عادات وتقاليد بدو سيناء

المقصود بالعرف القبلي، هو مجموعة التقاليد والنظم والأحكام التي تحكم مجتمعاً قبلياً، وأخذت بحكم العادة ومضي الزمن إطاراً إلزامياً لأفراد هذا المجتمع، وصارت بذلك قانوناً اجتماعياً يحكم علاقة القبائل والعشائر والعائلات بعضها بعض، وذلك بهدف إقامة العدل وإقرار السلام الاجتماعي بين جماعتين أو أكثر من القبائل التي لا تزال تعيش طور البداوة وليس لديها حكومة مركزية تقوم بهذه المهمة.
ويقول ابن خلدون في هذا الإطار، " إن العرب أشد بداوة من غيرهم من الأمم البدوية لقيام بداوتهم على رعى الإبل فقط ، كما أنهم أصعب الأمم انقياداً بعضهم لبعض، لغلظتهم تجتمع أهواؤهم ، لهذا فلا غرابة أن نرى من بين وسائل تحقيق العدالة بين
بدوسيناءوسائل غاية في البدائية ، بعضها مرتبط بالبيئة والبعض الآخر مرتبط ببعض العادات العربية . وهذا يدفعنا لمحاولة معرفة الجذور التي استمد منها العرف القبلي بين بدوسيناءأصوله ونصوصه.
هناك رافدان أساسيان استقى منهما العرف القبلي لبدو
سيناء مواده وأحكامه. وكان أهم هذين الرافدين هو " العرف أو القانون العربي القديم "، وهو من أقدم القوانين في العالم، لكنه صيغ أساساً ليتلاءم مع طبيعة الشعوب العربية البدوية، والتي تشكل فيها القبيلة أو العشيرة أو العائلة الوحدة الأساسية لبناء المجتمع ، ولهذا استندت المسئولية القانونية وفق هذا النظام العربي القديم أولاً على القبيلة ثم على العشيرة وأخيراً على العائلة ، لكنها لم تستند على مسئولية الفرد القانونية . والمبرر لذلك واضح تماماً ، نظراً لبعد المسافات، واتساع المساحات التي تعيش فيها القبائل في شبه الجزيرة العربية، وتنقلها الدائم بحثاً عن المرعى، كل ذلك يجعل من المستحيل اعتقال مرتكب الجريمة أو التعامل معه . فمثلاً لو تعدى فرد من قبيلة ما على فرد من قبيلة أخرى ، فإن التعامل في هذه الحالة يتم مع قبيلة المعتدى وليس مع الفرد الذي قام بالاعتداء .

ويؤكد أحد المؤرخين بأن شرائع اليهود التي صيغت في عام 1500 ق.م اعتمدت بشكل كبير على تلك القوانين العربية القديمة والتي قام بتلخيصها لموسى عليه السلام ، أحد شيوخ قبائل مدين ذات النفوذ ، وهو يثرو المدينى .
ووصل القانون العربي القديم (العرف القبلي القديم ) إلى سكان شبه جزيرة
سيناء عن طريق الهجرات العربية القديمة، كهجرات " الكنعانيين "و" المدينين "، الذين امتدت حركاتهم على الساحل الغربي لخليج العقبة حتى برزخ السويس .وكذلك هجرات ما يطلق عليه الكتاب الغربيون اسم "الإسماعيليين "، وهم قبائل نشأت في شمال الحجاز ، وحول مكة. واستمرت حركة الهجرة العربية لسيناء منذ الألف الثاني قبل الميلاد ، وحتى فترة التوسع الإسلامي، ثم صارت بعد ذلك مجرد طريق مرور للقبائل العربية لفترة طويلة . لكنها لم تلبث أن لجأت إليها بعض القبائل خلال العصر العثماني .
على أية حال ، فقد كان القانون العربي القديم أهم رافد استقى منه العرف القبلي لبدو
سيناء مواده وأحكامه . حيث حمل هذا الرافد معه تقاليد وعادات القبائل العربية البدوية وأخلاقياتها . وهذا واضح تماماً في الأعراف القبلية لبدو سيناء ، التي تتشابه تماماً مع الأعراف القبلية العربية بصفة عامة ، حيث لم يحدث بدوسيناء علي هذه الأعراف تغيرات جوهرية نظراً لتشابه الظروف البيئية في سيناء مع نظيرتها في شبه جزيرة العرب .
