النتائج 1 إلى 3 من 3
الموضوع:

اللهم ربع حسنه على كل حرف ودعاء لي بظهر الغيب يالله وينهم الاحبه القراء

الزوار من محركات البحث: 69 المشاهدات : 867 الردود: 2
جميع روابطنا، مشاركاتنا، صورنا متاحة للزوار دون الحاجة إلى التسجيل ، الابلاغ عن انتهاك - Report a violation
  1. #1
    عضو محظور
    جا رالله
    تاريخ التسجيل: October-2012
    الدولة: فرنسا ديجون
    الجنس: ذكر
    المشاركات: 220 المواضيع: 161
    صوتيات: 1 سوالف عراقية: 5
    التقييم: 116
    مزاجي: وسوداوي متشاءم
    المهنة: نجار قالب ولكن علوم الحاسبه هوايتي
    أكلتي المفضلة: الكبسه
    موبايلي: نوكيا Sample
    آخر نشاط: 27/May/2014
    الاتصال: إرسال رسالة عبر Yahoo إلى jaber.hassan

    اللهم ربع حسنه على كل حرف ودعاء لي بظهر الغيب يالله وينهم الاحبه القراء

    الحمد لله العزيز الوهاب الذي أنزل على عبده ورسوله محمد الكتاب، هدى وذكرى لأولي الألباب، وأودع فيه من العلوم النافعة والبراهين القاطعة والدلائل الجلية والأحكام الشرعية، وحفظه من التغيير والتبديل مهما طال الدهر وتوالت الأحقاب، وجعله معجزة خالدة يشاهدها من عاش في زمن الوحي ومن غاب، فهو حجة للمؤمن الأواب، وحجة على الكافر المرتاب، وهو حبل الله المتين والذكر الحكيم والصراط المستقيم من سلكه وعمل به فله البشرى والثواب، ومن أعرض عنه فله معيشة ضنكا وفي الآخرة سوء العذاب.
    وصلى الله وسلم وبارك على محمد المصطفى من أطهر الأنساب وأشرف الأحساب الذي أيده ربه بالمعجزات الباهرات وعلى آله وصحبه الأكرمين خير أهل وأصحاب الذين وعدهم ربهم - سبحانه - بالنصر والتمكين و أورثهم الجنة وحسن المآب.
    ((ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ)) آل عمران:102
    ((يَأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِى خَلَقَكُمْ مّن نَّفْسٍ واحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللَّهَ الَّذِى تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً)) النساء:ا
    ((يأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ وَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيداً يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً)) الأحزاب:70-71.
    وبعد
    إن من الواجبات التي ينبغي على المسلم أن لا يدعها ،أن يُرتب لنفسه ورداً من القرآن يتلوه ويقرأه في كل يوم، ومع القراءة؛ الفهم والتدبر لأن الله عز وجل يقول: ((أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْءانَ)) النساء:82 ومع التلاوة والفهم والتدبر العمل، حتى يكون القرآن الكريم حجة لنا لا علينا.
    ولا بد أن يتبع ذلك العمل بالقرآن، فالغاية الأساس من نزوله العمل بما جاء فيه من الأوامر والنواهي، وتحكيمه في ساحة الحياة ،فهو ليس كتاباً للقراءة فحسب، بل جعله الله نوراً وهدى للناس ليعملوا بما فيه وليلتزموا حدوده، قال تعالى: (اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ) (الأعراف:3)
    وهو الروح قال تعالى (وكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُوراً نَّهْدِي بِهِ مَنْ نَّشَاء مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ )الشورى52 ومن ابتغى من القرآن غير ما أنزل لأجله فقد تنكَّب سواء السبيل، وضل عن هدي رب العالمين: (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى) (طه:124).
    وهو النور قال تعالى ( قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ويهديهم إلى صراط مستقيم ).
    ولأهمية العمل بالقرآن نجد كثيراً من الآيات تربط بين الإيمان والعمل، كما في قوله تعالى: {إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات يهديهم ربهم بإيمانهم} (يونس:9) وقوله: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ} (العنكبوت:7).
    والحق أن القرآن الكريم مليء بالآيات الدالة على أن الغرض الأساس من نزوله إنما هو العمل بما جاء فيه، من ذلك قوله تعالى: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} (الأنعام:155) قال أهل التفسير: أي فاجعلوه إماماً لكم تتبعونه، وتعملون بما فيه من الأحكام. وقوله تعالى في الآية نفسها: {واتقوا} أي: احذروا الله في أنفسكم أن تضيِّعوا العمل بما فيه، وتتعدوا حدوده وتستحلوا محارمه.
    وقال تعالى: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ} (البقرة:121) قال عطاء و مجاهد في معنى الآية: يعملون به حق عمله. وفي قوله تعالى: {حق تلاوته} مبالغة في صفة اتباعهم، ولزومهم العمل به.
    وقوله تعالى: {وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ} (البقرة:78) قيل في تفسيرها: إلا تلاوة، فلم يعلموا ما فيه، ولم يعملوا بما فيه. قال الفضيل : إنما نزل القرآن ليُعمل به، فاتخذ الناس تلاوته عملاً.
    وترك العمل بالقرآن والإعراض عنه نوع من أنواع هجره الذي حذرنا الله منه وذم فاعله، قال تعالى: {وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً} (الفرقان:30) ففي هذه الآية أعظم تخويف لمن هجر القرآن العظيم، فلم يعمل بما فيه من الحلال والحرام والآداب والمكارم، ولم يعتقد ما فيه من العقائد، ويعتبر بما فيه من الزواجر والقصص والأمثال.
    وقد كان صلى الله عليه وسلم حريصاً كل الحرص على أن يتعلم أصحابه القرآن ويتعلموا العمل معه، فعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: كان الرجل منا إذا تعلم عشر آيات من القرآن لم يجاوزهن حتى يعرف معانيهن والعمل بهن.
    وفي الحديث الذي رواه البخاري و مسلم ذمٌّ لبعض الأقوام الذين (يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم) فليس لهم منه إلا حظ القراءة والتلاوة فحسب، أما العمل بما فيه فهم عنه معرضون. وفي "صحيح مسلم" أيضاً أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن: (القرآن حجة لك أو عليك) أي: إن الانتفاع بالقرآن الكريم إنما يحصل إذا تمت تلاوته والعمل بما فيه، أما إذا لم يكن الأمر كذلك فهو حجة على قارئه يوم القيامة. وعند مسلم أيضاً أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (يؤتى بالقرآن يوم القيامة، وأهله الذين كانوا يعملون به، تقدمه سورة البقرة وآل عمران تحاجَّان عن صاحبهما) وفي رواية للترمذي (تجادلان) .
    ومن ناحية أخرى نحن بحاجة الى أن يعود القران الى منصة الحكم ليعم خيره كل شيء لا أن يصبح للتبرك فقط ،ولبدءالاحتفالات والقنوات ،والتلاوة بلا تدبر فقط،ولهذا كان هذا الكتاب .

