4
102) وماكان لمؤمنٍ ولامؤمنةٍ إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة....الاية
الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، وعلى آله وصحبه ومن والاه ، وبعد :
يقول الله تعالى : " وماكان لمؤمنٍ ولامؤمنةٍ إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالاً مبيناً "
هذه الآية من آيات البلاء والإمتحان والتمحيص ، تضع المؤمن على المحك الحقيقي لإيمانه ليتميز الصادق من الدعي ، والكيّس من العاجز... يالها من آية عظيمة تكشف حقيقة الإيمان عندما يصطدم أمرالشرع مع هوى النفس وعندما يكون أمر الله ورسوله في كفة وحظوظ النفس وشهواتها في كفة.
كلنا نحب الإسلام ... وكلنا نحب رسول الله صلى الله عليه وسلم ... وكلنا نطمع في رضوان الله وجنتة ... وكلنا يتمنى أن يكون مؤمناً صادق الإيمان. ولكن هل المسألة بالتمنى والإدعاء أم بالعمل والإخلاص ، هل نريد الإيمان بلاعمل ونرجوه بلاثمن؟! ألا إن سلعة الله غالية ألا إن سلعة الله هي الجنة.
أخي الكريم : إنها أية تستحق منا التوقف عندها وتأمل كلماتها واستيعاب مدلولاتها ثم مقارنتها بالواقع الذي نحياه والنهج الذي نعيشه. إن هذه الآية تحمل معنى الإسلام ألا وهو الإستسلام لله والإنقياد له والخضوع له بالطاعة . فهو استسلام وانقياد وخضوع ولامجال فيه للإختيار بين قبول ورفض ولا بين أخذ ورد. إذا جاء أمر الله ورسوله في مسألة من المسائل فليس غير السمع والطاعة. لااعتبار وقتها لهوى النفس ولالعادات المجتمع ولا لأي اعتبار آخر ، هذا هو معنى الإستسلام لله والإنقياد له أما إذا تخيرنا من شرع الله مايوافق أهواءنا ورغباتنا وعاداتنا وجئنا به على أنه دين خالص لله وفي نفس الوقت تركنا مايخالف أهواءنا وعاداتنا وتقاليدنا بحجج واهية وأعذار ملفقة فذلك هي الخيرة التي لم يرتضيها لنا ربنا سبحانه وتعالى بنص الآية الكريمة.
إن رسول الله صلى الله عليه وسلم المبلغ عن ربه تبارك وتعالى كما أمرنا بالصلاة والصيام والزكاة أمرنا بغض البصر وحفظ الفرج وصلاة الجماعة وطاعة الوالدين وصلة الأرحام وإرخاء اللحى وحجاب النساء ونهانا عن الغيبة والنميمة وأكل الربا والإسبال وأذى الجار وسماع الغناء وغيرها من الأوامر والنواهي مما لايخفى على مسلم ولامسلمة. فليقف أخي الكريم كل منا مع نفسة وقفة محاسبة في ساعة صدق مع النفس وليسأل نفسه : هل أنا ممن يأخذ من دين الله مايوافق هواه ويترك ماعدا ذلك ؟ فمن وجد خيراً فليحمد الله وليسأله الثبات ومن وجد غير ذلك فليثب إلى رشده وليقصر نفسه على الحق قسراً. فالأمر جد لاهزل فيه وحق لامراء فيه. والموعد: يوم لاينفع مال ولابنون إلا من أتى الله بقلب سليم، والموعود: جنة نعيم أو عذاب مقيم. اللهم إنا نسألك عملاً صالحاً ونية صادقة وقلباً خاشعاً ولساناً ذاكراً وعلماً نافعاً ، اللهم إنا نسألك الإخلاص في القول والعمل وحسن القصد والتوكل وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
( 103) قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم واخوانكم وأزواجكم...الاية
الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، وعلى آله وصحبه ومن والاه ، وبعد :
يقول الله تعالى : " قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم واخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره والله لايهدي القوم الفاسقين "
كلما اقرأ هذه الآية أشعر بالخوف والرهبة من هذا الوعيد الشديد. واسأل نفسي هل حبي لله ورسوله وللجهاد في سبيل الله أكبر من حبي لهؤلاء الذين جاء ذكرهم في الآية : الآباء والأبناء والإخوان والزوجة والعشيرة ؟ أرد وأقول نعم إننى أحب الله ورسوله وأحب الجهاد أكبر ولكن هل هذا هو فعلاً واقع الأمر أم أنه مجرد إدعاء؟
هنا تكمن المشكلة ويكمن الخطر الداهم الذي ربما يكون سبباً في تحقق وعد الله فينا : فتربصوا حتى يأتي الله بأمره !
أيها الأخوة ... كيف نحب الله تعالى ورسوله ؟ يقول العلماء اعرف الله حتى تحبه . فكلما زادت معرفة العبد بربه زاد حبه له. وكلما فكر في نعم الله عليه قوي حبه لربه لأن النفوس مجبولة على حب من أحسن إليها. وإذا أردنا أن نعرف كيف يأتي حب الله في قلوبنا فلننظر كيف جاء حب الدنيا في قلوبنا. لقد تمكن حب الدنيا من قلوبنا بسبب انشغالنا بذكرها آناء الله وأطراف النهار حتى تعلقت قلوبنا بزخرفها وزينتها ومباهجها فتمكن حبها من قلوبنا.... مجالسنا تدور الأحاديث فيها حول الدنيا وطرق تحصيلها وأنواع متاعها والجديد من أخبارها وفي المقابل لانذكر الله إلا قليلاً ، كم من أوقاتنا أمضيناه مع كتاب الله وتدبر آياته وتدارس تفسيره ؟ وكم من الوقت أمضيناه في استعراض سير الأنبياء والصالحين وحياة الزهاد والعباد من الصحابة والتابعين ؟ وكم من الوقت أمضيناه في التفكر في نعيم الجنة وحياة القبر والآخرة ... قارن هذا بهذا تجد الجواب ساطعاً سطوع الشمس في رابعة النهار. فهل بعد هذا نلوم أنفسنا لماذا تتعلق بالدنيا وتزهد في الآخرة وتؤثر متاعها الزائل على حب الله ورسوله والدار الآخرة ؟ هل نلوم أنفسنا بعد ذلك لماذا لاتحب قيام الليل ولاتشتاق إلى الجهاد ولاتحب الإنفاق في سبيل الله ولا قراءة القرآن ولاولاولا ...من أعمال الخير.
إنها الدنيا .. لايتمع حبها مع حب الآخرة في قلب واحد لذا حذرنا منها الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم كثيرا ، من ذلك ما جاء عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنكبي فقال: كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل. وكان ابن عمر يقول: إذا أمسيت فلاتنتظر الصباح وإذا أصبحت فلا تتنظر المساء وخذ من صحتك لمرضك ومن حياتك لموتك . رواه البخاري وقال عيسى بن مريم عليه السلام: الدنيا قنطرة فاعبروها ولاتعمروها. وفي الترمذي عن سهل بن سعد الساعدي قال: كنت مع الركب الذين وقفوا على السخلة الميته فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أترون هذه هانت على أهلها حتى ألقوها قالوا: ومن هوانها ألقوها يارسول الله. قال فالدنيا أهون على الله من هذه على أهلها.
نأسى على الدنيا وما من معشر .............. جمعتهم الدنيا فلم يتفرقوا
أين الأكاسرة الجبابرة الألى .............. كنزوا الكنوز فما بقين ولابقوا
من كل من ضاق الفضاء بجيشه .............. حتى ثوى فحواه لحد ضيق
فالموت آت والنفوس نفائس ............... والمستغر بما لديه الأحمق
اللهم اجعلنا من حزبك المفلحين وعبادك الصالحين الذين أهلتهم لخدمتك وجعلتهم ممن قبلت أعمالهم وأصلحت نياتهم وأحسنت آجالهم يارب العالمين وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
( 104 ) إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا...الاية
الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، وعلى آله وصحبه ومن والاه ، وبعد :
يقول - تعالى -(إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة أل تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون، نحن أوليائكم في الحياة الدنيا وفى الآخرة ولكم فيها ما تشتهى أنفسكم ولكم فيها ما تدعون، نخن أولياؤكم في الحياة الدنيا وفى الآخرة ولكم فيها ما تشتهى أنفسكم ولكم فيها ما تدّعون) سورة فصلت (30).
يقول - تعالى- (إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا) أي أخلصوا العمل لله وعملوا بطاعة الله - تعالى -على ما شرع لهم من الشرائع.
فقال أبوبكر الصديق رضي الله عنه : هم الذين لم يشركوا بالله شيئا.(ثم استقاموا) فلم يلتفتوا إلى إله غيره ولا إلى رب سواه.
وقال ابن عباس - رضي الله عنهما -: (إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا) على شهادة أن لا إله إلا الله.
وتلا عمر - رضي الله عنه- هذه الآية على المنبر، ثم قال: استقاموا والله بطاعته ولم يروغوا روغان الثعالب.
(قالوا ربنا الله ثم استقاموا) على أداء فرائضه وتعظيم شعائره من غير تهاون ولا تكاسل لأن هذه من صفات المنافقين الذين يخادعون الله وهو خادعهم.
ولننظر إلى بيوت الله لقد أضاع كثير من الناس الصلاة فيها إما جحودا أو استكبارا وهذا كفر بالله - تعالى -. وهنالك من توانى في أدائها يدخل الوقت في الوقت، ومنهم من يصلى في بيته، ويوم أن جاء الرجل الأعمى إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وقال له: "بيتي بعيد من المسجد وبيني وبين المسجد وادي فيه هوام فهل لي رخصة أن أصلي في بيتي فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: أتسمع النداء؟ فقال له نعم، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - أجب فإني لا أجد لك رخصة".
ولقد هم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يحرق منازل الذين لا يأتون إلى صلاة الجماعة.
قال ابن مسعود - رضي الله عنه - : "ولو صليتم في بيوتكم كما يصلى هذا المنافق لتركتم سنة نبيكم ولو تركتم سنة نبيكم لضللتم".
وكان الحسن يقول: (اللهم أنت ربنا فارزقنا الاستقامة).
(قالوا ربنا الله) قال أبو العالية: اخلصوا له الدين والعمل. وجاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم – فقال: "مرني بأمر في الإسلام لا أسأل عنه أحدا بعدك، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - (قل آمنت بالله ثم استقم) قلت فما أتقى؟ أومأ إلى لسانه) أخرجه النسائي.
أحبتي في الله ما هو المطلوب في حق الفرد المسلم أو ما هو الواجب على الفرد المسلم؟ إن الفرد مطالب أو ملزم بالاستقامة في نفسه والعمل بكتاب ربه وسنة نبيه محمد - صلى الله عليه وسلم - لأنك ما خلقت إلا لله، وأنت الفقير إلى الله فلا تنفعه طاعتك ولا تضره معصيتك فالكل لك وعليك أيها الإنسان، فأن عملت خيرا فزت ونجوت من قبضة الله وان عملت شرا خسرت الدنيا والآخرة وذلك هو الخسران المبين. فالفرد مطالب أن يقيم الدين في نفسه بعيدا عن العصبية الهوجاء والتشدق والتنطع بدين الله، والمجاملة بشرع الله. وهذا مفهوم شامل للاستقامة التي أمر بها الله - تعالى -.
ولكن وجود الفرد المسلم مع أهل الخير والصلاح، وأهل الطاعة والفلاح، وأهل المسجد والقرآن فهذا أمر عظيم وعون كريم للإنسان فإذا نسى ذكروه، وإذا جهل شيئا علموه، قال - تعالى -: (تتنزل عليهم الملائكة) عند الموت قائلين لهم (ألا تخافوا) أي مما تقدمون عليه من أمر الآخرة (ولا تحزنوا) مما خلفتموه من أمر الدنيا من أهل ومال أو دين فان نخلفكم فيه (وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون) فيبشرونهم بذهاب الشر وحصول الخير وهذه لحظات عظيمة لحظات حاسمة، لحظات قاضية، لحظات فاصلة عاشها أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - وهذا هو عمرو ابن العاص - رضي الله عنه - يصفها يوم أن حلت به سكرة الموت فقال"فكأن على كتفي جبل ربوة وكأن في جوفي شوكة عوتج، وكأن روحي تخرج من ثقب إبرة، وكأن السماء أطبقت على الأرض وأنل بينها".
فلا خلاص للإنسان ولا منجى له إلا بالاستقامة على دين الله، فنسأل الله - تعالى - أن يجعلنا من المستقيمين على شرعه وصلى الله على نبي الهدى والرحمة محمد - صلى الله عليه وسلم -.
( 105 ) أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت
الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، وعلى آله وصحبه ومن والاه ، وبعد :قال الله تعالى: (أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خُلقت) (الغاشية: 17) وتأمل في بديع خلق الإبل وكيف سواها الله عز وجل وهيأها لأداء الوظيفة التي خلقها لها، لقد أعطى الله الإبل الصورة الخلقية التي تلائم عيشته وأسفاره الطويلة في الصحراء، فلهذا خُلق الجمل برقبة طويلة تُعلي رأسه وتنأى بعينيه عن غبار الرمال، كما مُنح شفة مشقوقة يستطيع أن يتناول بها أشواك البوادي دون أن تؤذيه، وأعطى سناماً يختزن فيه الدهن إن أعوزه الطعام يوماً في الصحاري القاحلة، ولم تنته رجله بحافر يغوص في الرمال كحوافر الخيل والبغال والحمير بل انتهت بخف يقدر به على اجتياز الرمال دون أن يسوخ فيها، ولهذا سموه سفينة الصحراء·
لم يحظ أي نوع من الأنعام بهذه الإشارة القرآنية المتدبرة التي توجه نظر الإنسان إلى خلق الإبل وتفردها بمزايا خاصة يجب أن يتفكر فيها الإنسان ويتعلم منها ويستفيد بها، فهي تؤدي دوراً اقتصادياً واجتماعياً مهماً ضمن النظم الرعوية والزراعية في المناطق الجافة وشبة الجافة في الكثير من الدول الأفريقية والآسيوية·
ما لا نعرفه عن الإبل
الجمل حيوان وديع سهل الإنقياد، صبور عند المرض، يستحسن المعاملة الطيبة ويستجيب للمداعبة، لكنه يستوحش إذا أهمل وفي هذه الحال يجب الحذر منه· والإبل سريعة الغضب متقلبة المزاج وعند استثارتها تخرج أصواتاً تشبه الزمجرة وقد تعض أحياناً·
ومن السلوكيات التي تتمتع بها الإبل أنها نادراً ما تلجأ لعملية الانتقام في حالة سوء معاملتها أو ظلمها، وإذا ما نوى الجمل على الانتقام فإنه يخطط ويرتب لذلك جيداً· فهو يهاجم الشخص إذا كان غافلاً وأعزلاً من السلاح، ويتخذ الجمل كل أسلحته من عض وضرب الأرجل وقد يقذف بالشخص إذا كان راكباً على ظهره ويرميه على الأرض ويبرك عليه ولذلك قيل <أحقد من جمل>·
ومن عجائب هذا الحيوان أنه ذكي فهو يستطيع أن يعرف الأماكن التي شرب منها ولو مرة واحدة وكذلك يعرف الطرق التي يسلكها ولو للمرة الأولى حتى إن الرعاة إذا لم يعرفوا الطريق وضلوا في الصحاري المهلكة، فإنهم يتركون إبلهم تسير لوحدها دون أن يرغموها على الذهاب إلى جهة معينة فتدلهم إلى مضاربهم· كما أن الإبل تستطيع معرفة الأماكن التي ستهطل الأمطار عليها من رائحة الرطوبة فتتجه إليها· ومن ذكاء الجمل أنه يعرف مكان ولادته بكل دقة حتى لو مرت سنين طويلة وهو يحب موطن ولادته ويحن إليه دائماً· فسبحان من ألهمه ذلك· وسبحان من قال: (أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت)·
وصلى الله على نبي الهدى والرحمة محمد - صلى الله عليه وسلم -.
( 106 ) أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت-2
الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، وعلى آله وصحبه ومن والاه ، وبعد :
علاج السرطان بألبان وأبوال الإبل
عَنْ أَنَسٍ رَضِي اللَّهُ عَنْهُ <أَنَّ نَاسًا اجْتَوَوْا فِي الْمَدِينَةِ فَأَمَرَهُمُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَلْحَقُوا بِرَاعِيهِ يَعْنِي الإبل فَيَشْرَبُوا مِنْ أَلْبَانِهَا وَأَبْوَالِهَا فَلَحِقُوا بِرَاعِيهِ فَشَرِبُوا مِنْ أَلْبَانِهَا وَأَبْوَالِهَا حَتَّى صَلَحَتْ أَبْدَانُهُمْ فَقَتَلُوا الرَّاعِيَ وَسَاقُوا الإبلَ فَبَلَغَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَبَعَثَ فِي طَلَبِهِمْ فَجِيءَ بِهِمْ فَقَطَعَ أَيْدِيَهُمْ وَأَرْجُلَهُمْ وَسَمَرَ أَعْيُنَهُمْ>· رواه البخاري
قال القزاز اجتووا أي لم يوافقهم طعامها وقال ابن العربي داء يأخذ من الوباء وفي رواية أخرى استوخموا قال وهو بمعناه وقال غيره داء يصيب الجوف وفي رواية أبي عوانة عن أنس في هذه القصة فعظمت بطونهم·
وفي الأثر عن الشافعي رضي الله عنه أورده السيوطي في المنهج السوي والمنهل الروي يقول: ثلاثة أشياء دواء للداء الذي لا دواء له، والذي أعيا الأطباء أن يداووه: العنب، ولبن اللقاح، وقصب السكر، ولولا قصب السكر ما أقمتُ بمصر·
يذكر صاحب كتاب طريق الهداية في درء مخاطر الجن والشياطين أنه أخبر عن نفر من البادية عالجوا أربعة أشخاص مصابين بسرطان الدم وقد أتوا ببعضهم بعضاً من لندن مباشرة بعد ما يأسوا من علاجهم وفقدوا الأمل بالشفاء وحكم على بعضهم بنهاية الموت لأنه سرطان الدم، ولكن عناية الله وقدرته فوق تصور البشر وفوق كل شيء، فجاءوا بهؤلاء النفر إلى بعض رعاة الإبل وخصصوا لهم مكاناً في خيام وأحموهم من الطعام مدة أربعين يوما ثُم كان طعامهم وعلاجهم حليب الإبل مع شيء من بولها وبخاصة الناقة البكر لأنها أنفع وأسرع للعلاج وحليبها أقوى وخصوصاً من رعت من الحمض وغيره من النباتات البرية وقد شفوا تماما وأصبح أحدهم كأنه في قمة الشباب وذلك فضل الله أ·هـ·
وتوجد ظاهرة مدهشة في حليب النوق، حيث لوحظ أن نسبة الماء في تركيب حليبها في حال توافر ماء الشرب هي 86%، وفي حال ندرة الماء تصبح 91%، أي أن النوق تفرز ماءً أكثر لوليدها في أثناء شح المياه وبالتالي توفر له السوائل اللازمة تحت ظروف الجفاف·
وبول الإبل يسميه أهل البادية <الوَزَر>، وطريقة استخدامه بأن يؤخذ مقدار فنجان قهوة أي ما يعادل نحو ثلاثة ملاعق طعام من بول الناقة ويفضل أن تكون بكراً وترعى في البر ثم يخلط مع كأس من حليب الناقة ويشرب على الريق·
واستخدمته بعض القبائل لمعالجة الضعف الجنسي حيث كان يتناوله الشخص عدة مرات قبل الزواج إضافة إلى أن حليب الإبل يساعد على تنمية العظام عند الأطفال ويقوي عضلة القلب بالذات، ولذلك تصبح قامة الرجل طويلة ومنكبه عريض وجسمه قوي إذا شرب كميات كبيرة من حليب النوق في صغره·
واستخدمت أبوال الإبل وبخاصة بول الناقة البكر كمادة مطهرة لغسل الجروح والقروح ولنمو الشعر وتقويته وتكاثره ومنع تساقطه، وكذلك لمعالجة مرض القرع والقشرة، ويقال: إن في دماء الإبل القدرة على شفاء الإنسان من بعض الأمراض الخبيثة و قيل ان حليب الإبل يحمي اللثة ويقوي الأسنان نظرا لاحتوائه على كمية كبيرة من فيتامين <ج> ويساعد على ترميم خلايا الجسم لأن نوعية البروتين فيه تساعد على تنشيط خلايا الجسم المختلفة، وبصورة عامة يحافظ حليب الإبل على الصحة العامة للإنسان·
وصلى الله على نبي الهدى والرحمة محمد - صلى الله عليه وسلم -.
