والله يريد أن يتوب عليكم
هذا هو الهدف الأول: أن نكون أهلاً لمغفرة الله سبحانه وتعالى؛ فالله سبحانه وتعالى برحمته ولطفه يُريد أن يتوب علينا؛ فالأمر إذن إرادة ربانية علينا أن نغتنمها، ولا نتركها تتجاوزنا إلى غيرنا فنكون من الخاسرين؛ فالمفلح من المسلمين هو من اغتنم نفحات الله سبحانه وتعالى، وقد فتح الله سبحانه وتعالى المجال واسعًا لعباده بتنويع النفحات والعطايا، إلا أن أول ما نريد من النفحات في رمضان: التوبة.

ولكن لماذا اخترتُ التوبة كأول الأهداف في رمضان؟
والإجابة هي: أن هناك أحاديث كثيرة لفتت أنظارنا إلى موضوع المغفرة في رمضان؛ منها -مثلاً- ثلاثة أحاديث نبوية متشابهة المتن تقريبًا مع اختلافها في الأعمال الصالحة التي تدعو إليها؛ فهي تجعل المغفرة من الله تعالى هي الجزاء على تلك الأعمال المختلفة؛ فيقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "مَنْ صَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ"[1].

ويقول كذلك صلى الله عليه وسلم: "مَنْ قَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ"[2].

كما يقول: "مَنْ يَقُمْ لَيْلَةَ الْقَدْرِ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ"[3].

فهذه الأعمال الصالحات كلها جزاؤها المغفرة من الله سبحانه وتعالى، ولكن يتوقَّف ذلك الجزاء على أن يكون العبد قد أدَّى العبادة إيمانًا واحتسابًا؛ فما المقصود إذن بـ"إيمانًا واحتسابًا"؟
لا يمكن أن يكون اللفظان مترادفين؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أُوتي جوامع الكلم[4]؛ لذا فهو لا يحتاج إلى التكرار بألفاظ مختلفة، ويكفيه أن يختصر؛ فالإيجاز من فنون البلاغة؛ لذا وجدنا الأئمة يُفَسِّرون الكلمتين على النحو التالي، يقول الإمام ابن حجر العسقلاني: والمراد بالإيمان الاعتقاد بِحَقِّ فَرْضِيَّةِ صومه، وبالاحتساب طلب الثَّواب من الله تعالى[5].

ويفسرها المناوي قائلاً: "إيمانًا" تصديقًا بوعد الله بالثواب عليه، "واحتسابًا" إخلاصًا... وجمع بينهما لأن المصدِّق للشيء قد لا يفعله مخلصًا؛ بل لنحو رياء، والمخلص في الفعل قد لا يكون مصدِّقًا بثوابه فلا مُلجِئ لجعل الثاني تأكيدًا للأول[6].

وهكذا نجد أن العلماء قد فرقوا بين الكلمتين فـ"إيمانًا" تعني التصديق بفرضية أو ندب هذا الصيام، أو قيام رمضان عمومًا، أو ليلة القدر خاصة، و"احتسابًا" تعني الإخلاص وطلب الأجر من الله تعالى وحده؛ وها نحن إذن نعود من جديد لقضية الإخلاص؛ الذي من دونه تحبط الأعمال.

ونجد أنفسنا أمام قضية مهمة، وهي:

كيف يكون صيامنا وقيامنا إيمانًا واحتسابًا؟
ونجد الإجابة في حديث لرسول الله صلى الله عليه وسلم يوجهنا فيه إلى كيفية الالتزام بالصيام وأدائه على خير وجه؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "الصِّيَامُ جُنَّةٌ؛ فَلَا يَرْفُثْ وَلَا يَجْهَلْ، وَإِنِ امْرُؤٌ قَاتَلَهُ أَوْ شَاتَمَهُ فَلْيَقُلْ: إِنِّي صَائِمٌ. مَرَّتَيْنِ؛ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ! لخُلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ أَطْيَبُ عِنْدَ الله تَعَالَى مِنْ رِيحِ المِسْكِ، يَتْرُكُ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ وَشَهْوَتَهُ مِنْ أَجْلِي، الصِّيَامُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ، وَالحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا"[7].