    ( 1) الفاتحة-1

    الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، وعلى آله وصحبه ومن والاه ، وبعد :يقول الله عز وجل كما في الحديث القدسي الذي أخرجه مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه, عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((قال الله عز وجل: قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين ولعبدي ما سأل، فإذا قال: ((الْحَمْدُ للَّهِ رَبّ الْعَالَمِينَ)) الفاتحة:2، قال الله: حمدني عبدي، وإذا قال: ((الرَّحْمَانِ الرَّحِيمِ)) الفاتحة:3 قال الله: أثنى علي عبدي، وإذا قال: ((مَالِكِ يَوْمِ الدّينِ)) الفاتحة:4 قال الله: مجّدني عبدي، أو قال: فوض إليّ عبدي، فإذا قال: ((إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ)) الفاتحة:5 قال الله: هذا بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل، فإذا قال: ((اهْدِنَا الصّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ الضَّالّينَ)) الفاتحة:6، 7, قال الله: هذا لعبدي ولعبدي ما سأل)).
    وقفة اليوم , مع أعظم سورة في القرآن, إنها سورة الفاتحة التي قال عنها الرسول صلى الله عليه وسلم: ((والذي نفسي بيده, ما أنزل الله في التوراة ولا في الإنجيل ولا في الزبور ولا في الفرقان مثلها، إنها السبع المثاني)).
    نعم, يا عباد الله, إنها فاتحة الكتاب وأم القرآن وأم الكتاب والقرآن العظيم، لأن معاني القرآن ترجع إلى ما تضمنته هذه السورة العظيمة، إنها شفاء من كل سم, كما أخبر الصادق المصدوق محمد صلى الله عليه وسلم.
    ففي حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عندما أصيب سيد حي من أحياء العرب بلدغة عقرب فقرأ أبو سعيد الخدري رضي الله عنه الفاتحة عليه برأ بإذن الله قال: كأنما نشط من عقال.
    يقول أحد علماء الإسلام وهو ابن القيم رحمه الله: "ومكثت بمكة مدة يعتريني أدواء لا أجد لها طبيباً ولا دواء فكنت أعالج نفسي بالفاتحة، فأرى لها تأثيراً عجيباً وكنت أصف ذلك لمن يشتكي ألماً فكان كثير منهم يبرأ سريعاً".
    هذه السورة المباركة
    اشتملت على إصلاحِ النّفس وإصلاحِ المجتمع، وأرست أسُسَ الأمن والاستقرار والسعادةِ في الأرض، هي خيرُ ما أنزِل، فعن أبيّ بن كعب رضي الله عنه أنه قال له الرّسول صلى الله عليه وسلم : ((لأعلِّمنَّك سورةً ما أنزِلَ في التوراة ولا في الإنجيلِ ولا في الفرقان سورة كانت خيرًا منها))، قال: ((فاتحةُ الكتاب هي السبعُ المثاني والقرآن الذي أوتيتُه)) صحيح سنن الترمذي (2499).
    هي أحَدُ النّورَين، فعن ابن عبّاسٍ رضي الله عنهما قال: بينَما جبريلُ قاعدٌ عند النبيِّ صلى الله عليه وسلم سمِع نقيضًا من فوقِه، فرفع رأسه فقال: هذا بابٌ من السماءِ فتِح اليومَ، لم يفتَح قطّ إلا اليوم، فنزل منه ملك فقال: هذا مَلكٌ نزل إلى الأرضِ لم ينزِل قطّ إلاّ اليوم، فسلَّم وقال: أبشِر بنورَين أوتيتَهما لم يؤتاهما نبيٌّ قبلَك: فاتحةُ الكتاب وخواتيمُ سورة البقرة، لن تَقرَأَ بحرفٍ منهما إلا أُعطيتَه. رواه مسلم.

    معاشر المسلمين المؤمنين الموحدين, سورة الفاتحة يحفظها الجميع صغاراً وكباراً رجالاً ونساءً، ونكررها في اليوم والليلة مرات ومرات، ولكن أين من تأمل معانيها؟ وأين من يتدبر مراميها؟ أين من يعيش قضاياها العظيمة؟!
    أين من يستحضر هذه المناجاة بين العبد وبين ربه وخالقه ومولاه، حين يقول العبد: ((الْحَمْدُ للَّهِ رَبّ الْعَالَمِينَ)) يقول الله: حمدني عبدي, وحين يقول العبد: ((الرَّحْمَانِ الرَّحِيمِ)) يقول الله: أثنى علي عبدي, وحين يقول العبد: ((مَالِكِ يَوْمِ الدّينِ)) يقول الله: مجدني عبدي, وحين يقول العبد: ((إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ)) يقول الله: هذا بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل، فإذا قال العبد: ((اهْدِنَا الصّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ الضَّالّينَ)) قال الله: هذا لعبدي ولعبدي ما سأل.
    فلنعش إخوة الإسلام مع قضايا هذه السورة العظيمة ومع آياتها السبع، أسأل الله أن ينفعنا ويرفعنا بهذا القرآن، وأن يجعله شافعاً لنا وحجة لنا لا علينا، وأن يجعله قائدنا ودليلنا إلى جناته جنات النعيم وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيراً.
    ( 2) الفاتحة -2

    الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، وعلى آله وصحبه ومن والاه ، وبعد :

    ((بسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَانِ الرَّحِيمِ)) الفاتحة:1,
    أبدأ باسم الله وأتبرك باسم الله، ولفظ الجلالة (الله) قيل إنه هو الاسم الأعظم الذي إذا سئل به أعطى، وإذا دعي به أجاب.
    ((الرَّحْمَانِ الرَّحِيمِ))اسمان من أسماء الله الحسنى، فأما الرحمن فهو عام لجميع المخلوقات يشمل كل الخلق, الإنس والجن والبهائم والدواب, المؤمن والكافر, والبر والفاجر، كما قال سبحانه وتعالى: ((سِعْتَ كُلَّ شَىْء رَّحْمَةً وَعِلْماً))غافر:7
    والله سبحانه وتعالى له مائة رحمة، كما جاء في الحديث, أنزل في هذه الدنيا رحمة واحدة فقط بها يتراحم الخلق كلهم صغيرهم وكبيرهم مؤمنهم وكافرهم ناطقهم والأعجم, حتى إن الدابة لترفع رجلها عن وليدها ليرضع منها بهذه الرحمة
    وأما الرحيم فهي خاصة بعباد الله المؤمنين لقوله تعالى: ((كَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً))الأحزاب:43
    ((لحمْدُ للَّهِ رَبّ الْعَالَمِينَ))الألف واللام في الحمد يستغرقان جميع أجناس الحمد لله تعالى، الشكر والثناء لله سبحانه وتعالى وحده فهو المستحق للحمد والشكر دون سواه.
    والحمد والشكر والثناء لله سبحانه وتعالى يكون بأمور:
    أولها بالقلب, فيقرر ويعترف أن الله سبحانه هو صاحب النعم وهو المستحق للشكر والثناء وحده دون سواه ((مَا بِكُم مّن نّعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ))النحل:53, ((وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا)) إبراهيم:24
    ثانيها باللسان, فيلهج بالذكر والشكر والحمد لله سبحانه وتعالى وحده.
    ثالثها بالجوارح التي أنعم سبحانه وتعالى بها علينا, تُسخر في طاعة الله وتصرف عن معصية الله, وهذا هو الشكر الحقيقي لهذه النعم وكما قال الشاعر:
    أفادتكم النعماء مني ثلاثة ... ... يدي ولساني والضمير المحجبا
    ((الحمدُ للَّهِ رَبّ الْعَالَمِينَ))الرب: هو المالك المتصرف, والعالمين: جمع عالم, وهو كل موجود سوى الله عز وجل، فالإنس عالم, والجن عالم, والملائكة عالم, والحيوان عالم وغيرها من العوالم التي لا يعلمها إلا الله سبحانه وتعالى.
    ومع هذا يبلُغ من فضلِ الله سبحانه على عبدِه المؤمن أنه إذا حمِد الله حمدًا يليق بجلالِه كتبَها له حسنةً ترجحُ كلَّ الموازين، ففي سننِ ابن ماجه عن عبد الله بن عمَرَ أنَّ رسول الله حدّثهم: ((إنَّ عبدًا من عبادِ الله قال: يا ربِّ لك الحمدُ كما ينبغِي لجلال وجهِك ولعظيم سلطانك، (فعضلت بالملكين فلم يدريا كيف يكتبانها، فصعدا إلى السماء وقالا: يا ربَّنا إنَّ عبدَك قد قال مقالةً لا ندرِي كيفَ نكتبُها، قال الله عزّ وجلّ وهو أعلم بما قال عبدُه: ماذا قال عبدي؟ قالا: يا ربِّ، إنّه قال: يا ربّ لك الحمد كما ينبغي لجلالِ وجهِك وعظيم سلطانك، فقال الله عزّ وجلّ لهما: اكتبَاهَا كما قال عبدي حتى يلقاني فأجزِيَه بها)) سنن ابن ماجه: كتاب الأدب (3801)

