( 34 ) سورة الاخلاص- 2
الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، وعلى آله وصحبه ومن والاه ، وبعد :
سورة الاخلاص منهج للاتجاه إلى الله وحده في الرغبة والرهبة . في السراء والضراء . في النعماء والبأساء . وإلا فما جدوى التوجه إلى غير موجود وجودا حقيقيا , وإلى غير فاعل في الوجود أصلا ?!
ومنهج للتلقي عن الله وحده . تلقي العقيدة والتصور والقيم والموازين , والشرائع والقوانين والأوضاع والنظم , والآداب والتقاليد . فالتلقي لا يكون إلا عن الوجود الواحد والحقيقة المفردة في الواقع وفي الضمير .
ومنهج للتحرك والعمل لله وحده . . ابتغاء القرب من الحقيقة , وتطلعا إلى الخلاص من الحواجز المعوقة والشوائب المضللة . سواء في قرارة النفس أو فيما حولها من الأشياء والنفوس . ومن بينها حاجز الذات , وقيد الرغبة والرهبة لشيء من أشياء هذا الوجود !
عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا آوى إلى فراشه كل ليلة جمع كفّيه ثم نفث فيهما وقرأ: ((قُلْ هُوِ اللهُ أَحَدٌ)) و((قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ)) و((قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْنَّاسِ))، ثم يمسح بهما ما استطاع من جسده، يبدأ بهما على رأسه ووجهه وما أقبل من جسده، يفعل ذلك ثلاث مرات.
هذه بعض الأحاديث المرغّبة في الإدمان على قراءة سورة الإخلاص، والسبب في ذلك أن هذه السورة قد جمعت معاني من اعتقدها حرّم الله عليه النار، ولأن هذه السورة وأختيها الفلق والناس حصن حصين من جميع ما يخشاه المؤمن ويحذره، فالإنسان في طبيعته البشرية يطرأ عليه الخوف، ويُصاب أحيانًا بشتّى أنواع المصائب والابتلاءات، ونحن العرب ـ وللأسف ـ لا زلنا نلجأ إلى السحرة والمشعوذين، ويتعلق كثير منّا بالأسباب الواهيات، ويترك الرجوع إلى كتاب الله الكريم. فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يحافظ على قراءة المعوذتين والإخلاص عندما يأوي إلى فراشه، وما ذاك إلا درس لنا في أن نتحصّن بكتاب الله، ونتمسّك بهدى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وزاد فضل الله علينا أن جعل هذه السور قصيرة، وكلماتها سهلة يسيرة، لا تتطلب منك جهدًا ولا عناءً، إنما المطلوب منك ـ أيها المؤمن ـ أن تدمن قراءتها؛ لتكون لك حصنًا من الأمراض النفسية والوساوس الشيطانية، وتكون بقراءتها قد استحضرت في قلبك أروع معان جاء الرسول صلى الله عليه وسلم لنشرها، ومن أجلها طُرد وعُذّب وأهين وشُرّد، بقي في مكة ثلاث عشرة سنة يدعوهم بأن الله أحد، فرد صمد، لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوًا أحد.
عند قيادتك لسيارتك أو في أي وقت فراغ رطّب لسانك بذكر الله، وأكثِر في هذه الأوقات من قراءة المعوذتين والإخلاص، ودُم على ذلك، وستزداد في النور والبهاء.
إذا استحضرت مع هذه التلاوة معاني الآيات فاستحضِر عند قراءتك: ((قُلْ هُوِ اللهُ أَحَدٌ)) أن الله الواحد الأحد الذي لا نظير له ولا وزير، ولا ند له ولا شبيه ولا عديل، فهو سبحانه الكامل في جميع صفاته وأفعاله، إذا اعتقدت ذلك: أن الله الواحد الأحد الذي لا نظير له ولا وزير، ولا ند له ولا شبيه ولا عديل، فهو سبحانه الكامل في جميع صفاته وأفعاله، فأنت تخالف اليهود في قولهم: عُزير ابن الله، وتخالف النصارى في قولهم: المسيح ابن الله، وتخالف المجوس في عبادتهم الشمس والقمر، وتخالف المشركين في عبادتهم الأوثان،
فاستحضر هذا المعنى عند قراءتك: ((قُلْ هُوِ اللهُ أَحَدٌ))، واستحضر عند قولك: ((اللهُ الصَّمَدُ)) أن الله هو السيد الذي كَمُل في سُؤْدَدِه، والشريف الذي كَمُل في شرفه، والعظيم الذي قد كَمُل في عظمته، والحليم الذي قد كَمُل في حِلمه، والعليم الذي قد كَمُل في علمه، والحكيم الذي كَمُل في حكمته، وهو الذي قد كَمُل في أنواع الشرف والسُؤْدد. سبحان من يصمد إليه العباد في قضاء حوائجهم. سبحان الصمد الذي لا جوف له، ولا يأكل ولا يشرب، وهو الباقي في خلقه الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوًا أحد.
سبحان من ليس له ولد ولا والد ولا زوجة، ((بَدِيعُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ)) الأنعام:101، فهو سبحانه مالك كل شيء وخالقه، فكيف يكون له من خلقه نظير يساميه أو قريب يدانيه؟! ((وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا أَن دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا وَمَا يَنبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَن يَتَّخِذَ وَلَدًا إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إِلا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا)) مريم:88-95،
وقال ربّ العزة: ((كذّبني ابن آدم ولم يكن له ذلك، وشتمني ولم يكن له ذلك، فأما تكذيبه إياي فقوله: لن يعيدني كما بدأني، وليس أول الخلق بأهون عليَّ من إعادته، وأما شتمه إياي فقوله: اتخذ الله ولدًا، وأنا الأحد الصمد، لم ألد ولم أولد، ولم يكن لي كفوًا أحد)). وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيراً
( 35 ) وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً
الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، وعلى آله وصحبه ومن والاه ، وبعد :
يقول الله تعالى وهو أصدق القائلين (( وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَاماً{63} الفرقان
هذه لوحة قرآنية رسمت فيها صفات عباد الرحمن وضح الله فيها معالمهم وصفاتهم وجعلهم أنموذجاً يقتدى بهم ويتأسى بهموعباد الرحمن هم المنسوبون إلى الله وحده فكما أن هناك عباد للشيطان وللطاغوت وللشهوات فإن هناك عباداً لله ، وكما أن هناك عباداً للدنيا والنساء فإن هناك عبيدُ لله وحده .
هؤلاء العباد الذين يئس الشيطان من أن يغويهم أو يجد منفذاً للسيطرة عليهم فقد أقسم كما قال جل وعلا : (قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ{82} إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ{83})) ص
وقال تعالى : (إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ))الحجر42
عباد الرحمن نسبهم الله إلى ذاته
عباد الرحمن إنه الرحمن الذي علم أنهم أهل لرحمته وأن رحمته تحيطهم عن يمينٍِ وشمال ومن فوقهم ومن تحتهم .
(جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمَانُ عِبَادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا) مريم 61، (قُلْ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى) 59 النمل.
أخي الحبيب يا عبد الله
أتريد أن تكون من عباد الرحمن ؟ أتريد أن تنتسب إلى الله عز وجل أتريد أن تكون واحداً من هؤلاء ما عليك إلا أن تتصف بصفات عباد الرحمن قولاً وعملاً فما أكثر من يقول : أنا من عباد الرحمن ولكن أفعاله تقول غير ذلك أول صفة من صفاتهم كما قال تعالى : (وعبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً))
إنّ صفة المشي لها عند الله قيمة لأنها تعبر عما في الإنسان من مشاعر وأخلاق فالمتكبرون والمتجبرون لهم مشية والمتواضعون لهم مشية كل يمشي معبراً عما في ذاته
عباد الرحمن يمشون على الأرض هوناً متواضعين هيّنين ليّنين يمشون بسكينةٍ ووقار بلا تجبر واستكبار ولا يستعلون على أحد من عباد الله .
عباد الرحمن يمشون مشية من يعلم أنه من الأرض خرج وإلى الأرض يعود ((مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى))طه55
اعلموا أيها المسلمون
أنه ليس معنى يمشون على الأرض هوناً أنهم يمشون متماوتين منكسي الرؤوس كما يفهم بعض الناس فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أسرع الناس مشيةىً وأحسنها وأسكنها
قال أبو هريرة رضي الله عنه:
(ما رأيت شيئاً أحسن من رسول الله كأن الشمس تجري في وجهه ، وما رأيت أحداً أسرع في مشيته من رسول الله كأنما الأرض تطوى له ).
ورأى عمر بن الخطاب رجلاً يمشي رويداً مطاطأ الرأس فقال : مالك أأنت مريضاً ؟ قال : لا فعلاه بالدرة وأمره أن يمشي مشية الأقوياء .
ورأت أحد أزواج النبي شباباً يمشون متماوتين فقالت من هؤلاء ؟ قالوا النسّاك الزهاد.
فقالت : لقد رأيت أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وما كانوا هؤلاء والقرآن نهى عن مشي المرح والبطر والفخر والاختيال قال تعالى : ((وَلاَ تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحاً إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ الأَرْضَ وَلَن تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولاً))الإسراء37
وهذا لقمان يوصي ابنه ((وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ ))لقمان18
لا تُمِلْ وجهك عن الناس إذا كلَّمتهم أو كلموك؛ احتقارًا منك لهم واستكبارًا عليهم, ولا تمش في الأرض بين الناس مختالا متبخترًا, إن الله لا يحب كل متكبر متباه في نفسه وهيئته وقوله.
ولا تكلم الناس وأنت معرض عنهم بل أقبل عليهم بوجهك وتواضع وابتسم فالابتسامة صدقة والله لا يحب كل مختالٍ فخور,المختال الذي يُظهر أثر الكبر في أفعاله.
والفخور الذي يظهر أثر الكبر في أقوالهوالله يحب المتواضع الذي يعرف قدر نفسه ولا يحتقر أحداً من الناس كان النبي صلى الله عليه وسلم يدعوويقول:
( اللهم أحييني مسكيناً ومتني مسكيناً وأحشرني في زمة المساكين )
روى الامام أحمد قوله صلى الله عليه وسلم : (( من تعظم في نفسه أو اختال في مشيته لقي الله تبارك وتعالى وهو غضبان ))
وروى مسلم عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( بينما رجل ممن قبلكم يتبختر يمشي في بردته قد أعجبته نفسه فخسف الله به الأرض فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة )
إذاً علام يتكبر الناس علام يتميزون علام يستعلون على عباد الله بأموالهم ومناصبهم ولو نظروا إلى أنفسهم لوجدوا أن أباهم الماء المهين وجدّهم التراب كما قال تعالى : ( وبدأ خلق الإنسان من طين ، ثم جعل نسله من سلالةٍ من ماءٍ مهين ).
رأى مطرف بن عبد الله أحد الأمراء يمشي متبختراً فنهاه وقال هذه مشيةٌ يبغضها الله تعالى فقال له : أما تعرفني ؟ قال : نعم أعرفك.. وأعرف من أنت . انت الذي أولك نطفة مذرة ، وآخرك جيفةُ قذره ، وأنت مع ذلك تحمل العذره
فيا عجباً ممن خرج من مجرى البول مرتين كيف يتكبر .
ولا يمشي فوق الأرض إلا تواضعاً
فكم تحتها قوم همُ منك أرفعُ
... وإن كنت عزٍ وجاهٍ ومنعةٍ
... ... ... ... فكم مات من قومٍ همو منكم أقنعُ
ولذلك كان صلى الله عليه وسلم سيد المتواضعين كان يمشي خلف أصحاب كواحدٍ منهم وكان يجلس لا يتميز عليهم ، حتى أن الرجل الغريب ليأتي فيقول أيكم بن عبد المطلب وكان في بيتكم في مهنة أهله ، يرقع ثوبه ويخصف نعله ويحلب شاته .
وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيراً.
( 36 ) وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَاماً

الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، وعلى آله وصحبه ومن والاه ، وبعد :
عباد الرحمن هم الذين يمشون على الأرض هوناً وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاماً .
فهم لا يلتفتون إلى حماقة الحمقى وسفه السفهاء ويترفعون عن الرد عن كل سب وشتم واستهزاء إنما هم أكرم وأرفع " وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاماً.

وقال تعالى :((وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُواْ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلإِنْسَانِ عَدُوّاً مُّبِيناً ))الإسراء53
وقل لعبادي المؤمنين يقولوا في تخاطبهم وتحاورهم الكلام الحسن الطيب؛ فإنهم إن لم يفعلوا ذلك ألقى الشيطان بينهم العداوة والفساد والخصام. إن الشيطان كان للإنسان عدوًا ظاهر العداوة.
عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: ( لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم فاحشا ولا متفحشا، وكان يقول: إن من خياركم أحسنكم أخلاقا ) البخاري ومسلم والترمذي.
عن أبي الدرداء أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( ما من شيء أثقل في ميزان المؤمن يوم القيامة من خلق حسن، وإن الله ليبغض الفاحش البذيء) الترمذي وابن حبان في صحيحه.
عن عائشة رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " إن المؤمن ليدرك بحسن الخلق درجة الصائم والقائم " أبو داود وابن حبان في صحيحه.
عن عمار بن ياسر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( حسن الخلق خلق الله الأعظم).
إن دعامة حسن الخلق التي بها يقوم، الرفق واللين والمعاملة الطيبة ومداراة السفهاء، وقد امتن الله تعالى على نبيه صلى الله عليه وسلم بأن جعله لينا مع القوم غير فظ ولا عنيف ولا جبار فقال: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنْ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ)آل عمران 159؛ ونصح موسى وأخاه هارون عليهما السلام إذ أرسلهما إلى فرعون (فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى) طه 44.
قال صلى الله عليه وسلم :
( إن الله رفيق يحب الرفق في الأمر كله )البخاري ومسلم.
( إن الله رفيق يحب الرفق، ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف وما لا يعطي على سواه ) مسلم.
" من أعطي حظه من الرفق فقد أعطي حظه من الخير، ومن حرم حظه من الرفق فقد حرم حظه من الخير".
" ألا أخبركم بمن يحرم على النار، أو بمن تحرم عليه النار؟ تحرم على كل هين لين سهل".
وحسن الكلام مع الأعداء يطفئ خصومتهم ويكسر شوكتهم (( وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ )) فصلت34 وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيراً
( 37 ) وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِيَاماً
الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، وعلى آله وصحبه ومن والاه ، وبعد :
هؤلاء عباد الرحمن رأينا حالهم مع أنفسهم وهو بالتواضع لا الفخر ولا الكبرياء وحالهم مع الناس بالصبر على جهل السفهاء .
ثم انظروا حالهم مع ربهم إذا خيّم الليل وأرخى سدوله إذا أوى الناس إلى فرشهم كان عباد الرحمن مع ربهم ((يبيتون لربهم سجداً وقياماً ))
بينما كثير من الناس في غفلاتهم نائمون وفي سهرهم ماجنون هناك عباد يبيتون لربهم سجداً وقياماً ، إنهم يضعون الجباه التي لم تنحني لمخلوق يضعونها بين يدي الله جل وعلا راكعة ساجدة خاشعة خائفة طائعة
((إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّداً وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ ))السجدة15
وهم قياما يتلون أيات الله يسألونه الجنه ويستعيذون به من النار.
إنهم يفعلون ذلك ليس طلباً لمرضاة احد ولا لإيتغاء محمدة او شهرة وإنما يبيتون لربهم سجّداً وقياماً يبتغون وجهه يرجون رحمته ويخافون عذابه .
وصدق الله القائل عنهم ((أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاء اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ ))الزمر9
لما أرشد الله تعالى أولياءه إلى صفة ما ينبغي أن يكون عليه حالهم بالنهار، من ترك الإيذاء والعدوان مبادأة وجزاء، عقب بذكر صفاتهم بالليل سجودا وقياما (وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا )؛ فتكامل بذلك يوم المؤمن ليله ونهاره، سره وعلانيته، برا بالخلق وقياما بحق الخالق.
إن قيام الليل أفضل العبادات بعد المفروضات، لأن العبد يخلو فيه إلى ربه دون رياء أو تسميع، ويدعوه ويتضرع له بطمأنينة نفس وهدوء بال وخشوع قلب، خاليا من هموم الدنيا وشوائب الحياة وشواغل الكسب والأهل والولد، فتكون عبادته أشد إخلاصا ودعاؤه أكثر صدقا، وموقفه من ربه أبلغ قربا، كما ورد في حديث مسلم عن أبي هريرة أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: ( أقرب ما يكون العبد من ربه عز وجل وهو ساجد، فأكثروا الدعاء )، أما إن كان السجود والدعاء والتضرع في جوف الليل كما ترشد إليه الآية الكريمة، فذلك الفوز الكبير والنجح الوفير؛ أخرج مالك والبخاري ومسلم والترمذي وغيرهم عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " ينزل ربنا إلى سماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر فيقول: من يدعوني فأستجيب له، من يسألني فأعطيه، من يستغغفرني فأغفر له؟ ".
وروى أبو داود والترمذي والحاكم عن عمرو بن عنبسة أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: " أقرب ما يكون العبد من الرب في جوف الليل، فإن استطعت أن تكون ممن يذكر الله في تلك الساعة فكن " .
وروى الترمذي أيضا عن أبي أمامة قال: قيل يا رسول الله، أي الدعاء أسمع – أي أرجى عند الله تعالى- ؟ قال( جوف الليل الأخير ودبر الصلوات المكتوبات) .
عباد الرحمن هم الذين تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفاً وطمعاً
روى الامام احمد عن عبد الله بن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم
قال ((عجب ربنا تعالى من رجلين رجل ثار عن وطائه ولحافه من بين اهله الى صلاته فيقول الله جل وعلا انظروا الى عبدي ثار عن فراشه ووطائه رغبةًفيما عندي وشفقةًمما عندي
ورجل غزا في سبيل الله ثم إنهزم اصحابه فرجع حتى يهريق دمه فيقول الله انظروا الى عبدي رجع رجاء فيما غندي وشفقةً مما عندي ))
((إنهم عباد الرحمن كَانُوا قَلِيلاً مِّنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ)) الذاريات17
مات أحد علماء الصوفية في عصره هو الجنيد فقيل له يا امام ما فعل الله بك فقال ذهبنت تلك الاشارات وطاحت العبارات وضاعت العلوم ولم ينفعنا إلا ركعات كنّا نركعها في السحر.
عباد الرحمن
تتجافى جنوبهم عن المضاجع
كلهم مابين خائف متهجد وطامع
تركوا لذة الكرى للعيون الهواجع
وأستهلّت عيونهم فائضات المدامع
ودعوا ياربنا ياجميل الصنائع
عباد الله
شتان بين من يقضي الليل في طاعة الله وبين من يقضيه في معصيةالله
شتان بين من يسهر في لهو وعبث حتى قرب الفجر فإذا قرب الفجر ناموا
وبين من يقضي الليل صلاةً واستغفاراً وتسبيحاً ونوماً على ذكر الله .
شتان بين من يقضي الليل في إجرام يدبر المكائد والشرور لعباد الله الصالحين
وبين من يقضي الليل علماً وتعلماً ودعوة الى شرع الله.
عباد الرحمن
إذا ما الليل أظلم كابدوه
فيسفر عنهم وهم ركوع
أطار الخوف نومهم فقاموا
,اهل الامن في الدنيا هجوع
قال صلى الله عليه وسلم:
((إن في الجنةغرفاً يرى ظاهرها من باطنها وباطنها من ظاهرها قيل هي لمن يارسول الله قال((لمن أطاب الكلام وأطعم الطعام وصلى بالليل والناس نيام)) رواه الترمذي
اللهم اجعلنا من عبادك الصادقين من عبادك المتقين الذين يستمعون القول فيتبعون احسنه وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيراً

(
38 ) وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ
الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، وعلى آله وصحبه ومن والاه ، وبعد :
يذ كرالله صفة لعباده في كل الأوقات وفي جوف الليل أرجى: وهي سعيهم الدائب للنجاة من النار والدعاء إلى الله تعالى أن يعيذهم منها (وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا(65)إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا)؛ والعذاب الغرام هو الألم الموجع الملح الملازم، والهلاك والخسران الدائم، يوضح ذلك وصفه لجهنم بأنها ( ساءت مستقرا ومقاما) ، وكونُها مستقرا خاصٌّ بالعصاة من أهل الإيمان، وكونها مقاما خاصٌّ بأهل الكفر لأنهم يخلدون فيها.إن الإِشارة إلى توجه عباد الرحمن بالدعاء إلى الله تعالى أن يصرف عنهم عذاب جهنم، مع اجتهادهم في العبادة وصدقهم في النية والقصد، دليل على أنهم في قمة الإخلاص خوفا من الله تعالى ورجاء فيه، وهذا كقوله سبحانه: (وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ ) المؤمنون60، وقد روى الحاكم عن ابن عباس قال:
لما أنزل الله على نبيه صلى الله عليه وسلم ( يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ) التحريم 6، تلاها رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم على أصحابه، فخر فتى مغشيا عليه، فوضع النبي صلى الله عليه وسلم يده على فؤاده فإذا هو يتحرك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " يا فتى قل لا إله إلا الله " فقالها، فبشره بالجنة، فقال أصحابه: يا رسول الله أمن بيننا؟ قال: " ما سمعتم قوله تعالى(ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ) ؟ إبراهيم14. وقد روى الترمذي عن أبي هريرة قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " من خاف أدلج، ومن أدلج بلغ المنزل، ألا إن سلعة الله غالية، ألا إن سلعة الله الجنة".إن منزلة الخوف والرجاء هي مقام عباد الرحمن في الدنيا، ومن كان هذا حاله توج عمله بالحياء من الله تعالى والمحبة له ولأوليائه، وطهر لسانه من الكذب والغيبة وفضول القول، وبطنه من حرام المشرب والمطعم، وجوارحه من الآثام والفواحش، وقلبه من العداوة والخيانة والغش والحسد والرياء؛
فعن أنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل على شاب وهو في الموت فقال: " كيف تجدك؟ " قال: أرجو الله يا رسول الله، وإني أخاف ذنوبي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( لا يجتمعان في قلب عبد في مثل هذا الموطن إلا أعطاه الله ما يرجو وأمنه مما يخاف ) - الترمذي وابن ماجه وابن أبي الدنيا-، أما الدعاء وحده مع الإصرار على المعصية فذلك محض الجهل والغفلة والغرور والتعلق بالأماني، يقول تعالى:
(لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا) النساء123
إن لكل حق حقيقة يتجلى بها في أوضح صورة, وإن حقيقة عباد الرحمن أن تتوافر فيهم العقيدة السليمة والطاعات المفروضات عملا وتركا، والمعاملة اللينة الهينة الرحيمة مع الخلق، وذلك هو النور الرباني الذي يغشى قلوبهم ، ويأخذ بنواصيهم إلى جادة الخير والرحمة، ولله در حارثة رضي الله عنه إذ قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( كيف أصبحت يا حارثة؟ " قال: أصبحت مؤمنا حقا، فقال عليه الصلاة والسلام: " انظر ما تقول، فإن لكل حق حقيقة، فما حقيقة إيمانك؟ " ، فقال: عزفت نفسي عن الدنيا، وأسهرت ليلي وأظمأت نهاري، وكأني أنظر إلى عرش ربي بارزا،وكأني أنظر إلى أهل الجنة يتزاورون فيها وإلى أهل النار يتعاورون فيها، فقال عليه الصلاة والسلام: " عرفت فالزم "، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من سره أن ينظر إلى رجل نور الله الإيمان في قلبه فلينظر إلى هذا "، ثم قال: يا رسول الله ادع لي بالشهادة، فدعا له فنودي بعد ذلك: يا خيل الله اركبي، فكان أول فارس ركب فاستشهد في سبيل الله-أخرجه الترمذي والطبراني والبزار والسيوطي في الدر المنثور-. وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيراً
( 39 ) وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا
الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، وعلى آله وصحبه ومن والاه ، وبعد :
من صفات عباد الرحمن الاعتدال في النفقة بقوله تعالى: (وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاما) 67 الفرقان، وهو نظير قوله تعالى(وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيرا) الإسراء 26، وقوله عز وجل: (وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً) الإسراء29.والإسراف عباد الله هو مجاوزة الحد في النفقة وبذل المال.
أما الإقتار والقتر والتقتير فهو التضييق الذي يعد نقيض الإسراف.
وبين الإسراف والتقتير درجة الاعتدال، وهي الفضيلة التي حث القرآن عليها بقوله: (وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاما) الفرقان 67، أي وسطا واعتدالا بين الغلو والتقصير، وبين الإفراط والتفريط. إلا أن هذه الدرجة الوسط بين رذيلتي التقتير والإسراف، يبقى أمر تحديدها رهنا بمستوى ورع المرء وتقواه وإيثاره الدنيا على الآخرة، ومقامه بين حديها الأعلى والأدنى، وأدنى ذلك أن يبذل زكاة ماله ونفسه، وطعام عياله وأرحامه وضيوفه، وأعلاه أن يحتفظ لنفسه بقوت يومه، ويبذل ما سوى ذلك في أوجه البر والخير، لأن الأصل أن لا إسراف في البذل والخير، وأن الإمساك عن الطاعة هو الإقتار بعينه، ولذلك يقول عز وجل:
( وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِين) البقرة195، وتعني التهلكة الإمساك عن طاعة الإنفاق.
( وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُون( البقرة272
( وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ) سبأ 39
وأخرج البخاري): قَالَ عَبْدُاللَّهِ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَيُّكُمْ مَالُ وَارِثِهِ أَحَبُّ إِلَيْهِ مِنْ مَالِه؟"ِ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا مِنَّا أَحَدٌ إِلَّا مَالُهُ أَحَبُّ إِلَيْه،ِ قَال:"َ فَإِنَّ مَالَهُ مَا قَدَّمَ وَمَالُ وَارِثِهِ مَا أَخَّر"َ (
وعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ (أَنَّ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الصُّفَّةِ مَاتَ فَوُجِدَ فِي بُرْدَتِهِ دِينَارَانِ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" كَيَّتَان ") أحمد
وعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْتَفَتَ إِلَى أُحُدٍ فَقَال:"( وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ مَا يَسُرُّنِي أَنَّ أُحُدًا يُحَوَّلُ لِآلِ مُحَمَّدٍ ذَهَبًا أُنْفِقُهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمُوتُ يَوْمَ أَمُوتُ أَدَعُ مِنْهُ دِينَارَيْنِ إِلَّا دِينَارَيْنِ أُعِدُّهُمَا لِدَيْنٍ إِنْ كَانَ" فَمَاتَ وَمَا تَرَكَ دِينَارًا وَلَا دِرْهَمًا وَلَا عَبْدًا وَلَا وَلِيدَةً وَتَرَكَ دِرْعَهُ مَرْهُونَةً عِنْدَ يَهُودِيٍّ عَلَى ثَلَاثِينَ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ ) أحمد
لذلك كان السلف الصالح يرون من الورع ألا يجمع المرء ما لا يأكل ولا يبني ما لا يسكن، وذلك ما أشار إليه مجاهد بقوله: ( لو أنفق رجل مثل أبي قبيس ذهبا في طاعة الله تعالى لم يكن سرفا، ولو أنفق صاعا في معصية الله تعالى كان سرفا)، وقال ابن عباس: ( الإسراف الإنفاق في معصية الله، والإقتار منع حق الله)، وسأل وهيب بن الورد عالما: ما البناء الذي لا سرف فيه؟ قال: ما سترك عن الشمس وأكنك من المطر، فقال: ما الطعام الذي لا سرف فيه؟ قال: ما سد جوعتك،فقال له في اللباس، قال: ما ستر عورتك ووقاك من البرد.
إن الإنفاق المقبول عند الله تعالى في أوجه البر رهن بمدى حلّية المال وطيبته: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيد ) البقرة 267،
كما يتحدد مقداره بمستوى علو همة المنفق وسمو مرتبته في سلم العابدين ومدارج السالكين ومرقاة الواصلين، ومدى تعلقه بالآخرة وثقته بالله تعالى؛ لذلك فالعدل والقوام بين الإسراف والتقتير نسبي بهذه الصفة، ولكل منفق أجره وثوابه إن قصد وجه الله عز وجل، وأنفق من طيبات ما كسب، أما الإسراف فحقيقته الإنفاق في معصية الخالق أو الإضرار بالمخلوق.
وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيراً.
( 40 ) وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَر
الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، وعلى آله وصحبه ومن والاه ، وبعد :
من صفات عباد الرحمن التوحيد الخالص بقوله تعالى: ( وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَر) الفرقان68، وذلك لأن دعوة غير الله تعالى معه أو من دونه، أعظم ما ارتكب من خطايا وآثام ( وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لاِبْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيم) لقمان 13 ( إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْماً عَظِيماً)، وأخطر ما اعتدي به على حق الله عز وجل( إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَار)المائدة 72.
سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيُّ الذَّنْبِ أَكْبَرُ قَالَ( أَنْ تَجْعَلَ لِلَّهِ نِدًّا وَهُوَ خَلَقَكَ " قَالَ: ثُمَّ أَي؟،ٌّ قَال:"َ أَنْ تَقْتُلَ وَلَدَكَ خَشيَة َأَنْ يَطْعَمَ مَعَكَ " قَال:َ ثُمَّ أَي؟،ٌّ قَال:"َ أَنْ تُزَانِيَ حَلِيلَةَ جَارِك"َ ،َ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَصْدِيقَ ذَلِكَ ( وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا) مسلم واحمد.
إخواني أن الشرك نوعان : أحدهما الشرك الأكبر وهو المخرج من الملة، وثانيهما الشرك الخفي أو الأصغر الذي يعد ذنبا عظيما تجب المبادرة بالتوبة منه، لأنه مدعاة للعقوبة الشديدة في الآخرة؛ ومن أمثلته أن تعمل العمل لله ولوجوه الناس، أو للمنزلة أو للتسميع والرياء، )عَنْ مَحْمُودِ بْنِ لَبِيدٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:" إِنَّ أَخْوَفَ مَا أَخَافُ عَلَيْكُمُ الشِّرْكُ الْأَصْغَرُ قَالُوا وَمَا الشِّرْكُ الْأَصْغَرُ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ الرِّيَاءُ يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِذَا جُزِيَ النَّاسُ بِأَعْمَالِهِمُ اذْهَبُوا إِلَى الَّذِينَ كُنْتُمْ تُرَاءُونَ فِي الدُّنْيَا فَانْظُرُوا هَلْ تَجِدُونَ عِنْدَهُمْ جَزَاءً " ) ابن حنبل
وعن أبي سعيد الخدري قَال:َ خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَحْنُ نَتَذَاكَرُ الْمَسِيحَ الدَّجَّالَ فَقَالَ:" أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِمَا هُوَ أَخْوَفُ عَلَيْكُمْ عِنْدِي مِنَ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ قَالَ: قُلْنَا بَلَى فَقَالَ:( الشِّرْكُ الْخَفِيُّ أَنْ يَقُومَ الرَّجُلُ يُصَلِّي فَيُزَيِّنُ صَلَاتَهُ لِمَا يَرَى مِنْ نَظَرِ رَجُلٍ " ) ابن ماجه
أما الشرك الأكبر المخرج من الملة فثلاثة أصناف:
شرك الربوبية، باعتقاد أن مع الله تعالى إلها آخر يخلق ويسير ويدبر…( إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلا تَذَكَّرُون) يونس 3 (أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ) الأعراف185.
شرك الألوهية، وهو التوجه بالعبادة صلاة وصياما وحجا ونسكا ورجاء وتوكلا وخوفا ورهبة ورغبة ومحبة لغير الله معه أو من دونه، أو اتخاذ الوسطاء بين العبد وربه كما لدى القبوريين والباطنيين واليهود والنصارى ( قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) الأنعام 162.
شرك الأسماء والصفات، كأن تسمي الله تعالى أو تصفه بما لم يرد في الكتاب والسنة، أو تعتقد أن مخلوقا يتصف بصفة كمال كاتصاف الله بها، كما لدى الخرافيين والمشعوذين الذين يدعون معرفة الغيب والقدرة المطلقة ( وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُون) الأعراف180، ( لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) الشورى 11
إن الشرك الأكبر هو الوجه الثاني للكفر، أما الأصغر فهو الممهد له المعبد طريقه المؤدي إليه. لذلك على المؤمن أن يبذل قصارى جهده لتجنب الشرك الأصغر وسد جميع الذرائع إليه، وأن يبادر بالاستغفار والتوبة من كل خاطرة أو لمحة أو نجوى بها شبهة ذلك.
( 41 ) وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَق
الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، وعلى آله وصحبه ومن والاه ، وبعد :
لا زلنا وإياكم في ضلال صفات عباد الرحمن وصفة اليوم هي صفة صيانة النفس البشرية من التلف، بقوله تعالى:
( وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَق) الفرقان 68، لأن الأصل في النفس البشرية أنها واحدة ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء) النساء 1، وقتل الجزء بمثابة قتل الكل. والأحاديث النبوية في الأمر كثيرة منها قوله صلى الله عليه وسلم: ( كل ذنب عسى الله أن يغفره إلا من مات مشركا أو قتل مؤمنا متعمدا) مورد الظمآن،
وقوله((قَتْلُ الْمُؤْمِنِ أَعْظَمُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ زَوَالِ الدُّنْيَا) النسائي وقوله صلى الله عليه وسلم ( أَوَّلُ مَا يُقْضَى بَيْنَ النَّاسِ بِالدِّمَاءِ) البخاري.
ويشمل ذلك قتل الإنسان نفسه، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((مَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ بِحَدِيدَةٍ فَحَدِيدَتُهُ بِيَدِهِ يَجَأُ بِهَا فِي بَطْنِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيهَا أَبَدًا وَمَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ بِسُمٍّ فَسُمُّهُ بِيَدِهِ يَتَحَسَّاهُ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيهَا أَبَدًا وَمَنْ تَرَدَّى مِنْ جَبَلٍ فَقَتَلَ نَفْسَهُ فَهُوَ يُرَدَّى فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيهَا أَبَدًا)) أحمدكما يشمل الإجهاض وعملية تحديد النسل، بطرق غير شرعية ولغير ضرورة معتبرة، وفي ذلك يقول الله تعالى ( قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ سَفَهاً بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ)الأنعام 140. ويشمل قتل الغير( وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ) الأنعام 151 ( مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرائيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً) المائدة32.عباد الله أيها المسلمون ومن صفات عباد الرحمن اجتناب فاحشة الزنى: بقوله تعالى (وَلا يَزْنُون) الفرقان 68، وكما قال تعالى: ( وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلا) الإسراء 32
ولذلك بين رسول الله صلى الله عليه وسلم العواقب المدمرة لشيوع الفاحشة في المجتمع( عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ أَقْبَلَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَال:"َ يَا مَعْشَرَ الْمُهَاجِرِينَ خَمْسٌ إِذَا ابْتُلِيتُمْ بِهِنَّ وَأَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ تُدْرِكُوهُنَّ ، لَمْ تَظْهَرِ الْفَاحِشَةُ فِي قَوْمٍ قَطُّ حَتَّى يُعْلِنُوا بِهَا إِلَّا فَشَا فِيهِمُ الطَّاعُونُ وَالْأَوْجَاعُ الَّتِي لَمْ تَكُنْ مَضَتْ فِي أَسْلَافِهِمِ الَّذِينَ مَضَوْا، وَلَمْ يَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِلَّا أُخِذُوا بِالسِّنِينَ وَشِدَّةِ الْمَئُونَةِ وَجَوْرِ السُّلْطَانِ عَلَيْهِمْ، وَلَمْ يَمْنَعُوا زَكَاةَ أَمْوَالِهِمْ إِلَّا مُنِعُوا الْقَطْرَ مِنَ السَّمَاءِ وَلَوْلَا الْبَهَائِمُ لَمْ يُمْطَرُوا، وَلَمْ يَنْقُضُوا عَهْدَ اللَّهِ وَعَهْدَ رَسُولِهِ إِلَّا سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ عَدُوًّا مِنْ غَيْرِهِمْ فَأَخَذُوا بَعْضَ مَا فِي أَيْدِيهِم،ْ وَمَا لَمْ تَحْكُمْ أَئِمَّتُهُمْ بِكِتَابِ اللَّهِ وَيَتَخَيَّرُوا مِمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَّا جَعَلَ اللَّهُ بَأْسَهُمْ بَيْنَهُم) ابن ماجه
وقد امتدح الله تعالى العفة وحرض عليها وبشر أصحابها بالفلاح ( وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ) المؤمنون 5، وأرشد إلى ما يعين على ذلك ويسد الذرائع إلى فاحشة الزنى ( قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُون) النور 30، وقال صلى الله عليه وسلم:( يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمُ الْبَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ فَإِنَّهُ لَهُ وِجَاءٌ) البخاري، كما حذر عز وجل حفظا للمجتمع وصيانة للأعراض من إشاعة الفاحشة بالقول أو الفعل أو سوء الظن(إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة) النور 19
ثم يُعقِب الله صفات عباد الرحمن بوعيد صارم للعصاة ، ووعد حق للطائعين التوابين.
أما وعيده فقوله تعالى (وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاما ) ، فقوله (ومن يتجرأ على فعل تلك الأثام من القتل والزنا يلق أثاما أي نكالا ووبالاً (يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانا) الفرقان 69، فالخلود في النار بسبب الشرك ودعوة غير الله تعالى، أما المؤمن فتضاعف عقوبته ولكنه لا يخلد في النار.
