يجمع المؤرخون على الدور الكبير لرئيس الوزراء البريطاني في الحرب العالمية الثانية ونستون تشرشل ، ويؤكدون على نجاحه في إدارة دفة حكومته وتعزيز صمود بلده وخروجه منتصراً من تلك الحرب الضروس ؛ خاصة بعد اجتياح الجيوش النازية لفرنسا وما جاورها ، وتكثيف غارات الطيران الألماني بأوامر من هتلر نفسه على العاصمة لندن ، ولكن تشرشل عمل وصبر واجتاز سنوات المحنة ، وكان الانكليز يعرفون ذلك جيداً كما بقية شعوب العالم ، وكان الروس يجلونه باعتباره رجلا صمم على هزيمة ألمانيا على الرغم من كرههم لماضيه وعدم ثقتهم في التعامل معه ، ولدهائه السياسي فقد لقّب بـ (الثعلب العجوز) .
أعاد ونستون تشرشل ترشيح نفسه في أول انتخابات برلمانية بعد انتهاء الحرب ممثلاً عن حزبه حزب العمال ، وكان على ثقة كبيرة من فوزه فيها ، لكنه فوجئ ، بل كانت صدمة كبيرة عليه - كما كتب مؤرخ سيرته هيج مارتن - عندما خسر هذه الانتخابات هو وحزبه ، بل لقد كان هذا الخبر مذهلاً في كثير من دول العالم !! وتساءل الناس هل هو نكران جميل من الشعب البريطاني إزاء الرجل الذي أنقذ انكلترا وهي على شفا الانهيار ؟!
وفي الواقع لم يكن الشعب البريطاني ناكراً للجميل بقدر ما كان محتاجاً إلى الرعاية الاجتماعية والتأمين الاجتماعي وتدبير العمل ، ولم يكن تشرشل المحافظ في رأي الشارع بالرجل الذي يستطيع أن ينهض بتلك الأعباء !! ومن الغريب في هذا الصدد أن الجنود العائدين إلى أرض الوطن عندما أدلوا بأصواتهم في الانتخابات لم يمنحوا ثقتهم لتشرشل وتلك كانت صدمة عنيفة أخرى له بعد أن كان يحسب أنه سيفوز فيها على وجه التأكيد !!
لقد سئل مواطن بريطاني عادي بعد ظهور نتائج الانتخابات : لماذا لم تنتخبوا تشرشل ؟ فأجاب : أن تشرشل قدم كل ما لديه أثناء الحرب ، ولو فاز فسوف يتكئ على ماضيه ولن يستطيع تقديم أي إنجاز أفضل مما قدمه !! أما رئيس الوزراء الجديد الذي انتخبناه فسوف يهتم كثيراً بحاضرنا وكل ما يتمكن من تقديمه لنا ؛ لأنه لا يملك من الماضي شيئا !!
ولعمري هذا هو الجواب الشافي من شعب في منتهى الرقي والوعي .. فهل نقتدي بهم ، ونفعل ما فعلوه في انتخاباتنا البرلمانية الحالية لنغير الخريطة السياسية التي تعفنت الفساد ، وصارت رائحتها تزكم الأنوف ، وهل نفعل ذلك رأفة بأنفسنا المتعبة ، ولنرحم الوطن الجريح ، ونمضي به خطوة صحيحة نحو الأمام ؟!