أما الرافد الثاني من روافد العرف القبلي بين
بدو سيناء، فهو الرافد الإسلامي، الذي جاء إلي سيناء كنتيجة لمرحلة التوسع الإسلامي وهجرة بعض القبائل العربية التي حملت لواء الإسلام إليها واستقرارها في بعض جهات سيناء.

وكان هذان الرافدان من أهم الروافد التي استقي منها العرف القبلي مواده وأحكامه. وسوف يتضح لنا مدي أهمية هذين الرافدين في صياغة وتشكيل هذا العرف لدي
بدوسيناء.
تنقسم درجات التقاضي عند
بدوسيناء إلى ثلاث درجات لكل درجة منها قاضي. فالقاضي الأول بمثابة (محكمة ابتدائية)، والقاضي الثاني بمثابة (محكمة استئناف) ، والقاضي الثالث بمثابة (محكمة النقض) . وللوصول لمرحلة النقض (القاضي الثالث) ، يستلزم ذلك أن يكون حكم القاضي الأول مناقضاً لحكم القاضي الثاني ، أما إذا اتفق الأول والثاني على حكم واحد، فلا ترفع الدعوى إلى القاضي الثالث .
ولاشك أن وجود ثلاثة قضاة وثلاثة مراحل للتقاضي، يعنى وجود فكرة محاولة الوصول إلى حكم نزيه بقدر الإمكان . وهذا من الإيجابيات التي يتسم بها نظام التقاضي لدى
بدوسيناء.
وبعد اتفاق أطراف الدعوى على القضاة، يعين المدعى عليه " كفيل وفا " أي كفيلاً ضامناً له يفي بالحق الذي يحكم به القاضي ، وكذلك يعين المدعي شخصاً من طرفه يسمى " كفيل دفا " أي كفيلاً يضمن الوفاء بما قد يقع علي المدعي ويقوم بالدفاع عنه عند المدعي عليه أثناء نظر القضية ، ويشترط في الضامن أو الكفيل الصدق والوفاء . أما الشخص الصادق الوفي فلا يطلب منه ضامن ولا كفيل ، بل يؤمنه البدو على مالهم بلا شاهد .
أما رسوم التقاضي فقد كانت تدفع للقاضي مسبقاً من كلا الطرفين المدعي والمدعي عليه، وتعرف هذه الرسوم عند
بدوسيناء بـ" الرزقة " ومن يخسر الدعوى عليه تسديد قيمة الرزقة ، والتي تختلف حسب أهمية الدعوى ، من " نعجة " إلى ثمانية جمال ، وأكثرها ما يؤخذ في القضايا الخاصة بالنساء وقطع الوجه .
أما الشهادة فيكفى في عرف قبائل
سيناء شاهد واحد لإثبات الدعوى،لكن شريطه نزاهته وحسن سلوكه الأخلاقي .ومع ذلك تقبل شهادة اللص على اللص، وشهادة المرأة والصبي كشهادة الرجل البالغ .وللشاهد أجرة يمنحها إياه الطالب قبل أداء الشهادة وتعرف هذه الأجرة " بالآكال "(جمع ُأكل وتعنى الثمرة)، وهى في قضايا الإبل تصل إلى خمسة " بينتو، وإذا أدت شهادة الشاهد إلى اتهام لص نال عن أربعة جنيهات عن كل جمل أثبتت شهادته أن اللص سرقه . أما إذا كان عدد الجمال كثيراً فيتفق على مقدار الدفع مقدماً، وحجة البدو في ذلك هو أن الشاهد الذي ينال أجرة عن شهادته يكون أكثر دقة في تأدية شهادته ممن لا ينال أجراً عليها ، لأنه يعلم بأن كل كلمة يقولها تمحص جيداً قبل قبولها.
ولاشك أن هذا النظام في تأدية الشهادة به خلل كبير،حيث يفسح المجال للتأثير على الشهود من خلال الإغراء بالمال ، مما يؤثر على سير العدالة . كما أن طريقة استجواب الشاهد نادراً ما يتم فيها تفنيد أقواله عن طريق أساليب الاستجواب التي تعتمد على ذكاء القاضي ووكيل الخصم .
وكان على الشاهد أن يحلف يمين الشهادة قبل تأدية شهادته وأنواع الحلف المقبول عند
بدوسيناء أربعة أنواع :
الأول :
ويسمى (الخطة والدين ) والخطة هي دائرة ترسم على الأرض برأس السيف ، ويجلس الشاهد في وسطها، ويحلف بستة كلمات أولها وأخرها، ثم ينطق بالشهادة وهذا الحلف خاص بالقضايا الهامة وقضايا الإبل.