هذا الوعيد الصارم الشديد أسلوب يؤثر في النفس البشرية التواقة إلى النجاة والسعادة، إذ الخوف والرجاء فطرة بشرية أصيلة، والمؤمن الحق دائما بين خوف يرده عن المعاصي ورجاء يحث به الخطى نحو الجنة،( إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِين) الأنبياء90
وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيراً.
( 42 ) إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً
الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، وعلى آله وصحبه ومن والاه ، وبعد :
تأتي رحمة الله الواسعة لذلك عقب تعالى على ذكر العقوبة ، بفتح باب الرجاء والأمل والبشارة لمن أقلع وتاب ورجع إلى الحق والصواب، كيلا تتقطع قلوب العباد يأسا وقنوطا ، فقال (إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيما) الفرقان 70، فأرشد إلى طريق النجاة من العذاب المضاعف المخلد في النار، وبَيَّنَ أن التوبة مسلك ذلك ووسيلته الأولى والوحيدة.
إن حقيقة التوبة الرجوع عن الذنب إلى الطاعة، والله تواب: أي يتوب على عبده ويقبل توبته ويعود عليه بالمغفرة والفضل، أو يوفقه للتوبة ويسدد خطاه في طريقها.
و التوبة فرض على جميع المسلمين ، لقوله تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَار)، فوصفها تعالى بلفظ ( نصوح) تمييزا لها عن التوبة المائعة الوقتية التي سرعان ما تتلاشى؛ فالنصوح (أي الخلوص ) والصدق أهم صفاتها وجوهر حقيقتها، يقال " والتوبة النصوح كذلك لأنها تخلص صاحبها من كل الآفات وتصفيه من كل الذنوب.لذلك كانت للتوبة النصوح شروط لا تتحقق إلا بها، وهي:
1-الندم على ما ارتكب من السيئات. 2-الإقلاع عن رديء الأعمال والعادات.
3-القيام في الحال على أحسن الحالات.4- رد الحقوق والمظلمات.
5- العزم على ترك العودة إلى المخالفات.6- تدارك ما أمكن تداركه مما فات من الأعمال الصالحة والعبادات.
فالتوبة بذلك ندم يورث عزما وقصدا، وعلامة الندم رقة قلب خوفا ورجاء، وغزارة دمع حزنا واستغفارا، لذلك قال عمر رضي الله عنه: (اجلسوا إلى التوابين فإنهم أرق أفئدة). وعلامة العزم والقصد الإقلاع البات والجهد في الطاعة.و لقد رغب الشرع الحكيم في التوبة وحرض عليها وحببها بنصوص الكتاب والسنة فقال تعالى:
َ ( وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُون ) النور31
- (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِين ) البقرة 222
(أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيم) التوبة 104
(قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ) الزمر 53
(وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً رَحِيما ) النساء 110 وأخرج أحمد:حَدَّثَنَا عَن أَبِي مُوسَى عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَبْسُطُ يَدَهُ بِالنَّهَارِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ اللَّيْلِ وَيَبْسُطُ يَدَهُ بِاللَّيْلِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ النَّهَارِ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا
وأخرج مسلم: وَكَانَ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُحَدِّثُ ابْنَ عُمَرَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ تُوبُوا إِلَى اللَّهِ فَإِنِّي أَتُوبُ فِي الْيَوْمِ إِلَيْهِ مِائَةَ مَرَّةٍ
إن الله عز وجل يستثني من العذاب، التوابين توبة نصوحا، توبة في طياتها الإيمان والعمل الصالح، ويجزيهم على ذلك جزاء أوفى يناسب عظمة كرمه وعفوه، ومن أكرم منه تعالى؟ ومن أكثر عفوا منه سبحانه؟ يقول عز وجل: (فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً) الفرقان 70
أخرج الإمام أحمد: حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ عَنِ الْمَعْرُورِ بْنِ سُوَيْدٍ عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنِّي لَأَعْرِفُ آخِرَ أَهْلِ النَّارِ خُرُوجًا مِنَ النَّارِ وَآخِرَ أَهْلِ الْجَنَّةِ دُخُولًا الْجَنَّةَ يُؤْتَى بِرَجُلٍ فَيَقُولُ نَحُّوا كِبَارَ ذُنُوبِهِ وَسَلُوهُ عَنْ صِغَارِهَا قَالَ فَيُقَالُ لَهُ عَمِلْتَ كَذَا يَوْمَ كَذَا وَكَذَا وَعَمِلْتَ كَذَا يَوْمَ كَذَا وَكَذَا قَالَ فَيَقُولُ يَا رَبِّ لَقَدْ عَمِلْتُ أَشْيَاءَ لَمْ أَرَهَا هُنَا قَالَ فَضَحِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى بَدَتْ نَوَاجِذُهُ قَالَ فَيُقَالُ لَهُ فَإِنَّ لَكَ مَكَانَ كُلِّ سَيِّئَةٍ حَسَنَةً.
وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيراً.
( 43 ) وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ
الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، وعلى آله وصحبه ومن والاه ، وبعد :
صفات عباد الرحمن تتوالى ومن صفاتهم قال تعالى بعد ذلك (وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ ) الفرقان72وحرف الزاي والواو والراء أصل واحد يدل على الميل والعدول، ومنه " ازوَرَّ عن الشيء" إذا مال عنه وانحرف، وكل ما هو تغيير للحق والحقيقة زور، فالكذب زور لأنه ميل عن طريق الحق، والشرك والكفر والباطل أيا كان زور، ومجالس اللهو والعبث والفاحشة زور كذلك، أما شهادة الزور فمنها حضور كل مجلس يجري فيه ما لا يجوز شرعا أو مروءة، لأن مجرد مشاهدة هذه المجالس أو حضورها اشتراك فيها وإقرار لها ورضا بها، يقول تعالى: (وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ) الأنعام 68، ويقول أيضا: (فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ ) الحج30، ومنها أيضا تزوير الحقائق وقلبها عند تأدية الشهادة إن احتيج إليها، وهو ما رواه البخاري في صحيحه، قال عَنْ عَبْد ِالرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرَةَ عَنْ أَبِيهِ رَضِي اللَّه عَنْه قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" أَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِأَكْبَرِ الْكَبَائِر"ِ ثَلَاثًا، قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَال:َ " الْإِشْرَاكُ بِاللَّهِ وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْن "،ِ وَجَلَسَ وَكَانَ مُتَّكِئًا فَقَال:"َ أَلَا وَقَوْلُ الزُّورِ"، قَالَ فَمَا زَالَ يُكَرِّرُهَا حَتَّى قُلْنَا لَيْتَهُ سَكَتَ ) . والآية بهذا تحرم الزور قولا وفعلا وسماعا ومشاهدة وشهادة، وتنزه المؤمن عن مخالطة الشر وأهله، وتصون دينه عما يثلمه ويشينه.
ثم يقول تعالى (وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَاماً ) الفرقان72:
واللغو هو كل ما سقط من قول أو فعل أو سفاهة، وما لا يعتد به ولا تحصل منه فائدة،. واللغو كل ما يجب أن يلغى ويترك من الأقوال والأفعال مما ليس بطاعة أو مباح؛ فإذا صادف أن مر المؤمن بمجالس الزور واللغو أكرم نفسه ونزهها بالإعراض والإنكار وترك الخوض فيها أو المساعدة عليها أو النظر والمشاهدة لها (وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَاماً ).
وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيراً.
( 44) وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمّاً وَعُمْيَاناً
الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، وعلى آله وصحبه ومن والاه ، وبعد :
عباد الله يقول جل وعلا : (وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمّاً وَعُمْيَاناً ) الفرقان73:
وللمرء إذا ما ذُكر بآيات الله وآلائه ونعمه، أو وجه إليه نصح أو ترغيب في رضا الله أو ترهيب من غضبه، أو حث على فعل الواجب واجتناب المحرم، أحد موقفين:
إما أن يتلقى ذلك مفتحا ذهنه حريصا على الاستفادة، مقبلا على المذكر الناصح بأذن واعية وعين راعية وقلب خاشع، ممتثلا لشرع الله وحكمه، وهو بذلك من (الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ ) الزمر18.
وإما أن يخر على النصح بأذن صماء وعين عمياء وقلب مختوم عليه، لا يتأثر ولا يتغير، ويبقى مستمرا على الغواية والضلال والجهل والكفر، وعن مثله قال تعالى:( وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْأِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ ) الأعراف 179.
أيها المسلمون إن الذين يذكرون بآيات الله صنفان: سعيد وشقي، وقلبان: حي وميت، وفيهما قال تعالى:( وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَاناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُون،َ وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ ) التوبة 124-125
والصفة الاخرى لعباد الرحمن فهم دائماً يدعون الله (و يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ ) الفرقان74:
لأن الرجل إذا كانت له زوجة صالحة وذرية طيبة مطيعة معاونة، وبورك له في أهله وولده قرت عينه بهم وسكنت عن ملاحظة أزواج الآخرين وذرياتهم، وذلك هو قرة العين وسكون النفس. ولذلك يحرص عباد الرحمن على أن يكون لهم أعقاب عمال لله تقر بهم الأعين، وأزواج صالحات يساهمن في تربية الذرية على التقوى والصلاح، فلا تنقطع أعمالهم بالموت وإنما تستمر في الأبناء والحفدة، ويوقنون أن ذلك هبة من الله تعالى فيلجؤون إليه بالدعاء والتوسل (قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاء )آل عمران 38 (فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيّاً يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيّاً ) مريم 5-6. قال صلى الله عليه وسلم:( إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث، صدقة جارية، وعلم ينتفع به، وولد صالح يدعو له) الترمذي والنسائي.
(وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً ) الفرقان74:
والمعنى أن من صفات عباد الرحمن أن يسألوا ربهم أن يبلغهم في العلم والدين مبلغا يجعلهم هداة إلى الخير دعاة إلى الطاعة، أئمة يقتدى بهم وتكون سيرتهم أسوة حسنة ودعوة صادقة يسترشد بها (وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ ) الأنبياء 73،
ثم ختم عز وجل وصفه لعباده المتقين بذكر الجزاء الذي أعده لهم فقال (أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلاماً) الفرقان 75, أي أن المتصف بالصفات الواردة في هذه الآيات ،وهي التواضع والحلم و التهجد و الخوف من الله، و الاعتدال في الأمر كله والرفق في القول والتصرف، والتنزه عن الشرك والكبائر، والتوبة والإعراض عن السوء وأهله، وتحمل الأذى والعفو عن أهله، واجتناب الزور واللغو، وقبول الموعظة و النصح، و الابتهال إلى الله طلبا للعون بالزوجة الصالحة والذرية الطيبة وببلوغ مرتبة الإمامة في الدين000 كان جزاءه بما صبر على الطاعة و عن الشهوات ثلاثة أصناف من التكريم0
1- الدرجة العليا من الجنة و قد عبر عنها القرآن " بالغرفة " (أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُواً) الفرقان 75, و الغرفة لغة هي كل بناء عال، يقول تعالى (وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ) سبأ 37, ( لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِهَا غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعَادَ) الزمر20
2- التعظيم، لقوله تعالى (وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلاماً) الفرقان 75, والتحية تكون لهم من الله تعالى (سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ) يس 58, و تكون أيضا من الملائكة (جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ) الرعد 23-24.
3- دوام هذا التعظيم خالصا غير منقطع، لا يشوبه سوء أو اضطراب، وخلود المقام في الجنة لا يظعنون ولا يحولون ولا يموتون (خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً)الفرقان 76, (وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ) هود 108.
أسال الله العلي القدير أن يجعلنا من عباده الذين إصطفاهم ورضي عنهم
وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيراً.
( 45 ) سورة العلق-1
الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، وعلى آله وصحبه ومن والاه ، وبعد :
إنّ أول سورة نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم بإجماع يكاد يكون تامًا هي صدر سورة العلق.
