كنت جالسا على حاسبتي، شغلت موسيقى، اشتهيت التدخين، قمت ادخن خارج القاعة، عندما نزعت سماعات الحاسبة من اذني، ظلت الموسيقى تشتغل في ذهني.
اكملت التدخين وعدت، رفعت السماعات ووضعتها في اذني، كانت الموسيقى في يوتيوب، تشتغل عند نفس النغمة التي وصلت اليها الموسيقى التي في ذهني.
علاقتي بالموسيقى غريبة جدا، من دون كل حواسي الاخرى، حاسة السمع لديّ شديدة.
الصوتيات بالنسبة إليّ، أداة ربط قوية جدا، فعندما اسمع موسيقى معينة في مكان معين، مع اشخاص معينين، في ظروف معينة، تظل هذه الاغنية او الموسيقى مقترنة في ذهني بشخص، بمكان، بظروف.
أسمعني اغنية (يسنين عمري) لحسين الجسمي، سأنتقل بكل وجودي وخاطري إلى عام 2006، الطائفية، والسادس، والتشرد بين الارصفة ومنازل الاقرباء والاصدقاء، وسجائر دافيدوف، ودهن الشعر، وعطر دنهل.
اسمعني كونسيرت منير بشير (من الراغا إلى المقام)، ستنقلني إلى عام 2015 بكل تفاصيله، اسمعني اغاني ابراهيم تاتلس، ستنقلني إلى السليمانية في عام 2011، والمسطر وخلفات البياض وفنادق الدرجة الخامسة.
اسمعني قرآنا بصوت الحافظ اسماعيل، ستنقلني إلى عام 1999، حيث السادس الابتدائي، وجمال العيش في الطابق الثاني، في شهداء العبيدي.
الصوت، بالنسبة لي، هو رابط، لنك، شديد الصلة بكل ما حوله، لا تشغل حاسة الشم من ذاكرتي هذا المقدار، ولا البصر، ولا اللمس، مكتبتي الصوتية المحفوظة في ذهني تمتد 30 عاما بالكمال والتمام، ستكون بالكمال والتمام بحلول صبح غد.
المسموع لا يذكرني بالأشخاص فقط، او بالاماكن، انه يذكرني بنوع مشاعري في تلك اللحظة ايضا، يذكرني بالاجواء النفسية والعقلية التي كنت فيها في تلك اللحظة، الصوت بالنسبة لي بكج BCG كامل، يحتوي على الصور المقترنة بالصوت، والمواقف، وكلمات الاشخاص، وظروفي النفسية الداخلية ايضا.
يتكون الانسان من شيئين، داخل، وخارج، والصوت يرتبط بكل تفاصيلي الداخلية والخارجية.
قرأت عن الصوت كثيرا، وتعلمت ايضا بعض الاته الموسيقية، لكن، وجدت ان الاستمتاع بالصوت، بقراءة المعنى الموجود في الصوت، اجمل بكثير من فلسفة الصوت، وادخاله في دائرة المبحوث، اعتقد ان الصوت يجب ان يبقى في دائرة المحسوس فقط.
هل تعرفون ؟ انكم تستطيعون اضافة معان إلى الصوت، وتستطيعون استذكارها فيما بعد كلما سمعتم الصوت مرة أخرى.
كيف لكونتاتا باخ مثلا، التي تحمل الرقم من 27 إلى 161، ان تحمل لك معاني خاصة بك، معاني تستوحيها انت من حياتك، رغم ان هذا القالب شعري، وما دام شعريا، فهو مرتبط بمعاني كلمات، قد لا تكون ذات صلة بالشعور الذي يمر بك، قد لا تعبر افكار الشعر في هذا العمل عن شيء من حياتك او افكارك او الامك او آمالك ؟
كيف لكونشيرتو منير بشير مثلا، الذي يحمل عنوان (منير بشير وفرقته، مشوار مع العود)، ان يحمل معنى الخروج من الصدمة، والهدوء النفسي الذي يعقب الشعور بالصدمة.
هذا المعنى انت تمنحه للصوت، الصوت لا يحمل معنى محددا بالذات، الصوت مجرد تمام التجرد عن أي معاني، اللهم الا عن المعنى العام، اما تفاصيله فهي عائدة إلى فهمك انت كمتلق، صحيح ان مقام الحجاز كار مثلا حزين في ذاته، لكن تفاصيل هذا الحزن واسبابه تبقى خصوصيات، تختلف باختلاف المستمع، وصحيح ايضا ان مقام الدو مينور فرح بذاته، وأن الحركة الثانية من السيمفونية السابعة لبيتهوفين، مأساوية، ولذيذة بمأساويتها، حتى ان الجمهور كان يطلب من بيتهوفن ان يعزفها لهم قبل السيمفونية، لكن الفرح والمأساوية معاني عامة، تكتسب تفاصيلها وخصوصياتها منك، وهذا سحر الموسيقى.
ولكي لا ننزلق إلى تأويلات عرفانية وفلسفية للموسيقى، وهو الامر الذي جاءت هذه الكلمات حذرة منه منذ البدء، أقول، لا أتذكر شيئا صاحبني طيلة هذه الثلاثين عاما بقرب، كقرب الصوت.