أما النوع الثاني :
من الحلف فهو " الحلف بالرأس" وهو أن يضع المدعى يده على رأس المدعى عليه، ويذكر اسم الله ثلاثاً قبل تأدية الشهادة .
أما النوع الثالث:
فهو " الحلف بالحزام "، وهو أن يضع المدعى بيده في حزام (وسط) المدعى عليه، ويحلف بالله ثلاثاً أن يقول الحق قبل أن يؤدى شهادته .
أما النوع الرابع :
فهو " الحلف بالعود"، ويتم هذا الحلف عند القصاص ، فيأخذ الشاهد غصن شجرة (عود) بيده ويقول "وحياة هذا العود والرب المعبود ومن أخضره وأيبسه رأيت كذا .
وهناك نوعاً آخر من الحلف
وهو الحلف بـ" الطلاق ثلاثاً " وهذا الحلف على حد تعبيره يحترمه البدو كثيراً ، ولا يتم اللجوء إليه كثيراً ، حيث يقول الشاهد ثلاث مرات " امرأتي طالق " ثم يؤدى الشهادة ، فإذا أعطى شهادة زور وقع الطلاق .
ومع أن
بدوسيناء يقبلون يمين الشاهد وشهادته،لكنهم مع ذلك لا يقبلون يمين المتهم في حالة الجرائم المذكورة والتي لا شهود لها .وهم في ذلك لا يسيرون على القاعدة الفقهية " اليمين على من أنكر، والبينة علي من ادعي" ، ويفضلون على أداء اليمين طقساً بدائياً قديماً يعرف عندهم " بالبشعة "، وربما يرجع السبب في ذلك ، إلى أن هناك من البدو ممن يمكن أن يؤدى شهادة زور حتى رغم أدائه لليمين وحلفه بالله. أما القضايا أو الجرائم الإنكار التي لا شهود لها ، فلا يلجأ بدوسيناء إلى" اليمين" كما قلنا ، بل يلجأون إلى قاضي البشعة أو المبشع ، الذي يقوم باختبار المتهم إما بالنار أو بالماء أو بالرؤيا والحلم.
أما الاختبار بالنار فيتم عن طريق إحماء البشع لإناء نحاسي كـ "طاسة البن"، وأحياناً ملعقة الطعام على جمرات الفحم ، وبعد أن تصل إلى درجة الإحماء يريها المبشع لشاهدين ثم يمسحها بيديه ثلاثاً، ثم يتناول المتهم الطاسة أو الملعقة المحماة ، ويلعقها بلسانه ثلاثاً، ثم يغسل لسانه بالماء ويريه للشاهدين فإذا كان هناك أثر للنار على لسانه ، حكم المبشع بالدعوى لخصمه، و إلا حكم له.
وهم يعتقدون بأن المتهم إذا كان مذنباً جف ريقه من الخوف والرعب ، وأثرت النار في لسانه ، والعكس إذا كان بريئاً . أما الاختيار بالماء ، فهو طقس غريب، إذ يأخذ فيه المبشع إبريقاً من نحاس مملوء بالماء، ويجعل الحضور ومعهم المتهم في حلقه ، ثم يشرع في التعزيم على الإناء فيتحرك الإناء عنده إذا كان مذنباً ، ويقف عند المبشع إذا كان بريئاً.
أما الاختبار بالحلم والرؤيا، فلا يقل غرابه عن سابقيه حيث يقوم المبشع بالتفكير في المتهم،ثم ينام ليظهر له الجاني في الحلم !، وعندما يصحوا يحكم عليه. وعلى أساس نتائج البشعة واختبارات المبشع يتوقف الحكم على المتهم ، وإذا برئ المتهم طالب برد شرف كبير قد يصل إلي مائة جنيه، بينما كان المبشع يتقاضى خمسة جنيهات . ولا يوجد في
سيناء وفلسطين سوي مبشع واحد للمنطقتين، وهو من قبيلة العيايدة ، ويتوارث هذه المهنة عن أجداده ، وهي مأخوذة عن عامر بن عياد .
ولا شك أن المبشع من أكثر القضاة بين
بدوسيناء عرضة للنقد وسط هذا النظام العرفي ، حيث أنه يعتمد في أحكامه علي وسائل لا يمكن أن تحقق العدالة بأي حال من الأحوال ، فهي ضرب من الشعوذة والسحر إحدى موروثات المرحلة البدائية للمجتمع العربي القديم .