فقبول الله تعالى للصيام كما هو مرتبط بالإخلاص فإنه يرتبط من ناحية أخرى بمحافظة الصائم على سلوكياته أثناء صيامه، وبأن تكون نية الصائم أنه يصوم إرضاء لله تعالى، وابتغاء لمثوبته وحده لا أحد معه تعالى.

وكذلك يترتب القبول على هجران المعاصي والذنوب؛ فقد حذَّرنا صلى الله عليه وسلم أشدَّ التحذير من الاقتراب من المعاصي في هذا الشهر، وأنها تحبط العمل؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ وَالْعَمَلَ بِهِ فَلَيْسَ لله حَاجَةٌ فِي أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ"[8].

ولهذا نجد أن الصالحين دائمًا يحاولون أداء فريضة الصيام على أتم وجه من أجل رضوان الله تعالى؛ فها هو الأحنف بن قيس يقال له: إنك شيخ كبير، وإن الصيام يضعفك. فقال: إني أعدُّه لسفر طويل، والصبر على طاعة الله سبحانه أهون من الصبر على عذابه[9].

وحرصًا من الحسن البصري على إخوانه فقد أخذ يُنَبِّهَهُم حتى لا يفرطوا في رمضان فينفلت من بين أيديهم؛ فقد مرَّ بقوم وهم يضحكون فقال: إن الله سبحانه وتعالى جعل شهر رمضان مضمارًا لخلقه، يستبقون فيه لطاعته، فسبق قوم ففازوا، وتخلَّف أقوام فخابوا، فالعجب كل العجب للضاحك اللاعب في اليوم الذي فاز فيه السابقون وخاب فيه المبطلون. أما والله لو كشف الغطاء لاشتغل المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته؛ أي كان سرور المقبول يشغله عن اللعب، وحسرة المردود تسدُّ عليه باب الضحك[10].


أمَّا القيام فلكي يكون إيمانًا واحتسابًا فإن له آدابًا ومظاهر تظهر في سلوك المسلم؛ وله كذلك أنوار تتجلَّى على العبد؛ فالمسلم لا بُدَّ أن يُوقن أن قيام الليل هو العون الإلهي والمدد الرباني؛ الذي يُعينه الله به على الثبات على الإسلام، وعلى القيام بواجب الدعوة إلى الله تعالى، يقول تعالى: {قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا (2) نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا (3) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا (4) إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا (5) إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا} [المزمل: 2 - 6].

وكذلك فإن المسلم يوقن بأن الله سبحانه وتعالى يصطفي من يقف بين يديه في تلك السويعات القلائل في جوف الليل؛ ومن ثَمَّ يُكافئهم بفيوضات العطاء؛ فعن جابر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إِنَّ مِنَ اللَّيْلِ سَاعَةً لاَ يُوَافِقُهَا عَبْدٌ مُسْلِمٌ يَسْأَلُ اللهَ خَيْرًا إِلاَّ أَعْطَاهُ إِيَّاهُ" [11].

وأول أمر يجعل القيام إيمانًا واحتسابًا أن يكون طويلاً لا تشبع فيه من لذَّة القرآن والوقوف بين يدي الله تعالى؛ فعن الفضيل قال: إني لأستقبل الليل من أوله فيهولني طوله، فأفتتح القرآن فأُصْبِحُ وما قضيتُ نهمتي[12].

وتظل تُكابد نفسك في قيام الليل حتى يرضى الله عنك؛ فقد قال الحسن البصري: ما نعلم عملًا أشدَّ من مكابدة الليل ونفقة هذا المال[13].

أما ثاني أمر فأن تتدبَّر ما تقرأ من الآيات، سواء كانت كثيرة أم قليلة، وهذا لا يتعارض مع ما قلناه من طول قيام الليل؛ فيمكن للمسلم أن يقوم الليل كله بآية واحدة؛ فعن أبي ذر رضي الله عنه أنه قال: "قام النبي صلى الله عليه وسلم بآية حتى أصبح يُرَدِّدها. والآية {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الحَكِيمُ} [المائدة: 118]" [14].

ويُقال: إن مالك بن دينار رضي الله عنه بات يُرَدِّد هذه الآية ليلة حتى أصبح: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ...} الآية [الجاثية: 21][15].

