قال الروائي الروسي مكسيم غوركي (التاريخ لا يكتبه المؤرخون, بل الفنّانون الذين يكتبون التاريخ الحقيقي للإنسان), فقد ارخ الراحل شمران الياسري (أبو گاطع) الريف العراقي وحياة الفلاحين والشيوخ والاقطاع والنساء والحب والقسوة والظلم في رباعيته حتى قال الروائي العراقي غائب طعمة فرمان بحق رباعياته (لقد وجدت نفسي أمام وضع دقيق لجوانب حيّة وشخصيات سمعتُ بحّة صوتها في أذني, كنت أمام ما نسميه موسوعة الريف, ولكن كاتبها أديب جعل كل شيء يدبّ حيّاً).
ولد شمران الياسري عام 1926م في قرية محيرجة (ناحية الموفقية حالياً) في منطقة التساعين التابعة لقضاء الحي في محافظة واسط, وقد كنيَّ بـ(أبو گاطع) بعد أن اشتهر برنامجه الإذاعي (احجيها بصراحة يبو گاطع) بعد ثورة 14 تموز 1958, تزوج (ابو گاطع) من السيدة هبوب ابراهيم الياسري وله خمسة اولاد وبنتين اكبرهم جبران, نشأ في عائلة محافظة في ريف الكوت, كان مولعاً بالقراءة ومحباً للرسم ومقرضاً للشعر الشعبي, فكان يعتز بكل من الشعراء مظفر النواب وقصائده الثورية كرمز للتجديد الشعري, وكذلك اشعار إبراهيم الشيخ حسون والشاعر عريان السيد خلف وكاظم اسماعيل گاطع وجمعة الحلفي وكريم العراقي وشاكر السماوي وعزيز السماوي وعبد الحسين ابو شبع وعباس ناجي وآخرين.
تمكن (ابو گاطع) من خلال حرفة الكتابة وادراك مدى تأثيرها في كسب الجمهور وإثارة الجدل حول ما يكتب, مبتكراً طرائف مباشرة وغير مباشرة للنقد والتحريض, فأمتلك ادوات فن مخاطبة قلوب الناس وعقولهم, بلغة واضحة وبسيطة واسلوب بارع مزاوجاً بين المفردات العامية والفصيحة في تناسق باهر وتلقائي, مبتكراً التزاوج بين الحزن والفكاهة, لذلك يذكر الكاتب والباحث د. عبد الحسين شعبان في كتابه (ابو گاطع على ضفاف السخرية الحزينة) قائلاً : (ولهذا السبب استقطب جمهوراً واسعاً, ناهيك عن القيم الجمالية التي حاول اظهارها, كاشفاً لنا عن عمق ودراية ما يجري في المجتمع, خالقاً ابطالاً هدفهم اسعادنا, على الرغم مما كان يعانيه من ألم).
برز الصحفي والاعلامي والكاتب والروائي الساخر (أبو گاطع) في نتاجه المتنوع وحديثه الاذاعي الموجه للمضايف والديوانيات والفلاحين, الحديث الذي تضمن الاقصوصة والحكاية الساخرة الحزينة والقدرة على المواءمة, ومواجهة تعقيدات المجتمع وصراعاته ومشاكله وهمومه بتلك السخرية, فظلَّ اميناً لأسلوبه الساخر محاولاً تطويع وسيلته الابداعية أن يصدم المستمع في حكاياته والقارئ في رواياته وعموده الصحفي, فكان مائزاً بالفكاهة المغلفة بالحزن العميق للتخفيف عن عبء المواطن في حياته, من خلال اعماله التي لا يمكن فصلها عن بيئتها الاجتماعية والاقتصادية والسياسية السائدة آنذاك.
كانت الكلمة لدى (أبو گاطع) مفتاح الكون للدخول إلى قلب القارئ ونجمه الهادئ, تلك الكلمات التي تحمل الدفء والأمل وبوابة التجلّي لمواجهة الواقع المتجهم العبوس, حتى امتهن (ابو گاطع) مهنة الحرف والكلمة ليجد نفسه بين الحبر والكلمة, ثم انتمى للصحافة والعمل السري, فكان دقيقاً في مقالاته, عميقاً في معاني الكلمات لاختيار الأفكار والمفردات الرشيقة الأنيقة والأشعار والفكاهات والطرائف.