وروى الطبري - بإسناده - عن عبد الله بن الزبير . قال:" قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاءني - وأنا نائم - بنمط من ديباج فيه كتاب . فقال:اقرأ . فقلت:ما اقرأ . فغتني حتى ظننت أنه الموت . ثم أرسلني فقال:اقرأ . فقلت:ماذا أقرأ ? وما أقول ذلك إلا افتداء من أن يعود إلي بمثل ما صنع بي . قال: اقرأ باسم ربك الذي خلق . . . إلى قوله:علم الإنسان ما لم يعلم قال:فقرأته . ثم انتهى , ثم انصرف عني . وهببت من نومي , وكأنما كتب في قلبي كتابا . قال:ولم يكن من خلق الله أبغض علي من شاعر أو مجنون . كنت لا أطيق أن أنظر إليهما , قال:قلت:إن الأبعد - يعني نفسه - لشاعر أو مجنون ! لا تحدث بها عني قريش أبدا ! لأعمدن إلى حالق من الجبل فلأطرحن نفسي منه فلأقتلنها فلأستريحن ! قال:فخرجت أريد ذلك . حتى إذا كنت في وسط الجبل سمعت صوتا من السماء يقول:يا محمد . أنت رسول الله وأنا جبريل . قال فرفعت رأسي إلى السماء , فإذا جبريل في صورة رجل صاف قدميه في أفق السماء يقول:يا محمد أنت رسول الله وأنا جبريل . قال:فوقفت أنظر إليه , وشغلني ذلك عما أردت , فما أتقدم وما أتأخر , وجعلت أصرف وجهي عنه في أفاق السماء , فلا أنظر في ناحية منها إلا رأيته كذلك , فما زلت واقفا ما أتقدم أمامي , ولا أرجع ورائي , حتى بعثت خديجة رسلها في طلبي , حتى بلغوا مكة ورجعوا إليها وأنا واقف في مكاني . . ثم انصرف عني وانصرفت راجعا إلى أهلي . . . "
إن جبريل جاء النبي صلى الله عليه وسلم بصدر هذه السورة ((اقرأ باسم ربك الذي خلق خلق الإنسان من علق اقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم)), صدر السورة إلى هنا يكاد الإجماع ينعقد على أنه أول كلام إلهي صافح آذان البشرية حين تنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم,
إنه حادث ضخم . ضخم جدا . ضخم إلى غير حد . ومهما حاولنا اليوم أن نحيط بضخامته , فإن جوانب كثيرة منه ستظل خارج تصورنا !
إنه حادث ضخم بحقيقته . وضخم بدلالته . وضخم بآثاره في حياة البشرية جميعا . . وهذه اللحظة التي تم فيها هذا الحادث تعد - بغير مبالغة - هي أعظم لحظة مرت بهذه الأرض في تاريخها الطويل
ما حقيقة هذا الحادث الذي تم في هذه اللحظة ?
حقيقته أن الله جل جلاله , العظيم الجبار القهار المتكبر , مالك الملك كله , قد تكرم - في عليائه - فالتفت إلى هذه الخليقة المسماة بالإنسان , القابعة في ركن من أركان الكون لا يكاد يرى اسمه الأرض . وكرم هذهالخلقية باختيار واحد منها ليكون ملتقى نوره الإلهي , ومستودع حكمته , ومهبط كلماته , وممثل قدره الذي يريده - سبحانه - بهذه الخليقة .
وما دلالة هذا الحادث ?
دلالته - في جانب الله سبحانه - أنه ذو الفضل الواسع , والرحمة السابغة , الكريم الودود المنان . يفيض من عطائه ورحمته بلا سبب ولا علة , سوى أن الفيض والعطاء بعض صفاته الذاتية الكريمة .
ودلالته - في جانب الإنسان - أن الله - سبحانه - قد أكرمه كرامة لا يكاد يتصورها , ولا يملك أن يشكرها . وأن هذه وحدها لا ينهض لها شكره ولو قضى عمره راكعا ساجدا . . هذه . . أن يذكره الله , ويلتفت إليه , ويصله به , ويختار من جنسه رسولا يوحي إليه بكلماته . وأن تصبح الأرض . . مسكنه . . مهبطا لهذه الكلمات التي تتجاوب بها جنبات الوجود في خشوع وابتهال
ثم ذهبت السورة تحكي أمورًا أخرى ((كلا إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى إن إلى ربك الرجعى أرأيت الذي ينهى عبدًا إذا صلى أرأيت إن كان على الهدى أو أمر بالتقوى ألم يعلم بأن الله يرى كلا لئن لم ينته لنسفعًا بالناصية ناصية كاذبة خاطئة فليدع ناديه سندع الزبانية كلا لا تطعه واسجد واقترب)).
آيات قليلة بناؤها واضح, ولكنه معجز, القضايا التي أثارتها, المهمات التي طرحتها ما هي؟ هل فكرتم بها؟ تعالو نشترك بالتفكير, افتتاح السورة بقول الله جل اسمه خطابًا للنبي الكريم عليه السلام
" اقرأ " مع أن النبي صلى الله عليه وآله أمي, لا يقرأ ولا يكتب ولا يحسب, شيء يلفت النظر, ما معنى أن تقول للأمي اقرأ؟ ألست تكلفه محالاً, وتكليف المحال عبث لا يليق بالعقلاء, ما معنى تكليفك لأمي بالقراءة, ولو اجتهد مجهوده كله ما أطاق ذلك؟ لكن في الأمر لطيفة.
قول الله للنبي اقرأ لا يعني فقط أن الإنسان يجب أن يقرأ من الكتاب؛ لأن القراءة لا تتوقف على الكتاب فقط, يعني هذا أن الإنسان إذا كان لا يحسن أن يقرأ ويكتب فهذا لا يعفيه من عملية المتابعة وجمع المعلومات مشافهة, والنبي صلى الله عليه وسلم مع أنه لم يكن يقرأ ولم يكن يكتب ولم يخط بيمينه كتابًا كما أخبر الله في القرآن فقد استطاع بعون الله وعنايته أن يجمع في صدره الشريف الوحي المكرم بسماعه وبحروفه, والصحابة رضي الله عنهم الذين تلى عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا القرآن كانت غالبيتهم العظمى الساحقة لا تقرأ كتابًا, ولا تخط بيمينها شيئًا, ومع ذلك كان النبي عليه السلام يخبر بالآي من كتاب الله فيجمعه الصحابة رضي الله عنهم في صدورهم, وبذلك كانوا قارئين.
وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيراً
( 46 ) سورة العلق -2
الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، وعلى آله وصحبه ومن والاه ، وبعد :
إقرأ بإسم ربك الذي خلق كل أمر . كل حركة . كل خطوة . كل عمل . باسم الله . وعلى اسم الله . باسم الله تبدأ . وباسم الله تسير . وإلى الله تتجه . وإليه تصير .
والله هو الذي خلق . وهو الذي علم . فمنه البدء والنشأة , ومنه التعليم والمعرفة . . والإنسان يتعلم ما يتعلم , ويعلم ما يعلم . . فمصدر هذا كله هو الله الذي خلق والذي علم . .(علم الإنسان ما لم يعلم). .
((اقرأ باسم ربك الذي خلق)) ماذا يعني هذا القول؟ نحن نستمع في المحافل وفي المراسيم والقرارات: باسم الشعب الفلاني, باسم الأمة, نحن رئيس الجمهورية, أو نحن القاضي فلان, أو نحن الوزير الفلاني, نقر ما هو آت, فالتقرير ليس باسم شخص معين, وإنما هو باسم الأمة, وفقًا أو اعتبارًا بأن الأمة هي مصدر السلطان على النحو المفهوم والمرفوض في العصر الحاضر.
فقول الله جل وعلا ((اقرأ باسم ربك الذي خلق)) يشكل مفترقًا للطريق بين الإسلام وبين ركام الجاهلية وغثائها الذي كان معروفًا زمن النبي عليه السلام, والذي سيظل معروفًا مادامت الدنيا دنيا, وما دام الناس في شرورهم, هذا الذي نرى, القراءة والعلم, الحركة والانتباه, القيام والقعود, أي تصرف من التصرفات لا ينبغي أن يكون باسم فرد, ولا ينبغي أن يكون باسم أمة, وإنما ينبغي أن يكون باسم الله, الله جل وعلا هو المالك, وهو المتصف, وهو الخالق, وهو الرازق, فالاشتراك معه في الأمر والتقرير, والتقدير والنهي محاولة للاعتداء على سلطان الله جل وعلا في كونه, كل ما يفعله الإنسان ينبغي أن يكون باسم الله على وفق منهاج شرعه وعلى وصف خطى نبيه صلى الله عليه وسلم, والأفراد والأمم والشعوب لا حق لها في أن تأمر وفي أن تنهى, وتأتي بقية لهذا بعد قليل.
((اقرأ باسم ربك الذي خلق خلق الإنسان من علق)) العلق: العلقة في كلام العرب نقطة الدم اللزجة المتجمعة, حينما يشير القرآن ـ من أوليات الوحي ـ إلى هذه الحقيقة, يترك للذهن أن يشرح, يلاحظ هذه القطرة من الدم التي وقعت في الرحم, كيف نشأت؟ وكيف تطورت؟ وكيف تخلقت جنينًا في البطن؟ ثم كيف خرجت إلى عالم الدنيا طفلاً لا يكاد يستقل بنفسه, ولا يحصل لنفسه على نفع ولا يدفع عنها أذى, ثم مازالت عناية الله تحف بهذا المخلوق العاجز حتى كان طفلاً يدرج ثم شابًا, ثم كهلاً, ثم شيخًا, وإذا هو بشر سوي, هذا الإنسان الذي يتحرك ويأتي بالمعجزات, ويقدم المنجزات ويفتح في العلم فتوحًا تذهل العقول, وتستأسر الألباب, هذا بدايته نقطة دم علقة, فحين يناديك ربك بالعلم والقراءة وأنت لا تعلم ولا تقرأ لا تغفل أيها الإنسان عن أن وقوف الشيء ووقوف المخلوق عند مرحلة واحدة أمر محال, فكل شيء إلى تطور, وكل شيء إلى ترقي, وكل شيء إلى اندفاع نحو الأحسن, ونحو الأفضل وكما تخلقت هذه العلقة فكان منها الإنسان المدرك المحس الفعال المريد, المفكر المقدر, كذلك أنت لا تستقِل نفسك ولا تسهن بها, أنت اليوم لا تعلم لكنك لو حاولت أن تقرأ وأن تجمع علمًا إلى علم وكلامًا إلى كلام وقضية إلى قضية, فلن يمضي كبير زمن حتى تكون عالمًا مع العاملين فإذا قعدت عاجزًا لا تقرأ ولا تتكلم ولا تغشى مجالس العلم ولا تسأل, فحتى متى؟ متى تكون عالمًا ودينك دين العلم؟ متى تكون عالمًا وفي الإسلام لا مكان للجهلاء؟ متى تكون عالمًا وأنت اليوم تعيش في عصر ينبذ الجهلاء والجاهلين, كذلك يجب عليك أن تكون من العالمين ((اقرأ باسم ربك الذي خلق خلق الإنسان من علق اقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم)).
هذه الأداة التي هي القلم لا يكلف شراؤها إلا مبلغًا زهيدًا, لكن قيمتها الذاتية لا تقدر بثمن, بهذا القلم عرفنا أخبار الأولين واطلعنا على تجارب الماضي, ونقلت إلينا حقائق العلوم, وكل ما تتنعم به الإنسانية من تراث حضاري, فالفضل فيه يعود إلى القلم, الماضون كتبوا وقرأنا وتعلمنا, ونحن نكتب ونضيف إلى هذا التراث ما أعاننا الله عليه, وأولادنا يفعلون ذلك؟ بم كل هذا الشيء؟ بهذه الأداة التي لا يكاد أحدًا يلقي إليها بالاً, هي القلم, من الذي علمك أيها الإنسان أن تكتب بالقلم؟ الله, الله الذي لا إله إلا هو علم بالقلم, علم الإنسان ما لم يعلم.
اسمعوا ماذا تقول مطالع سورة البقرة: ((وإذا قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة)) ثم ((وعلم آدم الأسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم قال يا آدم أنبئهم بأسمائهم فلما أنبأهم بأسمائهم قال ألم أقل لكم إني أعلم غيب السموات والأرض وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون)).
الله جل وعلا اختص أبانا آدم بهذه الكرامة وسحب الكرامة على أبنائه جميعًا لغاية أرادها الله وهو أعلم بها وهي غاية الخلافة في الأرض والقوامة على كلمات الله والحراسة لشريعة الله تبارك وتعالى
((علم الإنسان ما لم يعلم كلا)) هذه السورة ترددت فيها "كلا" ثلاث مرات كلا, وأنت تقرأ السورة تشعر أنك حين تقول كلا كأنما أنت تقود سيارتك في الطريق وإذا بك فجأة أمام النور الأحمر, فتجد نفسك مضطرًا إلى الوقوف لأنك لو تجاوزت لعرضت نفسك لخطر محقق, لا تتجاوز كلا, بعد كلا, كلام عظيم ينبغي عليك أن تدركه وأن تفكر فيه طويلاً ((كلا إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى)) مفتاح القضية كلها في هاتين الكلمتين ((إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى)) ما الذي يحول بين الإنسان وبين الاهتداء لكلمات الله, ما الذي يحول بين الإنسان وبين قراءة آيات الله في الأنفس والآفاق.
وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيراً.
( 47 ) إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى
الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، وعلى آله وصحبه ومن والاه ، وبعد :
حقيقة واحدة, نبهت عليها هذه السورة ((إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى)) ما معنى الطغيان تقول: ملأت الكأس ماء فطغى الماء يعني أن الماء تجاوز حافة الكأس والإنسان حين يتجاوز حده نقول عنه طغى فلان, فالطغيان مجاوزة الحد المقدور للإنسان, ما أنت أيها الإنسان؟ عبد لم تكن إلهًا ولن تكون, وما ينبغي لك أن تنازع الله خصيصة الألوهية, أنت عبد حين تحاول أن تتعدى طورك وتجاوز مقدارك فأنت طاغ, والطغيان مجاوزة الحد ((كلا إن الإنسان ليطغى)) ليصرف عن الحد ويعرض عن الهدى, ويضرب بكلمات الله عرض الحائط بسبب طغيانه, بسبب نسيانه لنفسه, نسيانه لحقيقة ذاته, ما سبب ذلك أيضًا؟ ((أن رآه استغنى)), أن هذا تفسير المراد سبب ذلك أن الإنسان يشعر بأنه قد استغنى عن أية قوة خارج ذاته, فمن أجل ذلك هو يطغى ويتجاوز حده, ومن أجل ذلك ينسى حقيقة العبودية التي ينبغي ألاّ ينساها ومن أجل ذلك ينصرف ويعرض عن الحق.
ما معنى استغناء الإنسان؟ شعوره بأنه غير محتاج إلى غيره, تعززه بالولد, تعززه بالمال, تعززه بالجاه والسلطان, تلك هي الأدواء, استغناء الإنسان يسبب نسيانه لحقيقة بقائه في هذه الدنيا, سبب واضح من أسباب الإنصراف عن الحق, ولكن الإنسان حينما يضع نصب عينيه أنه أبدًا ودائمًا عبد الله جل وعلا, ليس ربًا ولا قريبًا من الرب فإنه حينئذ يسمع كلمات الله حين تتلى عليه بأذن صاغية وقلب متفتح, بماذا ينسى هذا الإنسان؟ بسيطرة هذه العوامل عليه, صاحب الأولاد يرى أنه عزيز بأولاده, وراءه جيش لجب من الأولاد وأولاد الأولاد, فهو بغير حاجة إلى سند يأتيه من خارج ذاته, والله جل وعلا قد شرح ذلك, ألم تقرأوا ما قال ربكم تبارك وتعالى في سورة مريم: ((أفرأيت الذي كفر بآياتنا وقال لأوتين مالاً وولدًا أطلع الغيب أم اتخذ عند الرحمن عهدًا كلا سنكتب ما يقول ونمد له من العذاب مدًا ونرثه ما يقول ويأتينا فردًا)).مريم
ويلك يا مخلوق, ويلك يا تائه, من أنت حتى تستكثر بأولادك وأولاد أولادك, وترى أنك في غنىً عن العزيز الجبار يوم تقف بين يدي المنتقم القاهر لمن يكون بين يديك؟ لا ولد, ولا عبيد, ويأتينا فردًا, كذلك الإنسان يشعر أنه حين يملك المال في غنىً عن الناس, وفي غنى عن رب الناس, لم تحف به العناية حتى وصفت بين المال والنسب محنة واختبارًا, وإنما يرى أنه بجهده حصل على هذا المال, ليس هذا فقط, ولكن شعورًا خبيثًا آثمًا مجرمًا فيحكم في الإنسان حين يملك المال والثراء, أنا أستطيع أن أشتري اللذات فأمرح ما شاء لي المرح, أنا أستطيع أن أشتري الأعوان والأتباع من الإمعات والتافهين فيسيرون من خلفي وتصطفق النعال, أستطيع كذا وأستطيع كذا, ويحك, ما الذي يعلمك أن هذا المال سيبقى بين يديك؟ لا شيء, ألم تقرأ ما قال الله جل وعلا في سورة القصص: ((إن قارون كان من قوم موسى فبغى عليهم وآتيناه من الكنوز ما إن مفاتحه لتنوء بالعصبة أولي القوة))القصص
المفاتيح لا تحملها إلاعصبة أولوُ قوة, ومع ذلك فبعض التافهين من الأغنياء الذين يملكون نسبًا قليلاً يظنون أن الدنيا دانت لهم, وأنهم يستطيعون أن يتخذوا الآخرين خولاً وعبيدًا لا ((إن قارون كان من قوم موسى فبغى عليهم وآتيناه من الكنوز ما إن مفاتحه لتنوء بالعصبة أولي القوة إذ قال له قومه لا تفرح إن الله لا يحب الفرحين وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا وأحسن كما أحسن الله إليك ولا تبغ الفساد في الأرض إن الله لا يحب المفسدين قال)) ـ اسمعوا ما قال هذا المفتري ـ ((إنما أوتيته على علم عندي)) أي بفهمي وبإرادتي وببصري وخبرتي ((أو لم يعلم أن الله قد أهلك من قبله من القرون من هو أشد منه قوة وأكثر جمعًا ولا يُسأل عن ذنوبهم المجرمون فخرج على قومه في زينته)) ـ لاحظوا الفتنة ـ ((قال الذين يريدون الحياة الدنيا ياليت لنا مثل ما أوتي قارون إنه لذو حظ عظيم)) ـ فماذا قال الذين يريدون ثواب الله؟ ـ ((وقال الذين آتوا العلم ويلكم ثواب الله خير لمن آمن وعمل صالحًا ولا يلقاها إلا الصابرون فخسفنا به وبداره الأرض فلم يكن له من فئة ينصرونه من دون الله)) ـ أين المال, أين الأعوان, أين النسب, أين الغرور؟ حق الحق وذهب الباطل ـ ((وما كان من المنتصرين وأصبح الذين تمنوا مكانه بالأمس يقولون ويكأن الله يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر لولا أن منّ الله علينا لخسف بنا وكأنه لا يفلح الكافرون تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوًا في الأرض ولا فسادًا والعاقبة للمتقين)).القصص
يا صاحب السلطان: مالك أيها الإنسان, أنت اليوم في دفة الحكم, وغدًا إنسان طريد لا تعرف أين تأوي, تسير خائفًا تترقب, فعلاّم الغرور بالسلطان, أبين يديك من الله صك أنك لا تنزل عن هذا الكرسي؟! لئن لم تنزلك قوى الناس لتنزلنك قوة الله التي لا تغلب ولا تغالب,
هذا القرآن لا ينتفع به جبار عنيد, هذا القرآن لا ينتفع به العشائر, وأشباه العشائريين, هذا القرآن دواء نافع للإنسان الذي لا يطغى, للإنسان الذي يعرف أنه لله عبد, فإذا عرف ذلك وعرف مقام الألوهية, وأن له وحده حق الأمر والنهي أصغى بأذنيه وأصاغ بقلبه, وفتح جوارحه جميعًا للفهم عن الله والعمل بمقتضى ما أراد الله تعالى.
وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيراً.
( 48 ) الم تر كيف ضرب الله مثلا كلمة طيبة كشجرة طيبة -1
الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، وعلى آله وصحبه ومن والاه ، وبعد :
شبه الله سبحانه الكلمة الطيبة بالشجرة الطيبة لأن الكلمة الطيبة تثمر العمل الصالح والشجرة الطيبة تثمر الثمر النافع وهذا ظاهر على قول جمهور المفسرين الذين يقولون الكلمة الطيبة هي شهادة أن لا إله إلا الله فإنها تثمر جميع الأعمال الصالحة الظاهرة و الباطنة فكل عمل مرضي لله عز وجل هوثمرة هذا الكلمة وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما قوله أصلها ثابت قول لا إله إلا الله في قلب المؤمن وفرعها في السماء يقول يرفع بها عمل المؤمن إلى السماء وقال الربيع بن أنس كلمة طيبة هذا مثل الإيمان والإيمان قولان الطيبة وأصلها الثابت الذي لا يزول الإخلاص فيه وفرعه في السماء خشية الله والتشبيه على هذا القول أصح وأظهر وأحسن فإنه سبحانه شبه شجرة التوحيد في القلب بالشجرة الطيبة الثابتة الأصل الباسقة الفرع في السماء علوا التي لا تزال تؤتي ثمرتها كل كلما رفع العمل الصالح
عبد الله
إذا تأملت هذا التشبيه رأيته مطابقا لشجرة التوحيد الثابتة الراسخة في القلب التي فروعها من الأعمال الصالحة صاعدة إلى السماء ولا تزال تثمر الأعمال الصالحة كل وقت بحسب ثباتها في القلب ومحبة القلب لها وإخلاصه فيها ومعرفته بحقيقتها وقيامه بحقها ومراعاتها حق رعايتها فمن رسخت هذه الكلمة في قلبه بحقيقتها التي هي حقيقتها واتصف قلبه بها وانصبغ بها بصبغة الله التي لا أحسن صبغة منها فيعرف حقيقة الهيئة التي يثبتها قلبه لله ويشهد بها لسانه وتصدقها جوارحه ونفى تلك الحقيقة ولوازمها عن كل ما سوى الله عز وجل وواطأ قلبه لسانه في هذا النفي والإثبات وانقادت جوارحه لمن شهد له بالوحدانية طائعة سالكة سبل ربه ذللا غير ناكبة عنها ولا باغية سواها بدلا كما لا يبتغي القلب سوى معبوده الحق بدلا فلا ريب أن هذه الكلمة من هذا القلب على هذا اللسان لا تزال تؤتى ثمرتها من العمل الصالح الصاعد إلى الرب تعالى وهذه الكلمة الطيبة تثمر كثيرا طيبا كلما يقارنه فيرفع العمل الصالح الكلم الطيب كما قال تعالى
(( إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه ))فاطر
فأخبر سبحانه أن العمل الصالح يرفع الكلم الطيب وأخبر أن الكلمة الطيبة تثمر لقائلها كل وقت عملا صالحا.
والمقصود أن كلمة التوحيد إذا شهد المؤمن بها عارفا بمعناها وحقيقتها نفيا واثباتا متصفا بموجبها قائما قلبه ولسانه وجوارحه بشهادته فهذه الكلمة من هذا الشاهد أصلها ثبات راسخ في قلبه وفروعها متصلة بالسماء.
مثل النخلة وهي مخرجة لثمرتها كل وقت مثل المومن ومن السلف من قال ذلك ويدل عليه حديث ابن عمر الصحيح ومنهم من قال هي المؤمن نفسه كما قال محمد بن سعد حدثني أبي حدثني عمي حدثني أبي عن أبيه عن ابن عباس قوله ألم تر كيف ضرب الله مثلا كلمة طيبة كشجرة طيبة يعني بالشجرة الطيبة المؤمن ويعني بالأصل الثابت في الأرض والفرع في السماء يكون المؤمن يعمل في الأرض ويتكلم فيبلغ قوله وعمله السماء وهو في الأرض وقال عطية العوفي في (( ضرب الله مثلا كلمة طيبة كشجرة طيبة)) قال ذلك مثل المؤمن لا يزال يخرج منه كلام طيب يصعد إلى الله
وقال الربيع بن أنس (( أصلها ثابت وفرعها في السماء )) قال ذلك المؤمن ضرب مثله في الإخلاص لله وحده وعبادته وحده لا شريك له قال أصلها ثابت قال أصل عمله ثابت في الأرض وفرعها في السماء قال ذكره في السماء ولا اختلاف بين القولين فالمقصود بالمثل المؤمن والنخلة مشبهة به وهو مشبه بها وإذا كانت النخلة شجرة طيبة فالمؤمن المشبه بها أولى أن يكون كذلك ومن قال من السلف إنها شجرة في الجنة فالنخلة من أشرف أشجار الجنة.
وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيراً.
( 49 ) الم تر كيف ضرب الله مثلا كلمة طيبة كشجرة طيبة -2
الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، وعلى آله وصحبه ومن والاه ، وبعد :
إخواني :
الشجرة الطيبة أول صفة لهاانها طيبة وذلك يحتمل عدة امور منها :
أنها طيبة المظر والصورة والشكل (( والنخل باسقات لها طلع نضيد ))ق
وثانيها كونها طيبة الرائحة وثالثها كونها طيبة الثمرة ورابعها كونها طيبة المنفعة
أصلها ثابت راسخ رسوخ الجبال باقٍ فرعها في السماء بعيدة عن عفونات الارض
عباد الله الكلمة الطيبة قد تهدي انساناً.