أما بالنسبة إلى ليلة القدر فلكي تكون إيمانًا واحتسابًا فينبغي ألا يكون العبد معها مقامرًا يراهن على كون الليلة هي ليلة السابع والعشرين، ويأتي بالأحاديث التي تُؤَيِّد رأيه؛ فيُكثر في تلك الليلة من العبادات ويترك الليالي الأخر؛ معتمدًا على ما رواه أُبَيُّ بن كعبٍ -وقيل له: إنَّ عبد الله بن مسعودٍ يقول: من قام السَّنَةَ أصاب ليلة القدر- فقال أُبَيٌّ: والله الَّذي لا إله إلاَّ هو إنَّها لفي رمضان -يحلف ما يستثني- ووالله إنِّي لأعلم أيُّ ليلةٍ هي. هي اللَّيلة الَّتي أمرنا بها رسول الله صلى الله عليه وسلم بقيامها؛ هي لَيْلَةُ صَبِيحَةِ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ، وَأَمَارَتُهَا أَنْ تَطْلُعَ الشَّمس في صبيحة يومها بيضاء لا شعاع لها[16].

ولكنه يغفل أن هناك أحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم تذكر مواعيد مختلفة لليلة القدر؛ منها أنها في الوتر من العشر الأواخر، وأخرى أنها في العشر الأواخر عمومًا؛ فعن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُجَاوِرُ في العشر الأواخر من رمضان، ويقول: "تَحَرَّوْا لَيْلَةَ الْقَدْرِ فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ"[17].

وعن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "تَحَرَّوْا لَيْلَةَ الْقَدْرِ فِي الْوِتْرِ مِنَ الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ"[18].

وعن عبادة بن الصَّامت قال: خرج النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم ليُخبرنا بليلة القدر فَتَلَاحَى رَجُلَانِ من المسلمين فقال: "خَرَجْتُ لِأُخْبِرَكُمْ بِلَيْلَةِ الْقَدْرِ فَتَلَاحَى فُلَانٌ وَفُلَانٌ فَرُفِعَتْ وَعَسَى أَنْ يَكُونَ خَيْرًا لَكُمْ فَالْتَمِسُوهَا فِي التَّاسِعَةِ وَالسَّابِعَةِ وَالخَامِسَةِ"[19].

وعن سالم بن عبد الله عن ابن عمر رضي الله عنه أَنَّ أُنَاسًا أُرُوا ليلة القدر في السَّبع الأواخر، وأنَّ أُنَاسًا أُرُوا أنَّها في العشر الأواخر فقال النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم: "الْتَمِسُوهَا فِي السَّبْعِ الْأَوَاخِرِ"[20].

كل هذه الأحاديث وغيرها يدفعنا إلى القول بالاحتراز والتركيز على الاجتهاد في العبادة في العشر الأواخر كلها؛ فإن من يفعل ذلك خير ممن ركز على ليلة واحدة وأهمل غيرها؛ فقد يكون هناك خطأ في رؤية هلال الشهر من أوله؛ فيختلط الزوجي بالفردي من الأيام، ويصبح ما ظنه ليلة 27 هي ليلة 28 أو 26، أمَّا من اجتهد في العشر كلها فقد ضمن أنه دخل في ليلة القدر، وليجتهد في الدعاء بأن يتقبَّل الله منه.

كما أن من معاني "إيمانًا واحتسابًا" أن ينشغل العبد بالعبادة والاجتهاد فيها في تلك الليلة دون الاهتمام بالمظاهر؛ فالوقت ثمين للغاية في تلك الليلة، وعلى الرغم مما قد يجده البعض من خشوع إذا صلوا وراء إمام معين؛ فإن من اهتم بالخشوع في قيام تلك الليلة، وتدبَّر في قراءته للقرآن فيها، أو فيما يتلوه إمام المسجد الذي يُصَلِّي فيه، ولولم يكن قارئًا شهيرًا أو صاحب أعذب صوت، وشعر بالآيات تنزل على قلبه وكأنها تتنزل لأول مرة عليه خاصة، هذا بالتأكيد أفضل ممن أضاع وقته في الذهاب ليصلي وراء قارئ معين؛ فأضاع ساعة في الذهاب إلى المسجد، وأخرى في العودة منه، كل ذلك ليستمتع بالصوت الجميل، دون أن يحدث تغير في سلوكه وتفكيره، والله أعلم.

