يعد مصرع الملك غازي من أكثر وقائع تاريخ العراق المعاصر غموضاً وإثارة حتى يومنا هذا ، وفي ظل غياب الدليل المادي القاطع للواقعة تبقى القضية تثير تساؤلاً تقليدياً فيما إذا كانت الحادثة مدبرة أو وليدة القضاء والقدر ، وأن كان هناك إجماع من الرأي العام على توجيه الاتهام إلى بريطانيا ونوري السعيد بالاشتراك مع إبن عم الملك الأمير عبد الإله.
الحادث المروع :
المصدر الوحيد لتفاصيل الحادث هو رواية الحكومة العراقية ، ففي صباح يوم الرابع من نيسان 1939 فوجئ الشعب العراقي ببيان رسمي صادر عن الحكومة نقلته إذاعة بغداد جاء فيه:
(( بمزيد من الحزن والألم، ينعي مجلس الوزراء إلى الأمة العراقية، انتقال المغفور له سيد شباب البلاد، جلالة الملك غازي الأول إلى جوار ربه، على اثر اصطدام السيارة التي كان يقودها بنفسه بالعمود الكهربائي الواقع في منحدر قنطرة ( نهر الخر )، بالقرب من قصر الحارثية، في الساعة الحادية عشرة والنصف من ليلة أمس، وفي الوقت الذي يقدم فيه التعازي الخالصة إلى العائلة المالكة على هذه الكارثة العظمى التي حلت بالبلاد، يدعو الله سبحانه وتعالى أن يحفظ للمملكة نجله الأوحد جلالة الملك فيصل الثاني، ويلهم الشعب العراقي الكريم الصبر الجميل، وإننا إلى الله وإننا إليه راجعون ... بغداد في 4 نيسان 1939)).(الحسني ، عبد الرزاق ، تأريخ الوزارات العراقية ، ج 5 ، ص 78).
ولا توجد أية رواية أخرى للحادث ، كما لم تثبت شهادة أي شاهد عيان لهذا الحادث الغامض.
مواقف ما بعد الفاجعة:
عند حدوث الفاجعة الكبرى التي أنتهت بوفاة الملك غازي ، أنطفأت الأنوار في قصر الزهور فجأة ، و صوت أحد الخدم الذي تربى في القصر يطلب النجدة ويقول: (ألحقونا سيدي الملك مصاب حصل حادث للسيارة)، خرجت الملكة عالية من القصر عند سماعها نبأ الاصطدام ، وأسرعت الى مكان الحادث وسط الظلام ولحقت بالحرس وبينما كان الملك مسجى والدم ينزف منه إنكبت عليه وأخذت تصرخ لجلب الأطباء لبذل كل الجهود الممكنة لإنقاذه، قائلة ( أريده أن يفتح عينيه سريعاً أريده أن يتكلم )، وفي هذه الأثناء أنسحب احد الأطباء طالباً من الأمير عبد الإله شقيق الملكة عالية ووالدتها الملكة نفيسة تهدئة الملكة وتذكيرها بأنها والدة طفل وعليها الاهتمام به ورعايته وأن تفكر بصحتها.
وجاء الدكتور سندرسن والدكتور صائب شوكت وبدأوا بالكشف عليه وفحصه وظلوا حائرين، وبعد ذلك اسلم الروح وكان أحد الذين رافقوا الملك حياً ومصاباً بكسر في يده، وقال بأن الملك غازي في أثناء عودته من قصر الحارثية إلى قصر الزهور، أدار محرك السيارة وأنطلق بسرعة كبيرة، فاصطدمت بعمود الكهرباء وأستدارت السيارة حول نفسها ووقفت من شدة الصدمة وكان الباب قد أنفتح على يده ولم يفق من شدة الألم إلا على منظر الملك الذي كان جالساً في مقعد القيادة والعمود على رأسه والدم ينزف منه فأسرع الخادم وأبلغ عن الحادث وعن كل شيء شاهده بعينه.
وجاء في إفادة الملكة"إن زوجها كان يذهب كل مساء إلى قصر الحارثية فيبقى فيه حتى منتصف الليل ثم يعود وينام في الحال ، وفي تلك الليلة عاد مبكراً على خلاف عادته فما كان يشرع في خلع ملابسه حتى رن جرس الهاتف، وبعد مكالمة قصيرة عاد فلبس ثيابه ليتوجه بسيارته الى قصر الحارثية قائلا أن الشخص الذي كان ينتظره قد حضر الآن وبعد مدة قصيرة جيء به مقتولاً يقولون أن سيارته اصطدمت بالعمود الكهربائي وأصيب بجرح بليغ في رأسه".
