موعد مع التاريخ
في أي زمان نعيش ؟! وفي أي مكان نحن ؟! وفي المدينة .. في يثرب النور تلك المدينة الساحرة العجيبة التي تظللها حكمة السماء وعدالتها، وصفاء الحق وسمو العدل، وتضيئها شمس الحقيقة الأبدية، بعد أن عرفت الحق فأصفت اليه واستجابت له، وبعد ان ذاقت العدل فاحتضنته وحافظت عليه … وأضفي عليها عمر بن الخطاب من عدله وهيبته ما جعلها مدينة ساحرة ارتفعت بأهلها فوق المعانی الأرضية وجاوزت بهم السماء وكأن الدنيا غير الدنيا . وكان الناس في وضع جديد، فإذا انسانها وقد نفض عن نفسه وروحه الاستعباد والذل، والضعة والبؤس ، ثم انطلق بروحه إلى الأعالي .. الى الجنة وروضها القينان.
ذات ليلة ما كاد الظلام يزحف على المدينة ليطبق عليها من أطرافها لتنام نوما هادئا .. حتى صاح عمر بن الخطاب كعادته في كل ليلة هيا بنا يا أسلم نعس في طرق المدينة وبين أزقتها وندور حول أطرافها ، لنرى هل هناك من يحتاج المساعدة فتساعده … هل ثمة من يخالف أمر الله فنزجره … ونهض الغلام (أسلم) مسرعا وراء أمير المؤمنين والمدينة ساكنة هادئة مطمئنة بعد أن لاذ كل مسلم فيها إلى أهله وبيته . فمنهم من يرتل القرآن ويحفظه .. ومنهم من يقص على اهل بيته ، حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم .. ومنهم من وقف خاشعا باكيا بين يدي الله يرجو المغفرة والرحمة ويسأل النصر والتمكين للإسلام والمسلمين ..
في طرف من أطراف المدينة بيت متواضع كان له موعد مع العدل .. وموعد مع التاريخ في هذه الليلة .. هذا البيت تسكنه أم وثلاثة من الأطفال .. تحلقوا حول أمهم وأخذوا بأطراف ثوبها يتجاذبونه ويرجون أمهم أن تطعمهم بعد أن دقهم الجوع دقا، وطحنهم طحنا فما أبقى على قوة فيهم .. وعيونهم متجهة إلى ذلك القدر المسكين الذي يستجير من النار التي تحته ، حتى کاد بنصهر بعد أن أعياه ضرب الحصى على جنباته أما الأم المسكينة فقد كانت تطعم النار بالحطب وقلبها يتقطع على صغارها ودموعها تملأ مآقيها وتحرق خديها ، وهي تحرك القدر بيدها المرتعشة وتهدهد أطفالها: ناموا ياصغاري وعندما ينضج الطبيخ أوقظكم لتأكلوا … ثم تحشرج في صوت متهدج مخنوق بالعبرة المرة تقول – لك الله ياعمر ..؟! تتولى أمور المسلمين ولا تعلم بحالهم التنصفهم، وتطعم جائعهم ، وتكسو عريانهم، وترفع الظلم عن مستضعفيهم ؟ اما بالك قد نسيتنا .. والله وكلك برعايتنا .. كانت المسكينة تحدث نفسها بهذه المعاني، فيما كان نشيجها يشتد .. وخارج البيت كان يقف عمر ويشير إلى غلامة أن يقف ويقول : – هل تسمع بكاء يا أسلم ؟ أجاب أسلم : أجل يا أمير المؤمنين … إنه بكاء أطفال .
ويتقدم عمر ويستأذن أهل البيت فتتجه أنظار الأطفال إليه ، وتضيء النار وجه الأم الحزينة والدموع تغسل خديها … – السلام عليكم ورحمة الله وبركاته . – وعليكم السلام ورحمة الله يا أخا الإسلام . – ما لهؤلاء الأطفال بیکون ؟ – ماذا نقول .. ولن تشكو .. فربما أغنى الحال عن السؤال .. الجوع… الجوع … – وأي شيء في هذا القدر ؟ فتختنق بالبكاء وتجيب حصى وماء .. اسكتهم به … لعلهم ينامون .. وتشيح بوجهها عنه وتدفع بالحطب تحت القدر وتقول : – أين عن التك ياعمر ..؟ – يا أمة الله وما يدري عمر بكم ..؟ فترمقه بنظرة خاطفة وتقول : – يتولى أمرنا ثم ينشغل عنا !!
لم يستطع عمر أن ينتظر طويلا .. فهذه الظلامة هو المسؤول عنها .. نظر إلى غلامه وقال : هلم بنا .. وانطلق عمر مسرعا كأنه غزال فر من نمر ، وغلامه بركض في إثره، ونسمات الليل الباردة تلفح وجهيهما فزعة قلقة ولو سألتهما لجاء جوابهما : إن أمرا جللا قد حصل ووصل أمير المؤمنين الي بيت مال المؤمنين واخذ كيساً من الدقيق وكمية من السمن ثم نظر الي غلامه نظرة استغراب واستعجال وهو يقول له : إحمل علي يا أسلم، فيجيب أسلم علي الفور : دعني احمل عنك يا امير المؤمنين، فأنا خادمك، فيغضب عمر ويقول : وهل تحمل عني ذنوبي يوم القيامة .. لا أم لك !!
وحمل أسلم على أمير المؤمنين وانطلقا مسرعين … حتى وصلا إلى ذلك البيت وعلى الفور بدأ عمر يحضر الطعام بمساعدة الأم المسكينة التي انطلق لسانها يلهج بالشكر والثناء على صنيع الرجل .. وعيون الأطفال مشدودة إلى هذا الرجل .. وهم لا يصدقون ما يرون .من هو .. ربما هذا لا يهمهم الآن .. فالجوع قد أوجعهم والطعام الذي يصنعه بمساعدة أمهم هو المقصود ويصنع الطعام والعرق يتصبب منه والدخان يتخلل لحيته .. ويأكل الأطفال .. وتجف الدموع المتراقصة على الخدود … هي الخلافة هكذا .. هي السياسة .. والسيادة والرئاسة .؟!! وعلى وجوه الأطفال ارتسمت ابتسامات الرضا فصارت ضحكات بعد أن بكت بدموع غزار ثم بدت على وجوههم علامات التعب والتعاس … ونام الأطفال .
تراجع عمر الى الباب ونظر إلى المرأة المسكينة وقال لها تعالي غدا إلى بيت مال المسلمين وسوف تجدينتي هناك .. ثم انطلقا .. وأسدلت الستارة علي مشهد من اعظم المشاهد في تاريخ الانسانية، ابطالها شخصيات هذه القصة، إذ ان اعظم اغنياء الار لن يستطيع بكل ماله ان يشتري الطريقة الهنيئة التي تنبض بها قلوب هؤلاء الاطفال وقلب امهم بعد الذي كان وصار، وكأن الملائكة تنزل بهم وتصعد الي السماء لتحفهم برحمة الله .