    ((الرَحْمَانِ الرَّحِيمِ)) ((ملِكِ يَوْمِ الدّينِ))يوم الدين هو يوم القيامة, يوم الجزاء والحساب, وإنما خص الله سبحانه وتعالى المُلك بيوم الدين مع أنه مالك يوم الدين ومالك يوم الدنيا لأنه في ذلك اليوم لا يستطيع أحد أن يدعي الملك بخلاف الدنيا، فقد يدعي بعض الناس الملك والسلطان كما قال فرعون (ألَيْسَ لِى مُلْكُ مِصْرَ وَهَاذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِى مِن تَحْتِى) الزخرف:51.
    أما في ذلك اليوم فلا ملك إلا لله، ولا سلطان ولا جبروت إلا للواحد جل في علاه(لّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ))غافر:16].
    (إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ))هذه الآية من أعظم الآيات في القرآن الكريم، يقول بعض السلف: إن سورة الفاتحة هي سر القرآن, وسر الفاتحة هذه الآية ((إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ))لا نعبد إلا إياك ولا نستعين إلا بك، وإياك مفعول به، وقد تقدم هنا ليفيد الحصر, أي لا نصرف أي نوع من أنواع العبادة إلا لك يا الله، فلا نعبد إلا الله ولا نسجد ونركع إلا لله, ولا ندعو إلا الله، ولا نذبح إلا لله، ولا ننذر إلا لله، ولا نطوف إلا ببيت الله، ولا نقدم أي نوع من أنواع العبادة إلا لله. والعبادة اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأفعال الظاهرة والباطنة، فقوله: ((إِيَّاكَ نَعْبُدُ)) تبرُّؤٌ من الشرك، وقوله: ((وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ)) تبرُّؤٌ من الحول والقوة والطول إلا إلى الله سبحانه وتعالى.
    وقدم الله سبحانه وتعالى العبادة على الاستعانة مع أن الاستعانة داخلة فيها, لأن العبد لا يستطيع أن يعبد الله كما أراد إلا بتوفيق من الله وعون منه سبحانه وتعالى.
    إذا لم يكن عون من الله للفتى ... ... فأول ما يقضي عليه اجتهاده
    ثم يقول سبحانه وتعالى: ((اهْدِنَا الصّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ)) وهذا سؤال ودعاء من العبد لربه أن يهديه الصراط المستقيم, وقد ناسب هذا السؤال وهذا الدعاء بعد أن قدم العبد لربه الحمد والثناء والتمجيد والتفويض وتبرأ من الشرك وأخلص العبادة لله وتبرأ من حوله وقوته وطوله إلى حول الله وقوته وطوله فناسب بعد ذلك أن يسأل الله ويدعوه، وهذا أدب جليل من آداب الدعاء، ومن لاحظ دعاء الأنبياء والمرسلين وجد هذا الأدب واضحاً جلياً، فهذا ذا النون عليه السلام لما ابتلعه الحوت وأصبح في الظلمات ماذا قال؟! هل قال يا رب أخرجني, يا رب أنقذني, يا رب نجني؟ لا إنما أخذ يذكر الله ويثني عليه ويوحده ويسبحه وهو مع ذلك معترف بالذنب ومقرٌّ بالتقصير قال: ((لاَّ اله إِلاَّ أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنّى كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ)) الأنبياء:87, وفي الآية الأخرى: ((فَلَوْلاَ أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبّحِينَ لَلَبِثَ فِى بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ)) الصافات:143، 144.
    وهذا أيوب عليه السلام ابتلاه الله بالمرض فماذا قال: هل قال: يا رب اشفني, أو قال: يا رب ارحمني؟ لا، بل قال((أَنّى مَسَّنِىَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ)) الأنبياء:83مسني, ما قال: هدّني, وما قال: قتلني, وإنما قال: مسني لامسني ملامسة مع أنه ظل طريح الفراش ما يقارب سبعة عشر عاماً لا يقوى على الحركة وابتلاه الله عز وجل أيضاً في أمواله وأولاده, ففقد كل شيء، ومع ذلك حمد الله وشكره وأثنى عليه وظل ذاكراً لله حتى شفاه الله عز وجل وأكرمه وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيراً.

    ( 3) الفاتحة - 3
    الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، وعلى آله وصحبه ومن والاه ، وبعد :
    لا زلنا وأياكم في ضلال سورة الفاتحة الكافية والشافية((اهْدِنَا الصّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ)) أي دلنا وأرشدنا ووفقنا يا رب إلى صراطك المستقيم إلى الإسلام إلى الطريق الصحيح الموصل إلى الله وإلى جنته ورضوانه.
    وهذا الدعاء, عباد الله, من أجمع الأدعية وأنفعها للعبد، لذلك وجب على العبد أن يدعو به في كل ركعة من صلاته لضرورته إلى ذلك, لأن العبد بحاجة إلى هداية الله تعالى وتوفيقه في كل لحظة من لحظاته، ولذلك كان الرسول عليه الصلاة والسلام يستفتح صلاة الليل بطلب الهداية من الله تعالى فيقول في دعائه: ((اللهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل, فاطر السموات والأرض, عالم الغيب والشهادة, أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون, اهدنا لما اختلف فيه من الحق بإذنك, إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم)).
    أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم: ((مَّنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاء فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لّلْعَبِيدِ)) فصلت:46.

    فقد وضح الله سبحانه وتعالى صراطه المستقيم وبينه, فقال سبحانه: ((اهْدِنَا الصّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ)) والذين أنعم عليهم هم النبيون والصديقون والشهداء والصالحون كما قال سبحانه وتعالى: ((وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مّنَ النَّبِيّينَ وَالصّدّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً)) النساء:69.
    وقد جاء رجل من الأنصار إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو محزون, فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ((يا فلان مالي أراك محزوناً؟)) فقال: يا نبي الله شيء فكرت فيه. فقال: ((وما هو؟)) قال: نحن نغدو عليك ونروح، ننظر إلى وجهك ونجالسك وغداً ترفع مع النبيين، فلا نصل إليك، فلم يرد عليه النبي صلى الله عليه وسلم، فنزل جبريل عليه السلام بقوله تعالى: ((وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مّنَ النَّبِيّينَ وَالصّدّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقاً)).
    ثم حذرنا الله سبحانه وتعالى من مخالفة هذا الطريق واتباع غير هذا السبيل, فقال سبحانه: ((غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ الضَّالّينَ)) فأما المغضوب عليهم فهم اليهود. وغضب الله عليهم, لأنهم علموا وما عملوا، تعلموا العلم لكنهم ما عملوا بهذا العلم، فكان جزاؤهم أن غضب الله عليهم. وأما الضالين فهم النصارى, ما تعلموا فضلوا وتاهوا وحاروا.
    وأما طريق أهل الإيمان فهو قائم على العلم بالحق والعمل به.
    أسأل الله تعالى أن يجعلنا منهم، ونسأله جل وعلا أن يهدينا صراطه المستقيم، صراط الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين, وحسن أولئك رفيقا وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيراً .

    (4 ) البقرة -1
    الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، وعلى آله وصحبه ومن والاه ، وبعد :
    أيها الإخوة: (الم) من المتشابه الذي استأثر الله بعلمه ... وهي من كلام الله المعجز والذي تحدى به فصحاء العرب.
    (ذلك الكتاب): أي هذا الكتاب القرآن العظيم، (لا ريب فيه): لاشك من أنه من عند الله عز وجل وأنه الحق والصدق.(هدى للمتقين): رشد وبيان للمتقين وكما قال تعالى: (قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء والذين لا يؤمنون في آذانهم وقرٌ وهو عليهم عمى).
    والمتقون هم الذين يجتنبون ما حرم الله ويعملون بطاعته ... الذين يؤمنون قولاً واعتقاداً وعملاً بالغيب، يؤمنون بالله وملائكته وكتبه ورسله وباليوم الآخر وبالقدر خيره وشره وبالجنة والنار والقيامة وكل ما أخبر الله عنه وأخبر به رسوله صلى الله عليه وسلم من أمور الغيب.
    (ويقيمون الصلاة): أي يديمونها ويحافظون عليها في مواقيتها بحدودها وأركانها وهيئاتها، من تلاوة وركوع وسجود وتشهد وصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم.
    (ومما رزقناهم ينفقون): على الأولاد والأزواج والفقراء والمساكين وفي سبيل الله ويؤدون الزكاة وينفقون في ما أحل الله لهم دون إسراف ولا تبذير ولا مخيلة (والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك وبالآخرة هم يوقنون) ويؤمنون بالقرآن وبالكتب السماوية وبالأنبياء والرسل جميعهم عليهم وعلى نبينا الصلاة والسلام وباليوم الآخر والصراط والميزان (هم يوقنون أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون) على رشد وبصيرة وهم الفائزون والناجون. هذه أربع آيات مرت في صفات المؤمنين: أهل التقوى، الناجون بإذن الله يوم القيامة، وهم أهل الجنة.
    ثم جاءت الآيتان اللتان تبينان حال الكفار ... أهل النار والعياذ بالله. قال تعالى: (إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون) فهؤلاء متساو لديهم تخويفهم أو عدمه، لأن الله قد حكم بعلمه السابق بكفرهم وبقائهم في الشقاوة والعياذ بالله، فطبع على قلوبهم فلا تفهم خيراً ولا تعيه، ولا يسمعون الحق ولا ينتفعون به، وعلى أبصارهم غطاء فلا يرون نور الهدى ولهم عذاب عظيم: (ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة ولهم عذاب عظيم).
    والكفر أيها الإخوة: على أربعة أحوال كفر إنكار، وهؤلاء هم الملاحدة، وكفر جحود، ككفر إبليس وفرعون، وكفر عناد، ككفر أبى طالب حيث قال:
    ولقد علمت بأن دين محمد ... من خير أديان البرية ديناً
    لولا الملامة أو حذار مسبة ... لوجدتني سمحاً بذاك مبيناً
    وكفر نفاق كمنافقي المدينة الذين ظهروا في عهد النبي صل الله عليه وسلم ويظهرون في كل عصر ووقت. والنفاق هو الإقرار باللسان وعدم الاعتقاد بالقلب، فالمنافقون يظهرون الإسلام ويؤدون الشعائر ولكنهم يبطنون الكفر وهذه الحالة ذكرها الله عز وجل في ثلاثة عشرة اية .
    قال تعالى: (ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين يخادعون الله والذين آمنوا وما يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون).
    يعتقدون بجهلهم أنهم بذلك يخدعون الله عز وجل وأن ذلك ينفعهم كما يخدعون المؤمنين. فيعتبرونهم من المؤمنين ويجرون عليهم أحكامهم، ولكنهم يوم القيامة يكونون مع الكفار في النار فما يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون.
    (في قلوبهم مرض)، شك، (فزادهم الله مرضاً ولهم عذاب أليم بما كانوا يكذبون وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون) لأنهم يظنون بفعلهم هذا من الخداع والنفاق، وما يستفيدون منه في الحياة الدنيا أنه صلاح فلا يشعرون بما هم فيه من الفساد ولا يعلمون ما أعد الله لهم من العذاب جزاء كفرهم ونفاقهم والعياذ بالله. يستهزئون بالمتمسكين بالكتاب والسنة ويعتبرونهم أنهم هم السفهاء ويتندرون بهم في مجالسهم وخلواتهم، فإذا قيل لهم: (آمنوا كما آمن الناس قالوا أنؤمن كما آمن السفهاء ألا إنهم هم السفهاء ولكن لا يعلمون وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزئون)، فلكل واحد منهم وجهان: (الله يستهزئ بهم ويمدهم في طغيانهم يعمهون) فهذا جواب لهم ومقابلة على صنيعهم حيث يأتون يوم القيامة خلف المؤمنين فيقولون: (انظرونا نقتبس من نوركم قيل ارجعوا وراءكم فالتمسوا نوراً فضرب بينهم بسور له باب باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب). (أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين مثلهم كمثل الذي استوقد ناراً فلما أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون صم بكم عمي فهم لا يرجعون)، أضاءت لهم نار الإيمان فأبصروا في ضوئها مواقع الهدى والضلال ثم طفئ ذلك النور وبقيت ناراً تأجج ذات لهب واشتعال، فهم بتلك النار معذبون وفي تلك الظلمات يعمهون (أو كصيبٍ من السماء فيه ظلمات ورعد وبرق يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصواعق حذر الموت والله محيط بالكافرين).
    صاب عليهم صيب الوحي وفيه حياة القلوب والأرواح فلم يسمعوا منه إلا رعد التهديد والوعيد والتكاليف فجعلوا أصابعهم في آذانهم واستغشوا ثيابهم وضعفت بصائرهم عما في الصيب من بروق أنواره وضياء معانيه وعجزت أسماعهم عن تلقي ما فيه، فقاموا عند ذلك حيارى في أودية التيه والعمى والعياذ بالله. وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيراً
    ( 5 ) البقرة -2
    الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، وعلى آله وصحبه ومن والاه ، وبعد :
    أيها الإخوة: لخطر المنافقين على هذه الامة ذكرهم الله في سورة البقرة في ثلاث عشرة اية .
    المنافقون المذبذبون المراءون، الذين اذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى ولا يذكرون الله إلا قليلاً، لهم من الفصاحة والبلاغة وجمال في الأجسام كأنهم خشب مسندة، أحدهم (يشهد الله على ما في قلبه وهو ألد الخصام إذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد).
    هذه صفات المنافقين الذين ينتشرون بين المسلمين ويتكلمون بلغتهم ومن بني جلدتهم، وهم أشد على الإسلام من الكفار. قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((أخوف ما أخاف على أمتي كل منافق عليم اللسان)) لأنه يستخدم هذه اللغة والفصاحة في تضليل الأمة وكل واحد منهم يتلون بألوان عدة، وله وجهان يأتي لكلٍ بوجه. قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إن من شر الناس عند الله يوم القيامة ذا الوجهين)) ومن كان له وجهان في الدنيا كان له يوم القيامة لسانان من نار والعياذ بالله كما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم.
    أقول هؤلاء خطر على الأمة لأنهم يتكلمون لغتنا، وأسماؤهم مثل أسمائنا، وزيهم مثل زينا، ويصلون ويصومون ويحجون. ولكن من رأى مجالسهم ومقالاتهم وآراءهم لعرفهم في لحن القول يتحاكمون إلى الطاغوت ويوالون اليهود والنصارى ويشاركونهم في أعيادهم ويصرفون اهتمام الأمة إلى التوافه من الأمور كالاهتمام بالآثار والتفاخر بها والاهتمام بالتاريخ الجاهلي وسيرتهم، كل ذلك حتى يفصلوا الأمة عن سيرة نبيهم والخلفاء الراشدين وإماتة روح الجهاد في نفوس الشباب والاستسلام لليهود والنصارى. نسأل الله العافية والسلامة.
    إن سورة البقرة من السور العظيمة، يقول أهل العلم: إن فيها ألف أمر وألف نهي وألف خبر، وفيها أعظم آية في القرآن ألا وهي آية الكرسي التي من قرأها في يوم لا يقربه شيطان، ومن قرأها دبر كل صلاة مكتوبة لم يمنعه من دخول الجنة إلا أن يموت، هذه السورة العظيمة من قرأها في بيته فإن الشيطان لا يدخله كما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((اقرؤوا سورة البقرة في بيوتكم فإن الشيطان لا يدخل بيتاً يقرأ فيه سورة البقرة. اقرؤوا سورة البقرة فإن أخذها بركه وتركها حسرة ولا تستطيعها البطلة)). كما أن الآيتين اللتين في آخرها من قرأهما في ليلة كفتاه، كما ثبت عن النبي صل الله عليه وسلم بذلك، وأنه حض على قراءتها حيث قال: ((اقرءوا هاتين الآيتين اللتين في آخر سورة البقرة فإن ربي أعطانيهما من تحت العرش)).
    أيها الإخوة: إن في هذه السورة حصن من الشيطان وحصن من السحر فلماذا لا نحصن بيوتنا وأنفسنا بقراءة هذه السورة داخل البيوت؟ لماذا هذا التهافت من الناس على الدجاجلة والمشعوذين، لماذا نسهل دخول الشيطان في بيوتنا بالاستماع إلى المعازف وتعليق الصور وفعل المعاصي والمنكرات، فإذا ما أصاب أحدنا شيء من المس أو السحر ... هرعنا إلى السحرة .. فنقع في مصيبة عظيمة، مصيبة في الدين، حيث من ذهب إلى كاهن وصدقه فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم، ونترك الشفاء والعلاج الذي بين أيدينا وكأننا لا نصدق نبينا صل الله عليه وسلم في ذلك والعياذ بالله. وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيراً.