ويتسم نظام القضاء العرفي بين
بدوسيناء بتخصص القضاة، حيث أن لديهم قضاة لكل نوع من القضايا. وهذا التخصص يمنح القضاة خبرة كل في مجاله. وهم ينتقون من خواص رجال البدو، حيث يحكمون بينهم بالعرف والعادة التي جروا عليها منذ قرون طويلة.
فهناك " كبار العرب " أو " رجال الصلح " ، وهؤلاء ترفع إليهم المسائل الهامة التي لا يمكن حلها إلا بالصلح لعدم توفر الشهود فيها أو لجسامة ما قد ينجم عنها من الأضرار والمخاطر، إذا لم يتلافى أمرها كقضايا القتل ، والسلم والحرب، والتعدي على العرض والمال ، وينتخبون عادة من بين المشايخ ، والكبراء الذين بيديهم زمام الأمور ، وعليهم يتوقف السلم والأمن العام في شبه الجزيرة.
وكثيراً ما كانت تحدث أحداث خطيرة في
سيناء تستدعى تدخل كبار رجال الصلح لفض النزاعات التي من الممكن أن تؤدى إلى نتائج خطيرة ، وكان ذلك غالباً يتم بتدخل من الحكومة المصرية ، خاصة وأن هذه النزاعات كانت تؤدى إلى حروب القبائل وفوضى النظام والأمن في سيناء . فحينما أغارت قبيلة الترابين على بدو السواركة عام 1891 ، اضطرت الحكومتين المصرية والشامية إيجاد حل لهذا النزاع ، فتحدد ميعاداً لجمع شيوخ القبيلتين ببيت أبى مهيزع الترباني بغزة بحضور مندوبين عن حكومة الشام، ومعاون محافظة العريش ومعه ثمانية عساكر كمندوبين عن الحكومة المصرية ، وتم أخذ التعهدات القوية بعدم الاعتداء.
على أية حال ، فقد لعب كبار رجال الصلح دوراً مهماً في إقرار النظام في شبه جزيرة
سيناء ، ومساعدة السلطات الحكومية على بسط سيادتها على القبائل .
أما " المنشد " أو " المسعودى " فهو قاضى المسائل الشخصية الخطيرة كقطع الوجه، أو مس الشرف والإهانة الشخصية. ويسمى بالمسعودي لأن أهم قضاته من قبيلة المساعيد بالعريش.
وقطع الوجه من المسائل الخطيرة الماسة بالشرف في عرف قبائل
سيناء ، فإذا هب رجلان أو قبيلتان للقتال ، وقال أحد الحضور "رميت وجهى أو وجه فلاناً بينكم" كف الفريقان في الحال عن القتال . فإن للوجه حرمة عظيمة لديهم . وإذا استمر أحد الفريقين في القتال بعد رمى الوجه ، قال صاحب الوجه "قطع فلان وجهي"، ودعاه إلى المنشد ، وإذا أبى أشهد عليه عدد من الشهود ، وشرع في أخذ " الوثاقة " من إبله،حتى يذعن للمنشد.
و" الوثاقة " أو الرهن ، هي أخذ الإبل خلسة للحصول على حق قارب أن يضيع بالمماطلة . وكانت الحكومة المصرية تستخدم هذا العرف القبلي في تعاملها مع هذه القبائل، حيث كانت تقوم بأخذ أحد أقارب المحكوم عليهم أو المطلوبين قضائياً أو أحد أفراد قبيلته رهناً حتى يتم إحضار الشخص المطلوب ، مثلما جاء في الأمر العالي الصادر في مايو 1886 .
فحينما كان سعد بك رفعت قومنداناً لسيناء (1892 ـ 1905 ) خطف شاب من قبيلة الصفايحة بنتاً من قبيلة التياها ، فأسرع سعد بك ورمى وجهه عليهم لمنع التياها عنهم، ثم أمر مشايخ الصفايحة بإحضار" الشاردين " ( حيث يسمي خطف البنات في عرفهم "الشرود" إليه وعقد سعد بك مجلساً من مشايخ التياها والصفايحة وأقام فيهم "منشداً" للفصل في القضية، فحكم على الصفايحة بأربعين جملاً يؤدونها لأهل البنت فتوسط الحضور مع التياها وجعلوا الغرامة ثمانية جمال فقط.
