التوبة والمسكنة

السلام عليكم ورحمة الله وبركاتة

وَأَمَّا الذُّنُوبُ الَّتِي يُطْلِقُ الْفُقَهَاءُ فِيهَا نَفْيَ قَبُولِ التَّوْبَةِ مِثْلَ قَوْلِ أَكْثَرِهِمْ :
لاَ تُقْبَلُ تَوْبَةُ الزِّنْدِيقِ وَهُوَ الْمُنَافِقُ

وَقَوْلُهُمْ :

إذَا تَابَ الْمُحَارِبُ قَبْلَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ تَسْقُطُ عَنْهُ حُدُودُ اللَّهِ وَكَذَلِكَ قَوْلُ كَثِيرٍ مِنْهُمْ أَوْ أَكْثَرِهِمْ فِي سَائِرِ الْجَرَائِمِ كَمَا هُوَ أَحَدُ قَوْلَيْ الشَّافِعِيِّ وَأَصَحُّ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَد وَقَوْلُهُمْ فِي هَؤُلَاءِ :
إذَا تَابُوا بَعْدَ الرَّفْعِ إلَى الْإِمَامِ لَمْ تُقْبَلْ تَوْبَتُهُمْ .

-فَهَذَا إنَّمَا يُرِيدُونَ بِهِ رَفْعَ الْعُقُوبَةِ الْمَشْرُوعَةِ عَنْهُمْ أَيْ :

لَا تُقْبَلُ تَوْبَتُهُمْ بِحَيْثُ يُخَلَّى بِلَا عُقُوبَةٍ بَلْ يُعَاقَبُ :

إمَّا لِأَنَّ تَوْبَتَهُ غَيْرُ مَعْلُومَةِ الصِّحَّةِ بَلْ يُظَنُّ بِهِ الْكَذِبُ فِيهَا وَأَمَّا لِأَنَّ رَفْعَ الْعُقُوبَةِ بِذَلِكَ يُفْضِي إلَى انْتِهَاكِ الْمَحَارِم وَسَدِّ بَابِ الْعُقُوبَةِ عَلَى الْجَرَائِمِ
وَلَا يُرِيدُونَ بِذَلِكَ أَنَّ مَنْ تَابَ مِنْ هَؤُلَاءِ تَوْبَةً صَحِيحَةً فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَقْبَلُ تَوْبَتَهُ فِي الْبَاطِنِ ؛ إذْ لَيْسَ هَذَا قَوْلَ أَحَدٍ مِنْ أَئِمَّةِ الْفُقَهَاءِ بَلْ هَذِهِ التَّوْبَةُ لَا تُمْنَعُ إلَّا إذَا عَايَنَ أَمْرَ الْآخِرَةِ كَمَا قَالَ تَعَالَى :
{ إنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا
{ وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ } الْآيَةَ .
- قَالَ أَبُو الْعَالِيَةِ :
سَأَلْت أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ذَلِكَ فَقَالُوا لِي :

كُلُّ مَنْ عَصَى اللَّهَ فَهُوَ جَاهِلٌ وَكُلُّ مَنْ تَابَ قَبْلَ الْمَوْتِ فَقَدْ تَابَ مِنْ قَرِيبٍ .

وَأَمَّا مَنْ تَابَ عِنْدَ مُعَايَنَةِ الْمَوْتِ فَهَذَا كَفِرْعَوْنَ الَّذِي قَالَ : أَنَا اللَّهُ
{ حَتَّى إذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إلَهَ إلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ }
قَالَ اللَّهُ :

{ آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ }

وَهَذَا اسْتِفْهَامُ إنْكَارٍ بَيَّنَ بِهِ أَنَّ هَذِهِ التَّوْبَةَ لَيْسَتْ هِيَ التَّوْبَةُ الْمَقْبُولَةُ الْمَأْمُورُ بِهَا ؛
فَإِنَّ اسْتِفْهَامَ الْإِنْكَارِ :

إمَّا بِمَعْنَى النَّفْيِ إذَا قَابَلَ الْإِخْبَارَ وَإِمَّا بِمَعْنَى الذَّمِّ وَالنَّهْيِ إذَا قَابَلَ الْإِنْشَاءَ وَهَذَا مِنْ هَذَا .

واما المسكنة
وَعَنْ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
{ اللَّهُمَّ أَحْيِنِي مِسْكِينًا وَأَمِتْنِي مِسْكِينًا وَاحْشُرْنِي فِي زُمْرَةِ الْمَسَاكِينِ }
فَالْمِسْكِينُ الْمَحْمُودُ هُوَ الْمُتَوَاضِعُ الْخَاشِعُ لِلَّهِ
لَيْسَ الْمُرَادُ بِالْمَسْكَنَةِ عَدَمَ الْمَالِ بَلْ قَدْ يَكُونُ الرَّجُلُ فَقِيرًا مِنْ الْمَالِ وَهُوَ جَبَّارٌ كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ :
{ ثَلَاثَةٌ لَا يُكَلِّمُهُمْ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ :
مَلِكٌ كَذَّابٌ وَفَقِيرٌ مُخْتَالٌ وَشَيْخٌ زَانٍ }

-وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ :

{ أَنَا عَبْدٌ آكُلُ كَمَا يَأْكُلُ الْعَبْدُ وَأَجْلِسُ كَمَا يَجْلِسُ الْعَبْدُ }
فَالْمَسْكَنَةُ خُلُقٌ فِي النَّفْسِ وَهُوَ التَّوَاضُعُ وَالْخُشُوعُ وَاللِّينُ ضِدُّ الْكِبْرِ . كَمَا قَالَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ
{ وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا }

والحمد لله رب العالمين