    ( 6) البقرة -3
    الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، وعلى آله وصحبه ومن والاه ، وبعد :قال الله - تعالى -: "وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا فَارِضٌ وَلَا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلَا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لَا شِيَةَ فِيهَا قَالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ".
    قال ابن عباس وعبيدة السلماني وأبو العالية ومجاهد والسدي وغير واحد من السلف: كان رجل في بني إسرائيل كثير المال، وكان شيخا كبيرا وله بنو أخ وكانوا يتمنون موته؛ ليرثوه فعمد أحدهم فقتله في الليل، وطرحه في مجمع الطرق ويقال: على باب رجل منهم. فلما أصبح الناس اختصموا فيه، وجاء ابن أخيه فجعل يصرخ ويتظلم فقالوا: ما لكم تختصمون ولا تأتون نبي الله، فجاء ابن أخيه فشكى أمر عمه إلى رسول الله موسى - عليه السلام -، فقال موسى - عليه السلام -: أنشد الله رجلا عنده علم من أمر هذا القتيل إلا أعلمنا به. فلم يكن عند أحد منهم علم، وسألوه أن يسأل في هذه القضية ربه - عز وجل -، فسأل ربه - عز وجل - في ذلك فأمره الله أن يأمرهم بذبح بقرة، فقال: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا يعنون؛ نحن نسألك عن أمر هذا القتيل وأنت تقول هذا. " قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ " أي؛ أعوذ بالله أن أقول عنه غير ما أوحى إلي. وهذا هو الذي أجابني حين سألته عما سألتموني عنه أن أسأله فيه. قال ابن عباس وعبيدة ومجاهد وعكرمة والسدي وأبو العالية وغير واحد: فلو أنهم عمدوا إلى أي بقرة فذبحوها لحصل المقصود منها، ولكنهم شددوا فشدد الله عليهم. وقد ورد فيه حديث مرفوع، وفي إسناده ضعف، فسألوا عن صفتها ثم عن لونها ثم عن سنها فأجيبوا بما عز وجوده عليهم، وقد ذكرنا في تفسير ذلك كله في "التفسير".
    والمقصود أنهم أمروا بذبح بقرة عوان؛ وهي الوسط بين النصف الفارض وهي الكبيرة والبكر وهي الصغيرة. قاله ابن عباس ومجاهد وأبو العالية وعكرمة والحسن وقتادة وجماعة. ثم شددوا وضيقوا على أنفسهم فسألوا عن لونها فأمروا بصفراء فاقع لونها أي مشرب بحمرة تسر الناظرين، وهذا اللون عزيز. ثم شددوا أيضا فقالوا: ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ ففي الحديث المرفوع الذي رواه ابن أبي حاتم وابن مردويه: لولا أن بني إسرائيل استثنوا لما أعطوا وفي صحته نظر والله أعلم. قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلَا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لَا شِيَةَ فِيهَا قَالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ وهذه الصفات أضيق مما تقدم حيث أمروا بذبح بقرة ليست بالذلول وهي المذللة بالحراثة وسقى الأرض بالسانية مسلمة وهي الصحيحة التي لا عيب فيها. قاله أبو العالية وقتادة وقوله: لَا شِيَةَ فِيهَا أي؛ ليس فيها لون يخالف لونها بل هي مسلمة من العيوب ومن مخالطة سائر الألوان غير لونها، فلما حددها بهذه الصفات وحصرها بهذه النعوت والأوصاف قَالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ ويقال: إنهم لم يجدوا هذه البقرة بهذه الصفة إلا عند رجل منهم كان بارا بأبيه فطلبوها منه فأبى عليهم فأرغبوه في ثمنها حتى -أعطوه فيما ذكر السدي- بوزنها ذهبا فأبى عليهم حتى أعطوه بوزنها عشر مرات فباعها منهم فأمرهم نبي الله موسى بذبحها فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ أي؛ وهم يترددون في أمرها. ثم أمرهم عن الله أن يضربوا ذلك القتيل ببعضها، قيل: بلحم فخذها. وقيل: بالعظم الذي يلي الغضروف. وقيل: بالبضعة التي بين الكتفين، فلما ضربوه ببعضها أحياه الله - تعالى - فقام وهو تشخب أوداجه، فسأله نبي الله: من قتلك؟ قال
    قتلني ابن أخي.ثم عاد ميتا كما كان، قال الله - تعالى -: " كَذَلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ "أي؛ كما شاهدتم إحياء هذا القتيل عن أمر الله له، كذلك أمره في سائر الموتى، إذا شاء إحياءهم أحياهم في ساعة واحدة، كما قال:مَا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ الآية. وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيراً.
    ( 7 ) ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله"

    الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، وعلى آله وصحبه ومن والاه ، وبعد :قال الله تعالى:" ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله والله رؤوف بالعباد". نزلت هذه الآية الكريمة في صهيب الرومي رضي الله عنه، حينما تخلى للمشركين في مكة عن كل مايملك مقابل أن يخلون سبيله ليلحق بالرسول صلى الله عليه وسلم في المدينة المنورة، احتجزوه ومنعوه من الهجرة وقال قائلهم ياصهيب جئتنا صعلوكاً لاتملك شيئاً، وأنت اليوم ذو مال كثير! - يساومونه- فقال لهم رضي الله عنه: أرأيتم إن دللتكم على مالي هل تخلون سبيلي؟ قالوا : نعم . فدلهم على ماله بمكة ثم انطلق مهاجراً في سبيل الله لايلوي علىشيء تاركاً كل مايملك خلف ظهره وهاجرا إلى الله ورسوله ، فلما وصل المدينة دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال له عليه الصلاة والسلام مهنيئاً له على حسن صنيعه: "ربح البيع أبا يحيى ربح البيع " فلله در صهيب شرى نفسه طلباً لرضوان الله تعالى. هكذا تكون التضحية وإلا فلا ! هذا صهيب وهذا فعله الذي غدا قرآناً يتلى إلى يوم القيامة فماذا قدمت أنا؟ وماذا قدمت أنت أخي الحبيب طلباً لمرضات الله؟ ماذا قدمنا من أموالنا في سبيل الله ؟ ماذا قدمنا من أوقاتنا في سبيل الله؟ هل تنازلنا عن شيء ولو يسيرمن شهواتنا وملذاتنا من أجل الله؟ بل كم قد تنازلنا عن إيماننا من أجل دنيانا ؟ أنرقع دنيانا بتمزيق ديننا؟! كيف لوخيرنا بين أموالنا وبين ديننا؟ أو بين أهلينا وبين إيماننا؟
    اللهم سترك ياستير ، اللهم لاتفضحنا؟ ولا تمتحنا في إيماننا وتولنا برحمتك ياأرحم الراحمين. هذا حالنا أيها الأخوة ونحن نرجو الجنة ونطمع في نعيم الآخرة ونطمح إلى الدرجات العلى والمنازل الرفيعة بجوار الأنبياء والصديقين والشهداء والصالحين ولانريد أن نقدم ولو جزءً يسيراً من الثمن. يقول الله تعالى: الم، أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لايفتنون، ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين".
    وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيراً.
    ( 8) يأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ اسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصلاةِ -1
    الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، وعلى آله وصحبه ومن والاه ، وبعد :
    احذروا أيها المسلمون من هجر كتاب الله عز وجل: ((وَقَالَ الرَّسُولُ يارَبّ إِنَّ قَوْمِى اتَّخَذُواْ هَاذَا الْقُرْءاَنَ مَهْجُوراً)) الفرقان:30.
    فالحذر الحذر من هجران كتاب الله، فهناك من يهجرون كتاب الله تلاوةً حيث تمضي الأيام والأشهر والأسابيع والسنوات ولا يتلو من كتاب الله شيئاً والعياذ بالله، وهناك من يهجرون كتاب الله فهماً وتدبراً، وهناك من يهجرون كتاب الله تطبيقاً وحكماً وسياسة واقتصاداً وقضاءً، ونسأل الله تبارك وتعالى أن يجعل القرآن حجة لنا لا علينا يا رب العالمين.
    إيها المسلمون
    سنقف وإياكم في هذه الدقائق الغالية مع قول الله عز وجل في: ((ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ اسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصلاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ ))
    الاية فيها أمر للمسلمين ونداء لهم: ((ايأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ اسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصلاةِ)) البقرة:153 الله عز وجل يأمرنا نحن المسلمين خاصة نحن الذين نعيش في بيت المقدس وأكناف بيت المقدس، ونعاني ما نعاني؛ ما أحوجنا أن نتدبر كلام الله عز وجل ونستعين بتوجيهاته بالصبر والصلاة، الصبر الذي له أثر كبير في نفوس ومسيرة حياة المؤمنين، فضلاً عن الأجر العظيم الذي يناله المسلم من الله عز وجل حيث يقول الباري سبحانه وتعالى: ((إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ)) الزمر:10، ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((أشد الناس بلاءً الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل، يُبتلى المرء على قدر دينه، فإن كان في دينه صلابة زيد له في البلاء)). ويقول لرسول صلى الله عليه وسلم في فضل الصبر: ((عجباً للمؤمن إن أمره كله خير، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته ضراء – أي مصيبة في نفسه في ولده، ماله، في بيته، في دمه – صبر فكان خيراً له، وإن أصابته سراء – أي نعمة – شكر)) أي على كلتا الحالتين المسلم مُثاب ومأجور من عند الله تبارك وتعالى.
    اللهم اجعلنا من الصابرين ولا تجعلنا من القانطين ولا من اليائسين يا رب العالمين.
    ولا بد من الصبر على الطاعات , والصبر عن المعاصي , والصبر على جهاد المشاقين لله , والصبر على الكيد بشتى صنوفه , والصبر على بطء النصر , والصبر على بعد الشقة , والصبر على انتفاش الباطل , والصبر على قلة الناصر , والصبر على طول الطريق الشائك , والصبر على التواء النفوس , وضلال القلوب , وثقلة العناد , ومضاضة الاعراض .
    وحين يطول الأمد , ويشق الجهد , قد يضعف الصبر , أو ينفد , إذا لم يكن هناك زاد ومدد . ومن ثم يقرن الصلاة إلى الصبر ; فهي المعين الذي لا ينضب , والزاد الذي لا ينفد . المعين الذي يجدد الطاقة , والزاد الذي يزود القلب ; فيمتد حبل الصبر ولا ينقطع . ثم يضيف إلى الصبر , الرضى والبشاشة , والطمأنينة , والثقة , واليقين . وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيراً.
    ( 9 ) يأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ اسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصلاةِ -2
    الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، وعلى آله وصحبه ومن والاه ، وبعد :
    الأحاديث في الصبر كثيرة نذكر بعضها
    فعن خباب بن الأرث - رضي الله عنه - قال:شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو متوسد بردة في ظل الكعبة . فقلنا:ألا تستنصر لنا ? ألا تدعو لنا ? فقال:" قد كان من قبلكم يؤخذ الرجل فيحفر له في الأرض , فيجعل فيها , ثم يؤتى بالمنشار , فيوضع على رأسه فيجعل نصفين , ويمشط بأمشاط الحديد
    ((ما دون لحمه وعظمه , ما يصده ذلك عن دينه . . والله ليتمن الله تعالى هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت فلا يخاف إلا الله , والذئب على غنمه , ولكنكم تستعجلون ))
    وعن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال:" كأني أنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يحكي نبيا من الأنبياء عليهم السلام , ضربه قومه فأدموه , وهو يمسح الدم عن وجهه , وهو يقول( اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون ) .
    وعن يحيى بن وثاب , عن شيخ من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلم)) الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم خير من الذي لا يخالطهم ولا يصبر على أذاهم)).
    أيها المسلمون
