معركةٌ حاسمةٌ أعادت للمسلمين ثقتهم بعد هزيمة الجسر، ولقد عَدَّها ابن كثير نظيرَ معركة اليرموك مع البيزنطيِّين[1]، وذلك لقوَّتها وتأثيرها؛ فلقد أحصوا فيها مائة رجلٍ من المسلمين قَتَل كلٌّ منهم عشرة، ولذلك سُمِّيَت بيوم الأعشار[2]. وقعت معركة البويب في رمضان سنة ثلاث عشرة من الهجرة[3]؛ فبعد هزيمة المسلمين في معركة الجسر استنفر عمر بن الخطاب رضي الله عنه الناس الى العراق[4]، فتجمَّع أربعة آلاف من أنحاء الجزيرة العربيَّة[5]، وولَّى عمرُ رضي الله عنه الصحابيَّ الجليل جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه قائدًا لذلك الجيش[6]، فخرج الجيش إلى العراق، وكان في الجيش عددٌ كبيرٌ من بجيلة قومِ جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه [7]، ولم يكتفِ عمر رضي الله عنه بذلك الجيش، بل أرسل جيشًا آخر بقيادة عصمة بن عبد الله الضبي، كما أمر من تاب من أهل الرِّدَّة بالقدوم إلى المدينة، ثم أرسلهم إلى العراق كذلك[8].
وكان الجيش الإسلامي في العراق -بعد هزيمة المسلمين في موقعة الجسر- قد انسحب بقيادة المثنى بن حارثة رضي الله عنه، وعسكر بمنطقةٍ تُسمَّى مرج السباخ[9]، وهي بين القادسيَّة وخفَّان[10]، وتتميَّز بأنَّها بالقرب من الصحراء، والجيش الفارسي لا يُجيد مهارة القتال فيها كما يُجيدها المسلمون، وظلَّ المثنَّى رضي الله عنه منتظرًا المدد الإسلامي القادم من المدينة، وفي هذه الأثناء علم الفرس من خلال جواسيسهم بالجيوش الإسلاميَّة التي في طريقها إلى المثنَّى[11]، فاجتمع كبار رجال الإمبراطوريَّة الفارسيَّة[12]، وعرض القائدان الفارسيَّان رستم والفيرزان أمر تجمُّع الجيوش الإسلاميَّة على ملكة الفرس بوران، واستأذنها في إرسال جيشٍ بقيادة مهران لملاقاة المثنَّى، فوافقت بوران على ذلك[13].
المثنى يختار مكان المعركة:
توجَّه الجيش الفارسي من المدائن في طريقه إلى الحيرة، وفيه اثنا عشر ألف جنديٍّ من أشجع جنود الإمبراطوريَّة الفارسيَّة[14]، حيث عبَّأت الإمبراطوريَّة الفارسيَّة جيشًا قويًّا؛ فقد كان مع كلِّ فارسٍ راجلٌ[15]، وصَحِبَ الجيش ثلاثة أفيال[16]، وذلك لمقابلة المسلمين.
وكان المثنَّى بن حارثة رضي الله عنه ما زال يُعسكر بمنطقة مرج السباخ[17]، فعلمت المخابرات الإسلاميَّة بتحرُّكات جيش الفرس إلى الحيرة[18]، واستفاد المثنَّى رضي الله عنه من الأخطاء السابقة ومن خبراته مع خالد بن الوليد رضي الله عنه، فقرَّر أن يختار هو مكان المعركة، وتوجَّه بجيشه إلى منطقة تُسمَّى "البُوَيْب"، وأرسل رسالةً إلى جرير بن عبد الله رضي الله عنه، ورسائل أخرى إلى أمراء القوَّات الإسلاميَّة القادمة من المدينة بأنْ يتوجَّهوا إلى البُوَيب؛ حيث أرسل لهم قائلًا: "جاءنا أمرٌ لم نستطع معه المقام حتى تقدَّموا علينا، فعجِّلوا اللِّحاق بنا، وموعدكم البويب". وتقدَّم المثنَّى رضي الله عنه، وعسكر على شاطئ البويب الشرقي لنهر الفرات، ولم يعبر المثنَّى رضي الله عنه الفرات؛ فقد أمر عمر بن الخطاب رضي الله عنه قادة المسلمين بعدم عبور أيِّ بحرٍ أو جسرٍ لملاقاة الفرس، إلَّا بعد الانتصار عليهم[19].
