الكتابة مُسحة سلامٍ تتنسّم على قلوب المرهفين وتهبها اطمئناناً وتُغدق عليها بأجزل عطايا الوصال والسّكينة. هي استكناهٌ غيبيّ للنّفوس، تُلامسها بكفٍّ حنون فتستبدل مُختلجات الحزن بأوراق الرّوح والرّيحان. إنّها مُعادلة فطريّة في ميزان الأرواح النّقيّة والعقول المُتّزنة المُستعدة لاستقبال ما يُملي عليها وحشتها، وإن تصادمت مع شوائب الحياة. الكتابة فنّ كباقي الفنون مُتجذّر في النّفوس أو هي استعداد فطري يتنامى ليصبح موهبة مملوكة لذات الشّخص. فإن كانت باقي الفنون الإبداعيّة والمشتملة على تجسيد واقع أو نقل فكر أو عقيدة أو تُراث أو حضارة أو غيرها من الأمور الحياتيّة المختلفة بماضيها وحاضرها وكلّها ان جسّدت بإتقان وأضيف إليها عنصر المفاجئة والنّقلة النّوعيّة يكسوها الجمال ويميّزها التفرّد عُدّت إبداع.
إنّ هذه الفنون بأغلبها وبمختلف مستوياتها ابتداءاً من الجيد فالمتوسط والرديء يعتمد على الحسّين البعدي والسّمعي حتى ولو كان الاستعداد لتقبّلها يختلف من فرد لآخر والاختلاف سببه النشأة الفردية والروحية ومدى إدراكها وتفهّمها واستيعابها ومدى رفعتها وثقافتها الفكريّة واستنارتها الرّوحية لتقبّل أي مادة مطروحة على الساحة. والأمر برُمّته يعتمد على دقّة الرّؤية، فهُناك من ينظر ولا يرى وهناك من ينظر ويرى. والرّؤية هاهنا تعتمد على مدى تغلغل المادة في العقل والرّوح والوجدان وأفراد هذا النّوع يكونون بعيدي المراس بالغي الاُفق. ترتقي أرواحهم لسُلّم الاعتدال الفطري ولايرضون بالرّديء والسّطحي من المواد المُقدّمة على طاولتهم. وهم ثُلّة قليلة تـعنى بالجودة والتفرّد. من هذا المُنطلق العميق فإنّ الكتابة الأدبيّة هي أحد الفنون أو ربّما الفنّ الوحيد الّذي يخرج من عُمُق الرّوح والفكر ليخترق الرّوح والفكر.
مفهومها سيّال واسع الخيال، سريرها ضمآن دوماً للمزيد لن يقف مُكتنفها عند شاطئ مُعيّن من شواطئ الإبداع بل يستمر بلونه وتفرّده ويزداد بعطائه رونقاً وجمال. فالانتقاء الادبي غالباً ما يقع على الأرواح الملائمة لروعته فيكتنز منها وتكتنز منه جمال الجوهر وحكمة الحياة.
لذا فالكلمات تدورُ في فلك النقاء تنتقي صاحبها سواء أكانت لفظاً أو كتابة فتنساب من خلالها كشلالٍ عذب .
فتأخذ عمقها وتعطّر نسمتها إن عوملت وفق مبدئها الحُرّ الأصيل المُتجذّرة فيه والنافذة منه. وهي بمختلف أنواعها سواء أكانت مقالاً او نصّاً نثّرياً أو شعريّاً لن تبلغ كمالها في مجالها ما لم تسير وفق المبدأ الأدبي الخالص الّذي استمدّ وحيه التّقويمي وأصالته الوضاءة من القران الكريم الّذي هو نبع البلاغة والحكمة والرّصانة والبيان ذو الوهج النّافذ. فمنه استمدّ الشّعراء البارزون في القرون الماضية دقّة الالفاظ، وقوّة البلاغة، ونظم الحرف والنّحو والصّرف والإيجاز والاقتطاع الحرفي وغيره من بحر علوم اللّغة العربية ودقتّها. فبنهجه السّامي سارت الاُمم وسادَ الانسان واتّخذ نهجه فرداً وجماعات وشعوباً وديمومته وضمان سلامته وتحصيل سعادته في هذه الحياة. لذا فإنّ الكتابة لا بُدّ أن تبلغ مداها الواسع كي تُعطي نور جوهرها وإلّا فلا!
فالكاتب الأديب لا بُدّ من أن يُعنى بقوّة أدبه كي يُعطي ثمره. وقد استطاعت ثُلّة عظيمة من اُدباء القرون الماضية أن تصوغ قصائدها الشّعرية وكتاباتها الأدبية وأن تصنع ملاحم شعريّة تاريخيّة مُكثّفة كي توصلا ثقافات مُتعدّدة بقوّة طرحها ودرجة بلاغتها الّتي تأسر القارئ المُثقف وتجعله يغوص في أحشاءِ بحره النّافذ. وقد استطاعت أن تكون قدوة لأفراد استساغوا مدّ يراعهم وغرفوا من منهل عطائهم ، فأحاطوا مُقتنى الأدب الرّاقي بأسوار النقاء اللّامعة ليحفظوها موروثاً نفيساً لأكُفٍ بارعة تتعطشه حُليّةً ثمينة تزدانُ به وتُزيّن فيه أرواح المُبدعين الأحرار وإن قلّوا.. كي يَستمروا وتخلد مملكةُ الأدب.