TODAY - 15 August, 2010
«البصرة العظمى»
سرمد الطائي
بقدر ما استطاع العراق ان يحافظ على البصرة فإنه يحفظ وحدته، وخلاف ذلك فإن وحدة العراق محل شك. كيف يسعك ان تحافظ على عراق لا بصرة فيه؟
الوصف الذي استخدمته في عنوان اليوم مستعار من كتاب للموصلي سليمان فيضي، وهو محام هرب من ملاحقات الاتراك الى البصرة قبل نحو قرن، فاستوطن هناك وعمل مع الباشوات، وشارك في اصدار الصحف وأسس مع طالب النقيب واحدا من اول التنظيمات القومية. الطبيعة والجغرافيا والتاريخ عوامل تتزاحم لتجعل من هذه الحاضرة محور اخطر السياسات، بينما لا يمنحها الحاكم العراقي قدر اهتمام يوازي خطورتها.
كنت قبل بضعة اعوام في مقبرة الحسن البصري الفقيه والمتصوف المدفون في الزبير. لم تكن مثل اي مقبرة. ذلك انها تضم رفاة ألوف المتفقهين والمؤرخين وأهل اللاهوت واللغويين من بدر شاكر السياب وملا صدرا، الى الخليل واخوان الصفا. هناك يخيل لك ان الفكر العربي والاسلامي بأسره يرقد تحت ارض تمزج رواسب الرافدين بصحراء العرب. كيف ارتأى كل هذا التاريخ ان يرقد هناك؟
هذه المدينة ايضا ليست مجرد نفط. وهنا استعير من الكاتب الكويتي الدكتور محمد الرميحي الذي قال يوما ان الخليج ليس نفطا. للبصرة حكاية مختلفة عن الخليج، فهي خليجية بامتياز، لكنها مدينة تربط بين العراق والعالم، بمعنى انها ظلت المكان القادر على جمع المتناقضات وهضمها.
ليست نفطا لأنها كانت اكثر اهمية قبل ظهور النفط. كاسبارو بالبي الرحالة القادم من البندقية قبل خمسمئة عام، سأل في بغداد عن اسعار الخيول والتوابل والحبوب والقماش، فقال له التجار: ننتظر الحمام الزاجل القادم من البصرة، فعلى ساق الحمامة يشد تاجر هندي او يهودي او نجدي او عراقي او فارسي او طلياني.. ورقة فيها سعر البضائع لترسل الى مدن عديدة. الميناء يربط آسيا بأوروبا، وهو الواضع لأسعار الاسهم. وحتى اليوم فإن مقدار النفط الذي تصبه البصرة في منصات التحميل، يرفع او يدني من اسهم الجميع حتى في اربيل.
النفط عارض طارئ على البصرة التي في وسعها ان تجمع الشرق بالغرب، لغة وألحانا وفئات بشرية ودينية وتوازنات وطرقا للمعارف والحرير والحشيش والاسلحة.
وكما انها ليست نفطا، فإنها لم تكن خربة على الدوام. ناصر خسرو الرحالة الفارسي، دخلها قبل سقوط بغداد، وحكى انه أحب السلام على وجوه اهلها. القس بييترو ديلافياليه القادم من روما كتب في رحلته المهمة قبل اربعة قرون، انه دخل البصرة قادما من شيراز وتنفس الصعداء حين شاهد الميناء عامرا، وتذكر سحب الدخان المنبعثة من مدن فارس التي كانت تغوص بحرب اهلية بين القاجار والافشار.
ولعل جزء من تاريخ الخراب في تلك المدينة سببه طبع مسالم لدى السكان يتيح للعابثين ان يعيثوا فسادا. ويقال ان عرب البحرين اول من استوطن البصرة بعد الفتح وكانوا مسالمين، على عكس عرب اليمن المقاتلة مستوطني الكوفة. عيرهم اهل الجيوش بأنهم لا حرب لهم. فاضطرت البصرة ان تخوض حربها وتفتح خراسان، كي لا تعير بالجنوح الى السلم والبحر وزراعة النخيل وفقه اللغة، كما ينص المستشرقون.
آخر وزير خارجية في العهد الملكي كان من البصرة. برهان الدين باش اعيان سليل العائلة المعروفة هناك. كان اعتقاله وآخرين ايام الثورة نذير شؤم لمصير المدينة والعراق. بدأ بعدها انحدار واضطراب لم يتوقف.
أجيء من سيحان الواقعة منتصف الطريق بين البحر والعشار، حيث سقط رأسي قبل 33 عاما، فألمح غمامة سوداء تظلل المدينة، هي مخلفات المصانع الثلاثين والآبار الألف. وتحت هذا الغمام ثروة ومقدرات ومستقبل تنقصه عناية شديدة.
كل مدن العراق ستعجز عن استقطاب ما استقطبته البصرة خلال بضعة شهور من رجال الاعمال. المطار مزدحم والفنادق مكتظة بالاجانب وهم ليسوا غرباء عنها فقد أقاموا فيها منذ ولاية افراسياب السلجوقي الذي جعل من بلدة المعقل "خواجه سرا" للاجانب والقناصل. لكن الحكومة لم تحرك ساكنا لتهيئة المدينة لدورها المصيري.
البصرة فرصة مهدورة، فرحت بالحرية بعد "الصولة" ثم عاد اليها عنف وتشدد في عهد الفارس نفسه. الهدر في البصرة هو هدر لمستقبل العراق الموحد. الفرص الضائعة هناك هي فرص ازدهار تضيع في كل المدن الاخرى. كلما اطلقنا صرخة على العراق فإننا بحاجة الى صرخة اخرى بشأن البصرة، التي تعجز حكومتها المحلية اليوم، عن مواكبة طموحات كبيرة جاء بها عمالقة البترول والطامحون الى طرق نقل دولية مختصرة، بينما ينشغل عنها الساسة بنزوات المال والجهل وانعدام الخبرة. البصرة بحاجة الى اجراءات استثنائية كي تبقى مضمونة وضامنة لوحدة العراق. انها بحاجة الى تخصيصات مالية مختلفة وقوانين تدعم انفتاح المدينة الضروري ولجان استشارية فوق العادة، كي تتلقف الفرص الراهنة، وتقنع العالم بالعودة إليها بقوة، وهي عودة الى العراق بأسره.
رددوا معي: حين تخرب البصرة ثانية سيخرب كل شيء