ولقضايا الجروح في
سيناء ، قاض خاص يعرف " بالقصاص "، وهو بمثابة قاضى العقوبات، حيث يقوم بتعين الجزاء الذي يستحقه كل جرح حسب طوله وعرضه وموقعه. وهم في ذلك يطبقون قاعدة شرعية إسلامية " العين بالعين والسن بالسن والجروح قصاص"، وهؤلاء القضاة موزعون جغرافياً في شبه الجزيرة ، فهناك قصاصون من عرب بلى في بلاد العريش وآخرون من عرب السلالمة الحويطات في نخل ، أما في بلاد الطور فهم من عرب القرارشة ومزينة . وهذا التوزيع الجغرافي المتنوع للقصاصين يعكس رغبة القبائل في سرعة البت في قضايا الجروح ، التي لا تتحمل البطء في إجراءات التقاضي .
وكان القصاص في قضايا الجروح ، يقيس الجرح بأصابعه وهي ملتصقة بعضها ببعض ، ويجعل غرامة كل إصبع بجمل أو أقل، هذا بالنسبة للجرح غير الظاهر ، أما الجرح الظاهر للعيان فإما أن يقيسه كما قاس الجرح غير الظاهر مع مضاعفة الغرامة،أو يضع ورقة بيضاء ويتقهقر للوراء ، وهو ينظر للورقة حتى تختفي الورقة عن نظره ، وكل خطوة يخطوها للوراء بجمل كبير أو صغير أو جنيهاً ونصف جنيه حسب أهمية الجرح.
وهذه الطريقة الأخيرة يقيناً أنها لا تحقق العدل المقصود من القصاص ، لأنها ببساطة تعتمد على قوة إبصار القاضي ، فلو كان ضعيفاً أو يعانى من مرض في عينيه فسوف تختفي الورقة بعد بضعه خطوات بينما تطول خطواته للوراء إذا كان نظره حاداً، ويتحمل المدعى عليه وزر ذلك .
أما كسر الساق أو الذراع أو إتلاف العين أو أي عضو من الأعضاء الرئيسية للجسم فغرامتها نصف الدية (20 جملاً) ، وغرامة قطع السبابة خمسة جمال ، والخنصر جمل واحد ، وكسر السن جمل واحد . والضربة التي لا تسبب جرحاً غرامتها نقود إلا إذا كان الضرب بالكف أو " طاسة البن " أو العصا ، فإن غالب البدو يعتبرونها إهانة شخصية ويطالبون برد شرف.
ولقضايا النساء قاض خاص يعرف "بالعقبى"، وهو يحكم في القضايا المتعلقة بالنساء من مهر وطلاق أو تعدى على العرض ، وقد سمى بالعقبى لأن أكثر قضاة هذا النوع من قبائل بنى عقبة .
أما الإبل ، فلأهميتها بالنسبة لبدو
سيناء ، فإن لها قاض خاص يعرف بـ"الزيادى"، وهو يختص بأمور سرقتها ووثاقها وكل ما يتعلق بها من الأمور . كما أن للإبل خبيرا بشؤونها يعرف بـ" المسوق " ، وهو الذي يحدد قيمة الغرامات علي الإبل.
فقانون الإبل لدي
بدوسيناء غاية في الصرامة ، والدليل على ذلك أن الإبل تترك في المراعى وحدها فلا يجرؤ أحداً أن يمسها .لكن هناك ظروفا خاصة تبيح للبدوي استعمال غير إبله ، مثل العطش والفرار من خطر . وهي ظروف اضطرارية قد تواجه ساكنى الصحراء ، ولا مفر من استخدام حاجة الغير . وهذه من الإيجابيات التي يمكن أن تحسب للعرف القبلي بين بدوسيناء .
وإذا اختلف اثنان على تسمية القاضي الذي يحكم بينهما ، رفعا الأمر إلى "الضريبي"، وهو قاضي الإحالة ، الذي له الحق في تعين القاضي الذي من شأنه الفصل في دعواهما ، ويختار غالباً من قبيلة الحويطات.
ومن المدهش أن نري هذا القانون العرفي لدي
بدوسيناء لم ينس البيئة المحيطة بهم وضرورة المحافظة عليها. فهذا العرف القبلي يحرم عمل الفحم من الشجر أو النباتات الخضراء لأهمية وجود تلك النباتات في الصحراء ، وكانوا يصنعونه من النباتات اليابسة ، وإذا حدث ذلك فإن الفاعل بضع نفسه تحت طائلة العرف ويغرم غرامة مادية ، لكن بشرط أن يوجد من يزعم مسئوليته عن حماية هذه النباتات بالمنطقة التي يحدث فبها التعدي . أما إذا قام شخص بقطع نباتات أو أشجار في منطقة لا يدعي أحد ملكيتها فإنه فقط يعد شخصاً سيئاً .