إنها قضية قلبية؛ فكلا الأمرين "إيمانًا واحتسابًا" محلهما القلب ولا يطلع عليهما إلا الله تعالى، وبالتالي لا يستطيع أحد الحكم عليهما، فليس الأمر بالظاهر والشكل الخارجي؛ فقد يتجاور رجلان في الاصطفاف للقيام، ولكن شتان ما بين قلبيهما! فيُغفر لأحدهما، بينما تُلقَى صلاة الآخر في وجهه.

ومن أجل أن نحصل على مغفرة الله تعالى لذنوبنا؛ فهناك نقطة مهمة ينبغي طرقها؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: "الصَّلَوَاتُ الخَمْسُ، وَالجُمْعَةُ إِلَى الجُمْعَةِ، وَرَمَضَانُ إِلَى رَمَضَانَ، مُكَفِّرَاتٌ مَا بَيْنَهُنَّ إِذَا اجْتَنَبَ الْكَبَائِرَ"[21].

فهذا الحديث يفتح باب المغفرة من الصغائر من نظرة حرام، أو كلمة خارجة، أو سلوك مخالف للأخلاق الحميدة.

ولكن ماذا عن الكبائر؟
إن الكبائر تحتاج إلى توبة خاصة، وإذا كنتَ تريد أن تخرج من رمضان مغفورًا لك، وأن يكون رمضانك هذا أجمل رمضان؛ بل أن يبدل الله سيئاتك حسنات {إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللهُ غَفُورًا رَحِيمًا} [الفرقان: 70]؛ فلا بُدَّ إذن من أن تطمع في أن يغفر الله لك الكبائر، ولكن كيف؟
لا بُدَّ أن توجِّه توبة خاصة لهذه الكبائر؛ فيجب أن تستحضر في ذهنك ذنوبك الكبيرة التي ارتكبتها، وتقلع عنها وتندم على إتيانها، وتعزم على عدم العودة إليها ثانيةً إن شاء الله، وإن كان لأحد من الناس حقٌّ عندك بسبب كبيرة ارتكبتها فلا بُدَّ أن تردَّه إليه.

ولكن العقبة الحقيقية التي تمنع الإنسان من التوبة من الكبائر هي ظنه أنه لم يفعل كبيرة أصلًا؛ فهو يظن أن الكبائر هي: الشرك والقتل والسرقة والزنا وشرب الخمر والسحر والفرار من الزحف فقط، وما يدري أن هناك من أفعاله التي ربما يكررها يوميًّا مرات كثيرة ما هو أكبر الكبائر، مثل عقوق الوالدين؛ والعقوق كما عرَّفه العلماء: أَنْ يُؤْذِيَ الْوَلَدُ أَحَدَ أَبَوَيْهِ بِمَا لَوْ فَعَلَهُ مَعَ غَيْرِ أَبَوَيْهِ كَانَ مُحَرَّمًا مِنْ جُمْلَةِ الصَّغَائِرِ فَيَكُونُ فِي حَقِّ الْأَبَوَيْنِ كَبِيرَةً[22].

فكثير من الناس يعقون آباءهم وأمهاتهم دون أن يدروا أن ما يفعلونه عقوق، فمخالفة أوامرهم ونواهيهم عقوق، والسفر وتركهما دون موافقتهما عقوق، والزواج دون إذنهما عقوق، وتقديم الزوجة والأبناء عليهما عقوق، والتأفُّف من طاعتهما –ولو مع طاعة الأمر- عقوق، وعدم إظهار التوقير والاحترام لهما عقوق، وتجاهلهما عقوق، والنقاش معهما بصوت مرتفع أو إظهار أنهما على خطأ وأن الابن يفهم أكثر عقوق، وحتى قول: أُفٍّ. وغيرها من كلمات التضجر أو النظرة الحادة إليهما أو إلى واحد منهما هذا عقوق.