( 107) سورة الفلق -1
الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، وعلى آله وصحبه ومن والاه ، وبعد :سورة الفلق سورة لم يُر مثلها كما عبر عن ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم -، هي والسورة التي تليها"سورة الناس" فعَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قَال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: " لَقَدْ أُنْزِلَ عَلَيَّ آيَاتٌ لَمْ أَرَ أَوْ لَمْ يُرَ مِثْلَهُنَّ يَعْنِي الْمُعَوِّذَتَيْنِ" 1 وحيث مدحها - عليه السلام - بهذه الكلمات؛ فمعنى ذلك أننا أمام كنوز ضخمة، وذخائر حية، وأسلحة قوية، في مواجهة شرور الحياة ومصاعبها وشدائدها والكائدين فيها، والماكرين، والحاسدين، والسحرة المشعوذين الدجالين، يعني ذلك: أننا أمام أخطار كبيرة تؤثر في مسيرة الحياة، وتنعكس على الإنسان حيث تؤدي هذه الشرور التي ذُكرت في السورة الكريمة إلى الوفاة في بعض الأحيان، والجنون وفقدان الذاكرة وحالات صرع في أحيانٍ أخرى، فهي وأختها(سورة الناس) آيات بينات تذكر الداء والدواء.. وكان - عليه الصلاة والسلام - يوليهما عناية خاصة؛ فعَنْ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ: "كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يَتَعَوَّذُ مِنْ الْجَانِّ وَعَيْنِ الْإِنْسَانِ حَتَّى نَزَلَتْ الْمُعَوِّذَتَانِ فَلَمَّا نَزَلَتَا أَخَذَ بِهِمَا وَتَرَكَ مَا سِوَاهُمَا" 2 "هذه السورة والتي بعدها توجيه من الله - سبحانه وتعالى- لنبيه - عليه السلام - ابتداء وللمؤمنين من بعده جميعا، للعياذ بكنفه، واللياذ بحماه، من كل مخوف: خاف وظاهر، مجهول ومعلوم، على وجه الإجمال وعلى وجه التفصيل.. وكأنما يفتح الله - سبحانه - لهم حماه، ويبسط لهم كنفه، ويقول لهم، في مودة وعطف: تعالوا إلى هنا. تعالوا إلى الحمى. تعالوا إلى مأمنكم الذي تطمئنون فيه. تعالوا فأنا أعلم أنكم ضعاف وأن لكم أعداء وأن حولكم مخاوف وهنا.. هنا الأمن والطمأنينة والسلام.. "3
والملاحظ المتأمل والمتمعن في السورة الكريمة يجد أنها تعالج شروراً خفية غير ظاهرة، وتأثيراتها تظهر على المصاب دون أن تعرف من قام بها في كثير من الأحيان، وقد تتشاجر مع أحد الناس-لا سمح الله-فتراه ويراك، وتشتكيه إلى المحاكم، ويؤتى بالشهود، أما في هذه الشرور المذكورة فلا يرى الفاعل إلاّ الله - تعالى -، أو إذا أخبر صاحبها بارتكاب جريمته، وقليلاً جداً ما يحدث ذلك، ولذلك جاء الأمر الرباني يخص هذه الشرور بالذكر من بين كثرة هائلة من الأخطار والآفات المحدقة بالإنسان، وجاء الأمر الرباني كذلك بطلب الغوث والمعونة والاستجارة والاستعاذة بالله - سبحانه -، من كل الشرور بشكل عام، ومن هذه الشرور المذكورة بشكل خاص..وصلى اللهم على نبينا محمد وعلى آله.
( 108 ) قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ -2
الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، وعلى آله وصحبه ومن والاه ، وبعد :لا بد من الصراحة في إعلان الحقيقة الكبرى، وهي أن الإنسان مخلوق ضعيف، مفتقر إلى الله - سبحانه - في كل أحواله يقول خالقنا - سبحانه -: "يَاأَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمْ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ "{فاطر: 15}، ولذلك دفعه خوفه من الأشياء، وخشيته من الأخطار، إلى التعوذ والاستعانة بالجن، والسحر، والأصنام، والأنداد والشركاء، ويظن أنّ هذه الأشياء قادرة على حمايته، وتوفير الأمن والطمأنينة له، وهو واهم في ذلك؛ "يَاأَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوْ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمْ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ"{الحج: 73}، والحقيقة الكبرى التي طلبها رب الفلق من نبيه - عليه السلام - أن يعلنها على الملأ ويقولها بملء فيه أنه: إذا كنتم أيها الناس، أيها الكفار، أيها المشركون، يا ضعاف الإيمان، تستعيذون بالشركاء و بالأنداد، وبالسحرة و الكهنة و الجن وما أشبه، فإنني" أعوذ برب الفلق" والاستعاذة معناها: كما جاء في لسان العرب: "عاذ به يَعُوذُ عَوْذاً وعِياذاً ومَعاذاً: لاذ به ولجأَ إِليه واعتصم. يقال: عَوَّذْت فلاناً بالله وأَسمائه وبالمُعَوِّذتين إِذا قلت أُعِيذك بالله وأَسمائه من كل ذي شر وكل داء وحاسد وحَيْنٍ". "فالاستعاذة حالة نفسية، قوامها الخشية من الخطر، و الثقة بمن يستعاذ به، و هي إلى ذلك ممارسة عملية بابتغاء مرضاة من نستعيذ به، و هي - فوق ذلك - الثقة بأنه وحده القادر على درء الخطر، و إنقاذ الإنسان.
أما الفلق فقد اختلفوا فيه اختلافا كبيرا، فمن قائل: أنه بئر في جهنم تحترق جهنم بناره. إلى قائل: بأنه الصبح، أو الخلق، أو ما اطمأن من الأرض، أو الجبال و الصخور. قال ابن جرير: "والصواب القول الأول إنه فلق الصبح وهذا هو الصحيح وهو اختيار البخاري في صحيحه - رحمه الله - تعالى -" قال المفسرون: سبب تخصيص الصبح بالتعوذ أن انبثاق نور الصبح بعد شدة الظلمة، كالمثل لمجيء الفرج بعد الشدة، فكما أن الإِنسان يكون منتظراً لطلوع الصباح، فكذلك الخائف يترقب مجيء النجاح.
وصلى الله على نبي الهدى والرحمة محمد - صلى الله عليه وسلم -.
( 109 ) من شر ما خلق
الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، وعلى آله وصحبه ومن والاه ، وبعد :
"من شر ما خلق": " أي من شر خلقه إطلاقا وإجمالا. وللخلائق شرور في حالات اتصال بعضها ببعض. كما أن لها خيرا ونفعا في حالات أخرى. والاستعاذة بالله هنا من شرها ليبقى خيرها. والله الذي خلقها قادر على توجيهها وتدبير الحالات التي يتضح فيها خيرها لا شرها! " 8 و " قال بعض الأفاضل: هو عام لكل شر في الدنيا والآخرة وشر الإنس والجن والشياطين وشر السباع والهوام وشر النار وشر الذنوب والهوى وشر النفس وشر العمل وظاهره تعميم ما خلق بحيث يشمل نفس المستعيذ"9 ولقد" زود الله كل حي بما يجعله يختار جانب الخير، و يحاذر جانب الشر من نفسه و من الخلق المحيط به، و الإنسان بدوره مزود بالوحي و العقل و الغريزة لكي يتجنب الشر و الاستعاذة بالله صورة من صور الحذر من الشرور"10
ولهذا كان - عليه الصلاة والسلام - يستعيذ من أشياء كثيرة، نذكر منها مثلاً: ما روته السيدة عائشة - رضي الله عنها - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يَدْعُو فِي الصَّلَاةِ: " اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ الْقَبْر، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الْمَسِيحِ الدَّجَّال، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الْمَحْيَا وَفِتْنَةِ الْمَمَاتِ، اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ الْمَأْثَمِ وَالْمَغْرَمِ فَقَالَ لَهُ قَائِلٌ: مَا أَكْثَرَ مَا تَسْتَعِيذُ مِنْ الْمَغْرَمِ! فَقَال: "َ إِنَّ الرَّجُلَ إِذَا غَرِمَ حَدَّثَ فَكَذَبَ وَوَعَدَ فَأَخْلَفَ " 11وكذلك ما رواه عَمْرَو الْأَوْدِيَّ قَال: كَانَ سَعْدٌ يُعَلِّمُ بَنِيهِ هَؤُلَاءِ الْكَلِمَاتِ كَمَا يُعَلِّمُ الْمُعَلِّمُ الْغِلْمَانَ الْكِتَابَة، وَيَقُولُ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - كَانَ يَتَعَوَّذُ مِنْهُنَّ دُبُرَ الصَّلَاةِ: " اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ الْجُبْن، وَأَعُوذُ بِكَ أَنْ أُرَدَّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُر، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الدُّنْيَا وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ فَحَدَّثْتُ بِهِ مُصْعَبًا فَصَدَّقَهُ " 12
وكان الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام يلتجئون و يعتصمون ويستجيرون بالله من أنواع الشرور المختلفة؛ فهذا إبراهيم - عليه السلام - يطلب من ربه أن يبعده وأبنائه من شر عبادة الأصنام، التي أضلت الكثير من البشر"وإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ ءَامِناً وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الاَصْنَامَ" {إبراهيم: 35}وهذا يوسف - عليه السلام - يلتجئ إلى الله من شر مكر النساء اللواتي أردن به الكيد والوقوع فيما يسخط الخالق" قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَ وَأَكُن مِنَ الْجَاهِلِينَ" {يوسف: 33} وهذا يعقوب - عليه السلام - لما حصل ليوسف وأخيه ما حصل، وثق بأن الله - سبحانه - سيحفظهما من الشرور والمكائد فقال: " فالله خير حافظاً" {يوسف: 64}وهذا نبي الله موسى - عليه السلام -: يستعيذ بالله خالقه وخالق قومه من أن يمسه قومه بسوء سواء بالقول أو الفعل"وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِي" {الدخان: 20}
وصلى الله على نبي الهدى والرحمة محمد - صلى الله عليه وسلم -.
( 110 ) "غاسق إذا وقب"
الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، وعلى آله وصحبه ومن والاه ، وبعد :قالوا: "الغسق: شدة الظلام، و الغاسق: هو الليل أو من يتحرك في جوفه، والوقب: الدخول، قال ابن عباس، ومحمد بن كعب القرظي، والضحاك، والحسن، وقتادة، أنه الليل إذا أقبل بظلامه"13 والمقصود هنا - غالبا هو الليل وما فيه. الليل حين يتدفق فيغمر البسيطة. والليل حينئذ مخوف بذاته. فضلا على ما يثيره من توقع للمجهول الخافي من كل شيء: من وحش مفترس يهجم. ومتلصص فاتك يقتحم. وعدو مخادع يتمكن. وحشرة سامة تزحف. ومن وساوس وهواجس وهموم وأشجان تتسرب في الليل، وتخنق المشاعر والوجدان، ومن شيطان تساعده الظلمة على الانطلاق والإيحاء. ومن شهوة تستيقظ في الوحدة والظلام. ومن ظاهر وخاف يدب ويثب، في الغاسق إذا وقب! "14
نعم، "يهبط الليل بظلامه و وسواسه و طوارقه، و يتحرك في جنحه الهوام و بعض الوحوش، و ينشط المجرمون و الكائدون، و يستولي المرض و الهم على البعض، و تشتد الغرائز و الشهوات في غيبة من الرقابة الاجتماعية، و يحتاج الإنسان إلى مضاء عزيمة و ثقة، حتى يتغلب عليه وعلى أخطاره، و هكذا يستعيذ بالله منه"15 قال الرازي: "وإِنما أُمر أن يتعوذ من شر الليل، لأن في الليل تخرج السباع من آجامها، والهوام من مكانها، ويهجم السارقُ والمكابر، ويقع الحريق، ويقل فيه الغوث"16 ولهذا نهى النبي - عليه الصلاة والسلام - المسلم أن يمشي في الليل وحده: فعن ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " لَوْ أَنَّ النَّاسَ يَعْلَمُونَ مَا أَعْلَمُ مِنْ الْوِحْدَةِ؛ مَا سَرَى رَاكِبٌ بِلَيْلٍ يَعْنِي وَحْدَه ُ" 17 ولهذا أيضاً كان من توجيهات النبي - صلى الله عليه وسلم -، ألا يسافر المرء وحده، بل مع ركب أقله ثلاثة. "الواحد شيطان، والاثنان شيطانان، والثلاثة ركب" 18
ولعل القارئ الكريم يلاحظ ما الذي يحصل حينما ينطفئ التيار الكهربائي ليلاً في مدينة من مدن العالم الكبيرة؛ من سلب ونهب وسرقات واغتصاب وشرور مختلفة ومتنوعة، ولا ملجأ ولا منجا من ذلك إلا الله - سبحانه -، والاستجارة به وطلب الغوث منه.
وصلى الله على نبي الهدى والرحمة محمد - صلى الله عليه وسلم -.
( 111 ) " النفاثات في العقد"
الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، وعلى آله وصحبه ومن والاه ، وبعد :
والنفاثات: "السواحر الساعيات بالأذى عن طريق خداع الحواس، وخداع الأعصاب، والإيحاء إلى النفوس والتأثير والمشاعر. وهن يعقدن العقد في نحو خيط أو منديل وينفثن فيها كتقليد من تقاليد السحر والإيحاء! والسحر لا يغير من طبيعة الأشياء ; ولا ينشئ حقيقة جديدة لها. ولكنه يخيل للحواس والمشاعر بما يريده الساحر. " سيد قطب، مرجع سابق، ص4007
وقد شنّ الإسلام على السحر حرباً ضروساً لا هوادة فيها، يقول - تعالى - فيمن يتعلمون السحر: "ويتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم"{البقرة: 102}. وقد عد النبي - صلى الله عليه وسلم - السحر من كبائر الذنوب الموبقات، التي تهلك الأمم قبل الأفراد، وتردي أصحابها في الدنيا قبل الآخرة. عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: " اجْتَنِبُوا السَّبْعَ الْمُوبِقَاتِ. قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا هُنَّ؟ قَالَ: الشِّرْكُ بِاللَّهِ، وَالسِّحْرُ وَقَتْلُ النَّفْسِ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ، وَأَكْلُ الرِّبَا، وَأَكْلُ مَالِ الْيَتِيمِ، وَالتَّوَلِّي يَوْمَ الزَّحْفِ، وَقَذْفُ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ الْغَافِلَاتِ. "
"وقد اعتبر بعض فقهاء الإسلام السحر كفرا، أو مؤديا إلى الكفر، وذهب بعضهم إلى وجوب قتل الساحر تطهيرا للمجتمع من شره. وكما حرم الإسلام على المسلم الذهاب إلى العرافين لسؤالهم عن الغيوب والأسرار حرم عليه أن يلجأ إلى السحر أو السحرة لعلاج مرض ابتلي به، أو حل مشكلة استعصت عليه، فهذا ما برئ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منه، قال: "ليس منا من تطير أو تطير له، أو تكهن أو تكهن له، أو سحر أو سحر له". وقد ابتليت مجتمعات المسلمين بهذا الشر العظيم، وانتشر السحرة والمشعوذون بصورة لم يسبق لها مثيل، وصار الناس يذهبون إلى العرافين والسحرة المفسدين يبتغون عندهم العلاج والشفاء، فعمّ البلاء وطم، ولذا كان للإسلام هديه الخاص في علاج السحر قوامه وعماده الاستعاذة بالله والركون إليه والاستعانة به، فإن السحر داء خفي ومستتر يحتاج إلى علاج خاص وصلى الله على نبي الهدى والرحمة محمد - صلى الله عليه وسلم -.
( 112 ) " حاسد إذا حسد"
الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، وعلى آله وصحبه ومن والاه ، وبعد :
يقول القرطبي: "الحسد أول ذنب عُصى الله به في السماء، وأول ذنب عصى به في الأرض؛ فحسد إبليس آدم، وحسد قابيل هابيل، والحاسد ممقوت، مبغوض، مطرود، ملعون" 37ويقول أيضاً: "وقيل الحاسد لا ينال في المجالس إلا ندامة، ولا ينال عند الملائكة إلا لعنة وبغضاء، ولا ينال في الخلوة إلا جزعا وغما، ولا ينال في الآخرة إلا حزنا واحتراقا، ولا ينال من الله إلا بعدا"
وجاء في مختار الصحاح: الحسد: " أن تتمنى زوال نعمة المحسود إليك، وبابه دخل، وقال الأخفش: وبعضهم يقول يحسِده بالكسر حسداً بفتحتين وحسده على الشيء، وحسده الشيء بمعنى و تحاسد القوم وقوم حسدة كحامل وحملة. "
قال الثعالبي: " وقوله - تعالى -: "وَمِن شَرّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ " قال قتادة: مِنْ شَرِّ عَيْنِهِ ونَفْسِهِ، يريد بـ«النَّفْس»: السعْيَ الخَبِيثَ، وقال الحُسَيْنُ بْنُ الفَضْلِ: ذكَر اللَّه - تعالى - الشُّرُور في هذه السُّورة، ثم ختمها بالحَسَدِ؛ ليعلم أنَّه أخسُّ الطَبائع. " ولعل من أنواع الحسد الشديدة الخطورة "العين"؛ فقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الذي رواه ٍ أبو هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - "الْعَيْنُ حَقٌّ" وعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قَال: " الْعَيْنُ حَقٌّ وَلَوْ كَانَ شَيْءٌ سَابَقَ الْقَدَرَ سَبَقَتْهُ الْعَيْنُ.. "، و عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: "اسْتَعِيذُوا بِاللَّهِ فَإِنَّ الْعَيْنَ حَقٌّ"
وصلى الله على نبي الهدى والرحمة محمد - صلى الله عليه وسلم -.
( 113 ) (و من أعرض عن ذكرِي فإن له معيشة ضنكا .)
الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، وعلى آله وصحبه ومن والاه ، وبعد :
يقول تعالى {وَ مَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشّةً ضَنْكًا..}
سُئِل الشيخ العلامة صالح الفوزان - حفظه الله - تعالى -:
ما معنى قوله - تعالى -{وَمَنْ أعرَضَ عن ذكري فإنَّ له معيشةً ضنكًا و نحشُرُهُ يومَ القِيَامةِ أعمى} [طه: 124]. ما معنى تفسير هذه الآية؟
فأجاب: يقول الله - سبحانه وتعالى-: {فإما يأتينَّكم منِّي هُدًى فمن اتَّبع هُداي فلا يضل و لا يشقى [123] وَمَنْ أعرَضَ عن ذكري فإنَّ له معيشةً ضنكًا و نحشُرُهُ يومَ القِيَامةِ أعمى[124]}.
في الآيتين الكريمتين أن من اتبع القرآن و عمل به فإن الله - سبحانه وتعالى - تكفل له بأن لا يضل في الدنيا و لا يشقى في الآخرة. و في الآية الثانية أن من أعرض عن القرآن و لم يعمل به فإن الله جل و علا يعاقبه بعقوبتين:
الأولى: أنه يكون في معيشة ضنكاً و قد فسر ذلك بعذاب القبر، و أنه يعذب في قبره، و قد يراد به المعيشة في الحياة الدنيا و في القبر أيضا فالآية عامة.
والحاصل: أن الله توعده بأن يعيش عيشةً سيئةً مليئةً بالمخاطر و المكاره و المشاق جزاءً له على إعراضه عن كتاب الله جل و علا، لأنه ترك الهدى فوقع في الضلال و وقع في الحرج.
والعقوبة الثانية: أن الله جل و علا يحشره يوم القيامة أعمى، لأنه عمي عن كتاب الله في الدنيا فعاقبه الله بالعمى في الآخرة، قال {قال رب لِمَ حشرتني أعمى و قد كنتُ بصيراً [125] قال كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنا فنَسيتَهاَ و كَذَلِكَ اليَوْمَ تُنسَى [126]}[طه]، فإذا عمي عن كتاب الله في الدنيا بأن لم يلتفت إليه و لم ينظر فيه و لم يعمل به، فإنه يحشر يوم القيامة على هذه الصورة البشعة و العياذ بالله. و هذا كقوله - تعالى -{و من يَعْشُ عن ذكر الرحمن نُقيِّضْ لَهُ شيطاناً فهو له قرين[36] و إنَّهم ليصدُّنَهم عن السبيل ويحسبون أنَّهم مهتدون[37] حتى إذا جاءنا قال يا ليتَ بيني و بَينَكَ بُعدَ المشرقين فبئسَ القرين[38] و لن ينفعَكم اليومَ إذ ظلَمتُم أنكم في العذاب مُشتَركين[39] أفأنتَ تُسمعُ الصُّمَّ أو تهدي العُميَ و مَن كَانَ في ضَلالٍ مُبين[40]}[الزخرف].
فالحاصل: أن الله جل و علا توعد من أعرض عن كتابه و لم يعمل به في الحياة الدنيا بأن يعاقبه عقوبة عاجلةً في حياته في الدنيا و عقوبة آجلة في القبر و العياذ بالله و في المحشر، و الله - تعالى -أعلم. [المنتقى من فتاوى الشيخ الفوزان: ج2/59] وصلى الله على نبي الهدى والرحمة محمد - صلى الله عليه وسلم -.
( 114 ) وما أرسلناك إِلا رحمة للعالمين "
الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، وعلى آله وصحبه ومن والاه ، وبعد :
قرأت في تفسير عماد الدين أبي الفداء الإمام إسماعيل بن عمر بن كثير عليه رحمات الله عند تفسير قوله - تعالى -(وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين) في سورة الأنبياء الآية 107 قوله: (...فإن قيل: فأي رحمة حصلت لمن كفر به؟ فالجواب ما رواه أبو جعفر بن جرير عن ابن عباس في قوله: وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين.قال: من آمن بالله واليوم الآخر، كتب له الرحمة في الدنيا والآخرة، ومن لم يؤمن بالله ورسوله، عوفي مما أصاب الأمم من الخسف والقذف. الطبري 18/552)
فالأمم السابقة كان يحل بها العذاب بمجرد التكذيب والآيات في ذلك كثيرة منها:
قال - تعالى -في شأن نوح: " فَكَذَّبُوهُ فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا عَمِينَ " [الأعراف: 64].
وقال - تعالى -في شأن هو: " فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَمَا كَانُوا مُؤْمِنِينَ " [الأعراف: 72]. والآيات كثيرة.