الكلمة الطيبة قد تغير مجتمعاً.
الكلمة الطيبة قد ينقذ الله بها قلوباً أو يعمر بها نفوساً بل قد يحيي بها الله أقواماً من السبات .
عباد الله
الكلمة الطيبة كحبة القمح المفردة قد تهمل وتذهب أدراج الرياح وقد تكون مباركة فتنبت وتثمر وقد تكون الثمرة خصبة تتضاعف وتتضاعف.
الكلمة الطيبة كلمة الحق كالشجرة الطيبة ثابتة سامقة مثمرة لا تزعزها الاعاصير ولا تعصف بها رياح الباطل ولا تقوى عليها معاول الطغيان وإن خيّل للبعض أنها معرضة للخطر فهي سامقة متعالية تطل على الشر والظلم والطغيان من علو .
والكلمة الخبيثة كلمة الباطل كالشجرة الخبيثة قد تتعالى وتتشابك ويخيّل الى البعض أنها أضخم من الشجرة الطيبة وأقوى ولكنها تظل ضعيفةً وما هي إلا فترة ثم تجتث من قوق الارض فلا قرار لها ولا بقاء .
وقال صلى الله عليه وسلم : ((إن مثل المؤمن كمثل القطعة من الذهب، ينفخ فيها صاحبها فلم تتغير. والذي نفس محمد بيده، إن المؤمن كمثل النخلة أكلت طيّبا ووضعت طيبا))
وقال صلى الله عليه وسلم ((مثل المؤمن كمثل النخلة ما أخذتَ منها من شيء نفع)). النخلة تثمر طوال السنة بلحا رطبا، والمؤمن أينما حلّ نفع، كالغيث والنخلة أغصانها وجذوعها وجريدها يفيد البلادَ والعباد، والمؤمن كله خير؛ كلامه وماله وحركته. والنخلة ترمَى بالحجر وترد بأطيب الثمر، وهكذا المؤمن يدفع الإساءةَ بالإحسان. النخلة أصلها ثابت لا يتزعزع، والمؤمن ثابت لا تغيّره شهوة ولا شبهة ولا غيرها، فهو ثابت على دينه وتقواه. النخلة فرعها في السماء، والمؤمن لا يأخذ زاده وغذاءه إلا من خالق السماء.
قال صلى الله عليه وسلم: ((إن خير عباد الله الموفون الطيّبون، أولئك خيار عباد الله))
ثم ذكر سبحانه مثل الكلمة الخبيثة فشبهها بالشجرة الخبيثة التي اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار فلا عرق ثابت ولا فرع عال ولا ثمرة زاكية ولا ظل ولا جنى ولا ساق قائم ولا عرق في الأرض ثابت مغدق ولا أعلاها مونق ولا جنيلها ولا تعلو بلى تعلى .
وإذا تأمل اللبيب أكثر كلام هذا الخلق في خطابهم وكتبهم وجده كذلك فالخسران كل الخسران الوقوف معه والاشتغال به عن أفضل الكلام وأنفعه.
قال الضحاك ضرب الله مثلا للكافر بشجرة اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار يقول ليس لها أصل ولا فرع وليس لها ثمرة و لا فيها منفعة كذلك الكافر ليس يعمل خيرا ولا يقوله ولا يجعل الله فيه بركة ولا منفعة.
وقال ابن عباس رضي الله عنه ومثل كلمة خبيثة وهي الشرك كشجرة خبيثة يعني الكافر اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار يقول الشرك ليس له أصل يأخذ به الكافر ولا برهان الله عمل المشرك ولا يصعد إلى الله فليس له أصل ثابت في الأرض ولا فرع في السماء يقول ليس له في السماء ولا في الآخرة .
وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيراً.
( 50 ) قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ
الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، وعلى آله وصحبه ومن والاه ، وبعد :
يقول تعالى ((قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ)) المائدة:100
اسمع ـ يا عبد الله ـ إلى كلام العزيز الحميد الذي بيَّن لنا أنه لا يستوي عنده الخبيث والطيّب، فالطيّب في أعلى الدرجات، والخبيث في أسفل الدّركات. والله جعَل الدنيا دار ابتلاء وامتحان، لماذا؟ ليميز الخبيثَ من الطيب. والله تعالى طيّب يحبّ الطيب من القول، ويحب الطيب من العمل، ويضاعفه لأصحابه. الله جل وعلا يحب الطيّبين من الناس، ويبغِض الخبيث. الله جل وعلا يرفع الطيّبَ ويبارك لأصحابه فيه.
عباد الله، هل يستوي المؤمن طيّبُ الأعمال الذي إذا رأيتَه رأيتَ عمله طيّبًا، عملَه حسنًا، عملا يحبه الناس ويحبه الله، يؤدّي فرائض الله، طيّبا في أعماله، راعيا لأمانته في وظيفته، هل يستوي هذا مع ذلك الخبيث في عمله وفعله؟! تراه لا يرعى أمانة الله، متقهقرا في الصلوات، إذا استُرعي على مال أكله، إذا استُعمل على وظيفة ارتشى وغشّ وخان، هؤلاء ولو كانوا كثيرين فهم عند الله من أخبث البشر.
إخواني
المؤمن في حياته كلها طيب، في أخلاقه طيب، في سلامه طيب، قال تعالى: ((فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً)) النور:61.
والمؤمن رحلته طيبة إلى الله تعالى، فإذا مات جاءته ملائكة بيض الوجوه يقولون: "اخرجي ـ أيتها النفس الطيبة ـ إلى روح وريحان ورب راض غير غضبان"، قال تعالى: ((الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمْ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ)) النحل:32.
تتوفاهم الملائكة طيبة نفوسهم بلقاء الله فهم بعيدين عن الكرب وعذاب الموت يقولون سلام عليكم طمأنةً لقلوبهم وترحيباً بقدومهم ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون تعجيلا لهم بالبشرى وهم على أعتاب الاخرة جزاءً وفاقاً على ما كانوا يعملون
وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيراً.
( 51 ) إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ
الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، وعلى آله وصحبه ومن والاه ، وبعد :
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما رواه البخاري ومسلم وأحمد: (الظُّلْمُ ظُلُمَاتٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ )، ذلك لأن محكمة الحقوق في الآخرة يقام فيها العدل على أكمل وجه، فيقتص للمظلومين جنا وإنسا وعجماوات من ظالميهم سادة كانوا أوعامة.
وإذا كان عدوان الشاة على الشاة يستدعي القصاص يومئذكما قال المصطفى صلى الله عليه وسلم ( لَتُؤَدُّنَّ الْحُقُوقَ إِلَى أَهْلِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُقَادَ لِلشَّاةِ الْجَلْحَاءِ مِنَ الشَّاةِ الْقَرْنَاءِ )- مسلم وأحمد والترمذي-،
ومنع امرأة هرتها الماء والطعام يدخلها النار (عُذِّبَتِ امْرَأَةٌ فِي هِرَّةٍ سَجَنَتْهَا حَتَّى مَاتَتْ فَدَخَلَتْ فِيهَا النَّارَ لَا هِيَ أَطْعَمَتْهَا وَلَا سَقَتْهَا إِذْ حَبَسَتْهَا وَلَا هِيَ تَرَكَتْهَا تَأْكُلُ مِنْ خَشَاشِ الْأَرْضِ )- البخاري ومسلم-، وقطع شجرة نافعة لغير مصلحة يستوجب تصويب رأس القاطع في النار(قاطِعُ السِّدْرِ يُصَوِّبُ اللهُ رَأْسَهُ في النار) - رواه البيهقي في الكبرى وحسنه الألباني _
عبد الله
فما بالك بمن يظلم أخاه الإنسان، مؤمنا كان أو غير مؤمن، من أي ملة أو دين أو مذهب؟ بل ما بالك بمن يظلم أولياء الله تعالى من الدعاة والصالحين والآمرين بالمعروف الناهين عن المنكر؟
إن ميزان الآخرة منضبط على معيار واحد يميز العدل من الظلم(الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ ) غافر 17، عدل ينجى وظلم يركس في الجحيم. لذلك ورد الأمر بالعدل والتحذير من الظلم قرآنا وسنة في سياقات كثيرة، وبأشد الصيغ دقة ووضوحا ، يقول تعالى:
( الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ ) -الأنعام 82-.
- ( احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ ) - الصافات 22،23-.
- ( إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْأِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) - النحل -90.
- ويقول فيما يرويه عنه نبيه صلى الله عليه وسلم: (يَا عِبَادِي إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا فَلَا تَظَالَمُوا )- مسلم وأحمد والترمذي-.
إن التحريم الصارم للظلم مبعثه العدل الإلهي المطلق والرحمة الربانية الشاملة، لأن الظلم مصدر كل رذيلة ومنبع كل شر، وما الفساد إلا بعض نتائجه( وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ ) -البقرة 205-،
وقد استعمل لفظ " الظلم" في الشريعة لثلاثة أصناف تدور كلها بين الكفر والكبائر هي:
ظلم بين المرء وبين الله تعالى وأعظمه الكفر والشرك والنفاق(يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ) - لقمان13-،( فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِين) - البقرة258-.
ظلم بين المرء وبين الناس(إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ)- الشورى42
ظلم بين المرء وبين نفسه(فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ)- فاطر32
والأصل في هذه الأصناف كلها ظلم النفس، إذ كل ظالم في حقيقة الأمر ظالم لنفسه وكل محسن محسن إلى نفسه قال تعالى (مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) -فصلت46-، وقال جل وعلا (وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) - النحل118-.
إن الظلم سلوك خاطئ منحرف، ومرآة تكشف عمق الفساد في نفسية صاحبه وسوء مخبره، لذلك اشتد غضب الله تعالى عليه وتوعده بالعقاب الأليم فقال:
(إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَاراً أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقاً) الكهف29.
(أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ) الزمر24.
ولعل معترضا يقول: هذا عقاب الظالم فما بال الجندي وهو مأمور والساكت المستضعف وهو مغمور؟ والجواب أن ميزان العدل لا يفرق بين السيد والمسود والتابع والمتبوع والفاعل والمعين على الفعل، فكلهم شركاء يجمعهم المصير الواحد(كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعاً قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَاباً ضِعْفاً مِنَ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لا تَعْلَمُونَ) الأعراف38. لأن الظالم لابد له من قوة تعينه على الظلم وجند يحمونه عند ممارسته، وهتافين يشجعونه عليه، وراضين رغبا ورهبا أو استخذاء واستضعافا؛
إن دولة الظلم لابد لها من أركان ، وأركانها الظالم وحاشيته وأعوانه والراضون بحكمه والمستخذون بين يديه؛ فإن فقدت هذه الأركان لم تقم للظلم دولة ولا للظالمين صولة.
وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيراً
( 52 ) ولا تحسبن غافلاً عما يعمل الظالمون
الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، وعلى آله وصحبه ومن والاه ، وبعد :
إنّ الظلم يتمثل في صور شتى ويتشخص في أصناف من الناس كثيرة، منهم من أخذهم الله بعذاب الدنيا والآخرة ممن ذكرهم الوحي قرآنا وسنة ، ومنهم من يعاصرنا ومنهم من يأتي بعدنا:
منهم الحكام المتألهون، والأغنياء المستكبرون والتجار المطففون والفساق السابقون والمعاصرون من قوم عاد ولوط وصالح.
ومنهم ظالم أبويه بإهمالهم أو الإساءة إليهم، وظالم أرحامه بالتقصير في حقوقهم أو التخلي عنهم أو الإضرار بهم.
ومنهم ظالم زوجته في عرضها بالنظر إلى غيرها بما لا يجوز، وظالمة زوجها في عرضه بالنظر إلى غيره بما لا يحل.
ومنهم الظالم لقومه أو قبيلته أو عرقه بالتعصب لهم وإعانتهم علي الباطل كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم إذ سئل ما العصبية؟: (أن تعين قومك على الظلم)- المعجم الكبير-.
ومنهم من يظلم المسلمين عامة بعدم النصح لهم، أو عدم نصرتهم أو بخيانتهم والتنكر لهم.
