الوالدان هنا هما الزوجان بعد أن مَنَّ الله عليهما بالْوَلَدِ، وصار لهما أبناء وذُرِّيَّة، كَدَّا مِنْ أَجْلِهم، وسَهِرَا على راحتهم، وأعطياهم من الحقوق ووفَّرَا لهم من سبل الحياة على نحو ما ذكرناه في المقالات السابقة.

حقوق الوالدين على الأبناء

وكَنَوْعٍ من ردِّ الجميل، والاعتراف بحُسْنِ الصنيع، ومجازاة الإحسان بالإحسان، أَقَرَّ الإسلام جملة من الحقوق للآباء على الأبناء، وخاصَّة في حال كِبَرِهما وضَعْفِهما؛ حيث خَصَّهُما الله بالإحسان والعطف عليهما والبِرِّ بهما؛ تمامًا كما كانا يفعلان بأبنائهما في صغرهم.

فكان من أهمِّ هذه الحقوق؛ حقُّ الْبِرِّ والطاعة والإحسان، وليس هناك أعظم إحسانًا، وأكبر تَفَضُّلاً بعد الله عز وجل من الوالدين؛ ولذلك قَرَنَ سبحانه الإحسان إليهما وحُسْن الرِّعَايَةِ بهما بعبادته والإخلاص له، فقال سبحانه: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُلْ لَـهُمَا أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا} [الإسراء: 23-24].
فجاء الأمر بالإحسان إليهما والنهي عن عقوقهما ولو بجرح مشاعرهما بكلمة "أُفٍّ" كعلامة على الضجر منهما، كما أن الله سبحانه لم يمدح الذُّلَّ ولم يَقْبَلْ من عباده أن يقع منهم على بعض إلاَّ في مقام الوالدين؛ فقال تعالى كما جاء في الآية الأخيرة السابقة: {وَاخْفِضْ لَـهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ}.

على أن أعظم البِرِّ يكون في حال بلوغ الوالدين الكِبَرَ أحدهما أو كلاهما، وهو حال الضعف البدني والعقلي، الذي ربما يُؤَدِّي إلى العجز؛ فأمر الله عز وجل بأن نَقُولَ لهما قولاً كريمًا، ونخاطبهما مخاطبة لَيِّنَة؛ رحمة بهما، وإحسانًا إليهما، مع الدعاء لهما بالرحمة كما رحمانا في الصِّغَرِ وقت الضعف، ثم الإكثار من إسماعهما عبارات الشكر، الذي قرنه الله بشكره سبحانه؛ حيث قال: {وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْـمَصِيرُ} [لقمان: 14].

وبِرُّ الوالدين من أعظم أبواب الخير، وقد جاء ذلك في الحديث الذي سأل فيه عبد الله بن مسعود رضي الله عنه النبي صلى الله عليه وسلم قائلاً: أَيُّ الْعَمَلِ أَحَبُّ إِلَى اللهِ؟ قَالَ صلى الله عليه وسلم: "الصَّلاَةُ عَلَى وَقْتِهَا". قال: ثمَّ أيٌّ؟ قال: "ثُمَّ بِرُّ الْوَالِدَيْنِ". قال: ثمَّ أيٌّ؟ قال: "الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللهِ"[1].

وعن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: أَقْبَلَ رجلٌ إلى نبيِّ الله صلى الله عليه وسلم، فقال: أبايعك على الهجرة والجهاد أبتغي الأجر من الله. قال صلى الله عليه وسلم: "فَهَلْ مِنْ وَالِدَيْكَ أَحَدٌ حَيٌّ؟" قال: نعم، بل كلاهما. قال: "فَتَبْتَغِي الأَجْرَ مِنَ اللهِ؟" قال: نعم. قال: "فَارْجِعْ إِلَى وَالِدَيْكَ فَأَحْسِنْ صُحْبَتَهُمَا"[2]. وفي رواية قال: "فَفِيهِمَا فَجَاهِدْ"[3].
ومن أعظم ما شرعه الإسلام من حقوق للآباء على الأبناء، ما جاء في حديث جابر بن عبد الله والذي فيه: أنَّ رجلاً قال: يا رسول الله، إنَّ لي مالاً وولدًا، وإنَّ أبي يريد أن يجتاح مالي. فقال: "أَنْتَ وَمَالُكَ لأَبِيكَ"[4].

قال أبو حاتم بن حبان[5]: "معناه أنه صلى الله عليه وسلم زجر عن معاملته أباه بما يُعَامِلُ به الأجنبيين، وأمر ببِرِّهِ والرفق به في القول والفعل معًا إلى أن يصل إليه ماله، فقال له: "أَنْتَ وَمَالُكَ لأَبِيكَ". لا أن مال الابن يملكه الأبُ في حياته من غير طيب نفس من الابن به"[6].

والأحاديث والآثار في البِرِّ بالوالدين والإحسان إليهما والتحذير من عقوقهما أكثر من أن تُحْصَى، وهي تُعَبِّرُ عَمَّا بَلَغَتْهُ الشريعة الإسلامية الغَرَّاء في حفظ القيم الأصيلة في المجتمع من أن تُنْتَهَكَ أو تتهاوى.

د. راغب السرجاني

[1] البخاري: كتاب الآداب، باب البر والصلة (5625)، ومسلم: كتاب الإيمان، باب بيان كون الإيمان بالله تعالى أفضل الأعمال (137).
[2] مسلم: كتاب البر والصلة والآداب، باب بر الوالدين وأنهما أحق به (6)، وأبو داود (2528)، والنسائي (4163)، وأحمد (6490)، وابن حبان (419).
[3] البخاري: كتاب الجهاد والسير، باب الجهاد بإذن الأبوين (2842)، ومسلم: كتاب البر والصلة والآداب، باب بر الوالدين وأنهما أحق به (2549).
[4] ابن ماجه: كتاب التجارات، باب ما للرجل من مال ولده (2291)، وأحمد (6902)، وابن حبان (410)، وصححه الألباني، انظر: إرواء الغليل (1625).
[5] أبو حاتم بن حبان البستي: هو أبو حاتم محمد بن حبان بن أحمد (ت 354هـ/ 965م) مؤرخ، علامة، جغرافي، محدث. ولد وتوفي في (بُست) من بلاد سجستان. من كتبه: "المسند الصحيح" في الحديث. انظر: السبكي: طبقات الشافعية 3/131.
[6] صحيح ابن حبان 2/142.