وأنا أعرف بعض الشخصيات ممن يؤدون الصلوات بانتظام في المسجد، ولكنه يقاطع أمه، ويتهجم عليها بكلمات لا يمكن أن يخاطب بها أصدقاءه أو جيرانه، ويتعالى على والديه، ويرى نفسه أكثر منهما علمًا وفكرًا ومالًا؛ فلا يستمع لنصحها.

فإذا أدركت ذلك فكيف أخرج من هذه الكبيرة؟
لا بُدَّ أن أتعامل مع والدي بكل تقدير وإكبار وتحقيق لما يطلبانه، ما داما لا يطلبان مني مخالفة شرع الله، وحتى لو طلبا ذلك فعليَّ عدم تنفيذ ذلك الأمر، ولكن مع حسن مخاطبتهما، وذلك عين ما أمرنا به الله تعالى: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} [لقمان: 15].

وهناك كذلك كبيرة الكذب؛ فعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إِنَّ الصِّدْقَ يَهْدِي إِلَى الْبِرِّ، وَإِنَّ الْبِرَّ يَهْدِي إِلَى الجَنَّةِ، وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَصْدُقُ حَتَّى يَكُونَ صِدِّيقًا، وَإِنَّ الْكَذِبَ يَهْدِي إِلَى الْفُجُورِ، وَإِنَّ الْفُجُورَ يَهْدِي إِلَى النَّارِ، وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَكْذِبُ حَتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللهِ كَذَّابًا"[23].

وقد وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم الكاذب بالنفاق؛ فعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أَرْبَعٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ مُنَافِقًا خَالِصًا، وَمَنْ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْهُنَّ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنَ النِّفَاقِ حَتَّى يَدَعَهَا: إِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ، وَإِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ، وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ"[24].

ويخطئ كثير من الناس بظنهم أن الكذب مجرَّد أن تروي أشياء غير صحيحة؛ ولكنه في الحقيقة يدخل في أبواب كثيرة؛ فمن الكذب اختراع الشائعات وكذلك ترويجها؛ يقول الله تعالى: {لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ المُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالمُرْجِفُونَ فِي المَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا} [الأحزاب: 60].

ويفسر الإمام ابن كثير الآية بقوله: "{وَالمُرْجِفُونَ فِي المَدِينَةِ} يعني الذين يقولون: "جاء الْأَعْدَاءُ"، وَ"جَاءَتِ الْحُرُوبُ"، وَهُوَ كَذِبٌ وَافْتِرَاءٌ"[25]. وهذا الكلام هو عين الشائعات التي يُرَوِّجها منافقو العصر وكل عصر ممن لا يريدون بالأمة خيرًا.

بل إن من الكذب أن ينقل كل ما يسمع من الكلام؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: "كَفَى بِالمَرْءِ كَذِبًا أَنْ يُحَدِّثَ بِكُلِّ مَا سَمِعَ"[26]. وفي رواية: "كَفَى بِالمَرْءِ إِثْمًا"[27]. فما يسمعه الإنسان قد يتضمَّن كذبًا من غيره، أو شائعة، أو غيبة، أو سبًّا، أو إساءة من أي نوع.

هذا الذنب الكبير لا بُدَّ أن أتوب منه ليغفره لي الله سبحانه وتعالى في أجمل رمضان؛ لذا لا بُدَّ أن أتحرَّى الصدق في جميع أحوالي، وأترك الكذب حتى فيما كنت أراه هزلًا؛ فعن أبي أمامة رضي الله عنه، أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أَنَا زَعِيمٌ بِبَيْتٍ فِي رَبَضِ[28] الجَنَّةِ لِمَنْ تَرَكَ الْمِرَاءَ وَإِنْ كَانَ مُحِقًّا، وَبِبَيْتٍ فِي وَسَطِ الجَنَّةِ لِمَنْ تَرَكَ الْكَذِبَ وَإِنْ كَانَ مَازِحًا، وَبِبَيْتٍ فِي أَعْلَى الجَنَّةِ لِمَنْ حَسَّنَ خُلُقَهُ"[29].