وقد أخذ البدو بعض التقاليد البدوية معهم بعد أن استقروا في المدن ، حيث نري بعض العادات العرفية التي تمس حرمة البيوت أو الخيام . ومن هذه التقاليد انه إذا دخل شخص حديقة بيت مملوك لشخص آخر عن طريق الخطأ وتم ضبطه بالحديقة ، فإنه يعرض نفسه للغرامة عن كل خطوة خطاها من سور الحديقة بعد أن يتم عدها ، وربما يجد نفسه يدفع غرامة تصل إلي جمل لمجرد اقترابه من الحديقة ، أما الصعود علي حائط السور فإنه ربما يكلفه جملاً آخر، والدخول في أرض الحديقة يكلفه جملاُ ثالثاً ، والسير نحو شجرة بهدف سرقتها يكلفه جملاً رابعاً وهكذا. أما الشخص الذي يقوم بكسر فرع من شجرة في بستان، يجد نفسه يدفع بمعدل خمسة جنيهات عن كل مقاس إصبع للفرع الذي كسره.
ومن العادات التي ترجع بأصولها إلي تاريخ العرب القديم ، وهي عادة الأخذ بالثأر
فإذا " قُتل شخص ما ، فلأهل القتيل القريبين من الأب والجد حتى الدرجة الخامسة، ومن الابن وابن الابن، والأخ وابن الأخ، والعم وابن العم حتى العقب الخامس أن يأخذوا بثأرهم من القاتل وأهله الأقربين إلي العقب الخامس ، فإذا فازوا بثأرهم وقتلوا القاتل أو أحداً من أهل الأقربين ينتهي الأمر .
أما إذا نجح القاتل في الهروب بأهله واحتمي بقبيلة أخري قبل أن يلحقهم أهل الثأر، توسط بينهم عقلاء القبيلة التي احتموا بها ، وإذا ارتضي الطرفان الصلح، نقلوا لهم "الجيرة" وهي جمل رباع ، وقدموا " كفيل وفاء " يضمن وفاء الدين ، وأخذوا منهم " كفيل دفا " وهنا يمتنع أهل القتيل عن مطاردة القاتل . ويجتمع الطرفان ببيت أحد الرجال المشهورين، حيث يأتي أهل القاتل بالدية التي تعرف عندهم بـ" المدة " وهي أربعون جملاً وناقة هجين تعرف بـ" الطلبة. وهذا لا يتم إلا إذا كان القاتل والقتيل من قبيلتين مختلفتين .
أما إذا كان القاتل والقتيل من قبيلة واحدة ، وجب علي أهل القاتل أن يقدموا فوق الدية المعتادة "غرة " أي بنتاً بكر يأخذها أحد أقارب القتيل بدون مهر بصفة زوجة وتظل لديه إلي أن تلد ولداً فيصير لها الخيار بين العودة لأهلها حرة وبين أن تجدد زواجها وتبقي مع أبي ولدها بعد أخذ مهرها. لكن هذه العادة كانت تأنف منها البنات لما فيها من امتهان لكرامتهن ، لهذا جاز العرف أن تفدي الغرة بخمسة جمال.
أما القتل غدراً أو خلسة فإنه يعد من الجرائم المشينة لدي
بدوسيناء ، فمن يثبت علي القتل غدراً في مكان منقطع طولب بالدية، التي تكون في هذه الحالة بمقدار أربع ديات. وإذا أخذ أهل القتيل بالثأر من أهل القاتل احتسب دية واحدة، ويتصدقون بواحدة ويسامحون في واحدة. وقتل الطفل عندهم يستلزم أن يدفع القاتل أربع ديات ، أما قتل المرأة فيستوجب ثماني ديات. وتدفع الدية غالباً علي أقساط مؤجلة ، من قسط إلي أربعة أقساط في ميعاد شهر إلي سنة، ولكنها في بعض الأحيان تدفع كلها دفعة واحدة، وتوزع بين أقارب المقتول الذكور الذين يطاردون بدمه ، ومن أمثالهم الشهيرة " من طارد في الدم أخذ فيه .
