لتلك أبكي ولا أبكي لمنزلة
كانت تحل بها هند وأسماء
تسميات عديدة وتوصيفات متفاوتة، تلك التي تطلق على ظرفنا المعاش في عراقنا الجديد، فمنهم من وصفه بأنه ظرف حرج، ومنهم من أسماه ظرفا صعبا، وآخرون أسموه منعطفا خطيرا، وبعضهم -وأنا منهم- أطلقوا على البلد في ظرفه العسير أنه على كف عفريت، وما التسميات هذه إلا نتاج انسيابي للتداعيات التي وصل اليها البلد بعد عقود طويلة، ظننا قبل خمسة عشر عاما انها ستنقضي بانقضاء المسبب، باحتساب ان النتائج تُبنى على المسببات، وبتغير الأخيرة تتغير الأولى حتما.
إلا أن الجرة لاتسلم كل مرة، كما أن الظنون لاتصيب في كل الأحيان، وها نحن العراقيين نجني ثمار زرع لم نكن قد زرعناه يوما، فقد ثبّت جذوره في عراقنا ساسة أتوا من خلف محطات مجهولة، وحلوا في دست الحكم في ظلمة ليل حالك تشوشت فيه الرؤية لدى العراقيين، وأصاب العشو بصرهم، فاختلط في نظرهم حابل الخيرين بنابل الشريرين، فكان ماكان بعد عام 2003.
اليوم، يستعد العراقيون للنهوض من جديد لينفضوا عنهم غبار ماضي السنين، يناشدون تغييرا جذريا لقلب أنظمة العيش في البلد، وليس قلب نظام حكم او انقلاب على شخص يتمتع بمنصب رئاسي او وجاهي، فكما يقول مثلنا؛ (تريد عنب لو چتل الناطور!) فالعراقيون اليوم لايبتغون أكثر من العيش بسلام في دار السلام كما كانوا يطلقون عليها، ولايحلمون بأكثر من (شرفاء) يتحكمون بزمام أمر البلد، ويحافظون على إرثه الماضي، وينهضون بحاضره المتعثر، ويوصلونهم الى مستقبل يضمن لهم العيش بأمان مواكبين مسيرة بلدان العالم.
وقطعا هذه المعطيات من الأحلام المشروعة لاتتحقق بالتمني وحده ولكن، يبدو أن المتحكمين بأمر البلد اليوم أحالوا حقوق المواطن في وطنه الى أحلام غير قابلة للتحقيق البتة، بل صيروها كوابيس بين معاشة فعلا، وبين متخوف منها لمستقبل لايلوح منه في نهاية أفقه المدلهم غير التوجس والريبة والقلق.
ومادمنا نعيش أيام انتقاء من يغيرون الواقع المرير المفروض علينا، ممن يشغلون منصب ممثل الشعب في مجلس نواب البلاد، وبالتالي تغيير وجوه ممتطي صهوات القيادة في مؤسساتها، لانملك نحن العراقيين، غير التمني بأن يكون فرسان أحلامنا من قياديينا الجدد على شاكلة بعض الأولين، الذين كانوا قد اعتلوا مناصب السيادة في مؤسسات المجلس التشريعي إبان العقود السابقة، أقصد بها عقود العهد الملكي الذي يطلقون عليه تسمية العهد المباد، في حين تردنا الحكايات والأحاديث تترى عن نزاهتهم وصدقهم وحرصهم، فيما منوط بهم من أعمال وواجبات. مقابل هذا، ليس علينا غير الحلم ثم الحلم ثم الحلم بالجيدين منهم، وكذلك الدعاء ثم الدعاء ثم الدعاء أن يكون نصيبنا في التشكيلة الجديدة أشخاصا مثلهم، ولانطمع بأحسن منهم.
فبالعودة الى فهرس الإخلاص والنزاهة في سجل ساسة العراق وقادته، من الذين تبوأوا مقاعد العضوية والرئاسة على حد سواء، يتضح لمقلب صفحاته ندرة الأسماء وتباعد الفترات الزمنية التي تتخلل ظهورهم، إذ يبرز بين عشرات الأسماء من المسؤولين اسم واحد او اسمان او على أكثر تقدير ثلاثة، كل عقدين من الزمن، يؤدون واجباتهم كما ينبغي أن يؤدوها، والقليل القليل ممن أداها بكثير من الإخلاص والقليل من الأنانية. ولو أردت ذكر أحدهم فسيكون على سبيل الحصر لا المثال عكس المعهود بالاستذكارات، إذ أن تدني عدد الأخيار سهّل حصرهم بين قوسين، وبات الاستشهاد بهم يسيرا.
وفي حقيقة الأمر أن استذكار الجيدين لم تعد له جدوى على أرض الواقع المعاش في البيت العراقي الكبير، حيث ينطبق عليه مثلنا: (ظل البيت لمطيرة وطارت بيه فرد طيره) جملة وتفصيلا، إذ خلت باحته أمام السيئين ليسرحوا ويمرحوا بكامل صلاحياتهم، وتحت غطاء شرعي وقانوني وعشائري ومجتمعي، بل وديني أيضا! والأخير هذا باتت أدواته بمتناول السراق والمفسدين الدخلاء على الأعراف والأخلاق والأصول في كل المذاهب والاديان. ومادام هذا ديدن أولي أمرنا وحكامنا ودأبهم، فإن استذكار خيّر من خيّري "العهد البائد"، يزيد الحسرة حرارة، ويفاقم ألم الخذلان، ويضاعف خيبة الأمل أضعافا كثيرة، وكما نقول: "أبچي عليه طين"