وهناك حديث للرسول صلى الله عليه وسلم في منتهى الأهمية والخطورة؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "رَغِمَ أَنْفُ[30] رَجُلٍ ذُكِرْتُ عِنْدَهُ فَلَمْ يُصَلِّ عَلَيَّ، وَرَغِمَ أَنْفُ رَجُلٍ دَخَلَ عَلَيْهِ رَمَضَانُ ثُمَّ انْسَلَخَ قَبْلَ أَنْ يُغْفَرَ لَهُ، وَرَغِمَ أَنْفُ رَجُلٍ أَدْرَكَ عِنْدَهُ أَبَوَاهُ الكِبَرَ فَلَمْ يُدْخِلَاهُ الجَنَّةَ"[31].

لقد كرر رسول الله صلى الله عليه وسلم جملة "رغم أنف" التي تعني المذلة والخزي ليبين لنا –ضمن ما يبين- أن فوات المغفرة في شهر رمضان هو أعظم الخزي للمسلم؛ فالمغفرة هدف سامٍ ينبغي على المسلم أن يسعى وراءه بكل جهده، وإذا لم يحصل عليها فليس الأمر يتوقف على فوات فرصة جيدة كانت بالإمكان، وإنما قد خسرت وأصابك الخزي والذل؛ لأن فرصة الحصول على المغفرة في رمضان أكبر بكثير من الحصول عليها في غيره؛ حيث أبواب الثواب والفضل تكون مشرعة فيه؛ فإذا لم تستطع أن تكون أهلاً للمغفرة في رمضان فما أصعب الأمر في غيره!

نحن إذن أمام أمرين تتحقق بهما المغفرة:
الأول: الإحسان في الصيام والقيام وقراءة القرآن والصدقة؛ فتُغفر لنا الصغائر: "... إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ".

الثاني: التوبة الخاصة من كبائر الذنوب التي تطرَّقنا إليها في حياتنا، وهذه التوبة الخاصة لها شروط:

1- الإقلاع عن الذنب.
2- الندم على ارتكابه.
3- العزم على عدم العودة إليه.
4- إعادة الحقوق إلى أصحابها إذا كان الذنب في حق العباد.
فلو أكرمك الله بالتوبة من الصغائر والكبائر في شهر رمضان، وخرجت بصفحة بيضاء، فسيكون رمضانك هذا.. أجمل رمضان.