وأما من السنة: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ؛ ادْعُ عَلَى الْمُشْرِكِينَ، قَالَ : إِنِّي لَمْ أُبْعَثْ لَعَّانًا وَإِنَّمَا بُعِثْتُ رَحْمَةً. رواه مسلم.
هذه الرحمة هي للمؤمن، والمنافق، والكافر.
قال القاضي عياض في " الشفا " (1/91): " للمؤمن رحمة بالهداية، وللمنافق رحمة بالأمان من القتل، ورحمة للكافرين بتأخير العذاب ". ا. هـ.
وقال أبو نعيم في " دلائل النبوة ": فأمن أعداؤه من العذاب مدة حياته - عليه السلام - فيهم، وذلك قوله - تعالى -: " وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ " [الأنفال: 33]، قلم يعذبهم مع استعجالهم إياه تحقيقا لما نعته به. ا. هـ.
والله أعلم. وصلى الله على نبي الهدى والرحمة محمد - صلى الله عليه وسلم -.
( 115 ) ( لا يمسه إِلا المطهرون )
الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، وعلى آله وصحبه ومن والاه ، وبعد :
لقد اختلف أهل العلم في تفسير هذه الآية على قولين:
1 - أن المقصود الكتاب الذي في السماء لا يمسه إلا الملائكة.
2 - أن المقصود القرآن لا يمسه إلا الطاهر أما المحدث حدثا أكبر أو أصغر على خلاف بين أهل العلم فإنه لا يمسه.
وقد رجح شيخ الإسلام ابن تيمية في " شرح العمدة (1/384) القول الأول، فقال:
والصحيح اللوح المحفوظ الذي في السماء مراد من هذه الآية وكذلك الملائكة مرادون من قوله المطهرون لوجوه:
أحدهما: إن هذا تفسير جماهير السلف من الصحابة ومن بعدهم حتى الفقهاء الذين قالوا: لا يمس القرآن إلا طاهر من أئمة المذاهب صرحوا بذلك وشبهوا هذه الآية بقوله: " كَلَّا إِنَّهَا. تَذْكِرَةٌ. فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ. فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ. مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ. بِأَيْدِي سَفَرَةٍ. كِرَامٍ بَرَرَةٍ " [عبس: 11 - 16].
وثانيها: أنه أخبر أن القرآن جميعه في كتاب، وحين نزلت هذه الآية لم يكن نزل إلا بعض المكي منه، ولم يجمع جميعه في المصحف إلا بعد وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم -.
وثالثها: أنه قال: " فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ " [الواقعة: 78]، والمكنون: المصون المحرر الذي لا تناله أيدي المضلين؛ فهذه صفة اللوح المحفوظ.
ورابعها: أن قوله: " لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ " [الواقعة: 79]، صفة للكتاب، ولو كان معناها الأمر، لم يصح الوصف بها، وإنما يوصف بالجملة الخبرية.
وخامسها: أنه لو كان معنى الكلام الأمر لقيل: فلا يمسه لتوسط الأمر بما قبله.
وسادسها: أنه لو قال: " الْمُطَهَّرُونَ " وهذا يقتضي أن يكون تطهيرهم من غيرهم، ولو أريد طهارة بني آدم فقط لقيل: المتطهرون، كما قال - تعالى -: " فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ " [التوبة: 108]، وقال - تعالى -: " إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ " [البقرة: 222].
وسابعها: أن هذا مسوق لبيان شرف القرآن وعلوه وحفظه.
وقال الإمام ابن القيم في مدارج السالكين (2/417):
قلت: مثاله قوله - تعالى -: " لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ " [الواقعة: 79] قال - يقصد الإمام ابن القيم شيخَ الإسلام -: والصحيح في الآية أن المراد به الصحف التي بأيدي الملائكة لوجوه عديدة:
- منها: أنه وصفه بأنه مكنون والمكنون المستور عن العيون وهذا إنما هو في الصحف التي بأيدي الملائكة. - ومنها: أنه قال: " لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ " [الواقعة: 79]، وهم الملائكة، ولو أراد المتوضئين لقال: لا يمسه إلا المتطهرون، كما قال - تعالى -: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ " [البقرة: 222]. فالملائكة مطهرون، والمؤمنون متطهرون.
- ومنها: أن هذا إخبار، ولو كان نهيا لقال: لا يمسسه بالجزم، والأصل في الخبر أن يكون خبرا صورة ومعنى.
- ومنها: أن هذا رد على من قال: إن الشيطان جاء بهذا القرآن؛ فأخبر - تعالى -: أنه في كتاب مكنون لا تناله الشياطين، ولا وصول لها إليه كما قال - تعالى -في آية الشعراء: " وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ . وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ [عراء: 210 - 211] وإنما تناله الأرواح المطهرة وهم الملائكة.
- ومنها: أن هذا نظير الآية التي في سورة عبس: " فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ. فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ. مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ. بِأَيْدِي سَفَرَةٍ. كِرَامٍ بَرَرَةٍ " [عبس: 12 - 16]، قال مالك في موطئه: أحسن ما سمعت في تفسير: " لَا يَمَسُّهُ إالْمُطَهَّرُونَ " أنها مثل هذه الآية التي في سورة عبس:
- ومنها: أن الآية مكية من سورة مكية تتضمن تقرير التوحيد والنبوة والمعاد، وإثبات الصانع، والرد على الكفار، وهذا المعني أليق بالمقصود من فرع عملي وهو حكم مس المحدث المصحف.
- ومنها: أنه لو أريد به الكتاب الذي بأيدي الناس لم يكن في الإقسام على ذلك بهذا القسم العظيم كثير فائدة إذ من المعلوم أن كل كلام فهو قابل لأن يكون في كتاب حقا أو باطلا بخلاف ما إذا وقع القسم على أنه في كتاب مصون مستور عن العيون عند الله لا يصل إليه شيطان، ولا ينال منه، ولا يمسه إلا الأرواح الطاهرة الزكية؛ فهذا المعنى أليق وأجل وأخلق بالآية وأولى بلا شك. ا. هـ.
والله أعلم وصلى الله على نبي الهدى والرحمة محمد - صلى الله عليه وسلم -.
( 116) (واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها...)الآية -1
الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، وعلى آله وصحبه ومن والاه ، وبعد :قال تعالى: { وَاتْلُ عَلَيْهِم نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الغَاوِينَ، وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ، فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث ذَّلِكَ مَثَلُ القَوْمِ الَّذيِنَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا فَاقْصُصِ القَصَصَ لَعَلَّهُم يَتَفَكَّرُونَ سَاءَ مَثَلاً القَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا وَأَنْفُسَهُمْ كَانُوا يَظْلِمُونَ } [الأعراف/175-176-177].
قال ابن القيم رحمه الله: فشبَّه سبحانه مَن آتاه كتابه وعلَّمه العلمَ الذي منعه غيرَه فترك العمل به واتَّبع هواه وآثر سخط الله على رضاه، ودنياه على آخرته، والمخلوق على الخالق بالكلب الذي هو مِن أخبث الحيوانات وأوضعها قدراً، وأخسِّها نفساً، وهمَّته لا تتعدى بطنه، وأشدها شرهاً وحرصاً، ومِن حرصه أنَّه لا يمشي إلا وخطمه في الأرض يتشمَّم ويستروح حرصاً وشرهاً. ولا يزال يَشُمُّ دبره دون سائر أجزائه، وإذا رميتَ إليه بحجرٍ رجع إليه ليعضه من فرط نهمته، وهو مِن أمهن الحيوانات وأحملها للهوان وأرضاها بالدنايا. والجيفُ القذرة المروحة أحبُّ إليه مِن اللحم الطري. والعذرة أحبُّ إليه مِن الحلوى وإذا ظفر بميتةٍ تكفي مائةَ كلبٍ لم يَدَع كلباً واحداً يتناول منها شيئاً إلاّ هرَّ عليه وقهره لحرصه وبخله وشَرَهِه.
ومِن عجيبِ أمره وحرصه أنَّه إذا رأى ذا هيئةٍ رثةٍ وثيابٍ دنيَّةٍ وحالٍ زرِيَّةٍ نبحه وحمل عليه، كأنَّه يتصور مشاركتَه له ومنازعتَه في قُوتِه. وإذا رأى ذا هيئةٍ حسنةٍ وثيابٍ جميلةٍ ورياسةٍ وضع له خطمه بالأرض، وخضع له ولم يرفع إليه رأسه.
وفي تشبيه مَن آثر الدنيا وعاجلها على اللهِ والدارِ الآخرةِ مع وفور علمه بالكلب في حال لهثه سِرٌّ بديعٌ، وهو أنَّ هذا الذي حاله ما ذكره الله مِن انسلاخه مِن آياته واتباعه هواه إنما كان لشدة لهفه على الدنيا لانقطاع قلبه عن الله والدار الآخرة فهو شديد اللهف عليها، ولهفه نظير لهف الكلب الدائم في حال إزعاجه وتركه. واللهف واللهث شقيقان وأخوان في اللفظ والمعنى.
قال ابن جريج: الكلبُ منقطعُ الفؤاد، لا فؤاد له، إنْ تحمل عليه يلهث، أو تتركه يلهث فهو مثل الذي يترك الهُدى، لا فؤاد له، إنما فؤاده منقطعٌ.
قلت: مراده بانقطاع فؤاده أنَّه ليس له فؤادٌ يحمله على الصبر عن الدنيا وترك اللهف عليها فهذا يلهف على الدنيا مِن قلة صبره عنها،وهذا يلهث مِن قلة صبره عن الماء، فالكلب مِن أقل الحيوانات صبراً عن الماء، وإذ عطش أكل الثرى من العطش، وإنْ كان فيه صبرٌ على الجوع.
وعلى كلِّ حالٍ فهو مِن أشدِّ الحيوانات لهثاً، يلهث قائماً وقاعداً وماشياً وواقفاً، وذلك لشدَّة حرصه، فحرارةُ الحرصِ في كبده توجبُ له دوام اللهث.
فهكذا مشبَّهه شدةُ الحرص وحرارةُ الشهوة في قلبه توجب له دوام اللهث، فإنْ حملتَ عليه بالموعظة والنصيحة فهو يلهث، وإن تركتَه ولم تعظْه فهو يلهث.
قال مجاهد: ذلك مثَل الذي أوتي الكتاب ولم يعمل به. وقال ابن عباس: إنْ تحمل عليه الحكمة لم يحملْها، وإن تتركْه لم يهتدِ إلى خيرٍ، كالكلب إنْ كان رابضاً لهث، وإنْ طرد لهث.
وقال الحسن: هو المنافق لا يثبت على الحقِّ، دُعي أو لم يُدْع، وُعظ أو لم يُوعظ، كالكلب يلهث طرداً وتركاً.
وقال عطاء: ينبح إنْ حملتَ عليه أو لم تحمل عليه.
وقال أبو محمد بن قتيبة: كلُّ شيءٍ يلهثُ فإنما يلهثُ مِن إعياءٍ أو عطشٍ إلا الكلب، فإنَّه يلهث في حالِ الكلال وحالِ الراحة وحالِ الصحة وحالِ المرض والعطش فضربه الله مثلاً لمن كذَّب بآياته، وقال: إنْ وعَظْتَه فهو ضالٌّ، وإن ترَكْتَه فهو ضالٌّ، كالكلب إنْ طردتَّهُ لهث وإنْ تركْتَه على حاله لهث ونظيره قوله سبحانه: { وَإِنْ تَدْعُوهُم إِلى الهُدَى لاَ يَتَّبِعُوكُم سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُم أَمْ أَنْتُم صَامِتُونَ }الأعراف/193]. وصلى الله على نبي الهدى والرحمة محمد - صلى الله عليه وسلم -.
( 117 ) (واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها...)الآية -2
الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، وعلى آله وصحبه ومن والاه ، وبعد :
تأمَّلْ ما في هذا المثل مِن الحِكم والمعاني:
فمنها: قوله: { آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا } فأخبر سبحانه أنَّه هو الذي آتاه آياته، فإنَّها نعمةٌ، والله هو الذي أنعم بها عليه، فأضافها إلى نفسه، ثم قال: { فَانْسَلَخَ مِنْهَا } أي: خرج منها كما تنسلخ الحيَّةُ مِن جلدها، وفارقها فراق الجلد يُسلخ عن اللحم. ولم يقل (فسلخناه منها) لأنَّه هو الذي تسبب إلى انسلاخه منها باتباعه هواه.
- ومنها: قوله سبحانه: { فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَان } أي: لحقه وأدركه، كما قال في قوم فرعون: { فَأَتْبَعُوهُم مُشْرِقِينَ } [الشعراء/60] وكان محفوظاً محروساً بآيات الله محميَّ الجانب بها من الشيطان لا ينال منه شيئاً إلا على غِرَّةٍ وخطفة. فلمَّا انسلخ مِن آيات الله ظفِر به الشيطانُ ظفَر الأسد بفريسته {فَكَانَ مِنَ الغَاوِينَ} العاملين بخلاف علمهم الذين يعرفون الحق ويعملون بخلافه كعلماء السوء.
ومنها: أنَّه سبحانه قال: { وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا } فأخبر سبحانه أنَّ الرفعة عنده ليست بمجرد العلم - فإنَّ هذا كان مِن العلماء- وإنَّما هي باتباع الحق وإيثاره وقصد مرضاة الله، فإنَّ هذا كان مِن أعلم أهل زمانه، ولم يرفعه الله بعلمه ولم ينفعه به، نعوذ بالله مِن علمٍ لا ينفع.
وأخبر سبحانه أنَّه هو الذي يرفع عبدَه إذا شاء بما آتاه من العلم، وإنْ لم يرفعه الله فهو موضوعٌ، لا يرفعُ أحدٌ به رأساً، فإنَّ الربَّ الخافضَ الرافعَ سبحانه خفضه ولم يرفعه. والمعنى: لو شئنا فضَّلناه وشرَّفْناه ورفعنا قدرَه ومنزلته بالآيات التي آتيناه.
قال ابن عباس: لو شئنا لرفعناه بعلمه.
وقالت طائفة: الضمير في قوله: {لَرَفَعْنَاهُ } : عائدٌ على الكفر والمعنى: لو شئنا لرفعنا عنه الكفر بالإيمان وعصمناه.
وهذا المعنى حقٌّ ، والأول هو مراد الآية، وهذا مِن لوازم المراد ، وقد تقدم أنَّ السلف كثيراً ما ينبهون على لازمِ معنى الآية، فيظنُّ الظانُّ أنَّ ذلك هو المراد منها.
وقوله: } وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلى الأَرْضِ }. قال سعيد بن جبير: ركن إلى الأرض، وقال مجاهد: سكن. وقال مقاتل: رضي بالدنيا. وقال أبو عبيدة: لزمها وأبطأ.
والمُخلِدُ من الرجال: هو الذي يبطىء في مِشْيته، ومِن الدواب: التي تبقى ثناياه إلى أنْ تخرج رَباعيَّتُه. وقال الزجاج: خلد وأخلد، وأصله من الخلود، وهو الدوام والبقاء. يقال: أخلد فلان بالمكان إذا أقام به. قال مالك بن نويرة:
بأبناء حيٍّ مِن قبائل مالك وعمرو بن يربوع أقاموا فأخلدوا
قلت: ومنه قوله تعالى: {يَطُوفُ عَلَيْهِم وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ} [الواقعة/17] أي: قد خُلقوا للبقاء لذلك لا يتغيرون ولا يكبرون، وهم على سنٍّ واحدٍ أبداً.
وقيل: هم المقرَّطون في آذانهم، والمسوَّرون في أيديهم. وأصحاب هذا القول فسَّروا اللفظة ببعض لوازمها، وذلك أمارة التخليد على ذلك السنِّ فلا تنافي بين القولين.
وقوله: } فَاتَّبَعَ هَوَاهُ }، قال الكلبي: اتَّبع مسافل الأمور وترك معاليها. وقال أبو رَوْق: اختار الدنيا على الآخرة. وقال عطاء: أراد الدنيا وأطاع شيطانه. وقال ابن زيد: كان هواه مع القوم، يعني الذين حاربوا موسى وقومه. وقال ابن يمان: اتَّبع امرأته لأنهَّا هي التي حملته على ما فعل.
فإنْ قيل: الاستدراك بـ (لكن) يقتضي أنْ يثبت بعدها ما نفى قبله، أو ينفي ما أثبت كما تقول: (لو شئتُ لأعطيتُه، لكني لم أعطِه) و (لو شئتُ لما فعلتُ كذا لكني فعلتُه).
والاستدراك يقتضي: (ولو شئنا لرفعناه بها ولكنَّا لم نشأ، أو لم نرفعه)، فكيف استدرك بقوله: { وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلى الأَرْضِ } بعد قوله : { لَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا }؟
قيل: هذا مِن الكلام الملحوظ فيه جانب المعنى، المعدول فيه عن مراعاة الألفاظ إلى المعاني وذلك أنَّ مضمون قوله: { وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا } أنَّه لم يتعاط الأسباب التي تقتضي رفعه بالآيات: مِن إيثار الله ومرضاته على هواه، ولكنَّه آثر الدنيا وأخلدَ إلى الأرض واتَّبع هواه.
وقال الزمخشري: المعنى: ولو لزم آياتنا لرفعناه بها، فذكر المشيئة، والمراد: ما هي تابعةٌ له ومسببةٌ عنه، كأنَّه قيل: ولو لزمها لرفعناه بها. قال: ألا ترى إلى قوله: { وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ } فاستدرك المشيئة بإخلاده الذي هو فعله، فوجب أنْ يكون { وَلَوْ شِئْنَا } في معنى ما هو فعله، ولو كان الكلام على ظاهره: لوجب أنْ يقال: ولو شئنا لرفعناه، ولكنَّا لم نشأ. ا.هـ.
فهذا من الزمخشري شنشنةٌ نعرفها مِن قدريٍّ نافٍ للمشيئة العامة، مبعد للنُّجعة في جعْلِ كلام الله معتزليّاً قدريّاً. فأين قوله: { وَلَوْ شِئْنَا } مِن قوله: ولو لزمها؟. ثم إذا كان اللزوم لها موقوفاً على مشيئة الله -وهو الحق- بَطَل أصله.
وقوله: (إنَّ مشيئة الله تابعةٌ للزوم الآيات) مِن أفسدِ الكلام وأبطلِه، بل لزومه لآياته تابعٌ لمشيئة الله، فمشيئةُ الله سبحانه متبوعةٌ لا تابعةٌ، وسببٌ لا مسبَّب، وموجب مقتضٍ لا مقتضى، فما شاء الله وجب وجوده، وما لم يشأ امتنع وجوده) ا.هـ .
انظر : " أعلام الموقعين " [1/165-169]. وانظر: " الفوائد " [ص150].
وقال الشيخ الشنقيطي رحمه الله:ضرب اللهُ المثلَ لهذا الخسيس الذي آتاه آياته فانسلخ منها: بالكلب، ولم تكن حقارةُ الكلبِ مانعةً مِن ضربه تعالى المثلَ به. وكذلك ضربُ المثلِ بالذباب في قوله: { يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَاباً وَلَوْ اجْتَمَعُوا لَهُ، وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئاً لاَ يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ، ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالمَطْلُوبُ } [الحج/73] ، وكذلك ضربُ المثلِ ببيتِ العنكبوت في قوله: } مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ العَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً، وَإِنَّ أَوْهَنَ البُيُوتِ لَبَيْتُ العَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ } [العنكبوت/41]. وكذلك ضربُ الله المثلَ بالحمارِ في قوله: { مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةِ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً بِئْسَ مَثَلُ القَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللهِ وَاللهُ لاَ يَهْدِي القَوْمَ الظَّالِمِينَ } [الجمعة/5] وهذه الآيات تدل على أنَّه تعالى لا يستحيي مِن بيانِ العلوم النفيسة عن طريق ضرب الأمثال بالأشياء الحقيرة. وقد صرَّح بهذا المدلول في قوله: { إنَّ اللهَ لاَ يَسْتَحِيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا } [البقرة/26]. ا.هـ (أضواء البيان [2/303]).
وصلى الله على نبي الهدى والرحمة محمد - صلى الله عليه وسلم -.
( 118) خذوا حذركم فانفروا ثبات أو انفروا جميعا
الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، وعلى آله وصحبه ومن والاه ، وبعد :
يا أيها الذين آمنوا خذوا حذركم فانفروا ثبات أو انفروا جميعا (النساء: 71)الحذر والحذر بمعنى كالأثر والأثر، يقال: أخذ حذره إذا تيقظ واحترز من المخوف كأنه جعل الحذر آلته التي يقي بها نفسه ويعصم بها روحه، والمعنى: احذروا وتيقظوا من العدو ولا تمكنوه من أنفسكم- (الكشاف 1/280 ) وهذا يشمل الأخذ بجميع الأسباب التي بها يستعان على قتالهم ويستدفع مكرهم وقوتهم، من استعمال الحصون والخنادق، وتعلم الرمي والركوب وتعلم الصناعات التي تعين على ذلك، وما به يعرف مداخلهم ومخارجهم ومكرهم[تيسير الكريم الرحمن /150 ) ويكون ذلك أيضاً ببذل المال في سبيل الله، وإعداد المقاتلين، فمن جهز غازياً في سبيل الله فقد غزا، قال - سبحانه - ((من ذا الذي يقرض الله قرضاً حسناً فيضاعفه له أضعافاً كثيرة)) وقال - جل شأنه -: ((يا أيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم* تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون)) يقول الشيخ المراغي - رحمه الله -: ويدخل في ذلك معرفة حال العدو ومعرفة أرضه وبلاده وأسلحته واستعمالها، وما يتوقف على ذلك من معرفة الهندسة والكيمياء وجر الأثقال، وعلى الجملة اتخاذ أهبة الحرب المستعملة فيها من طيارات وقنابل ودبابات وبوارج مدرعة ومدافع مضادة للطائرات، إلى نحو ذلك؛ حتى لا يهاجمكم على غرة، أو يهددكم في دياركم، وحتى لا يعارضكم في إقامة دينكم أو دعوتكم إليه.
وقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - والصحابة على علم بأرض عدوهم، كما كان لهم عيون وجواسيس يأتونهم بالأخبار، ولما أخبروه بنقض قريش للعهد، استعد لفتح مكة، ولم يفلح أبو سفيان في تجديد العهد مرة أخرى، وقد كان يظن أن المسلمين لم يعلموا بنكثهم له. وقد قال أبو بكر لخالد بن الوليد في حرب اليمامة: حاربهم بمثل ما يحاربونك به: السيف بالسيف، والرمح بالرمح.
ثبات: جمع ثبة، وقد تجمع على ثبين، أي جماعة بعد جماعة وفرقة بعد فرقة وسرية بعد سرية
أو انفروا جميعا: يعني كلكم
من فوائد الآية
ـ فضيلة أهل الإيمان حتى صاروا أهلاً للخطاب
ـ وجوب أخذ الحذر من أعدائنا
ـ أخذ الحذر يكون بإعداد العدة والحيطة بإرسال العيون
ـ وجوب النفرة للجهاد في سبيل الله
ـ هذه النفرة تكون حسب المصلحة إما جماعات أو جميعا
وصلى الله على نبي الهدى والرحمة محمد - صلى الله عليه وسلم -.
( 119 ) سورة التغابن - 1
الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، وعلى آله وصحبه ومن والاه ، وبعد :
يقول تعالى (يسبح لله ما في السموات وما في الأرض له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير (1) هو الذي خلقكم فمنكم كافر ومنكم مؤمن والله بما تعملون بصير (2) خلق السموات والأرض بالحق وصوركم فأحسن صوركم وإليه المصير (3)
إن سورة التغابن سورة مدنية أشبه ما تكون بالسور المكية لاهتمامها بالعقيدة وأصول الدين، حتى قال بعض العلماء إنها مكية.
استفتحت السورة بيان تسبيح من في السموات والأرض بحمد الله لأنه الخالق المالك للسموات والأرض وما فيهما. ثم حذّرت الكافرين من عاقبة الكفر الوخيمة، ولفتتْ أنظارَهم إلى مصارع الكافرين من قبلهم ليعتبروا بهم. ثم تحدثت عن البعث بعد الموت وردّت على منكريه، وبيّنت جزاء كلٍّ من المؤمنين والكافرين.
كما بينت أن كل شيء بقضاء، وأن من يؤمن بقضاء الله يهد الله قلبه. وحذرت المؤمنين من الانشغال بأموالهم وأولادهم عن ذكر الله.
ثم ختمت بأمرهم بتقوى الله، والسمع والطاعة، والإنفاق في سبيل الله مما رزقهم الله، ووعدتْهم إن أنفقوا أن يضاعف الله لهم الأجر يوم القيامة: يوم لا ينفع مال ولا بنون {الشعراء: 88}.
هذه السورة هي آخر المسبّحات، وقد مضى الكلام عن تسبيح الكائنات لبارئها ومالكها.
وقوله - تعالى -: هو الذي خلقكم أي هو وحده، لا غيره، وهذه حقيقة، كان المشركون قديمًا مقرين بها، كما قال - تعالى -: ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله {الزخرف: 87}، حتى نشأت ناشئةٌ من الملحدين الذين أنكروا وجود الله بالكليّة، وردوا نشأتهم إلى الطبيعة فسوف يعلمون (70) إذ الأغلال في أعناقهم والسلاسل يسحبون (71) في الحميم ثم في النار يسجرون {غافر: 70 72}.
هو الذي خلقكم فمنكم كافر ومنكم مؤمن أي هو الخالق لكم على هذه الصفة، وأراد منكم ذلك، فلا بدّ من وجود مؤمن وكافر، والمقصود بهذه الإرادة؛ الإرادةُ الكونية القدرية، لا الإرادة الشرعية الدينية، والإرادة الكونية تتعلّق بالخلق والإيجاد، وأما الشرعية فإنها تتعلق بالأمر والنهي، وهذه التي تدل على الحب والكره، دون الأولى؛ فكل ما أمر الله به فهو يحبه، وإن لم تتعلق به الإرادة الكونية، وكلّ ما نهى عنه فهو يكرهه وإن تعلقت به الإرادة الكونية، فإنها أي الشرعية لا تتعلق إلا بما يحب، فإيمان المؤمن تعلقت به الإرادتان الشرعية والقدرية، وكفر الكافر تعلقت به الإرادة القدرية دون الشرعية، لأن الله لم يأمر بالكفر بل نهى عنه وتوعد عليه، قال - تعالى -: " إن تكفروا فإن الله غني عنكم ولا يرضى لعباده الكفر وإن تشكروا يرضه لكم " {الزمر: 7}.
وقال - تعالى -: " وإذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها آباءنا والله أمرنا بها قل إن الله لا يأمر بالفحشاء أتقولون على الله ما لا تعلمون (28) قل أمر ربي بالقسط " {الأعراف: 28، 29}.
وقال - تعالى -: " إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي "{النحل: 90}.
وقدم - تعالى - ذكر الكافرين لكثرتهم وقلّة المؤمنين، ولذا قال - تعالى - لنبيه - صلى الله عليه وسلم -: وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله إن يتبعون إلا الظن وإن هم إلا يخرصون {الأنعام: 116}.
وقال - تعالى - لنبيه - صلى الله عليه وسلم -: " والذي أنزل إليك من ربك الحق ولكن أكثر الناس لا يؤمنون " {الرعد: 5}.
ولذا جاء في الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أن الله يقول لآدم يوم القيامة: "ابعث بعث النار من ذريّتك. فيقول يا ربّ كم؟ فيقول: من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين"
{متفق عليه، رواه خ (4741-441-8)، المجتمع (222-201-1)}
فلا تغتر يا عبد الله بكثرة السالكين طريق الباطل، ولا تستوحش من طريق الحق وإن قل سالكوه.
وقوله - تعالى -: " والله بما تعملون بصير " أي: وهو - سبحانه - بصير بمن يستحق الهداية ممن يستحق الضلال، وهو شهيد على أعمال عباده، وسيجزيهم بها أتم الجزاء.
وصلى الله على نبي الهدى والرحمة محمد - صلى الله عليه وسلم -.
( 120 ) سورة التغابن -2
الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، وعلى آله وصحبه ومن والاه ، وبعد :
"زعم الذين كفروا أن لن يبعثوا قل بلى وربي لتبعثن ثم لتنبؤن بما عملتم وذلك على الله يسير (7) فآمنوا بالله ورسوله والنور الذي أنزلنا والله بما تعملون خبير (8)
تفسير الآيات:
يقول - تعالى - مخبرا عن الكفار والمشركين والملحدين: "زعم الذين كفروا أن لن يبعثوا" فكذَّبهم فيما أخبر عنهم به بنفس صيغة الخبر، فإن الزعم مطيةُ الكذب- كما يقولون-.
ثم أمر اللهُ نبيه أن يقسم بربّه على أنّ البعث حق، لا كما زعموا، فقال - تعالى -: "قل بلى وربي لتبعثن"، وهذه ثالثةُ ثلاثِ آياتٍ أمر الله فيها نبيه أن يقسم بربه على أن البعث حق، قال - تعالى -: "ويستنبئونك أحق هو قل إي وربي إنه لحق وما أنتم بمعجزين" {يونس: 53}. وقال - تعالى -: "وقال الذين كفروا لا تأتينا الساعة قل بلى وربي لتأتينكم" {سبأ: 3}، وقد أقسم الرب - سبحانه - بنفسه على أن البعث حقّ، فقال - تعالى -: "ويقول الإنسان أئذا ما مت لسوف أخرج حيا (66) أولا يذكر الإنسان أنا خلقناه من قبل ولم يك شيئا (67) فوربك لنحشرنهم والشياطين ثم لنحضرنهم حول جهنم جثيا" {مريم: 66- 68}، فأقسم الربُّ - سبحانه - بذاته على بعث عباده، وأمر نبيّه - صلى الله عليه وسلم - أن يقسم أيضًا بربّه على ذلك، فمن كذّب بعد ذلك فالنار أولى به، "بل كذبوا بالساعة وأعتدنا لمن كذب بالساعة سعيرا (11) إذا رأتهم من مكان بعيد سمعوا لها تغيظا وزفيرا (12) وإذا ألقوا منها مكانا ضيقا مقرنين دعوا هنالك ثبورا (13) لا تدعوا اليوم ثبورا واحدا وادعوا ثبورا كثيرا" {الفرقان: 11- 14}.
وقوله - تعالى -: "ثم لتنبؤن بما عملتم". كقوله - تعالى -: "ينبأ الإنسان يومئذ بما قدم وأخر" {القيامة: 13}، وكقوله: "فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره (7) ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره" {الزلزلة: 7، 8}.
عن صفوان بن محرز قال: كنت آخذًا بيد ابن عمر إذ عرض له رجلٌ فقال: كيف سمعت رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - يقولُ في النجوى يوم القيامة؟ قال: سمعتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقولُ: "إنّ اللهُ يدني المؤمن فيضعُ عليه كنَفَه ويسترُه من الناس، ويقرّره بذنوبه، ويقول له: أتعرفُ ذنب كذا؟ أتعرفُ ذنبَ كذا؟ أتعرفُ ذنب كذا؟ حتى إذا قرّره بذنوبه، ورأى في نفسه أنْ قد هلك، قال: فإنّي قد سترتها عليك في الدنيا، وأنا أغفرها لك اليوم، ثم يُعْطَى كتابَ حسناتِه. وأما الكفارُ والمنافقون فيقولُ الأشهاد: "هؤلاء الذين كذبوا على ربّهم، ألا لعنة الله على الظالمين". {متفق عليه}.
وقوله - تعالى -: "وذلك على الله يسير" أي: بعثكم ومجازاتكم، كما قال - تعالى -: "ما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفس واحدة" {لقمان: 28}، وقوله - تعالى -: "وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده وهو أهون عليه وله المثل الأعلى في السموات والأرض وهو العزيز الحكيم" {الروم: 27}.
ولما أخبرهم - سبحانه - أنهم مبعوثون، وبأعمالهم مجزّيون، أرشدهم إلى طريق النجاة، فقال: فآمنوا بالله ورسوله والنور الذي أنزلنا يعني القرآن.
وقد سمّى الله كتابه نورًا في أكثر مِن آية، قال - تعالى -: "يا أيها الناس قد جاءكم برهان من ربكم وأنزلنا إليكم نورا مبينا" {النساء: 174}، فبالقرآن يستضيء الحيارى في ظلمات الكفر والجهل والضلالة، قال - تعالى -: "قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين (15) يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ويهديهم إلى صراط مستقيم" {المائدة: 15، 16}.
وقوله - تعالى -: "والله بما تعملون خبير" لا تخفى عليه من أعمالكم خافية، فراقبوه، واسْتحيُوا أن يراكم حيث نهاكم.
وصلى الله على نبي الهدى والرحمة محمد - صلى الله عليه وسلم -.
( 121 ) سورة التغابن -3الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، وعلى آله وصحبه ومن والاه ، وبعد :
يقول - تعالى -: "يوم يجمعكم ليوم الجمع" وهو يوم القيامة؛ سمّي بذلك لأنه يجمع فيه الأولون والآخرون في صعيد واحد، يسمعهم الداعي وينفذهم البصر، كما قال - تعالى -: "ذلك يوم مجموع له الناس وذلك يوم مشهود" {هود: 103}، وقال - تعالى -: "قل إن الأولين والآخرين (49) لمجموعون إلى ميقات يوم معلوم" {الواقعة: 49، 50}. ا.هـ من ابن كثير.
وقوله - تعالى -: "ذلك يوم التغابن" والتغابن في الأصل: من الغبن وهو الخداع في البيع والشراء، فمن باع سلعةً بأقلّ مما تستحق، أو اشتراها بأكثرَ مما تستحق، فهو مغبون، فأراد الله أن يُعْلِمَ عباده أن الغبْن الحقيقي هو ما يكون في الآخرة، حين يَغْبِنُ أهلُ الجنة أهلَ النار، وذلك حين يأخذ المؤمن منزل الكافر في الجنة، ويعطيه منزله في النار، وتوضيح ذلك أن الله خلق لكلِّ عبد منزلين، منزلاً في الجنة، ومنزلاً في النار، فمن آمن فقد فاز بالجنة، ونجا من النار، ومن كفر فقد فاتته الجنة وفاز بالنار، فإذا كان يوم القيامة أَعطى المؤمنُ الكافرَ منزلَه في النار، وأخذ منزلَه في الجنة، وذلك هو التغابن الكبير.
وقوله - تعالى -: "ومن يؤمن بالله ويعمل صالحا يكفر عنه سيئاته ويدخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا ذلك الفوز العظيم" فيه أن النجاة إنما تكون بالإيمان والعمل الصالح، والإيمان معروف، أما العمل الصالح فلا بد أن يكون خالصًا لله، وموافقًا هدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، حتى يكون مقبولاً، فمن آمن وعمل صالحًا فإنّ الله يكفّر عنه سيئاته، فلا يُجْزَى بها، بل يُجْزَى بحسناته، كما قال - تعالى -: "والذين آمنوا وعملوا الصالحات لنكفرن عنهم سيئاتهم ولنجزينهم أحسن الذي كانوا يعملون" {العنكبوت: 7}.
وقوله - تعالى -: "والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب النار خالدين فيها وبئس المصير" واضح المعنى.
ولما كانت الدنيا دار البلاء والمحن والشدائد والمصائب، أرشد اللهُ عباده إلى ما يستعينون به على هذه المصائب وهو الإيمان بأنها بقضاء الله، فقال - تعالى -: ما أصاب من مصيبة إلا بإذن الله ومن يؤمن بالله يهد قلبه والله بكل شيء عليم كما قال - تعالى - في سورة الحديد: "ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها إن ذلك على الله يسير (22) لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم والله لا يحب كل مختال فخور" {الحديد: 22، 23}، فكلُّ شيءٍ بقضاء الله، ومن يؤمن بالله فيعلم أن ما أصابه فبقضاء الله، فيصبر ويحتسب ويستسلم لقضاء الله، ويعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه، ويعلم أن الأمّة لو اجتمعت على أن ينفعوه بشيء لم ينفعوه إلا بشيء قد كتبه الله له، ولو اجتمعوا على أن يضرّوه بشيءٍ لم يضروه إلا بشيءٍ قد كتبه الله عليه، من يؤمن بهذا يهد قلبه اللهُ - تعالى -، ويرزقْه السكينة والطمأنينة، فلا يجد حرَّ المصيبة، بل تكون على قلبه بردًا وسلامًا، فيكون أمره كله له خيرًا، كما قال - صلى الله عليه وسلم -: "عجبًا لأمر المؤمن، إن أمره كلَّه له خير، وليس ذلك لأحدٍ إلا للمؤمن، إن أصابتْه سرّاءُ شكر فكان خيرًا له، وإن أصابته ضرّاءُ صبر فكان خيرًا له". فوطِّن نفسك يا عبد الله على الرضا بقضاء الله، وإذا أصابتك مصيبة فقل: إنا لله وإنا إليه راجعون {البقرة: 156}، اللهم أجرني في مصيبتي، واخلف لي خيرًا منها. ربنا أفرغ علينا صبرا وتوفنا مسلمين {الأعراف: 126}، فإنّ الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال: "ومن يتصبّر يصبرّه الله، وما أُعطي أحدُ عطاءً خيرًا وأوسع من الصبر".
وفي قوله - تعالى -: "ومن يؤمن بالله يهد قلبه من الفوائد غير ما ذكرنا أن الإيمان من أسباب زيادة الهداية، كما قال - تعالى -: "والذين اهتدوا زادهم هدى وآتاهم تقواهم" {محمد: 17} بينما أهل الزيغ والضلال يُزيغ اللهُ قلوبهم، كما قال - تعالى -: "فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم والله لا يهدي القوم الفاسقين" {الصف: 5}.
وقوله - تعالى -: "والله بكل شيء عليم": أي: لا تخفى عليه خافيةٌ، وأنه - سبحانه - قد أحاطَ بكل شيء علمًا، كما قال - تعالى -: "وما تكون في شأن وما تتلو منه من قرآن ولا تعملون من عمل إلا كنا عليكم شهودا إذ تفيضون فيه وما يعزب عن ربك من مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين" {يونس: 61}، والآيات في ذلك كثيرة.
وقوله - تعالى -: "وأطيعوا الله والرسول" فإن الفوز والنجاة في طاعة الله ورسوله، فإن توليتم فإنما على رسولنا البلاغ المبين يعني: وقد أداه، فليس عليه من أوزاركم شيء.
وصلى الله على نبي الهدى والرحمة محمد - صلى الله عليه وسلم -.
( 122 ) سورة التغابن -4
الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، وعلى آله وصحبه ومن والاه ، وبعد :
الله لا إله إلا هو وعلى الله فليتوكل المؤمنون (13) يا أيها الذين آمنوا إن من أزواجكم وأولادكم عدوا لكم فاحذروهم وإن تعفوا وتصفحوا وتغفروا فإن الله غفور رحيم (14) إنما أموالكم وأولادكم فتنة والله عنده أجر عظيم (15)
تفسير الآيات:
قوله - تعالى -: الله لا إله إلا هو خبرٌ متضمن الأمر بالتوحيد، ومعنى الله لا إله إلا هو أي: لا معبود بحق إلا الله: وعلى الله فليتوكل المؤمنون، ومن يتوكل على الله فهو حسبه {الطلاق: 3}، وعن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "من قال- يعني إذا خرج من بيته-: بسم الله، توكلتُ على الله، ولا حولَ ولا قوة إلا بالله، يقال له: هُديت وكُفيت ووُقيت، وتنحيّ عنه الشيطان، فيقول شيطان آخر: كيف لك برجل قد هُدي وكُفي ووُقي": ربنا عليك توكلنا وإليك أنبنا وإليك المصير (4) ربنا لا تجعلنا فتنة للذين كفروا واغفر لنا ربنا إنك أنت العزيز الحكيم {الممتحنة: 4} آمين.
يا أيها الذين آمنوا إن من أزواجكم وأولادكم عدوا لكم فاحذروهم، فليس كل الأولاد والأزواج أعداء، ولكن منهم أعداء، فخذوا حذركم، لا يشغلوكم عن ذكر الله، ولا يحضوكم على معصيته، كما قال - تعالى -: يا أيها الذين آمنوا لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله ومن يفعل ذلك فأولئك هم الخاسرون {المنافقون: 9}. ولما أمر الله بالحذر من الأزواج والأولاد أرشد إلى العفْو والصفح لما يكون منهم من زلات، فقال: وإن تعفوا وتصفحوا وتغفروا فإن الله غفور رحيم.
عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أن رجلاً سأله عن هذه الآية، فقال: هؤلاء رجال أسلموا من مكة فأرادوا أن يأتوا رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -، فأبى أزواجهم وأولادهم أن يَدَعَوهُم، فلما أَتَوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رأوا الناس قد فقهوا في الدين، فهموا أن يعاقبوهم، فأنزل الله - تعالى - هذه الآية: وإن تعفوا وتصفحوا وتغفروا فإن الله غفور رحيم.
ثم كرر الله - تعالى - التحذير فقال: إنما أموالكم وأولادكم فتنة أي: اختبار من الله - تعالى - وابتلاء لخلقه: ليبلوكم أيكم أحسن عملا وليعلم من يطيعه ومن يعصيه.
عن عبد الله بن بريدة قال: سمعت أبي بريدة يقول: كان رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - يخطب فجاء الحسنُ والحسين - رضي الله عنهما - عليهما قميصان أحمرانِ يمشيان ويعثران، فنزل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من المنبر فحملهما فوضعهما بين يديه ثم قال: "صدق الله ورسوله، إنما أموالكم وأولادكم فتنة، نظرتُ إلى هذين الصبيين يمشيان ويعثران، فلم أصبرْ حتى قطعتُ حديثي ورفعتُهما".
وختام الآية: والله عنده أجر عظيم يُشعر بأن ما عند الله من الأجر والثواب خيرٌ من الأموال والأولاد، كما قال - تعالى -: المال والبنون زينة الحياة الدنيا والباقيات الصالحات خير عند ربك ثوابا وخير أملا {الكهف: 46}، وكما قال - تعالى -: زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث ذلك متاع الحياة الدنيا والله عنده حسن المآب، ثم قال - تعالى -: قل أؤنبئكم بخير من ذلكم للذين اتقوا عند ربهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وأزواج مطهرة ورضوان من الله والله بصير بالعباد.
وصلى الله على نبي الهدى والرحمة محمد - صلى الله عليه وسلم -.
( 123 ) سورة التغابن -5
الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، وعلى آله وصحبه ومن والاه ، وبعد :
يقول تعالى (فاتقوا الله ما استطعتم واسمعوا وأطيعوا وأنفقوا خيرا لأنفسكم ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون (16) إن تقرضوا الله قرضا حسنا يضاعفه لكم ويغفر لكم والله شكور حليم (17) عالم الغيب والشهادة العزيز الحكيم {التغابن: 13- 18}.