وكان أمرُ عمر رضي الله عنه للمسلمين على جانبٍ كبيرٍ من الأهميَّة؛ فقد أراد عمرُ رضي الله عنه أن يتجنَّب المسلمون حصار الفرس لهم كما حدث في معركة الجسر، كما أنَّه إذا خسر المسلمون يستطيعون الانسحاب بسهولة إلى قواعدهم، وفي هذه الحالة يسهل على عمر رضي الله عنه إمدادهم.
وكان الفرس قد وصلوا إلى الشاطئ الغربي لنهر الفرات[20]، ففصل نهرُ الفرات بين الجيش الإسلامي وبين الجيش الفارسي القادم من المدائن، وكأنَّ أحداث معركة الجسر تتكرَّر مرَّةً أخرى؛ حيث إنَّه عندما نزل مهران على شاطئ الفرات أرسل إلى المثنَّى يقول: "إمَّا أن تعبر إلينا، وإمَّا أن نعبر إليك". فقال المثنى رضي الله عنه: اعبروا[21].
كان المثنَّى رضي الله عنه قد نظَّم جيشه جيِّدًا؛ فجعل على الميمنة بشير بن الخصاصية رضي الله عنه، وعلى الميسرة بُسر بن أبي رُهم، وكان المثنَّى في مقدِّمة الجيش، وجعل فرقةً في الجيش باسم فرقة الاحتياط كانت في المؤخِّرة لا تشترك في القتال وعلى رأس هذه الفرقة مذعور بن عدي، وفرقةً للخيول على رأسها أخوه مسعود بن حارثة، وعلى فرقة المشاة المـُعَنَّى بن حارثة[22]، وبدأ يُحفِّز الجيش للقتال، ويمرُّ على كلِّ قبيلةٍ بمفردها قائلًا لأهلها: إنِّي لأرجو ألَّا تُؤتى العرب اليوم من قِبَلِكم، والله ما يسرُّني اليوم لنفسي شيءٌ إلَّا وهو يسرُّني لعامَّتِكم[23].
رتَّب المثنَّى رضي الله عنه الجيش بصورةٍ دقيقةٍ ومنظَّمةٍ للغاية، ورأى المثنَّى رجلًا متقدِّمًا من مكانه في الصفِّ فسأل عنه، فقال الناس: إنَّه كان ممَّن فرُّوا يوم الجسر، وهو الآن يستقتل. فضربه المثنَّى على صدره، وقال: لا أبا لك! الزم موقفك، فإذا أتاك قرنك فأغنه عن صاحبك ولا تستقتل. قال: إنِّي بذلك لجدير. فاستقرَّ ولزم الصف[24]. وكان يرُسل لِمَن لا يصل إليهم رجلًا يقول: إنَّ الأمير يقرأ عليكم السلام، ويقول: لا تفضحوا المسلمين اليوم. فقالوا: نعم. واعتدلوا، ونظروا إلى المثنَّى رضي الله عنه فوجدوه يضحك[25]، فازدادت معنويَّاتهم كثيرًا، وهكذا كان المثنَّى رضي الله عنه يقود جيشه.
وأصبح الجيش المسلم مهيَّئًا للقتال جيِّدًا، وبدأ الجيش الفارسي يعبر الجسر الضيِّق إلى أرضٍ قد حاصرها المسلمون من كلِّ مكان، ويتكرَّر المشهد؛ فعندما يعبر الفرس يكونون شرق نهر الفرات، وفي غربهم البحيرة وفي شمالهم نهر البُوَيب، والجيش الإسلامي في المنطقة يحصر المنطقة بكاملها، وتدخل القوَّات الفارسيَّة، ويفتقد جيش الفرس عنصر الكثرة؛ لأنَّ المساحة التي تركها المسلمون للفرس ضيِّقة؛ حيث كان الجيش الفارسي يتكوَّن من ثلاثة صفوف، وفي كلِّ صفٍ فيل[26]، فبذلك يُقابل صفُّهم الأوَّل فقط صفَّ المسلمين الأوَّل، ولا يستطيع أحد الدخول في المعركة غير الصفِّ الأوَّل من كلا الجيشين، فلا قيمة لعدد الجيش إِذَنْ، وإنَّما يُبْنى النصر أو الهزيمة على مدى قوَّة الصفِّ المحارب من كلا الفريقين، وكان هذا اختيارًا موفَّقًا من المثنَّى، وتعويضًا لِمَا حدث في معركة الجسر من اختيارٍ سيِّئٍ لأرض المعركة.
دخل الجيش الفارسي المصيدة، والجيش الإسلامي في المنطقة الأماميَّة، وتقدَّم الفرس وهم يصيحون صيحات مزعجة حتى يُوقِعُوا الرعب في جيوش المسلمين، وبهدوءٍ عجيبٍ يقول المثنَّى رضي الله عنه لجيشه: إنَّ الذي تسمعون فشل، فالزموا الصمت[27] وائتمروا همسًا[28]. وأمر المثنَّى جيشه بالتكبير ثلاث مرَّات، وفي الرابعة بَدْء القتال، غير أنَّه مع أوَّل تكبيرةٍ بدأ الفرس الهجوم على المسلمين[29].
والتحم الطرفان في قتالٍ شديد، واستطاع الفرس صدَّ ضربات المسلمين في بداية القتال[30]، ولمـَّا امتدَّ القتال لوقتٍ كبيرٍ سدَّد المثنَّى رضي الله عنه ضرباتٍ مباشرةً قادها هو بنفسه لقلب الجيش الفارسي، الذي كان يوجد فيه مهران قائد الفرس، حتى تقهقر مهران من القلب إلى ميمنته[31]، واستطاع أحد المسلمين قتل مهران بن مهر بنداذ قائد الفرس، وكان لقتله أثرٌ كبيرٌ على الفرس، واختلف المسلمون بعد المعركة فيمن قتله، والأقرب أنَّه قد اشترك كلٌّ من جرير بن عبد الله رضي الله عنه، والمنذر بن حسَّان في قتله[32].
وعلى الرغم من هزيمة القلب في جيش الفرس، فإنَّ ميمنة وميسرة جيش الفرس ظلَّتا تُقاوم فترةً إلى أن بدأت قوى الجيش الفارسي تنهار أمام الضغط الإسلامي، حتى انهارت مُجنِّبَتي[33] الجيش الفارسي، وبدأ الفرس في الهرب[34]، لكنَّ المثنَّى رضي الله عنه استطاع أن يسبق الفرس الفارِّين إلى الجسر الذي كان قد عبروا عليه للقاء المسلمين، وقطع الجسر على الفرس الذين يُريدون الهروب، وانحصر الفرس في هذا المكان وليس لهم إلَّا أن يُقاتلوا، وبدأ المسلمون في معركة تصفيةٍ مع الجيش الفارسي[35].
انتصر المسلمون انتصارًا ساحقًا، وأَسَرَ المسلمون من الفرس نحو ثلاثة آلاف جندي[36]، ولضيق المكان كانت جثث الفرس يعلو بعضها بعضًا. ويذكر المؤرِّخون أنَّ عظامهم ظلَّت فترةً طويلةً متراكمةً على بعضها نظرًا إلى كثرتها[37].
عودة للحق:
ومع أنَّ قَطْع المثنَّى رضي الله عنه للجسر كان أحد أسباب النصر للمسلمين والهزيمة للفرس، إلَّا أنَّ المثنَّى رضي الله عنه نَدِم على أخذه بالجسر، وقال: لقد عجزت عجزةً وقى اللَّه شرَّها بمسابقتي إيَّاهم إلى الجسر وقطعه، حتى أحرجتهم، فإنِّي غير عائد، فلا تعودوا ولا تقتدوا بي أيُّها الناس، فإنُّها كانت منِّي زلةً لا ينبغي إحراج أحدٍ إلَّا من لا يقوى على امتناع[38]، فمع كون المثنَّى رضي الله عنه هو القائد إلَّا أنَّه عندما ظنَّ أنَّه أخطأ جَمَع جيشه، وعلَّمه الصواب معترفًا بخطئه، غير متعالٍ على جنده، فكان يجب عليه ألَّا يُكْرِه الفرس على القتال؛ لأنَّهم لن يجدوا أمامهم إلَّا الموت أو الانتصار فيزداد القتل في المسلمين قبل أن يموتوا؛ بل كان يجب عليه إحداث الرعب فيمَن بقي منهم، وتتبُّع الفلول الهاربة.
تتبُّع الفارِّين وفتح السَّواد:
بعد هذه الموقعة ارتفعت المعنويَّات الإسلاميَّة إلى درجةٍ عالية؛ فقد انتصروا في المعركة، واسترجعوا الأرض التي كانوا قد أخذوها قبل ذلك، وفرَّ من استطاع من الفرس إلى المدائن[39] قبل قطْع الجسر، وهبطت معنويَّاتهم إلى الحضيض.
لم يكتفِ المثنَّى رضي الله عنه بما تمَّ؛ ولكنَّه أرسل قوَّاته لتتبُّع الفارِّين، ولفتْح الأراضي التي كانوا قد تركوها منذ فترةٍ قصيرة، وأرسل مجموعةً من القادة مع جيوشهم إلى منطقة السَّواد ما بين دجلة والفرات، وانتشرت القوَّاتُ الإسلاميَّة تفتح هذه الأراضي[40] التي كانت قد عاهدت المسلمين من قبل ثم نقضت عهودها معهم، واستخلف المثنَّى رضي الله عنه بشيرَ بن الخصاصية رضي الله عنه على الحيرة، وبدأ هو في الإشراف على الإغارات على سواد العراق[41].
وكانت في منطقة ساباط قلعة يوجد بداخلها مجموعةٌ من الفرس قد رفضوا الاستسلام، فأرسل عصمة وعاصم وجرير بن عبد الله رضي الله عنهم إلى المثنَّى يطلبون رأيه في هذا الأمر، فأَذِنَ لهم بحصارها وقتالها، وحاصرت القوَّات الإسلاميَّة الثلاثة هذه المنطقة وفُتِحت قلعة ساباط[42]، وانتشرت القوَّات الإسلاميَّة ما بين دجلة والفرات لا يلقون أيَّ مقاومةٍ من الفرس[43].
ونجد أنَّ المثنَّى بن حارثة رضي الله عنه يُقاتل الفرس في مجالين مختلفين، ويُفكِّر في البدء في القتال في المجال الثالث.
المجال الأول: القتال في المواقع الضخمة حيث تكون القوَّات أمام القوَّات، مثل موقعة البُوَيب، وبابل من قبل.
المجال الثاني: السرايا والفرق التي تستطيع مهاجمة الأماكن التي تخلو من القوَّات الفارسيَّة الكبيرة، وتُسيطر على هذه الأراضي وتحميها من القوَّات الفارسيَّة الضعيفة الموجودة في تلك المناطق.
المجال الثالث الذي كان يُفكِّر فيه المثنَّى رضي الله عنه هو ما يُسمَّى في العصر الحديث بـ"حرب الاستنزاف"؛ أي القيام بغارات مفاجئة على الجيش الفارسي في عمق أراضي الفرس، دون أن يحتفظ بتلك الأراضي لقلَّة القوَّات الإسلاميَّة، فيحدث ذلك نوعًا من الرُّعب والفزع عند الفرس، وتعود بعد ذلك هذه القوَّات ومعها بعض الغنائم والأموال.
الهجوم على أسواق فارس:
فكَّر المثنَّى في الهجوم على أسواق فارس، وكانت أسواقهم من الشهرة بمكان في التاريخ؛ فقد كان فيها ثراءٌ كبير، وكانت تَدِرُّ الكثيرَ من الأموال على القصر الفارسي، فقرَّر المثنَّى رضي الله عنه أن يقوم بغاراتٍ على تلك الأسواق، وقرَّر أن يبدأ بالغارة على سوق الخنافس، وبالفعل استطاع الاستيلاء على ما في ذلك السوق، ثم توجَّه إلى منطقة الأنبار، وعندما رأى أهلُ الأنبار قوَّةَ المسلمين استسلموا على الفور، بل وزوَّدوا جيش المسلمين بالمؤن، وأخذ المثنَّى رضي الله عنه أدلَّاء من الأنبار ليدلُّوه على الطريق إلى سوق بغداد، وحرصًا من المثنَّى رضي الله عنه على عدم معرفة الفرس بوجهته؛ فقد أظهر لحاكم الأنبار الفارسي أنَّ هدفه هو الهجوم على المدائن[44].
وأراد المثنَّى رضي الله عنه من ذلك التَّمويه ألَّا يأخذ الفرس حذرهم ويضعوا قوَّاتٍ كبيرةً لحماية سوق بغداد، كما أنَّ جيش المثنَّى رضي الله عنه كان قليل العدد بالنسبة إلى الهجوم على المدائن، عاصمة الإمبراطوريَّة الفارسيَّة، فيتوقَّع حاكم الأنبار أن يُصبح المسلمون صيدًا سهلًا إذا ما هاجموا العاصمة الفارسيَّة، فلا يُعبِّئ الفرسُ كلَّ قوَّاتهم لملاقاة المسلمين.
واتَّخذ المثنَّى بالفعل طريق المدائن، إلَّا أنَّه في الليل حوَّل وجهته نحو سوق بغداد[45]، وعسكر ليلًا بالقرب من السوق، ثم صبَّحهم في السوق بعد أن أُعِدَّ السوقُ للبيع والشراء، فقَتَلَ الحامية، وأخذ كلَّ ما في السوق، وعاد من فوره إلى منطقةٍ تُسمَّى "السيلحين"[46]، وهي على بُعد خمسةٍ وثلاثين كيلو مترًا من بغداد.
وتناجوا بالبر والتقوى:
استراحت القوَّة الإسلاميَّة في هذه المنطقة بعد الجهد الذي بذلوه في تلك الغارة، وسمع المثنَّى بنُ حارثة رضي الله عنه أحدَ الجنود يقول للآخر: والله ما أسرعَ الفرس في طلبنا؛ فقد توغَّلنا في أرض فارس!! فهو يخاف من الفرس أن يتتبَّعوا هذه الفرقة بعد هذه الغارات، فغضب المثنَّى رضي الله عنه من هذا الأمر، ووقف يخطب فيهم قائلًا: تناجوا بالبرِّ والتَّقوى ولا تتناجوا بالإثم والعدوان، انظروا إلى الأمور وقدِّروها ثم تكلَّموا. ثم وضَّحَ لهم المثنَّى رضي الله عنه حقيقة الأمر بأنَّ الفرس لم تبلغهم أخبار هذه الغارات، ولو بلغتهم لحالَ الرُّعبُ بينهم وبين طلب المسلمين ثم إنَّهم على جيادٍ عربيَّةٍ أصيلة والفرس على خيولٍ مهجَّنةٍ، مؤكِّدًا على حسن الظنِّ بالله تعالى والثِّقة بنصره والعمل بوصيَّة أبي بكر الصديق رضي الله عنه التي حثّهم فيها على عدم الإقامة في أرض العدو[47].
وحدث بالفعل ما توقَّعه المثنَّى رضي الله عنه؛ فقد تملَّك الجيشَ الفارسيَّ الرعبُ الشديدُ؛ إذْ كيف يصل المسلمون إلى عمق الأراضي الفارسيَّة بهذه الصورة، وبدأ قادة الفرس يلوم بعضهم بعضًا، ودبَّ الخلاف مرَّةً أخرى بين رَسْتُم والفَيْرُزَان، واجتمع الأساورة اجتماعًا كبيرًا، وأمروا رَسْتُم والفَيْرُزَان أنْ يجمعا أمرهما على قتال المسلمين وإلَّا قُتِلا[48]، وخشي رستم والفيرزان أن تكون عاقبتهما القتل، أو التخلِّي عن إمرة الجيوش على الأقل، ومِنْ ثَمَّ قرَّرا التوحُّد والقيام بحربٍ ضدَّ المسلمين.
يزدجرد كسرى فارس:
بدأ يزدجرد حاكم فارس ينظم الجيوش ويُدير الأمور وهو حديثُ عهدٍ بذلك، وأوَّل ما فكَّر فيه هو القضاء على قوَّة المسلمين، ووصلت الأخبار إلى المثنَّى رضي الله عنه بتجمُّع الفرس العظيم لملاقاة المسلمين[49]، فانسحب بجميع قوَّاته من المناطق التي كان قد استولى عليها؛ الأنبار، وساباط، والحيرة، وانسحب -أيضًا- من الْأُبُلَّة، وجعل تجمُّعه في منطقةٍ تُسمَّى "ذي قار"[50]، التي تتميَّز أنَّها على أبواب الصحراء، والجيش الفارسي لا يُجيد القتال في الصحراء، وكان هذا هو المكان الذي اختاره المثنَّى رضي الله عنه حتى يعسكر فيه ويستطيع الجيش الإسلامي من خلاله أن يفرَّ إلى الصحراء في أسوأ الحالات؛ عند حدوث هزيمةٍ مثلًا.
واتَّجه الجيش الفارسي من المدائن إلى "ذي قار"، وأرسل المثنَّى رضي الله عنه رسالةً إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه يُخبره فيها أنَّ الفرس يجمعون كلَّ عدَّتهم وعتادهم لقتال المسلمين، وبمجرَّد أن وصلت الرسالة أعلن عمر بن الخطاب رضي الله عنه النفير العام، وأرسل الدُّعاة إلى كلِّ الجهات لحثِّ الناس على الجهاد وقتال الفرس، وكان ذلك في شهر ذي القعدة سنة ثلاث عشرة من الهجرة[51].
وفاة المثنى رضي الله عنه:
كان المثنَّى رضي الله عنه قد أُصيب بجراحاتٍ كثيرةٍ في بدنه في موقعة الجسر وظلَّ متأثِّرًا بها طوال هذه الفترة[52]، فاختاره الله تعالى إلى جواره[53] سنة أربعة عشرة من الهجرة[54].
وكان عمر رضي الله عنه قد بعث جيشًا من المسلمين إلى فارس يتكوَّن من عشرين ألف جنديٍّ تحت قيادة سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، وسار سعدٌ رضي الله عنه بالجيش حتى وصل القادسيَّة[55]، وكان المثنَّى رضي الله عنه قبل موته قد أرسل رسالةً إلى سعدٍ رضي الله عنه مع أخيه المعنَّي بن حارثة الشيباني ينصحه فيها أن يُقاتل الفرس على حدود أرضهم، ولا يُقاتلوهم بعقر دارهم، وفي الوقت نفسه جاءت رسالةٌ من عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى سعدٍ رضي الله عنه بالمعنى نفسه، فترحَّم سعدٌ رضي الله عنه ومن معه على المثنَّى رضي الله عنه[56].
وكان هذا التَّوافق في الرأي يدلُّ على بُعْد النَّظر وعمق التفكير؛ فقد استفاد المثنَّى بن حارثة رضي الله عنه كثيرًا من تجاربه السابقة، وفي الوقت ذاته فإنَّ عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهو في المدينة يرى الرأي الصائب لعُمْقِ فِكره، وحُسْن تخطيطه وإدارته رضي الله عنه.
وأسأل الله أن يُعِزَّ الإسلام والمسلمين.
د.راغب السرجاني
ـــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــ ــــــــ
[1] ابن كثير: البداية والنهاية 7/36.
[2] تاريخ الطبري = تاريخ الرسل والملوك، وصلة تاريخ الطبري 3/468، وابن مسكويه: تجارب الأمم وتعاقب الهمم 1/319، وابن الأثير: الكامل في التاريخ 2/281.
[3] أبو جعفر الطبري، حمد بن جرير بن يزيد بن كثير بن غالب الآملي 1387هـ، تاريخ الطبري، دار التراث – بيروت، الطبعة الثانية، 3/470. ابن الأثير، أبو الحسن علي (1417هـ= 1997م)، الكامل في التاريخ، تحقيق: عمر عبد السلام تدمري، دار الكتاب العربي – بيروت، الطبعة الأولى، 2/248، 279.
[4] الدينوري، أبو حنيفة أحمد بن داود 1960م، الأخبار الطوال، تحقيق: عبد المنعم عامر، مراجعة: الدكتور جمال الدين الشيال، دار إحياء الكتب العربي - عيسى البابي الحلبي وشركاه - القاهرة، الطبعة الأولى، ص114.
[5] ابن سعد، محمد 1421هـ= 2001م، الطبقات الكبير، المحقق: علي محمد عمر، مكتبة الخانجي – القاهرة، الطبعة الأولى، 6/296.
[6] الدينوري، الأخبار الطوال، ص114.
[7] الصحاري، أبو المنذر سلمة بن مسلم، الأنساب، ص169.
[8] ابن الأثير، الكامل في التاريخ، 2/279.
[9] الطبري، تاريخ الطبري، 3/461.
[10] مسكويه، أبو علي أحمد بن محمد بن يعقوب 2000م، تجارب الأمم وتعاقب الهمم، المحقق: أبو القاسم إمامي، سروش - طهران، الطبعة الثانية، 1/316. الطبري، تاريخ الطبري، 3/461. ابن الأثير، الكامل في التاريخ، 2/280.
[11] مسكويه، تجارب الأمم وتعاقب الهمم، 1/316.
[12] الدينوري، الأخبار الطوال، ص114.
[13] الطبري، تاريخ الطبري، 3/464.
[14] الدينوري، الأخبار الطوال، ص114.
[15] الصحاري، الأنساب، ص169.
[16] مسكويه، تجارب الأمم وتعاقب الهمم، 1/317.
[17] الطبري، تاريخ الطبري، 3/461.
[18] ابن الأثير، الكامل في التاريخ، 2/280.
[19] مسكويه، تجارب الأمم وتعاقب الهمم، 1/316.
[20] الطبري، تاريخ الطبري، 3/461.
[21] ابن الأثير، الكامل في التاريخ، 2/280. مسكويه، تجارب الأمم وتعاقب الهمم،1/317.
[22] ابن الأثير، الكامل في التاريخ،2/280.
[23] الطبري، تاريخ الطبري، 3/465.
[24] الطبري، تاريخ الطبري، 3/461، 462.
[25] الطبري، تاريخ الطبري، 3/465، 466.
[26] ابن الأثير، الكامل في التاريخ، 2/280. الصحاري، الأنساب، ص169.
[27] ابن الأثير، الكامل في التاريخ، 2/280. الطبري، تاريخ الطبري،3/465.
[28] الطبري، تاريخ الطبري، 3/465.
[29] مسكويه، تجارب الأمم وتعاقب الهمم، 1/318.
[30] الصحاري، الأنساب، ص169.
[31] مسكويه، تجارب الأمم وتعاقب الهمم، 1/319.
[32] البَلَاذُري، أحمد بن يحيى بن جابر بن داود 1988م، فتوح البلدان، دار ومكتبة الهلال - بيروت، ص250. ابن حبان، محمد 1393هـ = 1973م، الثقات، دائرة المعارف العثمانية، حيدر آباد، الهند، الطبعة الأولى، 2/204. الطبري، تاريخ الطبري، 3/466.
[33] المُجَنِّبتانِ من الجَيْش المـَيْمَنةُ والمـَيْسَرَةُ. انظر: ابن منظور: لسان العرب، 1/275.
[34] ابن الأثير، الكامل في التاريخ، 2/281.
[35] الطبري، تاريخ الطبري، 3/467.
[36] الصحاري، الأنساب، ص170.
[37] ابن الأثير، الكامل في التاريخ، 2/281. مسكويه، تجارب الأمم وتعاقب الهمم، 1/319. البَلَاذُري، فتوح البلدان، ص250.
[38] الطبري، تاريخ الطبري، 3/468، 469.
[39] الصحاري، الأنساب، ص170.
[40] ابن الأثير، الكامل في التاريخ، 2/281، 282.
[41] الطبري، تاريخ الطبري، 3/472.
[42] الطبري، تاريخ الطبري، 3/470.
[43] ابن الأثير، الكامل في التاريخ، 2/282.
[44] ابن الأثير، الكامل في التاريخ، 2/282.
[45] ابن الأثير، الكامل في التاريخ، 2/282.
[46] الطبري، تاريخ الطبري، 3/374.
[47] الطبري، تاريخ الطبري، 3/374، 375.
[48] ابن الأثير، الكامل في التاريخ، 2/284.
[49] ابن الأثير، الكامل في التاريخ، 2/278.
[50] ابن الأثير، الكامل في التاريخ، 2/258.
[51] ابن الأثير، الكامل في التاريخ، 2/285.
[52] ابن الأثير، الكامل في التاريخ، 2/278.
[53] الطبري، تاريخ الطبري، 3/472.
[54] ابن خياط، أبو عمرو خليفة 1397ه، تاريخ خليفة بن خياط، المحقق: أكرم ضياء العمري، دار القلم، مؤسسة الرسالة - دمشق , بيروت، الطبعة الثانية، ص129.
[55] الدينوري، الأخبار الطوال، ص119.
[56] ابن الأثير، الكامل في التاريخ، 2/289، 290.