ومنهم من يظلم الإنسانية عامة بالتقصير في واجب الدعوة إلى الله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
ومنهم الدول المسلمة الظالمة التي لا تقيم العدل فيسلط الله تعالى عليها عدوها ولو كان مشركا، كما هو حال أمة موسى عليه السلام التي سلط عليها بختنصر الوثني، والمسيحيين إذ ظلموا فسلط عليهم جبابرة عبدة أصنام أذلوهم وغيروا دينهم، وحال دول المسلمين الظالمة حاليا وقد هزمت أمام مجوس الهند في باكستان، وصهاينة بني إسرائيل في فلسطين، وعباد الوثن في السودان وعباد الصليب في العراق..، قال تعالى:( وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنْشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْماً آخَرِينَ) الأنبياء11,
كما أن منهم الذين يخذلون الدعاة إلى الله تعالى والمجاهدين في سبيله والمعتقلين والمهاجرين والشهداء، بالتخلي عنهم وإهمال أسرهم وذرياتهم وعدم الدفاع عنهم ؛ فإن بلغ الأمر إلى أكل لحومهم والشماتة بما أصابهم أو أصاب ذرياتهم، أو القيام بالتجسس عليهم وقذفهم، أو السعي لإطالة محنتهم، كان ذلك أقرب إلى أعظم الظلم الذي هو محاربة الله ورسوله بمحاربة أوليائه ودعاة دينه، وهذا ما عبر عنه الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ في الحديث القدسي الذي رواه عن رب العزة قال((مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالْحَرْبِ ))- البخاري -.
و الرسول الله صلى الله عليه وسلم كان يحذر المؤمنين من الظلم ويحضهم على اتقائه، ويقول: (اتَّقِ دَعْوَةَ الْمَظْلُومِ فَإِنَّهُ لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ حِجَابٌ ) - البخاري-وقال صلى الله عليه وسلم ،( ثَلَاثَةٌ لَا تُرَدُّ دَعْوَتُهُمُ الْإِمَامُ الْعَادِلُ وَالصَّائِمُ حِينَ يُفْطِرُ وَدَعْوَةُ الْمَظْلُومِ يَرْفَعُهَا فَوْقَ الْغَمَامِ وَتُفَتَّحُ لَهَا أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَيَقُولُ الرَّبُّ عَزَّ وَجَلَّ وَعِزَّتِي لَأَنْصُرَنَّكِ وَلَوْ بَعْدَ حِينٍ )- الترمذي-.وقال (دَعْوَةُ الْمَظْلُومِ مُسْتَجَابَةٌ وَإِنْ كَانَ فَاجِرًا فَفُجُورُهُ عَلَى نَفْسِهِ) - أحمد-.
وكان عليه الصلاة والسلام يستعيذ بالله من دعوة المظلوم جهرا أمام المسلمين تعليما لهم بقوله عند الخروج للسفر والعودة منه:( اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ وَعْثَاءِ السَّفَرِ وَكَآبَةِ الْمُنْقَلَبِ وَالْحَوْرِ بَعْدَ الْكَوْرِ وَدَعْوَةِ الْمَظْلُومِ وَسُوءِ الْمَنْظَرِ فِي الْأَهْلِ وَالْمَالِ) - النسائي-.
كما أنه صلى الله عليه وسلم أعطى من نفسه القدوة، فأبرأ ذمته من حقوق الخلق، في مرض موته فيما رواه البخاري، إذ خرج متكئا على الفضل بن العباس وعلي بن أبي طالب ـ رضي الله عنهم ـ ، حتى جلس على المنبر ، وكان مما خطب : ( أما بعد أيها الناس ، إنه قد دنا مني خلوف من بين أظهركم ، ولن تروني في هذا المقام فيكم … فمن كنت جلدت له ظهرا فهذا ظهري فليستقد منه ، ومن كنت شتمت له عرضا فهذا عرضي فليستقد منه ، ومن أخذت له مالا ، فهذا مالي فليأخذ منه ، ولا يخش الشحناء من قبلي ، فإنها ليست من شأني … ).
وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيراً.
( 53 ) ((هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئاً مذكوراً))
الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، وعلى آله وصحبه ومن والاه ، وبعد :
ستكون لنا وقفات مع سورة الإنسان. ففيها تذكير وعظات ،وتخويف وذكر للجنات.
يقول الله تعالى، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم: ((هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئاً مذكوراً إنَّا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج نبتليه فجعلناه سميعاً بصيراً إنَّا هديناه السبيل إما شاكراً وإما كفوراً)). هذه السورة شأنها الإنسان تذكر حاله ومآله ،وكيف كان وأين كان يقول سبحانه: ((هل أتى على الإنسان. . ))أجاء هذا الوقت ،أكان الإنسان في وقتٍ من الإوقات معدوماً ،غير مذكور ،كان عدماً محضاًً ليس بشيء ،أجاء هذا الوقت عليه ،نعم جاء، فلقد كان الله ولا شيء معه ،كان الله ولم يكن قبله شيء ،هو الأول والآخر ،وأنت أيها الإنسان كنت عدماً في ذلك الوقت ،لم تكن شيئاً مذكوراً ،ولهذا الاستفهام ههنا: ((هل أتى على الإنسان. . ))قال العلماء: هل ههنا بمعنى: قد ،يعني أنه قد أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئاً مذكوراً، قل لي بربك أنت ،أنت أيها الإنسان الذي أمامي الآن إذا كنت عدماً ولم تكن شيئاً في ذلك الزمن ،فقل لي: من شفع لك عند الله في ذلك الزمن - قبل خلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة - عندما كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلقهم ويوجدهم ،قل لي بربك:من شفع لك في ذلك الزمن حتى يكتبك الله في أهل الإيمان والإسلام ،ولم يقدر عليك الكفر والضلال ،وفقك للسنة وأبعدك عن البدعة ،جعلك من أهل التوحيد ولم تكن من أهل الشرك.
أيها الإنسان - يا من كنت عدماً - من شفع لك وأنت غير مذكور ولم تكن بعد شيئاً ،إنها رحمة الله بعبده ،قال صلى الله عليه وسلم: ((وإن الله خلق خلقه في ظلمة ،فألقى عليهم من نوره ،فمن أصابه من ذلك النور يومئذٍاهتدى ،ومن أخطأه ضل)) [رواه الحاكم وسنده صحيح].
وهذا لعلمه بهم سبحانه وتعالى وقدرته بخلقه. ثم بعد ذلك خلقك؟ وبم خلقك؟ ولماذا خلقك؟ وماذا جعل لك من الأدوات حتى تحقق غاية الخلق؟ قال: ((إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج نبتليه فجعلناه سميعاً بصيراً)) خلقك من نطفة ،وكثيراً ما يذكر الله الإنسان بأنه خلقه من نطفة بعد أن لم يكن شيئاً ،حتى يتذكر ويعلم لماذا خلق ولماذا أوجده الله ((أيحسب الإنسان أن يترك سدى ألم يك نطفة من مني يمنى ثم كان علقة فخلق فسوى فجعل منه الزوجين الذكر والأنثى)) وهل من نطفة فحسب؟ لا ، بل من نطفةٍ أمشاج: يعن أخلاط ،من نطفة الذكر والأنثى ،ولماذا هذا الخلق من نطفةٍ أمشاج. قال: ((نبتليه)) إذن الله خلقك وأوجدك ليبتليك بالعبادة والطاعة والمعصية. ليس للابتلاء بهموم المعاش وهموم وغموم الدنيا ،لا ،فإن هذا تشترك فيه كل المخلوقات ،أمَّا الإنس والجن فخلقهم الله للابتلاء بعبادته ،ليعلم من يعبده ممن لا يعبده ((نبتليه)) نختبره ولهذا قال: ((الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملاً)) وبين الغاية من الخلق ووضحها وأنها للعبادة فقال: ((وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون)) قال سبحانه: ((يا أيها الإنسان ما غرك بربك الكريم الذي خلقك فسواك فعدلك في أي صورة ما شاء ركبك كلا)) (يعني: حقاً) ((بل تكذبون بالدين)).
فيا أيها الإنسان: لمَّا خلق الله الخلق لغاية كان لابد أن يرسل إليهم رسلاً وأنبياء ،لابد من نزول الوحي ،ولابد من تفصيل الشرائع والأحكام!! وكيف يعلم الإنسان هذه الأمور؟ إنه عدم محض ،ليس شيء ولا شيء ولا فيه ولا منه شيء ،لهذا قال الله: ((نبتليه فجعلناه سميعاً بصيراً)) جعل له السمع والبصر حتى يهتدي بهما حتى يعبد الله بهما لا يعبد الشيطان والهوى بهما ،فمن الناس من سخر هذه الأدوات: السمع والبصر ، الأيدي والأرجل ،التفكير والعقل ،الأحساسيس والمشاعر ،منهم من سخرها لعبادة هواه لا لعبادة الله ،فلا يقرأ القرآن ،وتجده يتلو قرآن الشيطان الغناء ،ولا ينظر في المصحف ببصره ،وينظر في الحرام ببصره ،ولا يسمع الهدى وكلام الرحمن ويسمع مزمار الشيطان ،فيا أيها الإنسان: أنت أنت يا من تسمع وتبصر ،في ماذا تستخدم سمعك وبصرك في يومك وليلتك. هل انتبهت لماذا أعطاك الله السمع والبصر ،هل عبدت هواك بهما أم عبدت الله بهما. فيا أيها الإنسان: الذي حرم الآخرين من السمع والبصر أليس هو قادراً أن يحرمك أنت أيضاً وتحاربه فاتق الله يا عبد الله.
ثم يقول سبحانه عن هذا الإنسان: ((إنا هديناه السبيل إما شاكراً وإما كافوراً)) هديناه هداية الدلالة والارتقاء والتبيين ،وضح له من حيث هو إنسان ،فلم يمنع الله الإنسان من الهداية:هداية الدلالة والتبيين والتوضيح ،وضح له السبيل ،وطريق الجنة والنار. ((إنا هديناه السبيل)) إما شقي وإما سعيد ،إما شكور وإما كفور ،فقال صلى الله عليه وسلم: ((كل الناس يغدو ،فبايع نفسه فموبقها أو معتقها)) كل الناس - وأنت منهم - أيها الإنسان يغدو في دنياه يحيى ويعيش ويتمتع ويلهو ،يغدون ويروحون ولكن هم قسمين:فبايع نفسه فموبقها، يعني مهلكها بأن يختار الضلال على الهدى ،وقسم يغدو ولكن: يعتق نفسه ،يعتق نفسه من عبادة هواه ويعبدها لله ،ويختار الهدى على الضلال ،فهو يرى الرسل قد أرسلت ،والجنة والنار قد خلقت ،والجحيم سعرت، والجنة أزلفت والناس درجات في الجنة أو دركات في النار ،فيتأمل في غدوه ورواحه فلا يختار إلاّ الهدى والإيمان.
أيها الإنسان: وبعد هذه اللفتات في أول السورة ،يبدأ في بيان أحوال الشاكرين المؤمنين من الناس ،ويبين أحوال الكافرين الضالين. ويبين الله ما لكل فريق من الناس من الجزاء ،ومن النعيم أو العذاب ،فهم ما بين درجات الفردوس الأعلى ،ودركات في النار السفلى. يقول بعد ذلك سبحانه: ((إنا أعتدنا (أي أعددنا) للكافرين سلاسلا وأغلالاً وسعيراً)) وبعد هذا يذكر حال ذلك الإنسان الذي آمن واهتدى وأعتق نفسه من رق العبودية لغير الله فيقول سبحانه:
((إن الأبرار يشربون من كأس كان مزاجها كافوراً عيناً يشرب بها عباد الله يفجرونها تفجيراً يوفون بالنذر ويخافون يوماً كان شره مستطيراً ويطعمون الطعام على حبه مسكيناً ويتيماً وأسيراً إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاءً ولا شكوراً إنا نخاف من ربنا يوماً عبوساً قمطريراً فوقاهم الله شر ذلك اليوم ولقاهم نضرة وسروراً وجزاهم بما صبروا جنة وحريراً متكئين فيها على الآرائك لا يرون فيها شمساً ولا زمهريرا ودانية عليهم ظلالها وذللت قطوفها تذليلاً ويطاف عليه بآنية من فضة وأكواب كانت قواريراً قوارير من فضة قدروها تقديراً ويسقون فيها كأساً كان مزاجها زنجبيلاً عيناً فيها تسمى سلسبيلاً ويطوف عليهم ولدان مخلدون إذا رأيتهم حسبتهم لؤلؤاً منثوراً وإذا رأيت ثَمّ رأيت نعيماً وملكاً كبيراً عاليهم ثياب سندس خضر واستبرق وحلوا أساور من فضة وسقاهم ربهم شراباً طهوراً إنَّ هذا كان لكم جزاءً وكان سعيكم مشكوراً)).
شتان بين مصير ذلك الإنسان الذي اختار الضلال وبين ذلك الإنسان الذي اختار الهدى ،شتان بين من اتبع الهوى وختم الله على قلبه وسمعه وبصره وبين من كان على نور من ربه ،بربه يسمع وبه يبصر ،وإليه يسعى ويحفد يرجو رحمته ويخشى عذابه.
وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيراً.