين فجاءت نهضة الحسين سلام الله عليه اغنى نهضة بالعزم والتصميم في المضي بالنضال الدامي الى نهايته وحتى النصر او الشهادة.
لقد رفض الثائرون في كربلاء جميع العروض والمغريات التي بذلت لهم من اجل تحرير الامة من الظلم والعسف والجور ولم يستهدفوا من ثورتهم ان يحكموا الناس ولا مغنما لانفسهم وانما استهدفوا تحرير مجتمع من اولئك الطغاة الذين كانوا يسومونهم سوء العذاب، وبلا شك فان جميع الانتفاضات والثورات التي حدثت بعد مقتل الامام الحسين سلام الله عليه كان مبعثها تلك الروح الجديدة التي بثتها نهضته الدامية في نفوس الجماهير وقد استفاد منها حتى اعداء اهل البيت كابن الزبير وأمثاله وان لم تكن ثورته امتداد لنهضة الحسين ومن تلك الفصيلة، لانه كان يعد العدة ويعمل للسلطة قبل مصرع الحسين سلام الله عليه وكانت أطماعه الشخصية هي التي دفعته على التحرك، وكان يرى الحسين منافسا خطيرا على تحركاته، فلما بلغ مقتل الحسين اهالي مكة اتجه اليه اهلها وقالوا له: اظهر بيعتك فلم يبق احد ينافسك ويُخاف منه عليك، فقال لاصحابه: لا تعجلوا، وظل معتصما بالكعبة يتظاهر بالزهد والتقوى، ولم يكن منه هذا الموقف الا ليأخذ مقتل الحسين اثره الدامي في نفوس المسلمين وتستعر النقمة على الحكم الاموي من اجله، ولما وجد ان المسلمين بكل فئاتهم يتململون من تلك الجريمة ويرون فيها حدثا يهدد مصير الامة وكيانهم وأحس بأن الكثيرين من المسلمين اصبحوا يفتشون عن بديل للامويين أظهر دعوته ووجد ان الحديث عن الحسين والتباكي عليه من أشد الاسلحة فتكا راح يتباكى عليه ويندد بقاتليه ويبث دعاته في انحاء الحجاز والعراق وأوصاهم بالترحم على الحسين والتنديد بقاتليه فكان لنهضة الحسين وما نتج عنها اكبر الاثر في ايقاظ الجماهير المسلمة والقضاء على روح التواكل والخنوع والتسليم للحكامين وأصبح الشعب المسلم قوة معبأة للانفجار بين الحين والآخر وكانت ثورة المدينة وما رافقها من الجرائم والاستخفاف بمقدسات الاسلام، وجاءت بعدها ثورة التوابين بقيادة سليمان بن صرد الخزاعي الانتحارية، وكان المختار في جميع هذه المراحل يعد العدة للثورة ويعمل بحكمة وروية لنجاحها، وقبل الحديث عنها لابد من الاشارة الموجزة عن نشأته والمراحل التي مر بها قبل ان يتولى قيادة قيامه على الحكم الاموي.
من حياة المختار
فقد جاء في الحلقة السادسة من أعلام العرب للدكتور علي الخرطبولي ان والده ابا عبيدة بن مسعود قد اعتنق الاسلام وأخلص له وكان شقيقة عروة بن مسعود من السابقين للاسلام خلال حصار الطائف وان ابا عبيدة قد اشترك في معارك المسلمين مع الفرس واختاره عمر بن الخطاب للقيادة فأبدى في ميادين القتال شجاعة واستبسالا قل نظيرهما في تاريخ المعارك ومات ابو عبيدة شهيدا على شاطىء الفرات في سبيل الاسلام بعد ان هجم عليه فيل ابيض من الفيلة التي كان الفرس يستخدمونها في معاركهم يومذاك وداسه الفيل بأقدامه وتولى القيادة بعده سبعة من ابناء ثقيف على التوالي كان اولهم ولده جبر وقتلوا من بعده، وأضاف الى ذلك ان أم جبر زوجة ابي عبيدة كانت قد رأت في منامها ان رجلا نزل من السماء ومعه اناء فيه شراب من الجنة فشرب منه ابو عبيدة وابنه جبر وجماعة من اهله. اما ابنه المختار فلم يتحدث المؤرخون عنه في مطلع حياته ولم يهتموا بتاريخه الا بعد ان ظهر على مسرح الاحداث في العراق خلال الحكم الاموي مما جعل مهمة الباحث عن حياته في طفولته وشبابه صعبة وعسيرة.
نشأته
وبلا شك ان ولادته كانت في مدينة الطائف حيث كانت موطن اهله وعشيرته، ويمكن ان نستنتج من المصادر التي تعرضت لتاريخ وفاته بأن ولادته كانت في السنة الاولى للهجرة، لان اكثر المصادر تدعي انه قتل سنة 67 وهو في السابعة والستين من عمره ولازم ذلك ان ولادته كانت في السنة الاولى من هجرة الرسول صلّى الله عليه وآله وأمه دومة امرأة عربية قد اشتركت مع زوجها في المعارك خلال معاركه للفرس وتلقت مصرعه ومصرع ولدها جبر بصبر وثبات واحتسبتهما عندالله، وكان المختار يومذاك في الثالثة عشرة من عمره، وقد بدت عليه علائم النجابة وهو في حداثة سنه، ويروي بعض المؤرخين بهذه المناسبة ان اباه جاء به الى امير المؤمنين سلام الله عليه وهو صبي فأجلسه في حجره ومسح رأسه وهو يقول: «يا كيس يا كيس».
وقد استنتج بعض الباحثين من هذه الكلمة ان عليا سلام الله عليه كان يعبر بها عن مخبآت المستقبل وبما يظهر له من بطولات وحنكة سياسية وآراء وتصرفات سديدة رشيدة كالاخذ بثارات اهل البيت ومناوأة المغتصبين لحقوقهم وتراثهم.
لقد كان المختار معاصرا للمغيرة بن شعبة الثقفي وكانا من ابرز من انجبتهم تلك القبلية واشتركا في الدهاء والذكاء ولكن المغيرة سخر دهاءه وذكاءه للمكر والخداع والنفاق كما وصفه اكثر المؤرخين، وقد جاء في تاريخ الخلفاء للسيوطي في وصفه: لو ان مدينة لها ثمانية ابواب لا يمكن الخروج من باب منها الا بمكر واحتيال لخرج المغيرة من ابوابها كلها، ومع انه كان يملك القدرة على المكر والمراوغة والاحتيال فقد عاش تابعا للحاكمين يستعمل طموحه ودهاءه ودينه ليكون مقربا منهم او متوليا لهم على بعض المقاطعات ورافق معاوية خلال الفترة التي حكم فيها الناس وجاراه في كل مواقفه من امير المؤمنين وكان من مستشاريه المفضلين، ولم يحدث التاريخ عنه انه وقف موقفا شريفا مع أخصامه وأخصام أسياده، ولم يكن يهتم الا برضاهم ليعهدوا اليه بحكم بعض العواصم الاسلامية يبرز من خلالها على رؤوس الجماهير.
ويعزو المستشرق (بركلمان) مواقف المغيرة الى انه كان رجلا انتهازيا لاذمة لا ولا ذمام، فقد رجح لمعاوية ان يعهد بالخلافة لولده يزيد ليوليه الكوفة وكان طامعا بها وهي العقبة الاولى التي يجب تذليلها لنجاح هذه الفكرة، وعندما اشار على معاوية بذلك كان معاوية يحب ان يسمع من أنصاره ومعاونيه رأيا من هذا النوع فرجحه له المغيرة وقال: لقد وضعت رجلي معاوية في غرز يتخبط فيه ومع ذلك فقد تعهد له بتذليل ما يعترضه من الصعوبات في الكوفة.
اما المختار الثقفي فقد اختار لبلوغ اهدافه طريق الكفاح والنهضة بدلا من النفاق والمراوغة واعتمد في كل ما كان يطمح اليه على ذكائه وسيفه وجهوده فكان طريقه طويلا وشاقا ومحفوفا بالمخاطر والاهوال وظل يحمل سيفه يجاهد به حتى اللحظات الاخيرة من حياته شأن الاباة والابطال في مختلف العصور.
دوره السياسي
لقد كان معارضا للحكم الاموي ولسياسة الامويين وتسلطهم منذ دخل معترك السياسة، هذا بالاضافة الى تشيعه وولائه لاهل البيت سلام الله عليه ووقف الى جانب مسلم بن عقيل في الكوفة ودعا الناس الى الالتحاق بالحسين سلام الله عليه ونصرته، وتعرض بسبب ذلك لسجون الامويين ومعتقلاتهم وتعذيبهم، ولقد حارب الامويين مع ابن الزبير حينما فر من ابن زياد من الكوفة والتحق به في مكة وفيها اشترك مع المكيين في صدهم عن الكعبة التي كانت هدفا لنيرانهم ووسائل الدمار التي استعملوها للاجهاز على حركة ابن الزبير قبل ان يستفحل امرها، وحارب قتلة الحسين والجيش الاموي الذي قاده ابن زياد لاسترجاع العراق الى الحكم الاموي، كما حارب الزبيريين ولقي مصرعه في ميدان القتال على أيديهم، وكان قد ناصرهم بالامس القريب على الامويين بالحجاز وغيره من المناطق.