وقوله - تعالى -: فاتقوا الله ما استطعتم أي: جهدكم وطاقتكم، كما قال - صلى الله عليه وسلم -: "إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم وإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه". وقد قال بعض المفسرين: إن هذه الآية ناسخةٌ للتي في "آل عمران"، وهي قوله - تعالى -: يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته، والراجح أنها ليست ناسخةً، ولكنها مفسرة، فمن اتقى الله قدر جُهده وطاقته فقد اتقى الله حق تقاته، وهكذا تختلف التقوى مِن واحدٍ لآخر، حسب جهدِ كلٍّ وطاقته. وقد قال ابن مسعود رضي الله عنه في حقّ التقوى: أن يُطاع فلا يُعصى، وأن يُذكر فلا يُنسى، وأن يُشكر فلا يُكفر، وقوله - تعالى -: واسمعوا وأطيعوا أي: كونوا منقادين لما يأمركم به الله ورسوله، اسمعوا وعوا واعملوا، وكونوا كما وصف الله عباده المؤمنين: والذين إذا ذكروا بآيات ربهم لم يخروا عليها صما وعميانا، كونوا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، إن الخطب كثيرة، والمواعظ كثيرة، والدروس كثيرة، ولكن العمل قليل، والسببُ أن كثيرًا من الناس يسمعون للثقافة، يسمعون للتسلية، وليست عندهم نية العمل، والواجب على من يسمع أن يعمل، وإلا كان ما يسمعه من العلم حجةً عليه.
فاتقوا الله ما استطعتم واسمعوا وأطيعوا وأنفقوا خيرا لأنفسكم أي: وابذلوا مما رزقكم الله على الفقراء والمساكين، وأحسنوا إلى خلق الله كما أحسن الله إليكم، والله يعدكم مغفرة منه وفضلا إن أنتم أنفقتم، ف أنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة، ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون. إن الشح داءٌ خطير، وشرٌّ مستطير، لا يجتمع والإيمان في قلب عبد أبدًا، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لا يجتمع غبارٌ في سبيل الله ودخانُ جهنم في جوف عبد أبدًا، ولا يجتمع الشح والإيمان في قلب عبد أبدًا". ولقد كان - صلى الله عليه وسلم - يحذر أمته من الشح فيقول: "اتقوا الظلم فإن الظلم ظلماتٌ يوم القيامة، واتقوا الشح فإنه أهلك من كان قبلكم، حملهم على أن سفكوا دماءهم واستحلوا محارمهم".
لهذا كله قال - تعالى -: ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون ولذا كان السلف حريصين على السلامة من الشح، حتى قال أبو الهياج الأسدي: كنت أطوف بالبيت، فرأيت رجلاً يقول: اللهم قني شحّ نفسي، لا يزيد على ذلك، فقلتُ له، فقال: إني إذا وُقِيتُ شح نفسي لم أسرق ولم أزْن ولم أفعل. وإذا الرجل عبد الرحمن بن عوف. نسأل الله أن يقينا شح أنفسنا.
ثم تعود الآيات فتحثّ على الإنفاق في سبيل الله بطريقة أخرى، فتسمي الإنفاق قرضًا، وتعد بتضعيفه، فتقول: إن تقرضوا الله قرضا حسنا يضاعفه لكم أضعافًا كثيرة، بينتها آية البقرة، وهي قوله - تعالى -: مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة والله يضاعف لمن يشاء والله واسع عليم، ففي تسمية الله الإنفاق قرضًا حث للعباد على الإنفاق، وترغيب لهم فيه، فإن هذا المال الذي ينفقونه قرضٌ مردود بخلاف الصدقة، والذي يعد بالوفاء الله - سبحانه -، ومن أوفى بعهده من الله. وفي الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "ينزل الله في السماء الدنيا لشطر الليل، أو لثلث الليل الآخر، فيقول: من يدعوني فاستجيب له، أو يسألني فأعطيه، ثم يقول: من يُقْرض غير عديم أو ظلوم". ومع الوعد بالتضعيف وعد آخر، وهو يغفر لكم ذنوبكم، ويكفر عنكم سيئاتكم، والله شكور، يجزي على القليل بالكثير، وهو - سبحانه - "حليم" يعفو ويغفر، ويتجاوز ويستر، ويمهل ولا يعجل، كما قال وربك الغفور ذو الرحمة لو يؤاخذهم بما كسبوا لعجل لهم العذاب بل لهم موعد.
والحمد لله رب العالمين. وصلى الله على نبي الهدى والرحمة محمد - صلى الله عليه وسلم -.
( 124 ) سورة الحاقة -1
الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، وعلى آله وصحبه ومن والاه ، وبعد :يقول - تعالى -: "فإذا نفخ في الصور نفخة واحدة (13) وحملت الأرض والجبال فدكتا دكة واحدة (14) فيومئذ وقعت الواقعة (15) وانشقت السماء فهي يومئذ واهية (16) والملك على أرجائها ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية (17) يومئذ تعرضون لا تخفى منكم خافية (18) فأما من أوتي كتابه بيمينه فيقول هاؤم اقرءوا كتابيه (19) إني ظننت أني ملاق حسابيه (20) فهو في عيشة راضية (21) في جنة عالية (22) قطوفها دانية (23) كلوا واشربوا هنيئا بما أسلفتم في الأيام الخالية (24) وأما من أوتي كتابه بشماله فيقول يا ليتني لم أوت كتابيه (25) ولم أدر ما حسابيه (26) يا ليتها كانت القاضية (27) ما أغنى عني ماليه (28) هلك عني سلطانيه (29) خذوه فغلوه (30) ثم الجحيم صلوه (31) ثم في سلسلة ذرعها سبعون ذراعا فاسلكوه (32)" {الحاقة: 13- 33}.
يقول - تعالى - مخبرًا عن أهوال يوم القيامة: فإذا نفخ في الصور نفخة واحدة، الصور خَلْقٌ عظيمٌ مثلُ البوق، وقد ذُكِرَ في القرآن الكريم، وثبت في السنة أن الله قد وكل به ملكًا من الملائكة المقربين وهو إسرافيل - عليه السلام -، وأخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قد أخذ أهبة الاستعداد للنفخ، فقال - صلى الله عليه وسلم -: "كيف أنعم وقد التقم صاحبُ القرْن القرنَ، وحنا جبهته، وأصغى سمعه، ينتظر أن يُؤمَرَ فينفخ؟ " فكأنّ ذلك ثَقُلَ على أصحابه، فقالوا: فكيف نفعلُ يا رسول الله أو نقول؟ قال: "قولوا: حسبنا الله ونعم الوكيل، على الله توكلنا". {صحيح. رواه الترمذي: 2548-42-4}.
والنفخ مرتان: نفخة الإماتة، ونفخة الإحياء، قال - تعالى -: "ونفخ في الصور فصعق من في السموات ومن في الأرض إلا من شاء الله ثم نفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون" {الزمر}، وبين النفختين أربعون، كما في الحديث عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "ما بين النفختين أربعون" قيل أربعون يومًا؟ قال أبو هريرة: أَبَيْت. قالوا: أربعون شهرًا؟ قال: "أبيت. قالوا: أربعون سنة؟ قال: أبيت". {متفق عليه}.
فإذا نفخ في الصور نفخة واحدة وهي نفخة الفزع والإماتة حصل بها تغير عظيمٌ في الكون كله، وحملت الأرض والجبال فدكتا دكة واحدة (14) فيومئذ وقعت الواقعة أي: قامت القيامة، والواقعة ثالث اسمٍ من الأسماء التي أطلقت على يوم القيامة في هذه السورة، فقد سبق تسميته بالحاقة والقارعة، ثم أطلق عليه هنا الواقعة لتحقّق كونه ووجوده، وانشقت السماء بسبب النفخ فهي يومئذ واهية أي ضعيفة بعد شدّتها، كما قال - تعالى -: فكيف تتقون إن كفرتم يوما يجعل الولدان شيبا (17) السماء منفطر به كان وعده مفعولا {المزمل: 17، 18}، فإذا السماء انفطرت وانشقت، بسبب هذه النفخة، فكيف بكم أنتم معشر الناس؟!
وقوله - تعالى -: "والملك على أرجائها" يعني: إذا انشقت السماء قامت الملائكة على حافاتها، يردّون الشارد، ويدفعون الهارب، ويحمل عرش ربك فوقهم يومئذ ثمانية من الملائكة، وقد حدّث النبي - صلى الله عليه وسلم - عن عظمة خلقهم فقال: "أُذِن لي أن أحدّث عن ملك من حملة العرش أن ما بين شحمة أذنه إلى عاتقه مسيرة سبعمائة عام". {صحيح. رواه أبو داود: 4701، 36-13}. وقوله - تعالى -: "يومئذ تعرضون لا تخفى منكم خافية" أي: تعرضون على الملك الكبير المتعال، كما قال - تعالى -: "وعرضوا على ربك صفا" {الكهف: 48}، "لا تخفى منكم خافية"، فالكل مكشوفٌ، مكشوفُ الجسد، وتسقط جميع الأستار التي كانت تحجبُ الأسرار، وتتعرّى النفوس وتُعَرَّى الأجساد، وتبرز الغيوب بروز الشهود، ويتجرد الإنسان من حَيْطته ومن مكره ومن تدبيره ومن شعوره، ويفتضح منه ما كان حريصًا أن يستره حتى عن نفسه، وما أقسى الفضيحة على الملأ وما أخزاها على عيون الجموع! أما عين الله فكلّ خافية مكشوفةٌ لها في كلّ آن، ولكن لعل الإنسان لا يشعر بهذا حقّ الشعور، وهو مخدوع بستور الأرض، فها هو ذا يشعر به كاملاً وهو مجرد في يوم القيامة، وكل شيء بارز في الكون كله، الأرض مدكوكةٌ مسوّاة لا تحجب شيئًا وراء نتوءٍ ولا بروز، والسماء متشققة واهية لا تحجب وراءها شيئًا، والأجسام معرّاة لا يسترها شيء، والنفوس كذلك مكشوفة ليس من دونها ستر، وليس فيها سر.
فاللهم استرنا بسترك "يوم تبلى السرائر" {الطارق: 9}، فإذا عُرِض العبادُ على الله - سبحانه - كانوا فريقين: "فريق في الجنة وفريق في السعير" {الشورى: 7}،
وصلى الله على نبي الهدى والرحمة محمد - صلى الله عليه وسلم -.
( 125 ) الحاقة -2
الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، وعلى آله وصحبه ومن والاه ، وبعد :يقول تعالى "فأما من أوتي كتابه بيمينه فيقول هاؤم اقرءوا كتابيه" (19) "إني ظننت أني ملاق حسابيه (20) فهو في عيشة راضية (21) في جنة عالية (22) قطوفها دانية (23) كلوا واشربوا هنيئا بما أسلفتم في الأيام الخالية"، والمراد بالكتاب كتاب الأعمال، ولكلِّ عبدٍ كتاب، كما قال - تعالى -: "وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه ونخرج له يوم القيامة كتابا يلقاه منشورا، اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا" {الإسراء: 13، 14}، فلكلّ عبدٍ كتاب، فإذا حُشر العبادُ تطايرت هذه الكتب حتى يقع كلّ كتابٍ في يد صاحبه، فمنهم الآخذ بيمينه، وذلك الناجي، ومنهم من تُطْوَى شمالُه وراءَ ظهره فيأخذ بها، وذلك الشقي الهالك، فأما من أوتي كتابه بيمينه فيقول لكلّ مَنْ لقيه: هاؤم اقرءوا كتابيه، وذلك لاعتقاده أنه ليس فيه ما يسوؤه، إني ظننت أني ملاق حسابيه أي كنتُ على يقين أنني محاسبٌ بعملي ومَجزيٌّ به، فاتقيت المحارم، واجتهدت في طاعة الله، فالظنّ هنا بمعنى اليقين، لأن الظنّ الذي هو بمعنى الشك لا يسمن ولا يغني من جوع، قال - تعالى -: "فهو في عيشة راضية" أي مرضية في جنة عالية أي رفيعةٌ قصورُها، حسانُ صورها، نعيمةٌ دورُها، دائمٌ حبورُها، قطوفها دانية كما قال - تعالى -: "متكئين على فرش بطائنها من إستبرق وجنى الجنتين دان" {الرحمن: 54}، وقال - تعالى -: "ودانية عليهم ظلالها وذللت قطوفها تذليلا" {الإنسان: 14}، ومع هذا النعيم الحسّي فالملائكة يدخلون عليهم من كل باب يقولون لهم: "كلوا واشربوا هنيئا بما أسلفتم في الأيام الخالية" بمعنى "إن هذا كان لكم جزاء وكان سعيكم مشكورا" {الإنسان: 22}، والمراد بالأيام الخالية يعني الماضية، وهي أيام الدنيا، وهكذا يحدّثنا الله عن الدنيا ونحن مازلنا فيها، يحدثنا عنها بلفظ الماضي لأن زوالها قريب، وهو متحقق، فهو يحدثنا عنها وكأنها قد زالت فعلاً، وكأن أهل الجنة قد تبوأوا منازلهم فيها، وكأن أهل النار
قد تبوأوا منازلهم فيها، حتى لا يطول بالإنسان أملٌ، فيقعده عن خير العمل. وقد أخرج البيهقي عن نافع قال: خرج ابنُ عمر في بعض نواحي المدينة ومعه أصحابٌ له، ووضعوا سُفرةً لهم، فمرّ بهم راعي غنم، فسلم فقال ابن عمر: هلم يا راعي، هلم فأَصِبْ من هذه السُفرة، فقال له: إني صائم، فقال ابن عمر: أتصومُ في مثل هذا اليوم الحارّ الشديد سَمُومه، وأنت في هذه الجبال ترعى هذه الغنم؟ فقال له: إنّي والله أبادرُ أيامي الخالية. فقال له ابن عمر- وهو يريدُ أن يختبر ورعه-: فهل لك أن تبيعنا شاةً من غنمك هذه فنعطيك ثمنها ونعطيك من لحمها فتفطر عليها؟ فقال: إنها ليست لي بغنم، إنها غنم سيدي. فقال له ابن عمر: فما عسى سيّدك فاعلاً إذا فقدها فقلت أكلها الذئب؟ فولّى الراعي عنه، وهو رافعٌ إصبعه إلى السماء، وهو يقول: فأين الله؟ قال: فجعل ابن عمر يردد قول الراعي، وهو يقول: قال الراعي: فأين الله؟ فلما قدم المدينة بعث إلى مولاه فاشترى منه الغنم والراعي، فأعتق الراعي ووهب منه العلم.
فيا عباد الله، حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوا أنفسكم قبل أن توزنوا، فإنه أخفّ عليكم في الحساب غدًا أن تحاسبوا أنفسكم اليوم، وتزينوا للعرض الأكبر يومئذ تعرضون لا تخفى منكم خافية.
عن صفوان بن محرز قال: كنتُ آخذًا بيد ابن عمرَ إذ عرض له رجلٌ فقال: كيف سمعت رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - يقول في النجوى يوم القيامة؟ قال: سمعت رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - يقول: "إن الله يُدْني المؤمنَ فيضعُ عليه كنفَه ويسترُه من الناس ويقرِّره بذنوبه، ويقول له: أتعرفَ ذنب كذا؟ أتعرفُ ذنب كذا؟ أتعرفُ ذنب كذا؟ حتى إذا قرّره بذنوبه ورأى في نفسه أن قد هلك قال: سترتها عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم، ثم يُعطى كتاب حسناته، وأما الكفار والمنافقون فيقول الأشهاد هؤلاء الذين كذبوا على ربهم، ألا لعنة الله على الظالمين". وصلى الله على نبي الهدى والرحمة محمد - صلى الله عليه وسلم -.
( 126 ) الحاقة -3
الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، وعلى آله وصحبه ومن والاه ، وبعد :
"وأما من أوتي كتابه بشماله فيقول يا ليتني لم أوت كتابيه (25) ولم أدر ما حسابيه، فما كان يظن يومًا أنه محاسب بأعماله، كما قال - تعالى -: وأما من أوتي كتابه وراء ظهره (10) فسوف يدعو ثبورا (11) ويصلى سعيرا (12) إنه كان في أهله مسرورا (13)" إنه ظن أن لن يحور أي: كان يعتقد أنه لا يرجع إلى الله ولا يعيده بعد موته، فلما رأى ما لم يحسب حسابه لم يجد إلا أن يتمنى الموت بعد أن كان الموت أكره إليه من كل شيء، فقال: يا ليتها كانت القاضية التي تنهي وجوده أصلاً فلا يعود بعدها شيئًا، ثم تحسّر على عدم انتفاعه بماله ولا جاهه، فقال: ما أغنى عني ماليه (28) هلك عني سلطانيه، وهذه حقيقة طالما ذكّر بها القرآن الأثرياء والوجهاء، ولكنهم نسوها أو تناسوها، قال - تعالى -: "إن الذين كفروا لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئاً وأولئك هم وقود النار" {آل عمران: 10}، وقال - تعالى -: "وأما من بخل واستغنى (8) وكذب بالحسنى (9) فسنيسره للعسرى (10) وما يغني عنه ماله إذا تردى {الليل: 18- 19}.
وقال - تعالى -: "وما أموالكم ولا أولادكم بالتي تقربكم عندنا زلفى إلا من آمن وعمل صالحا فأولئك لهم جزاء الضعف بما عملوا وهم في الغرفات آمنون" {سبأ: 37}.
ومِن دعاء الخليل إبراهيم - عليه السلام -: "ولا تخزني يوم يبعثون (87) يوم لا ينفع مال ولا بنون (88) إلا من أتى الله بقلب سليم" {الشعراء: 87- 89}.
وأما قوله: "هلك عني سلطانيه" فقد يُراد بالسلطان الجاه، فيكون تحسُّرًا على عدم انتفاعه بجاهه في هذا اليوم العصيب، وهذه أيضًا حقيقة طالما نبه عليها رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -، فلقد كان يهلل بعد الصلاة بهذه الكلمات: "لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، اللهم لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد". {متفق عليه}.
والجدّ هو الحظّ والغنى والعظمة والسلطان، أي: لا ينفع ذا الحظّ في الدنيا بالمال والولد والعظمة والسلطان منك حظّه، أي: لا ينجيه حظّه منك، وإنما ينفعه وينجيه العمل الصالح.
وقد يرادُ بالسلطان الحجةُ والبرهان فيكون المعنى: هلك عني سلطانيه أي: بطلت حجتي، وضاع برهاني، وثبت خطئي، كما قال - تعالى -: "والذين يحاجون في الله من بعد ما استجيب له حجتهم داحضة عند ربهم وعليهم غضب ولهم عذاب شديد"، وبينما تنطلق منه هذه الحسرات في أسى وحزن إذ قرع سمعَه صوتُ الجبار - سبحانه - وهو يقول لملائكته: "خذوه فغلوه (30) ثم الجحيم صلوه (31) ثم في سلسلة ذرعها سبعون ذراعا فاسلكوه"، وما إن يقول الجبّار خذوه حتى يبتدره سبعون ألف ملك، الملك منهم يقول هكذا فيلقى سبعين ألفًا في النار، فيجعلون الأغلال في عنقه، ثم يسلكونه في سلسلةٍ ذرعها سبعون ذراعًا- وكان ذراعٌ واحدٌ يكفيه- فتسلك في دبره حتى تخرج من منخريه، حتى لا يقوم على رجليه، أجارنا الله وإخواننا المسلمين. وصلى الله على نبي الهدى والرحمة محمد - صلى الله عليه وسلم -.
(
127 ) سورة القلم -1
الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، وعلى آله وصحبه ومن والاه ، وبعد :
يقول تعالى "ن والقلم وما يسطرون (1) ما أنت بنعمة ربك بمجنون (2) وإن لك لأجرا غير ممنون (3) وإنك لعلى خلق عظيم (4) فستبصر ويبصرون (5) بأيكم المفتون (6) إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين (7)
سورةٌ مكيّة، شأنُها شأنُ السّور المكيّة، في الاهتمام ببيان أصول الدين وأركان الإيمان، التي أهمّها التوحيد والرسالة والبعث. لكنّ محورَ السورة وموضوعَها الرئيسيَّ هو الرسالةُ والرسول وموقف المشركين منهما.
استفتحت السورة بالقسَم من الربّ - عز وجل - على براءة نبيّه - صلى الله عليه وسلم - مما اتّهمه المشركون بقولهم شاعرٌ مجنون. ثم أثنى اللهُ على نبيّه لأخلاقه الحميدة وشهد له أنه بلغ أعلى درجات الأخلاق. ثم نهاه عن الاستجابة للمشركين فيما يدعونه إليه من أنصاف الحلول: ودوا لو تدهن فيدهنون.
ولقد كانت بعثةَ النبي - صلى الله عليه وسلم - نعمةً على قومه فكفروا بها، فضرب الله لهم مثلا بأصحاب الجنّة، وخوّفهم عاقبةَ الكفر والطغيان. ثم نفى التسويةَ بين المؤمنين والكافرين، وذكر شيئًا من أهوال اليوم الآخر، التي يظهر فيها الفرْقُ بين المؤمنين والكافرين جليّا.
وخُتمت السورة بأمرِ النبيّ - صلى الله عليه وسلم - بالصبر، وحذّرته من أن ينفد صبره فيكون كصاحب الحوت إذ نادى وهو مكظوم *لولا أن تداركه نعمة من ربه لنبذ بالعراء وهو مذموم *فاجتباه ربه فجعله من الصالحين.