امتهن (ابو گاطع) الصحافة السرية من خلال اصداره (صحيفة الحقائق) منتصف ستينات القرن الماضي وبمساعدة أبو محيسن (أحمد صالح العبيدي), وأبو عليوي (هاشم محسن) بالاشراف عليها وتوزيعها مستخدماً فرسه على المناطق القريبة من ريف الكوت, وكانت تذاع من إذاعة (صوت الشعب العراقي) في الخارج, كما تمكن من كتابة رباعيته الرائعة مطلع سبعينات القرن الماضي 1973م (الزناد, بلابوش دنيا, غنم الشيخ, فلوس حميد) التي ارخها لريف العراق للفترة من 1923 إلى عام 1963م, كما عمل في بغداد في صحف (الحضارة, البلاد, صوت الأحرار) سنوات ما بعد ثورة 14 تموز 1958, وبعد عام 1968 اصبح مديراً لتحرير مجلة (الثقافة الجديدة) وكاتباً في صحيفتي (طريق الشعب والفكر الجديد) حتى أواسط عام 1976 إذ غادر العراق إلى تشيكوسلوفاكيا هارباً من تهمة توزيع السلاح وعقوبتها الاعدام آنذاك, فكان أول لاجئ ومهاجر عراقي أبان التحالف بين الحزب الشيوعي العراقي مع حزب البعث الحاكم, وكانت آخر مادة كتبها إلى طريق الشعب تحدثَ فيها عن التحالف الجبهوي تحت عنوان (الظهر والظهيرة والظهير).
كان عمود (ابو گاطع) الصحفي في جريدة طريق الشعب يعكس هموم الناس ومشاكلهم وحاجاتهم اليومية وبلغة ساخرة مصحوبة بنكتة وطريفة مصاحباً لها (الحسجة) الممتعة, معتمداً على الامثال الشعبية والتراث الزاخر, محاولاً فضح الواقع السياسي والحراك الاجتماعي وحقيقة الاوضاع والعلاقات بين اطراف التحالف الجبهوي ابان سبعينات القرن الماضي, فكان عموده الصحفي يحمل هموم الناس من خلال الحزن والفرح والسخرية في زمان كان يخشاها الحكام المستبدون, فقد اتخذ من (خلف الدواح) بصمة له في مقالاته حول واقع العراق ككل من خلال الوقائع والاخبار والتساؤل والتحليل, أما رواياته وحكاياته التي تختزن الذاكرة الجمعية بالكثير من الروايات التي أبلت بلاءً حسناً وشعبية واسعة بين القراء, فكان مملوءاً بحكايات الريف التي شدّت القراء فضلاً عن الشعر الشعبي الذي وضفّهُ للنقد اللاذع في مقالاته.
ومن خلال متابعتنا واطلاعنا على رباعيته المشهورة تعرفنا على نوعاً جديداً من ادب الريف وقضية الفلاحين في العراق, فقد كانت شخصياته وادارته الفنية في الكتابة نلمس من خلالها نكهة الرواية الريفية بخيال (ابو گاطع) لتوصيف وتصوير امكنة الزمن من محيطه الريفي وهمومه وواقع مشكلاته مقروناً بسخرية مرة ودعابة لذيذة مرة اخرى لتسفيه التقاليد البالية وفضح حال الشيوخ الزائفة وتمايزهم الطبقي.
لقد تطور الأدب الساخر في العراق على يد الصحفي والروائي (ابو گاطع) رغم بعض المحاولات منذ عشرينات القرن الماضي على يد صاحب صحيفة حبزبوز (نوري ثابت) ثم على يد عبد الجبار وهبي (ابو سعيد) وعموده الصحفي في صحيفة اتحاد الشعب 1959م (كلمة اليوم), ولا ننسى أن هناك أكثر من (30) صحيفة ومجلة ساخرة صدرت للحقبة بين الاعوام (1909- 1939) في العراق, لكن لأبو گاطع كان الدور الكبير لانضاج هذا النوع من الادب, إلا أن موقف السلطة عام 1976م كان موقفاً لأسكات وايقاف قلم (ابو گاطع) في صحيفة طريق الشعب لما يسببه عموده اليومي من ازعاج لها واحراج للمتحالفين معها, لذلك تقرر اعفاءه من الكتابة, مما ادى إلى رحيله من الوطن إلى تشيكوسلوفاكيا وبداية العد التنازلي للتحالف الجبهوي مع الحزب الشيوعي العراقي وقرار السلطة بحل المنظمات الديمقراطية (اتحاد الطلبة العام, اتحاد الشبيبة الديمقراطي, رابطة المرأة).
رحل الصحفي القدير والساخر (ابو گاطع) عن الحياة باكراً في براغ يوم 17 آب 1981 ودفن في بيروت في مقبرة الشهداء الفلسطينيين, تاركاً وراءه خزيناً من المقالات الساخرة والروايات التي وثقت حياة الريف.