ولاشك أن نظام الدية بما يحمله من حصر عقوبة القتل في الغرامة المالية أو العينية في عدد من الجمال لا يعكس عملاً رادعاً للجريمة أو العقاب، وإن كانت من وجهة نظرهم بديلاً للأخذ بالثأر الذي ربما يؤدي في النهاية إلي إبادتهم واحداً تلو الآخر.
حاولت الحكومة المصرية منذ بداية القرن التاسع عشر السيطرة علي البدو في شبه جزيرة
سيناء إلي الحد الذي معه لا يحدث اختلال للأمن في شبه الجزيرة . لكنها في غالب الأحيان كانت تترك لهم حرية التقاضي أمام محاكمهم وجلساتهم العرفية شريطة ألا يخل ذلك بالأمن . وكان مفهوم الأمن بالنسبة لشبه جزيرة سيناء في ذلك الوقت يعني الأمن بمفهومه العام ، وأمن طرق التجارة بين مصر وبلاد الشام بصفة خاصة ، وطريق الحج المصري الذي ظل مستخدماً حتى عام 1885، وكذلك تأمين طرق الحجاج المسيحيين الأوربيين وغيرهم إلي دير سانت كاترين .
ومن الملاحظ أن التدخل الحكومي في شئون البدو في سيناء، كان مرهوناً بحدوث اختلال للأمن والنظام . كما كان هذا التدخل مقصوراً علي تلك القضايا التي يتقدم أصحابها طالبين من السلطات الحكومية التدخل فيها ، أو تلك الحوادث المخلة بالأمن في شبه الجزيرة.
فقد حاولت الحكومة المصرية إدخال البدو تحت سلطة القانون المصري، فأصدرت أوامرها في عام 1853 إلي مشايخ البدو والبدو " بترك عادات العرب القديمة، ومن له قضية أو دعوى يقوم برفع دعوتها أمام المحاكم المصرية وفي ظل الحكومة المصرية . وتعد هذه من المحاولات المبكرة لإخضاع
بدوسيناء لسلطة القانون المصري .
لهذا أخذت الحكومة تشجع البدو علي رفع دعاواهم أمام المحاكم الشرعية ومجلس الأحكام . وقد شجع ذلك بعض
بدوسيناء ، وخصوصاً بدو العريش والمناطق المحيطة بها، علي ترك العادات القبلية واتباع الأساليب القانونية في الحصول علي حقوقهم، وكان ذلك نتيجة وجود الإدارة الحكومية التي تعززت في المنطقة منذ إنشاء محافظة العريش، ومحكمة العريش الشرعية كما سبق أن ذكرنا.
علي أية حال ، فقد كانت الحكومة المصرية تري أن النظام العرفي الذي كان سائداً بين
بدوسيناء نظام مرضي لها طالما كان يحقق الأمن في ربوع شبه الجزيرة، خاصة وأن النظام العرفي لم يكن سائداً بين بدوسيناء فحسب وإنما كان سائداً أيضاً بين سائر البدو في مصر .
ومما سبق يتضح أيضاً أن النظام العرفي السائد في
سيناء كان يتسم بعدد من السمات أهمها: كثرة عدد القضاة ، نظراً لتخصص القضاة وتعدد مراتبهم ، فهناك قضاة للشرف ، وآخرون مختصون بقضايا المرأة ، وآخرين للإبل .. وهكذا . فالغرامة المالية أو المادية هي الجزاء في جميع الأحكام حتى في قضايا القتل و حصول الشاهد علي أجر لشهادته ، وسلطة ونفوذ شيوخ القبائل في حل القضايا الكبيرة ذات الطابع الخطير ، التي ربما تؤدي إلي اختلال الأمن ، وسيطرة الخرافة علي بعض أنظمة وأساليب التقاضي لديهم ، و سلب بعض الحقوق الشرعية للمرأة مثل حقها في اختيار الزوج وحقها في الميراث .
كما يتضح لنا أن هذا المجتمع الذي ظل بعيداً عن حركة النهضة التي شهدتها
مصر خلال القرن التاسع عشر ، وظهر مدي استجابة بدوسيناء لنداء التحديث الذي بدأته الحكومة المصرية في شبه الجزيرة ، فهؤلاء البدو لم يعرضوا عن الذهاب للمحكمة كلية ، بل إن هناك عدداً كبيراً من القضايا الخاصة بهؤلاء البدو نظرتها محكمة العريش، وفضلوا اللجوء إليها عن اللجوء إلي قاضيهم العرفي وكان هناك أحيانا اصطدام بين أحكام المحكمة مع تقاليدهم العرفية كما رأينا . لكن مع هذا فإن التدرج في محاولة تحديث هؤلاء البدو هو السبيل للحصول علي الثمرة المرجوة ، وهو ما حاولت الحكومة المصرية عمله خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر مع هؤلاء البدو .