(ن) هذا حرف من الحروف الأبجدية المعروفة، وقد اختلف المفسرون في سرّ استفتاح الله - تعالى - بعض سور القرآن الكريم بمثل هذا الحرف، والراجح والله أعلم بأسرار كلامه أن الله - عز وجل - أراد أن يبطل زعمهم أن القرآن كلام محمد - صلى الله عليه وسلم - افتراه من عند نفسه، فقال لهم: إن القرآن مؤلف من هذه الحروف (ن)، (ق)، (ص)، (حم)، (طس) ونحوها وهي نفسها التي يتألف منها كلامكم، ومحمد واحد منكم، ولغته لغتكم، فإن كان افتراه فليأتوا بحديث مثله إن كانوا صادقين {الطور: 34}، فإن عجزوا فمحمد أعجز منهم، فليعلموا أنه كلام الله رب العالمين نزل به الروح الأمين، على قلب محمد ليكون من المنذرين.
قال - تعالى -: وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله وادعوا شهداءكم من دون الله إن كنتم صادقين (23) فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة أعدت للكافرين {البقرة: 24}.
قوله - تعالى -: والقلم وما يسطرون (1) ما أنت بنعمة ربك بمجنون. هذا قَسَمٌ من الله - تعالى - بالقلم وبالكتابة. والله - سبحانه - يُقْسِمُ ببعض مخلوقاته إشارةً إلى عظمتها ومكانتها، فهذا القَسَمُ فيه إشارةٌ إلى الاهتمام بالكتابة التي هي أساسُ التعليم، لأنَّ هذا الدينَ الإسلام يقومُ على أساسٍ من العلم، ولذا كانت أول آياتِ القرآن نزولا: اقرأ باسم ربك الذي خلق *خلق الإنسان من علق *اقرأ وربك الأكرم *الذي علم بالقلم *علم الإنسان ما لم يعلم {العلق: 51}.
وقد كثرت الآياتُ والأحاديث في الحث على طلب العلم، وبيان فضلِه وشرفِه، وشرفِ حملته. وسبق في سورة المجادلة طرفٌ من ذلك.
وجواب القسم ما أنت بنعمة ربك بمجنون والمراد بالنعمة النّبوّة، وهي فضلُ الله يؤتيه من يشاء، و الله أعلم حيث يجعل رسالته {الأنعام: 124}، وما كان الله يبعث في الناس مجنونًا. والعجيبَ أنّ القومَ حين قالوا ما قالوا كانوا يعلمون كَذِبَ أنفسهم، إذ كيف يكونُ مجنونًا من كانوا يحكّمونه بينهم؟! وكيف يكون مجنونًا من لقبّوه دون عظمائهم بالصادق الأمين؟! ولكنّه البغي، والحسد، ولذا قال - تعالى - لنبيّه: قد نعلم إنه ليحزنك الذي يقولون فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون {الأنعام: 33} وفي قولهم هذا، وشهادة اللهِ لرسولِه - صلى الله عليه وسلم - بالبراءة منه، عزاءُ لكلّ مَنْ يُقالُ فيه من الدعاة ما ليس فيه، فليوّطنْ الدّعاةُ أنفسُهم على الصبر، وأن يحتسبوا الأجرَ عند الله على أيِّ أذًى يلحقهم بسبب الدعوة، فإنها سُنّةٌ مطّردَةٌ في الدعاة، ولذا قال لقمانُ لابنِه وهو يعظُه: يا بني أقم الصلاة وأمر بالمعروف وانه عن المنكر واصبر على ما أصابك إن ذلك من عزم الأمور {لقمان: 17}. وصلى الله على نبي الهدى والرحمة محمد - صلى الله عليه وسلم -.
( 128) سورة القلم -2
الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، وعلى آله وصحبه ومن والاه ، وبعد :يقول - تعالى -: وإن لك لأجرا غير ممنون أي إنّ لك أجرًا دائمًا مستمرا لا ينقطع، على صبرك عليهم، وتبليغك رسالة ربك إليهم، مع تكذيبهم لك، وإعراضهم عنك. وإنك لعلى خلق عظيم وإنها لشهادةٌ عظيمةٌ من العليّ العظيم، لنبيّه العظيم، بعظمةِ أخلاقه، فلئن جاز لحملةِ الشهادات أن يعلّقوها على الجدران، فإن هذه الشهادة تستحقّ أن تكتب بسبائك الذهب وتعلق على جدران الفضة، لأنها من الله وكفى بالله شهيدا {النساء: 166}. عن سعيد بن هشام قال: سألت عائشة فقلت: أخبريني يا أمّ المؤمنين عن خُلُقِ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -. فقالت: أتقرأ القرآنَ؟ فقلت: نعم. فقالت: كان خُلُقُه القرآن. {صحيح،
ومعنى هذا أنه - عليه الصلاة والسلام - صار امتثالُ القرآن أمرًا ونهيا سجيةً له، وخُلُقًا تطبّعه وترك طَبْعَه الجبلّي، فمهما أمره القرآنُ فعله، ومهما نهاه عنه تركه، هذا مع ما جَبَله الله عليه من الخلق العظيم، من الحياء والكرم والشجاعة والصفح والحلم وكلِّ خُلُقٍ جميل، كما ثبت عن أنس قال خدمت رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - عَشْرَ سنين، فما قال لي أُفٍّ قط، ولا قال لشيءٍ فعلتُه: لم فعلته، ولا لشيءٍ لم أفعلْه ألا فعلتَه؟ وكان - صلى الله عليه وسلم - أحسنَ الناس خُلُقًا، ولا مسستُ خزا ولا حريرًا ولا شيئًا كان ألينَ مِنْ كفّ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، ولا شممتُ مِسْكًا ولا عِطْرًا كان أطيبَ مِنْ عَرَقِ رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -. {حسن صحيح،
والأحاديث في هذا كثيرة. ولأبي عيسى الترمذي في هذا كتاب الشمائل.
ولقد كان - صلى الله عليه وسلم - يحثُّ على مكارم الأخلاق ويرغب فيها، فكان يقول: "أكملُ المؤمنين إيمانًا أحسنهم خُلُقًا، وخيارُكم خيارُكم لنسائهم. {حسن صحيح )
وكان يقول: "إن المؤمن ليدركُ بحسن خُلُقِه درجة الصائم القائم". {صحيح، رواه: د(4777-154-13)}وكان - صلى الله عليه وسلم - يقول: "ما مِنْ شيءٍ أثقل في ميزان المؤمن يوم القيامة من حُسْنِ الخُلُق، وإن الله يُبغض الفاحش البذيء{صحيح،
وهو الذي يتكلم بالفحش ورديء الأخلاق. فعليك يا عبد الله بحسن الخلق، وإياك وسوء الخلق، واعلم أنه لا يهدي لأحسن الأخلاق إلا الله، ولا يصرف شيئًا إلا هو، ففر إلى الله بالدعاء الدائم وقُلْ: اللّهمّ كما حسّنَتَ خَلْقي حسّن خُلُقي.
وبعد هذا الثناء الكريم على عبده يطمئنُه إلى غده مع المشركين الذين رموه بذلك البهتُ اللئيم، ويهدّدهم بافتضاح أمرهم وانكشافِ بطلانهم وضلالهم المبين، فيقول: فستبصر ويبصرون *بأيكم المفتون أي: فستعلم يا نبينا ويعلم مخالفوك ومكذّبوك مَنِ الضَّالُّ أنت أم هم؟ لقد قال قومُ ثمود من قبل لنبيهم صالح: بل هو كذاب أشر {القمر: 25}، فقال - تعالى -: سيعلمون غدا من الكذاب الأشر {القمر: 26} هم أم صالح؟. وها هم المشركون يقولون للنبي - صلى الله عليه وسلم - شاعرٌ مجنون؟ أتواصوا به بل هم قوم طاغون {الذاريات: 53}، والله - تعالى - يتوعدهم بالفضيحة على رءوسِ الأشهاد يوم القيامة، فيقول لنبيّه - صلى الله عليه وسلم -: فستبصر ويبصرون *بأيكم المفتون "وهذا الوعد من الله يشير إلى أن الغد سيكشفُ عن حقيقة النبي وحقيقة مكذبيه، ويثبت أيّهم الممتحن بما هو فيه، أو أيّهم الضال فيما يدعيه. ويطمئنه إلى أن ربه هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين وربه هو الذي أوحى إليه، فهو يعلم أنه المهتدي ومن معه، وفي هذا ما يطمئنه وما يقلق أعداءه، وما يبعث في قلوبهم التوجّس والقلق لما سيجئ".
وصلى الله على نبي الهدى والرحمة محمد - صلى الله عليه وسلم -.
( 129 ) سورة القلم -3
الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، وعلى آله وصحبه ومن والاه ، وبعد :
وقوله - تعالى -: ولا تطع كل حلاف مهين وكثرةُ الحلف عنوانُ الكذب، فلا يلجأ إلى كثرة الحلف إلا الكذّاب، أما الصادق فلا يلجأ إلى الحلق أبدا، ولاسيما إذا رُفع ذكرُه، وعُرفَ بين الناس بصدقه. والكذّاب يكذّب نفسّه قبل أن يكذّبه غيرُه، فيلجأ إلى الأَيمان الكاذبة ليصدّقه الناس، وهو يعلم أنّه كاذب. وقد وصف الله كل حلاف بأنه مهين، أي حقير ذليل، قال الحسن: كلّ حلاف مكابر مهين ضعيف. "والمهانة صفةٌ نفسية لا تفارق النفس الكريمة ولو تجردت من كل أعراض الحياة الدنيا". وقوله - تعالى -: هماز أي يهمز الناس ويعيبهم، وقد توعده الله - سبحانه - بالحُطمة، فقال: ويل لكل همزة لمزة *الذي جمع مالا وعدده *يحسب أن ماله أخلده *كلا لينبذن في الحطمة *وما أدراك ما الحطمة *نار الله الموقدة *التي تطلع على الأفئدة *إنها عليهم مؤصدة *في عمد ممددة {الهمزة: 1-9}. والهمز واللمز خُلُقٌ ذميم، نهى الله - تعالى - عنه فقال: يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيرا منهم ولا نساء من نساء عسى أن يكن خيرا منهن ولا تلمزوا أنفسكم ولا تنابزوا بالألقاب بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان ومن لم يتب فأولئك هم الظالمون {الحجرات: 11}.
وأما قوله - تعالى -: مشاء بنميم فهو الذي يمشي بين الناس، ويحرّش بينهم وينقل كلام الناس ليوقع بينهم، وهذا من شر الناس عند الله يوم القيامة، كما جاء في الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "ألا أنبئكم بشراركم؟ المشّاءون بالنميمة، المفرقون بين الأحبّة، الباغون للبرءاء العنت". وأخبر - صلى الله عليه وسلم - أن النميمةَ من الأسباب الموجبة لعذاب القبر، ففي الصحيحين عن ابن عباس قال: مرّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقبرين فقال: "إنّهما يعذبان، وما يعذّبان في كبير، أما أحدهما فكان لا يستتر من البول، وأما الآخر فكان يمشي بالنميمة". {متفق عليه،
كما أخبر - صلى الله عليه وسلم - أن الذي يمشي بالنميمة لا يدخل الجنة، فقال: "لا يدخل الجنة قتّات".
{متفق عليه، )
وقوله - تعالى -: مناع للخير أي يمنع الخير عن نفسه وعن غيره، لقد منع عن نفسه الإيمان وهو جماع الخير، كما منعه عن غيره، بالصدّ عنه والنهي عنه. والمنَّاع للخير من أهل جهنم، كما يقول الله - تعالى - لملائكته يوم القيامة: ألقيا في جهنم كل كفار عنيد *مناع للخير معتد مريب *الذي جعل مع الله إلها آخر فألقياه في العذاب الشديد {ق: 24-26}. وهو مع منعه الخير عن الناس معتد أثيم فلم يسلم الناس من شرّه وأذاه، حين منعهم خيره، بل جمع بين الشرين: فمنع عنهم الخير وأوصل إليهم الضرر والأذى. وقوله - تعالى -: عتل وهو الفظّ الغليظ، الصحيح، الجموع، المنوع، وهذه صفة أهل النار والعياذ بالله، كما قال - صلى الله عليه وسلم -: "ألا أنبّئكم بأهل الجنة: كلُّ ضعيف متضعف لو أقسم على الله لأبره. ألا أنبئكم بأهل النار: كل عُتُلٍّ جَوّاظٍ مستكبر". {متفق عليه،
وقوله - تعالى -: بعد ذلك زنيم أي بعد هذه الصفات الذميمة فهو زنيم، وقد ذكر المفسرون في معنى هذه الصفة أقوالا كثيرة أرجحها قولان:
الأول: الزنيم هو الرجل المعروف بلُؤْمِه وخُبْثِه، حتى كأنّ به علامةً يعرف بها.
والثاني: أن الزنيم هو الدعيُّ الذي لا يُعْرَفُ نسبُه.
وقوله - تعالى -: أن كان ذا مال وبنين *إذا تتلى عليه آياتنا قال أساطير الأولين؟! معناه هل هذا جزاء إنعامي عليه بالمال والبنين؟ و هل جزاء الإحسان إلا الإحسان؟ فبدلا من أن يبادر إلى شكري بالإيمان لي وتصديق رسولي، جعل شكره التكذيب بآياتي، وقال أساطير الأولين! ومِنْ ثَمّ يجيء التهديد: سنسمه على الخرطوم على الأنف والعرب تعبّر عن العّزة والذِلّة بوصف الأنف، فتقول: أَنْفٌ أَشَمّ. للعزيز. وأَنْفٌ في الرّغام. للذليل.ومنه قولهم: رَغِمَ أَنْفُ فُلانِ، أي: ذُل، لأن أكرمَ ما في الإنسان وَجْهُه، وأَعْلَى ما في الوجه الأَنْفُ، فإذا رَغِمَ الأنفُ أي لَصِقَ بالتراب فذلك عُنوان الذّلة.أعاذنا الله وسائر المسلمين من ذلّ الدنيا وعذاب الآخرة.
وصلى الله على نبي الهدى والرحمة محمد - صلى الله عليه وسلم -.
سورة المنافقون -1 ( 130 )
الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، وعلى آله وصحبه ومن والاه ، وبعد :
إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله والله يعلم إنك لرسوله والله يشهد إن المنافقين لكاذبون (1)
سورة المنافقون سورة مدنية، واسمها يدل على موضعها، فهي تتحدّث عن النّفاق والمنافقين، لتهتك أستارهم، وتكشف أسرارهم، حتى يعرفهم المؤمنون فيحذروهم، إذ أن المنافقين أشدُّ خطرًا وأعظم ضررًا من الكافرين الذين صرحوا بكفرهم وعداوتهم للإسلام وأهله.
ثم خُتمت السورةُ بتحذير المؤمنين من فتنة المال والولد، وأَمْرِهم بالإنفاق مما رزقهم الله في سبيل الله، قبل أن يفوت الأوان بانتهاء الأجل، فيتحسر الإنسان ويندم على تقصيره ولات حين مناص {ص: 3}.
النفاق: هو أن يظهر الرجل خلاف ما يبطن. وهو قسمان: اعتقادي وعملي.
فالنفاق الاعتقادي: هو أن يظهر الرجل الإسلام ويبطن الكفر.
والنفاق العملي: هو أن يعمل المؤمن عملا من أعمال المنافقين، فيكون فيه خصلة من النفاق، كما قال - صلى الله عليه وسلم -: "أربعٌ مَنْ كنّ فيه كان منافقًا خالصًا ومن كانت فيه خصلةٌ منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: إذا ائتمن خان، وإذا حدث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر".
والنفاق الاعتقادي أعظمُ من الكفر الصريح، ولذا يجمع اللهُ الكافرين والمنافقين في جهنم جميعا، ثم يجعلُ المنافقين في الدرك الأسفل منها، كما قال - تعالى -: إن الله جامع المنافقين والكافرين في جهنم جميعا {النساء: 140}، ثم قال: إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار ولن تجد لهم نصيرا {النساء: 145}.
أما النفاق العملي فلا يُخرجُ المؤمن من دائرة الإيمان، وإن كانت فيه خصلة من النفاق، لكن يجب على المؤمن أن ينأى بنفسه عن شيم المنافقين.
ولا يجوز اتهام مؤمنٍ بالنفاق وإن كانت فيه خصلةٌ منه، فلا يجوز أن يُقال عن فلانٍ أنه منافق، لكن يجوز أن يُقال: فيه خصلة من النفاق؛ لأن النفاق محله القلب، ولا يطّلع على القلوب إلا علامُ الغيوب.
والسورة تتحدث عن نفاقِ الاعتقادِ وأهلهِ، وتبدأ بالإخبار عنهم. أنهم يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم: إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله، فكذبهم الله في هذه الشهادة، وشهد على كذبهم فقال: والله يشهد إن المنافقين لكاذبون لأنهم لا يعتقدون بما شهدوا به، وإنما هي كلمة يقولونها بألسنتهم، وحتى لا يتوهَّم متوهِّم أنّ الله كذّبهم في دعوى رسالته - صلى الله عليه وسلم - جيء بهذه الجملة المعترضة والله يعلم إنك لرسوله، فأثبت - سبحانه - الرسالة لرسوله - صلى الله عليه وسلم -، وكذّبهم في دعواهم أنهم يشهدون له بها.
وصلى الله على نبي الهدى والرحمة محمد - صلى الله عليه وسلم -.
( 131 ) المنافقون -2
لحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، وعلى آله وصحبه ومن والاه ، وبعد :
يقول تعالى (اتخذوا أيمانهم جنة أي وقاية، يتّقون الناسَ بالأيمان الكاذبة، فإذا ما قالوا قولا، أو فعلوا فِعلا يُؤْخَذُ عليهم تنصّلوا منه، وتبرَّءوا، بالأيمان الكاذبة، والله ما قلنا، والله ما فعلنا. وربما يعملون العمل السيء ويحلفون أنهم مسلمون، فيغترّ بهم من لا يعرفهم، فيصدّقهم وربما اقتدى بهم، وفي ذلك من الضرر ما فيه، ولذا قال - تعالى -: "اتخذوا أيمانهم جنة فصدوا عن سبيل الله صدّوا أنفسهم، وصدّوا غيرهم، إنهم ساء ما كانوا يعملون" وهل هناك أسوأ من الصدّ عن سبيل الله؟ ومن أظلم ممن افترى على الله الكذب وهو يدعى إلى الإسلام؟ {الصف: 7}، ذلك بأنهم آمنوا ثم كفروا أي ذلك الحلف الكاذب والصدّ عن سبيل الله، بسبب أنهم آمنوا بألسنتهم ثم كفروا بقلوبهم فطبع على قلوبهم والطّبْعُ هو الختم، وهو أشبه ما يكون بالشمع الأحمر إذا ضُرب على محلٍّ ما، فلا يخرج منه شيء، ولا يدخله شيء، وكذلك الطبع على القلوب والعياذ بالله إذا طُبِعَ على قلبٍ لا يخرج منه منكر، ولا يدخله معروف، فهم لا يفقهون فلا يعرفون معروفًا ولا ينكرون منكرا.
قال العلماء: لما تحدّث الله - تعالى - عن المنافقين في سورة البقرة ضرب لهم مثليْن: ناريًا، ومائيًّا، فالنّاري هو: "مثلهم كمثل الذي استوقد نارا فلما أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون (17) صم بكم عمي فهم لا يرجعون" {البقرة: 17، 18}.
والمائي: "أو كصيب من السماء فيه ظلمات ورعد وبرق يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصواعق حذر الموت والله محيط بالكافرين (19) يكاد البرق يخطف أبصارهم كلما أضاء لهم مشوا فيه وإذا أظلم عليهم قاموا ولو شاء الله لذهب بسمعهم وأبصارهم إن الله على كل شيء قدير" {البقرة: 19، 20}.
فالنّاري مثل الذين آمنوا ثم كفروا، والمائي للذين هم في ريبهم يترددون ويميلون إلى الإسلام تارة، ويميلون عنه تارة، فهم كالذي يمشي في الظلمات يستضيء بنور البَرقِ كلما أضاء لهم مشوا فيه وإذا أظلم عليهم قاموا، فأما الذين آمنوا ثم كفروا ف مثلهم كمثل الذي استوقد نارا فلما أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون، فهم لما آمنوا خرجوا من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان، فلما كفروا رُدّوا في الظلمات، فما هم بخارجين منها، صم بكم عمي فهم لا يرجعون، وذلك من الله عقوبة لهم على تركهم الإيمان بعد أن ذاقوا حلاوته، ورأوا نوره، ذلك بأنهم آمنوا ثم كفروا فطبع على قلوبهم فهم لا يفقهون، كما قال - تعالى -: "فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم" {الصف: 5}.
ثم وصف الله المنافقين بجمال الصورة، وحلاوة اللسان، فقال: وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم وإن يقولوا تسمع لقولهم فهذا حال ما ظهر منهم وأفئدتهم هواء {إبراهيم: 43}، يعني لا حياة فيها كأنهم خشب مسندة أي يشبهون الخشب المسنّدة إلي الحائط، في كونهم صورًا خاليةً عن العلم والنظر، فهم أشباحٌ بلا أرواحٌ، وأجسامٌ بلا أحلامٌ، فلا يعجبك جمالُ صورتهم، ولا عذوبةُ منطقهم.
