مرحبا
منذ وقت طويل لم تعد القوة الجسدية للبشر رهنًا بمعطيات الطبيعة، بل باتت موضعًا لتدخل ذكاء الإنسان في تنمية قدراته وقواه وعضلاته. باتت تلك الأمور موضع علوم مستقلة. ليس عبثًا أن الدول الكبرى والأكثر اهتمامًا بالعلم هي الأكثر حصدًا لميداليات التفوّق في أولمبياد الرياضة.
أولمبياد خيالي
ماذا بالنسبة للحيوانات؟ كيف تبدو الأمور بالنسبة للكائنات التي تعتمد على قدراتها البيولوجية الطبيعية وحدها، بمعنى أنها تملك القوى الموجودة فيها طبيعيًا. لم يُشاهد الأسد مثلًا في «جيم» مُتدرّبًا على زيادة قوة عضلات فكّه، التي ربما لا تحتاج للمزيد، إذ تستطيع أن تمزّق جسد أي حيوان على الأرض، بما في ذلك البشر أيضًا. ورغم استخدام الفيلة في الهند مثلًا لنقل الأخشاب بخراطيمها، إلا أنها لا تفعل ذلك على سبيل التدريب ولا تمهيدًا لخوض مباريات في رفع الأثقال! ماذا لو أطلقنا العنان للخيال قليلًا؟ ماذا لو نظّمنا أولمبياد من نوع آخر، تتبارى فيه الحيوانات كافة، بمشاركة البشر أيضًا؟ لنعط هذا الأولمبياد الوهمي اسمًا. لنقل إنه « الأولمبياد الحيواني الشامل».
تبدو قواعد هذا الأولمبياد الحيواني الخيالي سهلة تمامًا. لا تزيد قائمتها عن القول بأن أحدًا لا يدعس الآخر ولا يأكله ولا يلتهمه ولا يمزّقه إربًا. لقد جاء اللاعبون من «قارات» متباعدة تمامًا. لكن ما يفصلهم ليس الجغرافيا وحدها على الأقل. تتباعد هذه «القارات» بموجب القوانين الصارمة لبيولوجيا الكائنات الحيّة التي تعيش على الأرض. ربما تصلح الكلمات السابقة إعلانًا خياليًا عن «الأولمبياد الحيواني الشامل». ويتبارى في هذا الأولمبياد الأفضل بين البشر في الألعاب كلها، مع « أنداد» لهم من عوالم الحيوانات والوحوش والزواحف بل والحشرات.
فريق البشر وقطيع الحيوان: لا منافسة
بحكم الحال، لن يجدي أن يتضمن هذا الأولمبياد ألعابًا جماعية يخوضها فريق ضد آخر. الأرجح أن تلك البطولات حكرٌ على البشر، رغم أن كثيرًا من البحوث العلمية أثبتت أن بعض الحيوانات تتصرّف كـ «فريق» أحيانًا، لكن الأمر يتصل بسلوكيات القطيع، وليس الفريق الرياضي. واستطرادًا، يستطيع البشر أن يطمئنوا إلى أنهم يحصدون كليًّا نتائج المنافسات في الألعاب الجماعية، التي تُظهر ذكاء البشر أفرادات وجماعات. وبإمكان عُشّاق لاعب كرة القدم الأرجنتيني ليونيل ميسّي أن يطمأنوا إلى أنه لن يواجه منافسة في هذا الأولمبياد أيضًا.
مهما قيل في قوة الإنسان البيولوجية أو ضعفها، فان العمق الأبعد غورًا في هذا الكائن وهويته، إنما يكمن في العقل والذكاء. وحدهم البشر يقدرون على تأليف فرق تتفاهم بالكلمة والنظرة، وتفهم القوانين وتتصرف بناء على هذا الفهم. واستطرادًا، تذهب الميداليات الذهبية والفضية والبرونزية لألعاب الفرق، مثل كرة القدم والسلة والطائرة واليد، وسباقات البدل والتتابع. لكن البشر لن يضمنوا فوزًا سهلًا في أي من الألعاب الفردية.