المصدر: كتاب اجمل رمضان للدكتور راغب السرجاني

[1] البخاري: كتاب الصوم، باب من صام رمضان إيمانًا واحتسابًا ونية، (1802)، عن أبي هريرة رضي الله عنه، ومسلم: كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب الترغيب في قيام رمضان وهو التراويح، (760).
[2] البخاري: كتاب صلاة التراويح، باب فضل من قام رمضان، (1905)، عن أبي هريرة رضي الله عنه، ومسلم: كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب الترغيب في قيام رمضان وهو التراويح، (759).
[3] البخاري: كتاب الإيمان، باب قيام ليلة القدر من الإيمان، (35)، عن أبي هريرة رضي الله عنه، ومسلم: كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب الترغيب في قيام رمضان وهو التراويح، (760).
[4] أخرج البخاري في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "بُعِثْتُ بِجَوَامِعِ الْكَلِمِ...". قال أبو عبد الله (البخاري): وبلغني أنَّ جوامع الكلم أنَّ الله يجمع الأمور الكثيرة الَّتي كانت تكتب في الكتب قبله في الأمر الواحد والأمرين أو نحو ذلك. انظر: البخاري: كتاب التعبير، باب المفاتيح في اليد، (6611).
[5] ابن حجر: فتح الباري، دار المعرفة - بيروت، 1379هـ، 4/115.
[6] المناوي: فيض القدير، المكتبة التجارية الكبرى - مصر، 6/191.
[7] البخاري: كتاب الصوم، باب فضل الصوم، (1795).
[8] البخاري: كتاب الصوم، باب من لم يدع قول الزور والعمل به في الصوم، (1804)، والترمذي (707)، وأبو داود (2362)، والنسائي (3245)، وابن ماجه (1689)، وأحمد (9838).
[9] أبو حامد الغزالي: إحياء علوم الدين، 1/236.
[10] أبو حامد الغزالي: إحياء علوم الدين، 1/236.
[11] مسلم: كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب في الليل ساعة مستجاب فيها الدعاء، (757)، ومسند أحمد (14788).
[12] أبو حامد الغزالي: إحياء علوم الدين 1/355.
[13] مختصر قيام الليل للمروزي ص58، وأبو حامد الغزالي: إحياء علوم الدين، 1/355، وابن الجوزي: آداب الحسن البصري، تحقيق: سليمان الحرش، دار النوادر، ط3: 1428هـ= 2007م، ص34.
[14] النسائي: كتاب صفة الصلاة، ترديد الآية (1083)، وابن ماجه (1350)، وأحمد (21366)، وقال شعيب الأرناءوط: إسناده حسن. والحاكم (879)، وقال: هذا حديث صحيح ولم يخرجاه. ووافقه الذهبي، وحسنه الألباني في التعليق على ابن ماجه.
[15] أبو حامد الغزالي: إحياء علوم الدين، 1/355.
[16] مسلم: كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب الترغيب في قيام رمضان... (762)، واللفظ له، والترمذي (3351)، وأبو داود (1378).
[17] البخاري: كتاب صلاة التراويح، باب تحري ليلة القدر في الوتر من العشر الأواخر، (1916)، ومسلم: كتاب الصيام، باب فضل ليلة القدر والحث على طلبها وبيان محلها وأرجى أوقات طلبها، (1169).
[18] البخاري: كتاب صلاة التراويح، باب تحري ليلة القدر في الوتر من العشر الأواخر، (1913)، واللفظ له، ومسلم: كتاب الصيام، باب فضل ليلة القدر والحث على طلبها... (1165).
[19] البخاري: كتاب صلاة التراويح، باب رفع معرفة ليلة القدر لتلاحي الناس، (1919)، واللفظ له، ومسلم: كتاب الصيام، باب فضل ليلة القدر والحث على طلبها وبيان محلها وأرجى أوقات طلبها، (1167).
[20] البخاري: كتاب التعبير، باب التواطؤ على الرؤيا، (6590)، واللفظ له، ومسلم: كتاب الصيام، باب فضل ليلة القدر والحث على طلبها وبيان محلها وأرجى أوقات طلبها، (1165).
[21] مسلم: كتاب الطهارة، باب الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان مكفرات... (233).
[22] الصنعاني: سبل السلام، 2/630.
[23] البخاري: كتاب الأدب، باب قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة: 119] وما ينهى عن الكذب، (5743)، ومسلم: كتاب البر والصلة والآداب، باب قبح الكذب وحسن الصدق وفضله، (2607).
[24] البخاري: كتاب الإيمان، باب علامة المنافق، (34)، ومسلم: كتاب الإيمان، باب بيان خصال المنافق، (58).
[25] ابن كثير: تفسير القرآن العظيم، تحقيق: سامي بن محمد سلامة، دار طيبة للنشر والتوزيع، ط2: 1420هـ= 1999م، 6/482، 483.
[26] مسلم: مقدمة الإمام مسلم، باب النهي عن الحديث بكل ما سمع، (5).
[27] أبو داود: كتاب الأدب، باب في التشديد في الكذب (4992)، وابن حبان (30)، وقال شعيب الأرناءوط: إسناده صحيح على شرط الصحيح. وصححه الألباني، انظر: التعليقات الحسان على صحيح ابن حبان 1/161.
[28] في ربض الجنة: أي حوالي الجنة وأطرافها لا في وسطها.
[29] أبو داود: كتاب الأدب، باب في حسن الخلق (4800)، وحسنه الألباني، انظر: السلسلة الصحيحة (273).
[30] قال النووي: قال أهل اللغة: معناه ذل، وقيل: كره وخزي. وهو بفتح الغين وكسرها، وأصله لصق أنفه بالرغام، وهو تراب مختلط برمل. انظر: شرح النووي على مسلم (16/108، 109).
[31] الترمذي: كتاب الدعوات، باب قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: رغم أنف رجل.. (3545)، وقال: حديث حسن. وأحمد (7444)، وقال شعيب الأرناءوط: صحيح وهذا إسناد حسن. وقال ابن حجر: هذا حديث حسن صحيح. انظر: نتائج الأفكار، تحقيق: حمدي عبد المجيد السلفي، دار ابن كثير، 4/ 24.