    إنه لا بد للإنسان الفاني الضعيف المحدود أن يتصل بالقوة الكبرى , يستمد منها العون حين يتجاوز الجهد قواه المحدودة . حينما تواجهه قوى الشر الباطنة والظاهرة . حينما يثقل عليه جهد الاستقامة على الطريق بين دفع الشهوات وإغراء المطامع , وحينما تثقل عليه مجاهدة الطغيان والفساد وهي عنيفة . حينما يطول به الطريق وتبعد به الشقة في عمره المحدود , ثم ينظر فإذا هو لم يبلغ شيئا وقد أوشك المغيب , ولم ينل شيئا وشمس العمر تميل للغروب . حينما يجد الشر نافشا والخير ضاويا , ولا شعاع في الأفق ولا معلم في الطريق . .
    هنا تبدو قيمة الصلاة . . إنها الصلة المباشرة بين الإنسان الفاني والقوة الباقية . إنها الموعد المختار لالتقاء القطرة المنعزلة بالنبع الذي لا يغيض . إنها مفتاح الكنز الذي يغني ويقني ويفيض . إنها الانطلاقة من حدود الواقع الأرضي الصغير إلى مجال الواقع الكوني الكبير . إنها الروح والندى والظلال في الهاجرة , إنها اللمسة الحانية للقلب المتعب المكدود . . ومن هنا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كان في الشدة قال:" أرحنا بها يا بلال " . . ويكثر من الصلاة إذا حزبه أمر ليكثر من اللقاء بالله .
    (إن الله مع الصابرين). .
    معهم , يؤيدهم , ويثبتهم , ويقويهم , ويؤنسهم , ولا يدعهم يقطعون الطريق وحدهم , ولا يتركهم لطاقتهم المحدودة , وقوتهم الضعيفة , إنما يمدهم حين ينفد زادهم , ويجدد عزيمتهم حين تطول بهم الطريق . . وهو يناديهم في أول الآية ذلك النداء الحبيب: يا أيها الذين آمنوا . . ويختم النداء بذلك التشجيع العجيب: (إن الله مع الصابرين). وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيراً
    ( 10 ) ولا تَقُولُواْ لِمَن يُقْتَلُ فِى سَبيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بل أحياء
    الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، وعلى آله وصحبه ومن والاه ، وبعد :يقول الله عز وجل: ((وَلاَ تَقُولُواْ لِمَن يُقْتَلُ فِى سَبيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاء وَلَكِن لاَّ تَشْعُرُونَ)) البقرة:154
    إن الله عز وجل يُبين لنا في هذه الآية الكريمة أن الذي يستشهدون ليسوا أمواتا بل أحياء،
    إن هنالك قتلى شهداء في معركة الحق . شهداء في سبيل الله . قتلى أعزاء أحباء . قتلى كراما أزكياء - فالذين يخرجون في سبيل الله , والذين يضحون بأرواحهم في معركة الحق , هم عادة أكرم القلوب وأزكى الأرواح وأطهر النفوس - هؤلاء الذين يقتلون في سبيل الله ليسوا أمواتا . إنهم أحياء . فلا يجوز أن يقال عنهم:أموات . لا يجوز أن يعتبروا أمواتا في الحس والشعور , ولا أن يقال عنهم أموات بالشفة واللسان . إنهم أحياء بشهادة الله سبحانه . فهم لا بد أحياء .
    إنهم قتلوا في ظاهر الأمر , وحسبما ترى العين . . والفكرة التي من أجلها قتلوا هؤلاء ترتوي بدمائهم وتمتد , وتأثر الباقين وراءهم باستشهادهم يقوى ويمتد . فهم ما يزالون عنصرا فعالا دافعا مؤثرا في تكييف الحياة وتوجيهها , وهذه هي صفة الحياة الأولى . فهم أحياء أولا بهذا الاعتبار الواقعي في دنيا الناس .
    ثم هم أحياء عند ربهم - إما بهذا الاعتبار , وإما باعتبار آخر لا ندري نحن كنهه . وحسبنا إخبار الله تعالى به: (أحياء ولكن لا تشعرون). . لأن كنه هذه الحياة فوق إدراكنا البشري القاصر المحدود . ولكنهم أحياء .
    أحياء . ومن ثم لا يغسلون كما يغسل الموتى , ويكفنون في ثيابهم التي استشهدوا فيها . فالغسل تطهير للجسد الميت وهم أطهار بما فيهم من حياة . وثيابهم في الأرض ثيابهم في القبر لأنهم بعد أحياء .
    أحياء . فلا يشق قتلهم على الأهل والأحباء والأصدقاء . أحياء يشاركون في حياة الأهل والأحباء والأصدقاء . أحياء فلا يصعب فراقهم على القلوب الباقية خلفهم , ولا يتعاظمها الأمر , ولا يهولنها عظم الفداء .ثم هم بعد كونهم أحياء مكرمون عند الله , مأجورون أكرم الأجر وأوفاه:
    في صحيح مسلم يقول صلى الله عليه وسلم ((إن أرواح الشهداء في حواصل طيور خضر تسرح في الجنة حيث شاءت ثم تأوي إلى قناديل معلقة تحت العرش , فاطلع عليهم ربك إطلاعة . فقال:ماذا تبغون ? فقالوا:يا ربنا . وأي شيء نبغي وقد أعطيتنا ما لم تعط أحدا من خلقك ? ثم عاد عليهم بمثل هذا . فلما رأوا أنهم لا يتركون من أن يسألوا قالوا:نريد أن تردنا إلى الدار الدنيا فنقاتل في سبيلك حتى نقتل فيك مرة أخرى - لما يرون من ثواب الشهادة - فيقول الرب جل جلاله:إني كتبت أنهم إليها لا يرجعون )) .
    وعن أنس رضي الله عنه قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (( ما أحد يدخل الجنة يحب أن يرجع إلى الدنيا , وله ما على الأرض من شيء . إلا الشهيد , ويتمنى أن يرجع إلى الدنيا فيقتل عشر مرات , لما يرى من الكرامة )) أخرجه مالك والشيخان
    ولكن من هم هؤلاء الشهداء الأحياء ? إنهم أولئك الذين يقتلون (في سبيل الله). . في سبيل الله وحده , دون شركة في شارة ولا هدف ولا غاية إلا الله . في سبيل هذا الحق الذي أنزله . في سبيل هذا المنهج الذي شرعه . في سبيل هذا الدين الذي اختاره . . في هذا السبيل وحده , لا في أي سبيل آخر , ولا تحت أي شعار آخر , ولا شركة مع هدف أو شعار . وفي هذا شدد القرآن وشدد الحديث , حتى ما تبقى في النفس شبهة أو خاطر . . غير الله . .
    عن أبي موسى - رضي الله عنه - قال:سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرجل يقاتل شجاعة , ويقاتل حمية , ويقاتل رياء . أي ذلك في سبيل الله ? فقال (( من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله )) . . أخرجه مالك والشيخان .
    وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رجلا قال:يا رسول الله:رجل يريد الجهاد في سبيل الله وهو يبتغي عرضا من الدنيا ? فقال:" لا أجر له " . فأعاد عليه ثلاثا . كل ذلك يقول:" لا أجر له " . أخرجه أبو داود.
    وعنه - رضي الله عنه - قال:قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (( تضمن الله تعالى لمن خرج في سبيل الله . لا يخرجه إلا جهاد في سبيلي وإيمان بي وتصديق برسلي . . فهو علي ضامن أن أدخله الجنة أو أرجعه إلى مسكنه الذي خرج منه نائلا ما نال من أجر أو غنيمة . والذي نفس محمد بيده , ما من كلم يكلم في سبيل الله إلا جاء يوم القيامة كهيئته يوم كلم , لونه لون دم وريحه ريح مسك . والذي نفس محمد بيده لولا أن أشق على المسلمين ما قعدت خلاف سرية تغزو في سبيل الله عز وجل أبدا . ولكن لا أجد سعة فأحملهم , ولا يجدون سعة فيتبعوني ويشق عليهم أن يتخلفوا عني . والذي نفس محمد بيده لوددت أن اغزو في سبيل الله فأقتل , ثم اغزو فأقتل , ثم اغزو فأقتل ))أخرجه مالك والشيخان .
    فهؤلاء هم الشهداء . هؤلاء الذي يخرجون في سبيل الله , لا يخرجهم إلا جهاد في سبيله , وإيمان به , وتصديق برسله .
    اللهم اكتب لنا الشهادة في سبيلك، اللهم ارحم شهداءنا، اللهم تقبل شهداءنا، واجمعنا بهم في الفردوس الأعلى مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقاً. وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيراً.