الأسرع: الفهد الأبيض
أولى الذهبيات للفهد الأبيض الذي يعدو حتى سرعة 135 كلم/س
أولى ذهبيات الحيوان يحصدها الفهد الأبيض «الشيتا». إذ يعدو هذا الراكض على أربع، لكنه أسرع عدّاء على الأرض. وتصل سرعته إلى 135 كيلومترًا في الساعة، ولا تأتي سرعة «الشيتا» من ساقيه وحوضه، مثل حال الإنسان، بل من قوى جسده المليئة بالعضلات القوية. إذ تدفعه أطرافه الخلفية والأمامية بحجمها الضخم، قياسًا إلى مجمل الجسم. ويستفيد «الشيتا» أيضًا من ليونة ظهره وغياب عظام الكتف في هيكله العظمي، لأن سواعده تتصل مع الجسم بالعضلات وحدها. وعندما يقلّص جسده ليقارب أطرافه الأربعة، يتقوّس ظهره إلى حدّه الأقصى. ويعقب ذلك دفع مذهل، فكأنه زنبرك ضُغِط بأقصى قوة، ثم أُفلِت. ويدعم «الشيتا» هذا الاندفاع الانفجاري، بقذف قوائمه الخلفية إلى الأمام. وتكفل هذه القوة الرهيبة للفهد الأبيض الميداليات الذهبية لسباقات الركض من مسافة مائة متر حتى ألف وخمسمائة متر. إذ لا يحتاج لسوى خمس عشرة ثانية ليقطع أربعمائة متر، أي أقل من ثلث الوقت الذي يحققه أسرع عدّائي البشر. وفي سباق الألف وخمسمائة متر، يعاني أبطال الجنس الإنساني إرهاقًا شديدًا، فيما «الشيتا» ينهي السباق بدقيقة وحيدة، بمعنى أنه أسرع بمرتين ونصف من الرقم العالمي القياسي للبشر في هذه المسافة.
أُحجية الماراثون
ثمة وميض أمل، إذا قرر الفهد الابيض اختبار قواه الهائلة في مسابقات المسافات الطويلة، فإنه يخسرها كلها، بدءًا من سباق الخمسة آلاف متر. إذ تحتاج الاندفاعات القوية للـ«شيتا» إلى حرق كميات كبيرة من السعرات الحرارية داخل جسده الحار أصلًا. لا تنخفض الحرارة الداخلية لهذا الحيوان عن 7.83 درجة مئوية. وفي جري المسافات القصيرة، تتسرب الحرارة الإضافية من العضلات إلى الخارج. أما في سباق المسافات الطويلة، فإن تسعين في المائة من الحرارة تحتبس داخل الجسم. ولدى بلوغ الحرارة 40.5 درجة مئوية، يصدر مخيخ الـ«شيتا» أمرًا صارمًا لجسده بوقف الحركة كليًّا، تحت طائلة تَلَف الأعضاء الحساسة بفعل الحرارة اللاهبة. بينما يتابع عداؤو البشر جريهم، معتمدين على نظام «تبريد» مزدوج من العرق ومسامات الجلد.
وهكذا يتنفس الجمهور البشري الصعداء, مع فوز العداء الإثيوبي هايلي جيبري سيلاسي بسباق الخمسة آلاف متر. ماذا عن الأحصنة والكلاب؟ أوليست عدّاءات يُعتدّ بها؟
مع الاقتراب من المسافات الطويلة جدًا، لا يعود الفوز مرهونًا بقوه العضلات، بل بقدرتها على الابتراد أولًا، إضافة إلى استمرار إمدادها بكميات مناسبة من الأكسجين على نحو متواصل. وبذا تظهر ميزة المشي المَرِن والمنتصب على القدمين التي يتمتّع بها الكائن البشري. أما الحيوانات التي تجري على أربعة قوائم، فإنها تحرق سعرات كثيرة لتمد بالطاقة عضلات الأطراف كلها. ويعني هذا أنها تحتاج إلى ابتراد سريع لا يمنحه لها جسدها المغطى بالصوف والوبر. إضافة إلى ذلك، لا تملك هذه الحيوانات نظامًا كفؤًا للتعرّق. وكذلك تلعب الجاذبية لعبتها ضد جهازها الدوري، فبسبب قربها إلى الأرض، تتركز كميات متزايدة باستمرار من الدم في الأطراف الأربعة الكبيرة. وبسبب اجتماع تلك الأمور كلها، يعجز عدّاؤو الحيوانات عن الفوز بالماراثون.
برونز البشر وذهب الكنغارو!
هل يعني ذلك فوزًا حتميًا للإنسان في سباق الماراثون؟ الأرجح... لا! فلواء الفوز في ماراثون الركض معقود لـ....الكنغارو: بطل الاقتصاد في صرف السعرات للمسافات الطويلة. يثب الكنغارو على قدميه الخلفيتين وحدهما. وتتمتع قدماه بعضلات مرنة وقوية وغير ضخمة، وبذا، يدفع الكنغارو نفسه قفزًا مع إنفاق منخفض من السعرات الحرارية.
