في الوقت الذي تزرع فيه النباتات في مزارع مفتوحة تحت أشعة الشمس، أو في بيوت زجاجية، اتجهت بعض الشركات مؤخرا إلى الزراعة في أحواض ترص بعضها فوق بعض بالاستعانة بالضوء فوق البنفسجي. وهذه الطريقة تسهم في توفير المياه، وتساعد في إنضاج الثمار خلال وقت أقصر مقارنة بالمزارع التقليدية.
في مصنع قديم للسجاد على مشارف مدينة كوريك، ببلجيكا، تعتزم مؤسسة "إيربان كروبس" إقامة تجهيزات لزراعة المحاصيل في طبقات تُرص بعضها فوق بعض، تحت إضاءة ملونة، في مساحة تعادل حجم الغرفة.
ويسمى هذا النظام بالزراعة العمودية. وفي السنوات العشر الأخيرة، بدأت شركات عديدة في استغلال المخازن والمصانع المهجورة في زراعة الخضروات والأعشاب، بعيدا عن آشعة الشمس.
ومن بين هذه المؤسسات، "إيربان كروبس"، التي صممت إطارا كبيرا يضم أحواضا مثبتة على سيور متحركة، زُزعت في كل حوض منها نباتات صغيرة تحت الإضاءة الخافتة لمصابيح الصمامات الثنائية الباعثة للضوء الأزرق والأحمر "ليد".
لكن الشركة لا تزال تعمل على تطوير النظام، الذي يدار بشكل آلي. ويقول مارتن فاندكريز، المدير التنفيذي للمشروع، إن النظام مبرمج ليغذي النباتات بالضوء والمغذيات طوال دورة النمو، إلى أن يحين قطافها.
ويضيف فاندكريز: "النباتات هنا أقل عرضة للتلوث"، لأن المكان محكم الإغلاق، على حد وصفه. ولكل نوع من المحاصيل نظام خاص معد وفقا لمتطلباته، يحدد كمية المغذيات والضوء التي يحتاجها، على سبيل المثال. فضلا عن أن النباتات تنمو في المزارع الرأسية أسرع مما تنمو في الهواء الطلق.
تقول شركة "إيربان كروبس" إن كميات المحاصيل التي تنتجها المزارع الرأسية لكل متر مربع أكثر من كميات المحاصيل التي تنتجها المزارع التقليدية أو البيوت الزجاجية في نفس المساحة، كما أنها تحتاج إلى كميات أقل من الماء وتنمو فيها النباتات أسرع مما تنمو في المزارع التقليدية. ويمكن استخدامها لزراعة المحاصيل طوال العام، كما يمكن نظريا إقامة هذه التجهيزات في أي مكان.
وفي شركة "إيربان كروبس"، يمكن رصّ ثمان طبقات من النباتات في مساحة لا تتجاوز 30 مترا مربعا. ويقول فانديكريز: "درجات الحرارة داخل النظام تضاهي درجات الحرارة في يوم صيفي، بلا غيوم".
ولكن هل يمكنك زراعة أي شيء داخل مبنى طالما توافرت لديك الوسائل التقنية المناسبة؟
يقول فاندكريز إنه من الممكن أن تزرع أي نوع من الخضروات في الداخل، بيد أنه من الأفضل من الناحية الاقتصادية أن تواظب على زراعة المحاصيل الأسرع نموا ذات القيمة السوقية العالية. فيفضل زراعة الأعشاب والخضروات الورقية الصغيرة والأزهار الصالحة للأكل على سبيل المثال، لأنها تدر ربحا أكثر لكل كيلوغرام مقارنة ببعض الخضروات الجذرية، التي تُزرع عادة في الهواء الطلق.
ومن خلال أنظمة الزراعة الداخلية، يمكنك أن تتحكم بدقة فائقة في الموارد التي تحتاجها المحاصيل، وهذا يتيح لك التحكم في تسريع نضج الثمار والتنبؤ بمقدار المغذيات المطلوبة. فيمكنك مثلا تخفيف إضاءة مصابيح "ليد" أو زيادة حدتها كما تشاء، ولأنها لا تصدر قدرا كبيرا من الحرارة كحال المصابيح التقليدية، فيمكن وضعها بالقرب من النبات ليمتص أكبر قدر من الضوء.
إضافة إلى أن المزارع الرأسية يمكن أن تنتج نفس الكمية من المحاصيل الزراعية التي تنتجها المزارع في الهواء الطلق، ولكن في مساحة أقل بمراحل.
وكيف تُزرع المحاصيل داخليا؟ هناك بضعة نماذج رئيسية للزراعة الداخلية، منها الزراعة المائية بلا تربة، حيث تنمو النباتات في أحواض من الماء مشبعة بالمغذيات، والزراعة الهوائية، التي تُرش فيها جذور النباتات بين الحين والأخر برذاذ من الماء والمغذيات، وهذا النظام يستهلك كميات أقل من الماء. وثمة نظام أخر وهو الاستزراع النباتي السمكي، الذي يتضمن تربية الأسماك في أحواض لتنتج بكتيريا تستخدم بدورها كمواد مغذية للنباتات.
واختارت "إيربان كروبس" نظام الزراعة المائية، ويشير فاندكريز إلى أنهم يعيدون تدوير المياه عدة مرات بعدما يتبخر من النبات ويستعاد من الهواء الرطب، ويعالج أيضا بالضوء فوق البنفسجي لوقف انتشار الأمراض.
ولعل الميزة الأساسية للزراعة العمودية أنها تستهلك كميات أقل من المياه. ويقول فانكريز: " قدرنا المياه المستهلكة في زراعة أحد أنواع الخس الأحمر، ووجدنا أنها تستهلك خمسة في المئة من المياه التي تستهلك في الزراعة التقليدية في الحقول".
ولكن شركة "إيربان كروبس" لا تخطط لجني المال من بيع المحاصيل الزراعية، إنما ستجمعه من بيع تجهيزات المزارع العمودية.
وصممت الشركة أنظمة للزراعة في أماكن مغلقة لتستفيد هي منها وفي الوقت نفسه تبيعها للغير ليزرعوا طعامهم في مساحات محددة، وبهذا ستتيح لجميع الناس الفرصة للزراعة، سواء داخل المدن أو في المجمعات السكنية مثل بيوت الطلبة الملحقة بالجامعات. ويمكن تركيب هذه الأنظمة في البيوت الزجاجية للمساعدة في انتاج النبات.
ومن أبرز الأسماء في عالم الزراعة العمودية، شركة "أيروفارمز" بولاية نيوجيرسي، بالولايات المتحدة الأمريكية، التي دشنت أكبر مزرعة رأسية في العالم، على حد وصفها، على مساحة سبعة ألاف متر مربع.
ولم تكن الشركة لتتوسع على هذا النحو من دون التقنية التي توصل إليها إد هاروود، المخترع والخبير الزراعي، الذي أتته الفكرة منذ سنوات مضت حين كان يعمل لدى جامعة كورنيل، حيث تستخدم أنظمة الزراعة الهوائية في المعامل. وتساءل هاروود، لماذا لا تستخدم هذه الطريقة على نطاق أوسع؟
ورغم ما لاقاه هاروود من معارضة في البداية، إلا أنه واظب على إجراء تجارب حتى توصل إلى تصميم عبارة عن نظام وفوهة لرش جذور النباتات التي تزرع بطريقة الزراعة الهوائية. ولا توضع جذور النباتات في تربة طينية، بل تزرع في قماش رقيق. ولكن الشركة آثرت ألا تفصح عن تفاصيل الطريقة التي تحافظ بها على نظافة الفوهات مع مرور الوقت، التي تمثل إحدى المشكلات الأساسية في هذا المجال.
وتفضل شركة "أيروفارمز" زراعة الخضروات التي تنمو سريعا، مثل الخضروات الورقية والخضروات التي لا تحتاج إلى طهي، على سائر أنواع الخضروات، بسبب زيادة الطلب على هذا النوع من المحاصيل المزروعة في المؤسسات الكبيرة مثل مؤسستهم، والتي قد تصبح يوما ما من سمات المجتمعات المدنية. ويقول هاروود إن المحاصيل التي ينتجها لن تخلف ظن الزبائن، لأنها ستكون دوما طازجة ويانعة.
وبينما يبدو هاروود واثقا من نجاح الشركة وقدرتها على تحقيق أرباح، فإن البعض ينظرون لها بعين الريبة، ومنهم مايكل هام، أستاذ الزراعة المستدامة بجامعة ميشيغان. ويقول هام إن المزارع العمودية تعتمد على الكهرباء، التي يستمد معظمها من مصادر الوقود الأحفوري.
ويتساءل هام، "لماذا نهدر الطاقة لننتج الخس، في حين أننا يمكن أن نستمد الضوء من الشمس؟"
ويشير هام إلى أن زراعة بعض المحاصيل بنظام الزراعة الرأسية لن تكون ذات جدوى اقتصادية، ويقول: "تبلغ تكلفة الكهرباء في الساعة 10 سنتات، فلو أردت أن تزرع قمحا، ستستهلك من الطاقة ما يعادل 11 دولارا لتنتج رغيفا واحدا من الخبز".
ولكن هل من الممكن أن نشهد قفزة في الزراعة المنزلية؟
ورغم ذلك، يعدد هام بعض المزايا للزراعة المنزلية، منها أن الأنظمة المخصصة للأماكن المغلقة، في حالة المداومة على صيانتها، ستنتج في كل مرة ثمارا بنفس الجودة. إضافة إلى أن هذا النوع من الزراعة هو الخيار الأفضل لمن يريد أن ينخرط في النشاط الزراعي للمرة الأولى، رغم أن إقامة المزرعة الرأسية ستكلفهم الكثير من المال في البداية، ولكنها ستغنيهم عن تعلم كيفية التعامل مع تقلبات الطقس وتغير المواسم.
وفي ظل تطور تقنيات الزراعة العمودية، وتوقع انخفاض أسعارها في السنوات القادمة، يراهن البعض على زيادة الإقبال على زراعة الخضروات الورقية في الداخل، حتى في المنازل.
وقد طور كل من هينريك جوبتشيك وماكسيميليان ريشتر، مؤسسا شركة "نيوفارمز" الناشئة، في ألمانيا وإيطاليا، نموذجا أوليا لمزرعة عمودية في حجم الثلاجة المنزلية.
ويقول جوبتشيك إنهما يخططان أن يتيحا جهازهما للبيع، سواء كجزء لا يتجزأ من نظام متكامل أو كجهاز منفصل، وفقا لاختيار الزبائن.
وهذا النظام سيكلف الناس، وفقا لحساباتهما، اثنين يورو أسبوعيا في مقابل استهلاك الكهرباء. وعليهم الحفاظ على نظافة جهاز "نيوفارمز"، وإضافة الماء كلما نقص، ولكنهم سيحصلون في المقابل على محاصيل طازجة يانعة.
ويقول جوبتشيك: "إذا زرعت الخضروات بنفسك، ستعرف الظروف التي نمت فيها، وبالتالي ستعرف كيف تتحكم فيها. والأهم من ذلك أنها ستكون طازجة، لأنك ستضمن أنه لم يمر وقت على حصادها".
وإذا أكلت الثمار بعد قطفها على الفور ستستفيد من جميع الفيتامينات والمغذيات الموجودة فيها، والتي قد يفقدها النبات أثناء عمليات التعبئة والنقل. وبينما يلجأ الكثير من الزبائن إلى زراعة الأعشاب في صناديق معلقة على الشبابيك، التي لا تتطلب صيانة أو تكاليف، فهل من الممكن أن يهتم هؤلاء بشراء مزرعة عمودية في مطبخهم؟
ويؤكد هاروود أن الزراعة العمودية على نطاق واسع ستصبح جزءا من حياتنا. ويقول: "أرى أننا استطعنا أن نطور سلامة الطعام قبل كل شيء، كما أننا نغذي عددا أكبر من الناس بموارد أقل."
وبعد أن كنا نقول للأطفال إن الطعام لا يأتي من المتاجر، كما يظنون، بل يُزرع في الحقول والمصانع، ربما نجد في المستقبل متاجر المواد الغذائية مجهزة بمزارع رأسية صغيرة، وحينئذ، سيكون الأطفال على حق.
[COLOR=inherit !important]
[/COLOR]