بدو
مصر يقاومون بتقاليدهم رياح العولمة
من بين جماعات البدو في مصر، وخاصة
بدو منطقة العريش، من يستخدمون وسائل العصر الحديث من أطباق لاقطة وهواتف محمولة وغيرها من لغة الاتصالات الحديثة، إلا انه في الوقت ذاته يصرون على مواجهة الآثار الضارة لرياح العولمة بالتمسك بتقاليدهم التي نشأوا عليها من مئات السنين.
فيقول أحد البدو ويعمل سائق سيارة أجرة أنه في المساء يخلع رداء العمل ويرتدي العباءة ليقوم بعمله كقاض يحل مشاكل قبيلته التي تقطن صحراء شبه جزيرة سيناء.
ويخلع بدوي أخر ، وهو من عشيرة الترابين المتحدرة من بادية السعودية نسبة إلى منطقة التريبة ، قميصه وبنطلونه لارتداء العباءة التقليدية والكوفية البيضاء والحمراء اللون وارتشاف الشاي مع أفراد العشيرة.
وأضاف أن الأطباق اللاقطة والهاتف الجوال أصبحت من الضروريات لكن نساءنا يواصلن طريقتهن التقليدية في الطبخ وصنع الخبز في افران حفرت في باطن الأرض ، كما يرعين الغنم ويحكن السجاد والملايات والبراقع وأغطية الرأس الملونة التي تتمتع بشعبية بين السائحين والأجانب .
وللبدو طريقتهم الخاصة في الحياة ولهجتهم المميزة وكذلك التراتبية الاجتماعية، مما يشكل ثقافة خاصة بهم ، إلا أن أعدادهم تتناقص باستمرار بحيث يسود التحول من الترحال إلى الاستقرار في مناطق سكنية.
وتقدر أعداد البدو في شمال
سيناء بحوالى 300 ألف نسمة بينهم ما لا يقل عن 80 ألف من البدو الذين يتنقلون عادة بين الصيف والشتاء برفقة شيخ العشيرة، وهو منصب يتوارثه الأبناء عن الآباء.
ورغم أن مسألة المرأة تعتبر حساسة جدا في المجتمع البدوي فان عددا من النساء يتوجهن يومي الخميس والسبت من كل أسبوع إلى السوق الشعبية في مدينتي العريش ورفح المجاورتين لبيع منتجاتهن من المطرزات والسجاجيد والتمر وزيت الزيتون.
وأوضح أحد الخبراء في شئون البدو أن الرجل البدوي لا يبيع ما تنتجه زوجته لان ذلك ينال من هيبته وشرفه وفقا للتقاليد، مضيفا أن المرأة تعتبر موضوعا خاصا جدا بالنسبة للبدوي فهي جزء من حياته لا يحق لأحد مناقشتها ولا يسمح لها بالظهور سافرة بحضور غرباء وبناء على طلب الزوج أو الأب أو الأخ.
وقد شمل تغيير أسلوب الحياة طريقة الزواج أيضا.
فالعروس كانت تصل إلى مكان الاحتفال بواسطة هودج فوق جمل يقدمه العريس، ولكن السيارة حلت مكان الهودج اليوم.
كما أن وسائل النقل تغيرت لكن تقاليدنا لم تتغير بحيث ما زلنا نقيم حفل الزفاف لمدة ثلاثة ليال متواصلة تنحر خلالها الخراف ويوزع اللحم على أفراد العشيرة ، ولا يحتاج البدوي إلى أكثر من فراش ووسادة وإبريق للمياه ووعاء كبير للاستحمام لكي يتزوج ، وعادة ما تكون هدايا الزواج عبارة عن كمية من السكر أو الشاي أو نعجة، أي كل حسب مقدرته.
يشار إلى أن البدو يميزون بين المرأة المتزوجة والفتاة بواسطة الثياب إذ تضع الأولى غطاء اسود اللون على رأسها وزنارا من الصوف على خصرها في حين ترتدي الأخرى غطاء رأس ابيض.وبحكم الجيرة والأنساب، تتشابه أزياء البدويات مع التطريز الفلسطيني.