ثم وصفهم الله بالضعف والخور، والجبن والهلع، فقال: "يحسبون كل صيحة عليهم" وهذا حال كل من يخالف فِعلُه قولَه، خائفون دائمًا، قلقون أبدا، يحذرون أن يُفضحوا، وتكشف أسرارهم، كما قال - تعالى -: "يحذر المنافقون أن تنزل عليهم سورة تنبئهم بما في قلوبهم قل استهزئوا إن الله مخرج ما تحذرون" {التوبة: 64}، وقال - تعالى -: "أم حسب الذين في قلوبهم مرض أن لن يخرج الله أضغانهم (29) ولو نشاء لأريناكهم فلعرفتهم بسيماهم ولتعرفنهم في لحن القول والله يعلم أعمالكم" {محمد: 29، 30}، ثم حذّر اللهُ نبيه منهم فقال: "هم العدو فاحذرهم" هم العدوّ الكامل العداوة، فاحذرهم ولا تأمنْهم وإن قالوا نشهدُ إنّك لرسول الله، وإنما حذر الله - تعالى - منهم لأن الخطر كامنٌ فيهم، وقد أظهروا الإسلام، وهذا يجعل المسلمين قد يأتمنونهم، فحذّر الله منهم، وبيّن أنهم هم العدو، وإن قالوا نحن مسلمون.
ثم دعا عليهم، ودعاءُ الله قضاءٌ مبرم، وحكمٌ نافذ، قاتلهم الله أي أخزاهم ولعنهم وأبعدهم عن رحمته. أنى يؤفكون كيف يُصرفون عن الهدى إلى الضلال؟ وكيف تضل عقولهم مع وضوح الدلائل والبراهين؟ والحمد لله رب العالمين.
( 132 ) فذكر بالقرآن من يخاف وعيد -1
الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، وعلى آله وصحبه ومن والاه ، وبعد :فإنه لا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها، ومن يطالع سيرة النبي - عليه الصلاة والسلام - وكيف بدأ دعوة الإسلام يتبين له أن النبي - عليه الصلاة والسلام - كان إذا ذكر الناس ودعاهم إلى عبادة الله - عز وجل - أو أراد أن ينصحهم ويقيم عليهم الحجة كان يتلو عليهم آيات من القرآن الحكيم قال - تعالى -: ((فذكر بالقرآن من يخاف وعيد))، وقال: ((واتل ما أوحي إليك من كتاب ربك))، وقال: ((وكذلك أوحينا إليك قرآنا عربيا لتنذر أم القرى ومن حولها وتنذر يوم الجمع لا ريب فيه فريق في الجنة وفريق في السعير)) [الشورى:7].
حتى أنه في عبادته - عليه الصلاة والسلام - كان يتأول القرآن كما ذكرت عائشة - رضي الله عنها
غير أن الذي لاحظته وشكا منه غير واحد من الأصحاب والطلاب جفوة كثير من الناس للقرآن، فإذا ما أراد أن يناقش أحداً قلما استدل بالآيات بينما هو يكثر من ذكر أقوال الرجال وربما من حديث الرسول - عليه الصلاة والسلام - ولا ضير في الاستدلال بالسنة لكن الأولى تأخير السنة عن الكتاب.
وصنف آخر يقضون الساعات الطوال بعرض المسرحيات والأناشيد الإسلامية في الأندية والمناسبات بحجة الدعوة إلى الله!!، ولكنهم لا يعطون القرآن الكريم عشر معشار ما أنفقوه من الوقت فليس للقرآن إلا دقائق معدودات في الافتتاحيات.
وهذا خلاف هدي الرسول - عليه الصلاة والسلام - وأزكى التبريكات.
مجرد تلاوة القرآن وترتيله تؤثر في نفس الإنسان يستوي في ذلك المؤمنون والكافرون، لكن نوعية التأثير تختلف بين هؤلاء و أولئك.
فالكافر إذا استمع إلى القرآن ينفر منه ويشمئز وقد ذكر ذلك - سبحانه - وهو عليم بذات الصدور - فقال: ((ولقد صرفنا في هذا القرآن ليذكروا وما يزيدهم إلا نفوراً)) [الإسراء:41]. وقال: ((وإذا قرأت القرآن جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجابا مستورا(45)وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا وإذا ذكرت ربك في القرآن وحده ولوا على أدبارهم نفوراً)) [الإسراء: 45 - 46]، وقال: ((وإذا ذكر الله وحده اشمأزت قلوب الذين لا يؤمنون بالآخرة وإذا ذكر الذين من دونه إذا هم يستبشرون)) [الزمر:45].
إن الكافر ليحس من أعماقه بتأثير القرآن فيما يسمعه من هذا النظم العجيب، لقد بلغ من شدة تأثيره على المشركين أنهم كانوا يخرجون في جنح الليل يستمعون إلى تلاوة الرسول - عليه الصلاة والسلام - وأصحابه الكرام وهم يقرأون، حتى إنهم تواصوا فيما بينهم ألا يستمعوا له و أن يرفعوا أصواتهم بالضجيج حين تلاوته فقال - تعالى - واصفاً هذه الحال منهم: ((وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون)).
والكفرة من الجن أيضاً ينفرون من القرآن ففي الحديث عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا تجعلوا بيوتكم مقابر و إن البيت الذي تقرأ البقرة فيه لا يدخله الشيطان".
وصلى الله على نبي الهدى والرحمة محمد - صلى الله عليه وسلم -.
( 133 ) فذكر بالقرآن من يخاف وعيد -2
الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، وعلى آله وصحبه ومن والاه ، وبعد :
إن تأثير القرآن على نفوس المؤمنين وقلوبهم فذلك بزيادة الإيمان والخشوع والخشية والإنابة إلى الله - عز وجل -.قال - تعالى -: ((إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا وعلى ربهم يتوكلون)) [الأنفال: 2]، وقال: ((وبشر المخبتين، الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم والصابرين على ما أصابهم والمقيمي الصلاة ومما رزقناهم ينفقون)) [الحج: 35].
وقال: ((وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق يقولون ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين)) [المائدة:83]، وقال: ((الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله ذلك هدى الله يهدي به من يشاء ومن يضلل الله فما له من هاد)) [الزمر: 23]، وقال: ((وإذا ما أنزلت سورة فمنهم من يقول أيكم زادته هذه إيماناً فأما الذين آمنوا فزادتهم إيمانا وهم يستبشرون، وأما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجساً إلى رجسهم وماتوا وهم كافرون)) [التوبة: 124 - 125].
هذا الوجه من وجوه إعجاز القرآن الكريم أي صنيعه بالقلوب وتأثيره على النفوس ذهب عنه كثير من الناس ولا يعرفه إلا القليل، فإنك لا تسمع كلاماً غير القرآن منظوماً ولا منثوراً إذا قرع السمع خلص له إلى القلب من اللذة والحلاوة في حال ومن الروعة والمهابة في أخرى ما يخلص منه إليه، تستبشر به النفوس وتنشرح له الصدور، حتى إذا أخذت حظها منه عادت مرتاعة قد عراها الوجيب والقلق وتغشاها الخوف والفرق، تقشعر منه الجلود وتنزعج له القلوب، يحول بين النفس ومضمراتها وعقائدها الراسخة فيها، فكم من عدو للرسول - صلى الله عليه وسلم - من رجال العرب وفتاكها أقبلوا يريدون اغتياله فسمعوا آيات من القرآن فلم يلبثوا حين وقعت في مسامعهم أن يتحولوا عن رأيهم الأول و أن يركنوا إلى مسالمته والدخول في دينه وصارت عداوتهم موالاة وكفرهم إيمانا .
وصلى الله على نبي الهدى والرحمة محمد - صلى الله عليه وسلم -.
( 134 ) فذكر بالقرآن من يخاف وعيد -3
الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، وعلى آله وصحبه ومن والاه ، وبعد :
قصة إسلام عمر بن الخطاب:
خرج عمر - رضي الله عنه - يريد قتل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فلقيه نعيم بن عبد الله النحام، فقال: أين تريد يا عمر؟ فقال: أريد محمداً هذا الصابئ فأقتله. فقال له نعيم: لقد غرّتك نفسك يا عمر. أفلا ترجع إلى أختك فاطمة بنت الخطاب وزوجها، فقد والله أسلما واتبعا محمداً.
فرجع إلى أخته وهي تقرأ سورة (طه) فلما أخذ الصحيفة منها وقرأ صدراً من السورة قال: ما أحسن هذا الكلام وأكرمه، فذهب إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال: يارسول الله جئتك لأومن بالله وبرسوله وبما جاء من عند الله.
وهناك رواية أخرى في سبب إسلام عمر بن الخطاب خلاصتها: أن عمر أراد أن يطوف بالكعبة، فإذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قائم يصلي فقال عمر حين رآه، لو أني استمعت لمحمد الليلة حتى أسمع ما يقول، فجئت من قبل الحجر فدخلت تحت ثياب الكعبة ما بيني وبينه إلا الثياب، فلما سمعت القرآن رقّ له قلبي فبكيت ودخلني الإسلام وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقرأ سورة (الحآقة).
موقف النجاشي و أساقفته حين سمعوا القرآن:
طلب النجاشي من جعفر ابن أبي طالب - رضي الله عنه - أن يسمعه شيئاً مما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - عن الله، فقرأ عليه صدراً من (كهيعص) فبكى النجاشي حتى اخضلت لحيته وبكت أساقفته حتى اخضلت لحاهم حين سمعوا ما تلا عليهم، ثم قال لهم النجاشي: إن هذا والذي جاء به عيسى ليخرج من مشكاة واحدة، انطلقا فلا والله لا أسلمهم إليكما ولا يُكادون. وكانت قريش قد أرسلت عمرو بن العاص وعبد الله بن أبي ربيعة قبل أن يسلما ليقنعا النجاشي بطرد مهاجرة الحبشة.
قراءة الأصمعي على أعرابي سورة الذاريات:
وعن الأصمعي قال: أقبلت من جامع البصرة فطلع أعرابي على قعود له فقال: ممن الرجل؟ قلت: من بني أصمع، قال: من أين أقبلت؟ قلت: من موضع يتلى فيه كلام الرحمن، فقال: اتل علىّ فتلوت: ((والذاريات)) فلما بلغت قوله - تعالى -: ((وفي السماء رزقكم)) قال حسبك، فقام إلى ناقته فنحرها ووزعها على من أقبل وأدبر، وعمد إلى سيفه وقوسه فكسرهما وولى، فلما حججت مع الرشيد طفقت أطوف فإذا أنا بمن يهتف بي بصوت رقيق فالتفت، فإذا أنا بالأعرابي قد نحل واصفر فسلّم عليّ واستقرأ السورة، فلما بلغت الآية صاح، وقال: قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقاً، ثم قال: وهل غير هذا؟ فقرأت: ((فورب السماء والأرض إنه لحق مثل ما أنكم تنطقون)) فصاح وقال: يا سبحان الله من ذا الذي أغضب الجليل حتى حلف، لم يصدقوه بقوله حتى ألجؤوه إلى اليمين قائلها ثلاثاً، وخرجت معها نفسه.
قصة توبة الفضيل بن عياض:
عن الفضل بن موسى قال: كان الفضيل بن عياض شاطراً يقطع الطريق بين أبيورد وسرخس وكان سبب توبته أنه عشق جاريةً فبينما هو يرتقي الجدران إليها إذ سمع تالياً يتلو: ((ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله)) فلما سمعها قال: بلى يا رب قد آن فرجع، فآواه الليل إلى خربةٍ فإذا بها سابلة. فقال بعضهم: نرحل، وقال بعضهم حتى نصبح فإن فضيلاً على الطريق يقطع علينا.
قال: ففكرت، وقلت أنا أسعى بالليل في المعاصي، وقوم من المسلمين هاهنا يخافوني، وما أرى الله ساقني إليهم إلا لأرتدع، اللهم إني قد تبت إليك وجعلت توبتي مجاورة البيت الحرام
تأثير القرآن على الجن:
لقد تجاوز القرآن البشر في تأثيره إلى صنفٍ آخر من المخلوقات فلم تتمالك الجن عندما سمعته أن قالت: ((إنا سمعنا قرآناً عجباً، يهدي إلى الرشد فآمنا به ولن نشرك بربنا أحدا)) [الجن: 1 - 2].
وقال - تعالى -: ((وإذ صرفنا إليك نفرا من الجن يستمعون القرآن فلما حضروه قالوا أنصتوا فلما قضي ولوا إلى قومهم منذرين، قالوا يا قومنا إنا سمعنا كتابا أنزل من بعد موسى مصدقا لما بين يديه يهدي إلى الحق وإلى طريق)) [الأحقاف: 29 - 30].
وقد ذكرنا آنفاً أن الجن ينفر من قراءة القرآن، والبيت الذي تُقرأ فيه سورة البقرة لا يدخله الشيطان.
وصلى الله على نبي الهدى والرحمة محمد - صلى الله عليه وسلم -.
( 135 ) فلينظر الإنسان مما خلق
الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، وعلى آله وصحبه ومن والاه ، وبعد :
فإن الله تعالى خلق آدم عليه السلام من الأرض أي مما تحويه وذلك قوله : { منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى } طه/55 ، فخلقه من ترابها و هذا قوله تعالى : { إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب } آل عمران/59 .
وفي ذلك آيات في القرآن كثيرة .
ثم جبلت تربتها بالماء فكانت طيناً وفي ذلك يقول رب العالمين : { هو الذي خلقكم من طين ثم قضى أجلاً وأجل مسمى عنده ثم أنتم تمترون } الأنعام/2 .
وفي ذلك أيضاً آيات كثيرة أيضاً .
وكان الطين لازباً - أي : لاصقاً ، وقيل : لزجاً - وفي هذا يقول تعالى : { إنا خلقناهم من طين لازب } الصافات/11 .
قال ابن منظور : ولَزِبَ الطينُ يَلْزُبُ لُزُوباً ، و لزُبَ : لَصِقَ وصَلُب َ، وفي حديث عليّ عليه السلام : دخَل بالبَلَّةِ حتى لَزَبَتْ أَي لَصقتْ ولزمت ْ. وطينٌ لازبٌ أَي لازقٌ . قال الله تعالى : من طِينٍ لازبٍ . " لسان العرب " 1/738 .
ثم صار هذا الطين اللازب منتناً فقال تعالى في ذلك : { ولقد خلقنا الإنسان من صلصال من حمإ مسنون } الحجر/26 .
قال الرازي :
الحَمَأُ : بفتحتين والحَمَأةُ بسكون الميم الطين الأسود . " مختار الصحاح " ص/64 .
وقال في " لسان العرب " 1/61 :
حمأ : الحَمْأَةُ ، والحَمَأُ : الطين الأَسود المُنتن ؛ وفي التنزيل : { من حَمَإٍ مسنون } .
وقال في " لسان العرب " ( 13 / 227 ) :
المَسْنون : المُنْتِن ، وقوله تعالى { مِن حَمَإٍ مَسْنُونٍ } : قال أَبو عمرو : أَي متغير منتن؛ وقال أَبو الهيثم : سُنَّ الماءُ فهو مَسْنُون أَي : تغيَّر .
وحيث أن هذا الطين كان مخلوطاً بالرمل : فهذا هو الصلصال .
قال الرازي :
الصَّلْصالُ : الطين الحر خُلط بالرمل فصار يَتَصَلْصَلُ إذا جف ، فإذا طُبخ بالنار فهو الفخار. " مختار الصحاح " 1/154
وقال في " لسان العرب " ( 11 / 382 ) :
والصَّلْصالُ مِن الطِّين : ما لم يُجْعَل خَزَفاً ، سُمِّي به لَتَصَلْصُله ؛ وكلُّ ما جَفَّ من طين أَو فَخَّار فقد صَلَّ صَلِيلاً ، وطِينٌ صِلاَّل ومِصْلالٌ أَي يُصَوِّت كما يصوِّت الخَزَفُ الجديد .
ثم شبه الصلصال بالفخار وذلك قوله تعالى : { خلق الإنسان من صلصال كالفخار } الرحمن/14 .
وهذا كله يصدقه حديث أبي موسى الأشعري قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " إن الله عز وجل خلق آدم من قبضة قبضها من جميع الأرض فجاء بنو آدم على قدر الأرض فجاء منهم الأحمر والأبيض والأسود وبين ذلك والسهل والحزن والخبيث والطيب " . رواه الترمذي ( 2955 ) وأبو داود ( 4693 ) . والحديث : قال عنه الترمذي : حسن صحيح ، وصححه ابن حبان (14/29) والحاكم (2/288) والألباني في صحيح أبي داود 3926.
هذا خلق آدم عليه السلام : من الأرض - من ترابها - ، ثم جُبل بالماء فكان طيناً ثم صار طيناً أسود منتناً وكون ترابه من الأرض التي بعضها رمل لما جبل كان صلصالاً كالفخار .
ولذلك لما وصف الله خلق آدم في القرآن في كل مرة وصفه بأحد أطواره التي مرَّت بها طريقة خلقه وتكوينة طينته فلا تعارض في آيات القرآن .
ثم أصبح أبناء آدم بعد ذلك يتكاثرون وصار خلقهم من الماء وهو المني الذي يخرج من الرجال والنساء وهو معروف .
وهذا يبينه القرآن في قوله تعالى : { وهو الذي خلق من الماء بشراً فجعله نسبا وصهراً } النور/54 ، وقوله تعالى : { ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين } السجدة/8 .
قال ابن القيم رحمه الله :
لما اقتضى كمال الرب تعالى جل جلاله وقدرته التامة وعلمه المحيط ومشيئته النافذة وحكمته البالغة تنويع خلقه من المواد المتباينة وإنشاءهم من الصور المختلفة والتباين العظيم بينهم في المواد والصور والصفات والهيئات والأشكال والطبائع والقوى اقتضت حكمته أن أخذ من الأرض قبضة من التراب ثم ألقى عليها الماء فصارت مثل الحمأ المسنون ثم أرسل عليها الريح فجففها حتى صارت صلصالا كالفخار ثم قدر لها الأعضاء والمنافذ والأوصال والرطوبات وصورها فأبدع في تصويرها وأظهرها في أحسن الأشكال وفصلها أحسن تفصيل مع اتصال أجزائها وهيأ كل جزء منها لما يراد منه وقدَّره لما خلق له عن أبلغ الوجوه ففصَّلها في توصيلها وأبدع في تصويرها وتشكيلها …
- ثم ذكر تناسل الخلق بالجماع وإنزال المني - . " التبيان في أقسام القرآن " ( ص 204 ) .
والله أعلم. وصلى الله على نبي الهدى والرحمة محمد - صلى الله عليه وسلم -.
( 136) ولا تلبسوا الحق بالباطل
الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، وعلى آله وصحبه ومن والاه ، وبعد :
قال - تعالى -: {ولا تلبسوا الحق بالباطل وتكتموا الحق وأنتم تعلمون} (البقرة: 42)الآية وردت في سياق خطاب بني إسرائيل، وهي عطف على قوله - تعالى -: {يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم }(البقرة :40) وجاءت الآية انتقالاً من غرض التحذير من الضلال، في قوله - تعالى -: {ولا تكونوا أول كافر به} (البقرة: 41) إلى غرض التحذير من الإضلال، في قوله - تعالى -: {ولا تلبسوا الحق بالباطل وتكتموا الحق).
واللَّبس في اللغة، بفتح اللام: الخلط؛ وهو من الفعل (لَبَسَ) بفتح الباء؛ يقال: لَبَست عليه الأمر ألبسه: إذا خلطت حقه بباطله، وواضحه بمشكله، ومنه قوله - تعالى -: {وللبسنا عليهم ما يلبسون}(الأنعام: 9) ويقال: في الأمر لُبسة، بضم اللام، أي: اشتباه.
واللِّبس، بكسر اللام، من الفعل (لَبِسَ) بكسر الباء: هو لبس الثوب ونحوه.
والحق: الأمر الثابت؛ من حَقَّ، إذا ثبت ووجب، وهو ما تعترف به سائر النفوس، بقطع النظر عن شهواتها.
والباطل: ضد الحق، وهو الأمر الزائل الضائع؛ يقال: بطل بُطلا وبطلانًا، إذا ذهب ضياعًا وخسرًا، وذهب ماله بُطلاً، أي: هدرًا.
قال ابن عباس - رضي الله عنهما -: قوله: {ولا تلبسوا الحق بالباطل} أي: لا تخلطوا الصدق بالكذب؛ وعن أبي العالية قال: {ولا تلبسوا الحق بالباطل} لا تخلطوا الحق بالباطل، وأدوا النصيحة لعباد الله في أمر محمد - صلى الله عليه وسلم -.
فتأويل الآية إذًا: ولا تخلطوا على الناس - أيها الأحبار من أهل الكتاب - في أمر محمد - صلى الله عليه وسلم -، وما جاء به من عند ربه، وتزعموا أنه مبعوث إلى بعض أجناس الأمم دون بعض، أو تنافقوا في أمره، وقد علمتم أنه مبعوث إلى الناس كافة، بما فيهم أنتم، فتخلطوا بذلك الصدق بالكذب، والحق بالباطل، وتكتموا ما تجدونه في كتابكم من نعته وصفته، وتعرفون أن من عهدي الذي أخذت عليكم في كتابكم الإيمان به وبما جاء به والتصديق به؛ فالمراد إذًا: النهي عن كتم حجج الله، التي أوجب عليهم تبليغها، وأَخَذَ عليهم بيانها.
وعلى هذا، فلَبْسُ الحق بالباطل ترويج الباطل وإظهاره في صورة الحق، وهذا اللَّبْس هو المبتدأ في التضليل، وإليه الانتهاء في الإضلال؛ فإن أكثر أنواع الضلال الذي أدخل في الإسلام هو من قبيل لبس الحق بالباطل، وفي بعض تاريخ الإسلام خير شاهد على ذلك.