ثم يطير. ويحط. فتنكمش تلك القوائم عينها كالزنبرك، في حركة تتولاها الجاذبية الأرضية بدعم من ليونة المفاصل. وتُظهر الحسابات البيولوجية أن الكنغارو يصرف سعرة حرارية وحيدة في كل قفزة. إذًن يقطع الكنغارو نصف الماراثون من دون حرق كمية تُذكر من السعرات، فيبقى جسمه في حرارة منخفضة، واستطرادًا فإنه لا يتطلّب كميات كبيرة من الأكسجين أيضًا، بل إن قفزاته تعتبر كأنها «استراحة بين انطلاقتين».
سرعة السمك باركودا تصل إلى 54 كلم/س
لقد سُحبت ذهبيات المسافات الطويلة والمتوسطة من أساطين البشر، الذين قد يرغمون على الاكتفاء بميداليات الفضة والبرونز، تاركين الذهب للكنغارو ذي الوبر الذهبي على أي حال!
سيّد القفز العالي: البرغوث
يخسر البشر سباقات السباحة كلها، وفي المسافات كلها. لا أمل للبشر مع الماء، على الرغم من أنه أساس حياتهم. الإنسان ضعيف في الماء وبطيء، حتى لو لم تُعجب هذه الكلمات بطلًا مثل مايكل فيليبس.
في المقابل، تصل سرعة سمك «باركودا» مثلًا إلى 54 كيلومترًا في الساعة. تكمن المفاجأة الفعلية في الملاكمة. فبفضل مزيج المشي المنتصب القدمين، مع الاستعمال الذكي للقبضات، يكون الإنسان ملاكمًا لا يُقهر، بل في الأوزان كلها أيضًا. مفاجأة؟ ربما. يجدر التفكير مليًّا في فرادة يد الإنسان وتركيبها، تلك التي نسب إليها البعض الكثير من تطوّر الكائن الإنساني من وضعه البدائي إلى حاله حاضرًا. ألا يوصف الإنسان بأنه صانع الأدوات؟ ألم تكن يده (وذكاؤه طبعًا) هما صاحبتا الفضل في صنعه لأدواته الأولى، التي ميّزته عن الحيوانات جميعًا، بل سيّدته عليها كلها؟
يتكرر فوز البشر في منافسات المصارعة الرومانية ورمي القرص والرمح والقوس والمطرقة، بل في كل الألعاب التي تعتمد على مزيج الدماغ واليد. ثمة مفارقة لافتة. لقد مارس قدماء اليونان هذه الألعاب في أولمبياداتهم، وجعلوها أيقونة تلك الأولمبيادات بأن جسّدوها رسمًا ونحتًا.
وتذهب ميداليات الجمباز إلى الإنسان. لكن قردة الغابون تنتزع منه ميدالية العارضتين غير المتساويتين، بفضل قدرتها على إتمام دورات كاملة اعتمادًا على إمساكها بالعارضة.
وإذا أخذ طُول الجسم بعين الاعتبار، يصبح البرغوث سيد الوثب العالي بلا منازع. إذ يقفز ثلاثمائة ضعف طول جسمه. وإذا ما أراد الإنسان بلوغ هذا المستوى, توجب عليه القفز فوق برج «إيفل»!
وفي مقارنة مشابهة، فإن هرقل «الأولمبياد الحيواني الشامل» في رفع الأثقال هو... النملة! هذه الصبورة الدؤوبة تستطيع أن ترفع وزنًا يساوي ما يتراوح بين 5 و7 أضعاف وزن جسمها. ولم يستطع الرباع التركي هليل موتلو (وزن ما دون 85)، وهو من أساطير رفع الأثقال في تاريخ اللعبة، أن يرفع ما يزيد على ثلاثة أضعاف وزن جسمه، وهو انجاز خارق بشريًا. وأما رباعو الأوزان الثقيلة، فإنهم بالكاد يرفعون ضعفي وزنهم الهائل. وإذا لم يؤخذ الحساب النسبي للجسد مع الوزن، يكون الفيل سيد لعبة رفع الأثقال من دون منازع.
ويتفوق سيرغي بوبكا على كل منافسيه في القفز بالزانة، لأنها تعتمد أيضًا على تدخّل الذكاء في استعمال أداة تقنية هي عصا الوثب.
واختصارًا، لا يبدو الجسد الإنساني هشًا بالطريقة التي يتصورها الكثيرون. وتتفوق الحيوانات في بعض الحركات المحددة، لكن أيا منها لا يملك التعددية والمطواعية التي يملكها الإنسان.