أما عبد الوهاب عبد اللطيف المرافق الأقدم في القصر الملكي فيقول "كنت نائما في بيتي عندما استدعيت هاتفيا من المرافق الخفر في قصر الزهور وبعد وصولي عرفت من الملكة عالية أن الملك بانتظار آلة لتصليح خلل في الإذاعة وبعد أن اخبر بواسطة التلفون بوصول الشخص الذي يحمل تلك الآلة غادر إلى قصر الحارثية ، وبعدها سمعوا بوقوع الحادث ".
أما الدكتور صائب شوكت فكان من بين الأطباء الذين استدعوا لفحص الملك فقد ذكر قائلا " حين وصلت إلى قصر الحارثية ورأيت الملكة عالية والأمير عبد الأله وبعض الوزراء وافراد الأسرة المالكة وعدداً من المرافقين والخدم بدأت بفحص الملك الذي كان فاقد الوعي وإذا بيدي تغور في مؤخرة رأسه وعندما سئلت عن رأيي أخبرتهم بأن الملك مضروب بهيم من الخلف أدى إلى كسر في الجمجمة وتمزق في المخ وأنه سوف لا يعيش أكثر من دقائق معدودة ، وقد أخبرتني الملكة عالية بأنها لاتعرف أكثر من أن صباح نوري السعيد طلبه في الهاتف فترك قصر الزهور متوجها إلى قصر الحارثية".
أما السيد ناجي شوكت فقد بين في مذكراته بأن الملك أصطدم بعمود الكهرباء نتيجة السرعة الجنونية وحالة الانفعال والاضطراب التي كان يعيشها عند قيادته السيارة في تلك الليلة وهذا يأتي مناقضاً لما ذكره عبد الرزاق الحسني إذ يقول بان السيد ناجي شوكت لازال يعتقد بأن نوري السعيد والأمير عبد الإله لهم إسهام فعلي في فاجعة الملك غازي.
ويذكر عبد الحق العزاوي الذي كان يعمل ضابطاً في الحرس الملكي يوم مقتل الملك بأنه سمع الملكة عالية طلبت طرد الدكتور سندرسن باشا من القصر، الذي كان يشرف على علاج الملك وهو في حالة إغماء قائلة " ما كفاه انه قتل أباه حتى جاء ليقتل الولد ".
أعلنت الحكومة الحداد الرسمي أربعين يوماً،وفتحت الملكة عالية أبواب قصر الزهورلاستقبال المعزيات من طبقات الشعب كافة، وحددت موعد استقبال المعزيات من السيدات العراقيات وعقيلات الوزراء وعقيلات الموظفين الأجانب يومين في الأسبوع من الساعة العاشرة حتى الساعة الثانية عشرة أما عقيلات رجال الهيئات الدبلوماسية فكانت تستقبلهن من الساعة الرابعة عصراً الى الساعة الخامسة، أما نساء القصرالاخريات فقد خصصت لهن في القصر الملكي ثلاث قاعات لأستقبال وفود من نساء العراق القادمات من مختلف أنحاء البلاد فكانت القاعة الأولى للملكة عالية والثانية للأميرة ملك فيضي والثالثة للملكة نفيسة وتمر المعزيات بهذه القاعات الثلاث ثم يتناولن الطعام الذي أعد لهن في القصر.
وتشكلت لجان من النساء لاستقبال هذه الوفود وكانت من بينهن السيدة عصمت السعيد التي ذكرت"كنت من بين مستقبلات وفود الطبقة العاملة في القصر، وكانت نساء العراق بوجه عام يرغبن في إظهار مشاعرهن لأرملة الملك الشاب الراحل وكانت وفود من الطبقات الفقيرة تأتي سيرا على الاقدام من قلب بغداد الى القصر الملكي الذي يبعد عن قلب المدينة ما يوازي أربعة كيلومترات ولمدة ثلاثة أيام متوالية وكنا نطلب من المعزيات عدم الصياح والعويل والعمل بالأصول الإسلامية احتراماً لأهل البيت والاكتفاء بقراءة الفاتحة، وكانت الملكة عالية مرهقة وافراد أسرتها، لكنها حافظت على وقارها وكانت تحني رأسها بكياسة عند مرور الوفود من أمامها".
وقد وردت برقيات التعازي الى الملكة عالية من زوجات الملوك من الدول الصديقة حيث وردت برقية من ملكة إيران ومن الملكة لئوبولد ملكة بلجيكا ومن مصر أرسلت الملكة فريدة زوجة الملك فاروق برقية تعزية ايضاً وقد كانت تربطهن بالملكة علاقات صداقة وثيقة.