وقوله - تعالى -: {وتكتموا الحق} عطف على قوله - سبحانه -: {ولا تلبسوا} والمعنى: النهي عن الخلط بين الحق والباطل مقرونًا بكتمان الحق؛ ولك أيضًا أن تجعله منصوبًا بأن المضمرة بعد الواو، والتقدير (وأن تكتموا الحق) والمعنى عليه: لا تخلطوا الحق بالباطل، حال كونكم كاتمين للحق؛ وعلى كلا التوجيهين فالمقصود من الخطاب القرآني النهي عن الخلط بين الحق والباطل، إذ لكل واحد منهما مجاله ووجهته، فلا مجال للقصد إليهما، ولا مجال للخلط بينهما، ولم يبق إلا الفصام بينهما؛ والنهي أيضًا عن كتمان الحق، لما فيه من التضليل والتحريف وطمس الحقيقة التي جاء الإسلام بها للناس كافة.
وتفاديًا لما وقع فيه اليهود من الخلط والكتمان،
وقوله - تعالى -: {وأنتم تعلمون} جملة حالية، فيه دليل على أن كفرهم كان كفر عناد لا كفر جهل، وذلك أغلظ للذنب وأوجب للعقوبة؛ ثم إن التقييد بالعلم في الآية، لا يفيد جواز اللَّبْس والكتمان مع الجهل؛ لأن الجاهل مطالب بالتعلم، ومنهي عن البقاء على جهله، إذ الواجب على الإنسان أن لا يُقْدِم على شيء حتى يعلم بحكمه، خاصة إذا كان ذاك الشيء من أمور الدين، فإن التكلم فيها والتصدي لها إنما أذن الله به لمن كان أهلاً ومؤهلاً لذلك، أما الجاهل فليس له من الأمر شيء، وليس له من سبيل إلى ذلك.
نسأل الله أن يلهمنا رشدنا، والصواب في أمرنا، والإخلاص في قصدنا، وصلى الله على نبينا، وعلى آله وصحبه وسلم، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين..
( 137 ) ( أتأمرون الناس بالبر )
الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، وعلى آله وصحبه ومن والاه ، وبعد :
قال - سبحانه -: {أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون} (البقرة: 44)
وردت هذه الآية في سياق تذكير بني إسرائيل بنعم الله عليهم، وبيان ما كان من أمرهم؛ والغرض من الآية - والله أعلم - بيان حال اليهود، ومن كان على شاكلتهم، وسار على سَنَنِهم، على كمال خسارهم، ومبلغ سوء حالهم، الذي وصلوا إليه؛ إذ صاروا يقومون بالوعظ والتعليم، كما يقوم الصانع بصناعته، والتاجر بتجارته، والعامل بعمله، لا يقصدون إلا إيفاء وظائفهم الدينية حقها، ليستحقوا بذلك ما يُعَوَّضون عليه من مراتب ورواتب؛ فهم لا ينظرون إلى حال أنفسهم تجاه تلك الأوامر التي يأمرون بها الناس.
والمراد بـ {الناس} في الآية، العامة من أمة اليهود؛ والمعنى: كيف تأمرون أتباعكم وعامتكم بالبر وتنسون أنفسكم؟ ففيه تنديد بحال أحبارهم، أو تعريض بأنهم يعلمون أن ما جاء به رسول الإسلام هو الحق، فهم يأمرون أتباعهم بالمواعظ، ولا يطلبون نجاة أنفسهم. قال ابن عباس - رضي الله عنهما - في معنى الآية: أتنهون الناس عن الكفر بما عندكم من النبوة، والعهدة من التوراة، وتتركون أنفسكم، وأنتم تكفرون بما فيها من عهدي إليكم في تصديق رسولي، وتنقضون ميثاقي، وتجحدون ما تعلمون من كتابي.
و{البر} بكسر الباء: الخير في الأعمال في أمور الدنيا وأمور الآخرة؛ ومن المأثور قولهم: البر ثلاثة، بر في عبادة الله، وبر في مراعاة الأقارب، وبر في معاملة الأجانب.
ثم إن التوبيخ في الآية بسبب ترك فعل البر، لا بسبب الأمر بالبر؛ ولهذا ذم الله - تعالى -في كتابه قومًا كانوا يأمرون بأعمال البر، ولا يعملون بها، ووبَّخهم به توبيخًا يتلى إلى يوم الناس هذا؛ إذ إن الأمر بالمعروف واجب على العالِم، والأولى بالعالِم أن يفعله مع من أمرهم به، ولا يتخلف عنهم، كما قال شعيب - عليه السلام - لقومه: {وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه} (هود: 88) فكلٌّ من الأمر بالمعروف وفعله واجب، لا يسقط أحدهما بترك الآخر، على أصح قولي العلماء من السلف والخلف.
لا تنه عن خلق وتأتي مثله
عار عليك إذا فعلت عظيم
فابدأ بنفسك فانهها عن غيها
فإذا انتهت عنه فأنت حكيم
فهناك يقبل إن وعظت ويقتدى
بالقول منك وينفع التعليم
و (النسيان) في قوله - جل وعلا -: {وتنسون أنفسكم} هو الترك، أي: تتركون أنفسكم بإلزامها ما أمرتم به غيركم؛ والنسيان (بكسر النون) يكون بمعنى الترك، وهو المراد هنا، ومثله قوله - تعالى -: {نسوا الله فنسيهم} (التوبة: 67) وقوله أيضًا: {فلما نسوا ما ذكروا به} (الأنعام: 44) وما أشبه ذلك من الآيات؛ ويكون خلاف الذكر والحفظ.
وقوله - سبحانه -: {أفلا تعقلون} استفهام عن انتفاء تعقُّلهم، وهو استفهام على سبيل الإنكار والتوبيخ، نزلوا منزلة من انتفى تعقله، فأنكر عليهم ذلك، إذ إن من يستمر به التغفل عن نفسه، وإهمال التفكر في صلاحها، مع مصاحبة شيئين يذكِّرانه، قارب أن يكون منفيًا عنه التعقل، وكون هذا الأمر أمرًا قبيحًا لا يشك فيه عاقل.
والمقصود الأهم من هذا الخطاب القرآني تنبيه المؤمنين عامة، والدعاة منهم خاصة، على ضرورة التوافق والالتزام بين القول والعمل، لا أن يكون قولهم في واد وفعلهم في واد آخر؛ فإن خير العلم ما صدَّقه العمل، والاقتداء بالأفعال أبلغ من الإقتداء بالأقوال؛ وإن مَن أَمَرَ بخير فليكن أشد الناس فيه مسارعة؛ وفي الحديث الصحيح أنه - صلى الله عليه وسلم - (كان خلقه القرآن) أي: إن سلوكه صلى الله عليه وأفعاله كانت على وَفْقِ ما جاء به القرآن وأمر به؛ إذ إن العمل ثمرة العلم، ولا خير بعلم من غير عمل.
وأخيرًا: نختم قولنا حول هذه الآية، بقول إبراهيم النخعي: إني لأكره القصص لثلاث آيات، قوله - تعالى -: {أتأمرون الناس بالبر} وقوله: {لِمَ تقولون ما لا تفعلون} (الصف: 2) وقوله: {وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه} (هود: 88) نسأل الله أن يجعلنا من الذين يفعلون ما يؤمرون {وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب} (هود: 88) وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
( 138 ) فإني قريب أجيب الداع إذا دعان
الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، وعلى آله وصحبه ومن والاه ، وبعد :
دعوة القرآن إلى الدعاء والحث عليه وردت في مواضع عديدة من كتاب الله، نختار منها قوله - تعالى -: {وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان} (البقرة: 186) وقوله - سبحانه -: {ادعوا ربكم تضرعًا وخفية} (الأعراف: 55) وقوله - جلا وعلا -: {وقال ربكم ادعوني أستجب لكم} (غافر: 60) وغير ذلك من الآيات الداعية إلى الدعاء.
والدعاء من جهة اللغة يطلق على سؤال العبد من الله حاجته، ويطلق من جهة الشرع على معان عدة، منها العبادة، وعلى هذا فُسر قوله - تعالى -: {وقال ربكم ادعوني أستجب لكم} أي: اعبدوني وأخلصوا لي العبادة دون من تعبدون من دوني؛ وعن ثابت، قال: قلت لأنس - رضي الله عنه -: يا أبا حمزة أبلغك أن الدعاء نصف العبادة؟ قال: لا، بل هو العبادة كلها.
وإذا كان الدعاء هو العبادة كما جاء في الحديث، فإن العبادة أيضًا هي الدعاء، إذ لا تخلو عبادة من الدعاء، ولكن ما نريد إدارة الحديث حوله هنا، هو أهمية الدعاء بمعناه الأصلي واللغوي، ونقصد بذلك توجه العباد إلى الله - تعالى -طلبًا لقضاء الحاجات وكشف الكربات، وهو أمر يكاد يغفل عنه كثير من المسلمين، مع ندب الشرع إليه، وشدة احتياجهم إليه.
فمن فضل الله- تبارك وتعالى - وكرمه أن ندب عباده إلى دعائه، وتكفل لهم بالإجابة؛ ففي الحديث: (يقول الله - تعالى -: {أنا عند ظن عبدي بي وأنا معه إذا دعاني} [رواه مسلم]. وفي حديث آخر: {إن الله - تعالى -ليستحي أن يبسط العبد إليه يديه يسأله فيهما خيراً فيردهما خائبتين} [رواه أحمد].
ويلاحظ أن طلب الدعاء في الخطاب القرآني جاء مقرونًا ومرتبًا عليه الإجابة؛ فالعلاقة بينهما علاقة السبب بالمسبَّب، والشرط بالمشروط، والعلة بالمعلول، فليس على العبد إلا الالتجاء إلى الله - بعد الأخذ بالأسباب - وطلب العون منه في كل عسر ويسر، وفي المنشط والمكره، ووقت الفرج ووقت الكرب؛ ففي حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (ما من مسلم يدعو بدعوة ليس فيها إثم ولا قطيعة رحم إلا أعطاه الله بها إحدى ثلاث؛ إما أن يعجل له دعوته، وإما إن يدخر له، وإما إن يكف عنه من السوء بمثلها. قالوا: إذن نكثر؟ قال: الله أكثر) [رواه أحمد].
وعن أبى هريرة – رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (يستجاب لأحدكم ما لم يعجل، يقول: دعوت فلم يستجب لي) [رواه البخاري ومسلم].
قال السدي في تفسير قوله - تعالى -: {وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع} ليس من عبد مؤمن يدعو الله إلا استجاب له، فإن كان الذي يدعو به هو له رزق في الدنيا أعطاه الله، وإن لم يكن له رزقًا في الدنيا ذخره له إلى يوم القيامة، ودفع عنه به مكروها.
والذي نخرج به مما تقدم، أن أمر الدعاء في حياة المسلم لا ينبغي أن يُقَلِّل من شأنه، ولا أن يحرم المسلم نفسه من هذا الخير الذي أكرمه الله به، والمسلم حريص على الخير، أولم يقل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (واحرص على ما ينفعك) وتأمل في قوله - عليه الصلاة والسلام -: (احرص) ليتبين لك قيمة هذا الهدي النبوي. ولا شك فإن النفع كل النفع في الدعاء، وخاصة إذا استوفى أسبابه؛ ولعل فيما خُتمت فيه آية البقرة: {لعلهم يرشدون} ما يؤكد هذا المعنى؛ كما أنَّ فيما خُتمت به آية غافر: {إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين} ما يشد من أزر هذا المعنى، والله أعلم.
اللهم وفقنا لكل خير، وافتح لنا أبواب الدعاء إليك، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين. وصلى الله على نبي الهدى والرحمة محمد - صلى الله عليه وسلم -.
( 139 ) والله فضل بعضكم على بعض في الرزق
الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، وعلى آله وصحبه ومن والاه ، وبعد :
أخبر - سبحانه - في هذه الآية، وفي غيرها من الآيات، عن سُنَّة أقام الله عليها الحياة، وفطرةٍ فطر الناس عليها؛ سُنَّة ماضية بمضاء الحياة، لا تتبدل ولا تتغير؛ إنها سُنَّة التفاضل والتفاوت في الرزق، وأسباب الحياة الأخرى المادية والمعنوية.
وإذا كانت آيات أُخر قد أخبرت وأثبتت أن الرزق بيد الله - سبحانه - ومن الله، فإن هذه الآية قد جاءت لتقرر أمرًا آخر، إنه أمر التفاوت والتفاضل بين العباد، لأمر يريده الله، قد يكو ن ابتلاء واختبارًا وقد يكون غير ذلك؛ فقد تجد أعقل الناس وأجودهم رأيًا وحكمة مقتَّرًا عليه في الرزق، وبالمقابل تجد أجهل الناس وأقلهم تدبيرًا موسعًا عليه في الرزق؛ وكلا الرجلين قد حصل له ما حصل قهرًا عليه، فالمقتَّر عليه لا يدري أسباب التقتير في رزقه، والموسَّع عليه لا يدري أسباب التيسير، ذلك لأن الأسباب كثيرة ومترابطة ومتوغِّلة في الخفاء، حتى يُظن أن أسباب الأمرين مفقودة وما هي كذلك، ولكنها غير محاط بها.
كتب عمر - رضي الله عنه - رسالة إلى أبي موسى الأشعري، يقول له فيها: واقنع برزقك من الدنيا، فإن الرحمن فضَّل بعض عباده على بعض في الرزق، بلاء يبتلي به كلاً، فيبتلي من بسط له، كيف شكره لله وأداؤه الحق الذي افترض عليه فيما رزقه وخوله، رواه ابن أبي حاتم.
قال الشوكاني عند تفسير هذه الآية: " فجعلكم متفاوتين فيه - أي الرزق - فوسَّع على بعض عباده، حتى جعل له من الرزق ما يكفي ألوفًا مؤلَّفة من بني آدم، وضيَّقه على بعض عباده حتى صار لا يجد القوت إلا بسؤال الناس والتكفف لهم، وذلك لحكمة بالغة تقصر عقول العباد عن تعقلها والاطلاع على حقيقة أسبابها؛ وكما جعل التفاوت بين عباده في المال، جعله بينهم في العقل والعلم والفهم، وقوة البدن وضعفه، والحسن والقبح، والصحة والسقم، وغير ذلك من الأحوال".
وعلى هذا فمعنى الآية: أن الله - سبحانه - لا غيره - بيده رزق عباده، وإليه يرجع الأمر في تفضيل بعض العباد على بعض، ولا يسع العبد إلا الإقرار بذلك، والتسليم لما قدره الله لعباده، من غير أن يعني ذلك عدم السعي وطلب الرزق والأخذ بالأسباب، فهذا غير مراد من الآية ولا يُفهم منها، ناهيك عن أن هذا الفهم يصادم نصوصًا أُخر تدعوا العباد إلى طلب أسباب الرزق، وتحثهم على السعي في تحصيله، قال - تعالى -: {فإذا قُضيتِ الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله} (الجمعة: 10) وفي الحديث: (اعملوا فكل ميسر لما خُلق له) متفق عليه، والنصوص في هذا المعنى كثيرة.
على أنه من المفيد هنا التنبيه إلى أن التفاضل الذي أقامه - سبحانه - بين عباده ليس محصورًا ومقصورًا على التفاضل المادي، من مال ومنافع فحسب، بل هو أشمل من ذلك وأعم، إذ يدخل فيه التفاضل في العلم والعقل، والقوة والضعف، وغير ذلك مما هو مشاهد في حياة الناس؛ وإذا كان الأمر كذلك، فإن الموقف الرشيد والسديد من هذه السُّنَّة الكونية القناعة بما قسم الله ورزق، مع الأخذ بالأسباب لتحصيل كل ما هو مطلوب ومباح شرعًا، فالأمر منظور إليه من طرفين، طرف الرضى والقبول والاستسلام لأمر الله وقضائه، وطرف العمل والسعي المطلوب شرعًا؛ أما الاستسلام السلبي الذي يشل حركة الإنسان، ويدفع به إلى القعود والتراكن والخنوع، فليس هو الموقف الصحيح والرشيد، بل هو موقف قاصر وناظر إلى طرف واحد من أطراف المعادلة، غافل عن نظر آخر لا بد من اعتباره والسعي على وَفْقِه، فشتان بين الموقفين.
ثم إن هذه الآية على صلة وارتباط بآية أخرى في سورة النساء، وهي قوله - تعالى -: {ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض} (النساء: 32) وسبب نزول هذه الآية - فيما رويَ - أن أمَّ سلمة - رضي الله عنها -، قالت: يا رسول الله، تغزو الرجال ولا نغزو، وإنما لنا نصف الميراث! فنزلت: {ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض} رواه الترمذي.
قال ابن عباس في تفسير هذه الآية: نهى الله - سبحانه - أن يتمنى الرجل مال فلان وأهله، وأَمَر عباده المؤمنين أن يسألوه من فضله.
وقال الطبري في معنى الآية: ولا تتمنوا - أيها الرجال والنساء - الذي فضل الله به بعضكم على بعض من منازل الفضل ودرجات الخير، وليرضَ أحدكم بما قسم الله له من نصيب، ولكن سلوا الله من فضله.
واعلم - أيها القارئ الكريم - أنه بسبب جهل بعض الناس بهذه السُّنَّة الكونية، دخل عليهم من الحسد والبلاء ما لا يحيط به قول ولا وصف، ولو قَنَع الناس بهذه السُّنَّة واستحضروها في تعاملهم ومعاملاتهم لكان أمر الحياة أمرًا آخر؛ أمَا وقد أعرض البعض عن فطرة خالقهم، ولم يسلموا ويستسلموا لِمَا أقامهم عليه، فقد عاشوا معيشة ضنكًا، وخسروا الدنيا قبل الآخرة. نسأل الله الكريم أن يرزقنا القناعة والرشاد والسداد في الأمر كله، والحمد لله رب العالمين.
وصلى الله على نبي الهدى والرحمة محمد - صلى الله عليه وسلم -.
َ
( 140) إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ
الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، وعلى آله وصحبه ومن والاه ، وبعد :يعني تعالى ذكره بقوله: إنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا ليس لكم أيها المؤمنون ناصر إلاَّ الله ورسوله والمؤمنون، الذين صفتهم ما ذكر تعالى ذكره. فأما اليهود والنصارى الذين أمركم الله أن تبرءوا من ولايتهم ونهاكم أن تتخذوا منهم أولياء، فليسوا لكم أولياء ولا نُصَراء، بل بعضهم أولياء بعض، ولا تتخذوا منهم وليا ولا نصيرا. وقيل: إن هذه الآية نزلت في عبادة بن الصامت في تبرئه من ولاية يهود بني قَينُقاع وحلفهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين. ذكر من قال ذلك:
قال صاحب الضلال رحمه الله "هكذا على وجه القصر الذي لا يدع مجالا للتمحل أو التأول ولم يكن بد أن يكون الأمر كذلك ! لأن المسألة في صميمها - كما قلنا - هي مسألة العقيدة . ومسألة الحركة بهذه العقيدة . وليكون الولاء لله خالصا , والثقة به مطلقة , وليكون الإسلام هو "الدين" . وليكون الأمر أمر مفاصلة بين الصف المسلم وسائر الصفوف التي لا تتخذ الإسلام دينا , ولا تجعل الإسلام منهجا للحياة ولتكون للحركة الإسلامية جديتها ونظامها ; فلا يكون الولاء فيها لغير قيادة واحدة وراية واحدة . ولا يكون التناصر إلا بين العصبة المؤمنة ; لأنه تناصر في المنهج المستمد من العقيدة . .
ولكن حتى لا يكون الإسلام مجرد عنوان , أو مجرد راية وشعار , أو مجرد كلمة تقال باللسان , أو مجرد نسب ينتقل بالوراثة , أو مجرد وصف يلحق القاطنين في مكان ! فإن السياق يذكر بعض السمات الرئيسية للذين آمنوا:
(الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة , وهم راكعون). .
فمن صفتهم إقامة الصلاة - لا مجرد أداء الصلاة - وإقامة الصلاة تعني أداءها أداء كاملا , تنشأ عنه آثارها التي يقررها قوله تعالى: إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر . . والذي لا تنهاه صلاته عن الفحشاء والمنكر , لم يقم الصلاة ; فلو أقامها لنهته كما يقول الله !
ومن صفتهم إيتاء الزكاة . . أي أداء حق المال طاعة لله وقربى عن رضى نفس ورغبة . فليست الزكاة مجرد ضريبة مالية , إنما هي كذلك عبادة . أو هي عبادة مالية . وهذه هي ميزة المنهج الإسلامي . الذي يحقق أهدافا شتى بالفريضة الواحدة . وليس كذلك الأنظمة الأرضية التي تحقق هدفا وتفرط في أهداف . .
إنه لا يغني في إصلاح حال المجتمع أن يأخذ المجتمع المال ضريبة [ مدنية ! ] أو أن يأخذ المال من الأغنياء للفقراء باسم الدولة , أو باسم الشعب , أو باسم جهة أرضية ما . . فهي في صورتها هذه قد تحقق هدفا واحدا ; وهو إيصال المال للمحتاجين . .
فأما الزكاة . . فتعني اسمها ومدلولها . . إنها قبل كل شيء طهارة ونماء . . إنها زكاة للضمير بكونها عبادة لله . وبالشعور الطيب المصاحب لها تجاه الإخوان الفقراء فهذه الصفات هي صفات الواجب توافرها في من يتخذهم أولياء احباب أنصار .
أسأل الله أن يرزقنا خير الاصحاب وأن يجمعنا في دار الخلد مع سيد الاولين والاخرين وصلى الله على نبي الهدى والرحمة محمد - صلى الله عليه وسلم.
وهذه نهاية المطاف مع ما استطعت الوقوف معه من الآيات القرآنية والمواعظ الإيمانية , وأسأل الله وأتوجه اليه أن يجعلنا من أهل القرآن وأن ينفع بهذا العمل ويجعله ذخرا لي يوم ألقاه إنه ولي ذلك والقادر عليه.