    ( 11 ) وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْء مّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ
    الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، وعلى آله وصحبه ومن والاه ، وبعد :يقول الله عز وجل: ((وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْء مّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مّنَ الاْمَوَالِ وَالاْنفُسِ وَالثَّمَراتِ)) البقرة:155، وذلك الابتلاء والامتحان من الله حتى يميز الخبيث من الطيب، ((وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْء مّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مّنَ الاْمَوَالِ وَالاْنفُسِ وَالثَّمَراتِ وَبَشّرِ الصَّابِرِينَ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعونَ)) البقرة:155، 156.
    وهذا إخبار من الله تعالى ذكره أتباع رسوله صلى الله عليه وسلم أنه مبتليهم وممتحنهم بشدائد من الأمور ليعلم من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه، كما ابتلاهم فامتحنهم بتحويل القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة، وكما امتحن أصفياءه قبلهم، ووعدهم ذلك في آية أخرى فقال لهم: أمْ حَسِبْتُمْ أنْ تَدْخُلُوا الجَنَّةَ وَلَمَّا يَأتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ البأساءُ والضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ ألا إنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ(تفسير الطبري)
    ولقد ورد في فضل الصبر أن الله عز وجل إذا أمر ملائكته أن يقبضوا روح العبد المؤمن فتقبض الملائكة روحه ثم يعودون، فيسألهم الله عز وجل - وهو بهم أعلم - أقبضتم روح عبدي فلان؟ فتقول الملائكة: نعم .. ويسألهم الله: ماذا قال عبدي فلان؟ – ماذا كان رد الفعل عند والده عند أقرب الناس إليه؟ فتقول الملائكة: حمدك واسترجع – أي إن دأب المسلم أن يقول عندما تصيبه مصيبة: إنا لله و إنا إليه راجعون - فيقول الله عز وجل للملائكة: ابنوا لعبدي بيتاً في الجنة وسموه بيت الحمد.
    (وبشر الصابرين . الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا:إنا لله وإنا إليه راجعون). .
    إنا لله . . كلنا . . كل ما فينا . . كل كياننا وذاتيتنا . . لله . . وإليه المرجع والمآب في كل أمر وفي كل مصير . . التسليم . . التسليم المطلق . . تسليم الالتجاء الأخير المنبثق من الالتقاء وجها لوجه بالحقيقة الوحيدة , وبالتصور الصحيح .
    (وبشر الصابرين . الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا:إنا لله وإنا إليه راجعون
    وبشر يا محمد الصابرين، الذين يعلمون أن جميع ما بهم من نعمة فمني، فيقرّون بعبوديتي، ويوحدونني بالربوبية، ويصدّقون بالمعاد والرجوع إليّ فيستسلمون لقضائي، ويرجون ثوابي ويخافون عقابي، ويقولون عند امتحاني إياهم ببعض محني، وابتلائي إياهم بما وعدتهم أن أبتليهم به من الخوف والجوع ونقص الأموال والأنفس والثمرات وغير ذلك من المصائب التي أنا ممتحنهم بها. إنا مماليك ربنا ومعبودنا أحياء ونحن عبيده وإنا إليه بعد مماتنا صائرون تسليما لقضائي ورضا بأحكامي.
    هؤلاء هم الصابرون . .:
    (أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة , وأولئك هم المهتدون). .
    صلوات من ربهم . . يرفعهم بها إلى المشاركة في نصيب نبيه الذي يصلي عليه هو وملائكته سبحانه . . وهو مقام كريم . . ورحمة . . وشهادة من الله بأنهم هم المهتدون . .
    أخبر الله أن المؤمن إذا سلم الأمر إلى الله ورجع واسترجع عند المصيبة، كتب له ثلاث خصال من الخير: الصلاة من الله، والرحمة، وتحقيق سبيل الهدى. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((مَنْ اسْتَرْجَعَ عِنْدَ المُصِيبَةِ جَبَرَ اللَّهُ مُصِيبَتَهُ، وأحْسَنَ عُقْبَاهُ، وَجَعَلَ لَهُ خَلَفا صَالِحا يَرْضَاهُ)).
    اللهم تب علينا توبة صادقة نصوحاً. اللهم اغفر لنا وارحمنا برحمتك يا أرحم الراحمين سبحانك اللهم وبحمدك نستغفرك ونتوب إليك. أشهد أن لا إله إلا أنت، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
    ( 12 ) الله لا إله إلا هو الحي القيوم
    الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، وعلى آله وصحبه ومن والاه ، وبعد :
    لقاءنا اليوم مع أعظم اية في كتاب الله:
    مع أية قال عنها المصطفى صلى الله عليه وسلم (0من قرأها بعد كل صلاة لم يمنعه من دخول الجنة إلا أن يموت )
    ((الله لا إله إلا هو الحي القيوم لا تأخذه سنة ولا نوم له ما في السموات وما في الأرض من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء وسع كرسيه السموات والأرض ولا يؤوده حفظهما وهو العلي العظيم)).البقرة
    لقد سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم أبي بن كعب رضي الله عنه عن أعظم آية في القرآن؟ فقال: الله ورسوله أعلم فسأله مرة ثانية، فقال: الله ورسوله أعلم، فحينما سأله الثالثة؟ قال: ((الله لا إله إلا هو الحي القيوم)) فضرب النبي صلى الله عليه وسلم على صدر أبي وقال له: ((ليهنك العلم أبا المنذر)) هنأه النبي صلى الله عليه وسلم على هذا العلم الذي حواه صدره .. فهو أقرأ الأمة بكتاب الله، ولم تكن قراءته دون علم .. بل لقد علم أعظم آية لما فيها من صفات لله عز وجل ولما تحويه من أسماء الله .. فهذه الآية أيها الإخوة مشتملة على عشر جمل مستقلة.
    الله لا إله إلا هو
    البداية تغرس في قلوبنا أن الحاكمية لله وحده . فيكون الله وحده هو المشرع للعباد ; ويجيء تشريع البشر مستمدا من شريعة الله . ومن هذا التصور يستمد المؤمن كل القيم من الله ; فلا اعتبار لقيمة من قيم الحياة كلها إذا لم تقبل في ميزان الله , ولا شرعية لوضع أو تقليد أو تنظيم يخالف عن منهج الله . . وهكذا إلى آخرما ينبثق عن معنى الوحدانية من مشاعر في الضمير أو مناهج لحياة الناس في الأرض على السواء(في ضلال القرآن )
    وقوله تعالى: ((الله لا إله إلا هو)) إخبار بأنه المنفرد بالإلهية لجميع الخلائق، فلا معبود بحق إلا هو سبحانه، وهو المستحق للعبادة ((الحي القيوم)) أي الحي في نفسه الذي لا يموت أبداً، القيم لغيره ولا قوام للموجودات بدون أمره.
    الحي القيوم.
    والحياة التي يوصف بها الإله الواحد هي الحياة الذاتية التي لم تأت من مصدر آخر كحياة الخلائق المكسوبة الموهوبة لها من الخالق . ومن ثم يتفرد الله - سبحانه - بالحياة على هذا المعنى . كما أنها هي الحياة الأزلية الأبدية التي لا تبدأ من مبدأ ولا تنتهي إلى نهاية , فهي متجردة عن معنى الزمان المصاحب لحياة الخلائق المكتسبة المحددة البدء والنهاية . ومن ثم يتفرد الله - سبحانه - كذلك بالحياة على هذا المعنى . ثم إنها هي الحياة المطلقة من الخصائص التي اعتاد الناس أن يعرفوا بها الحياة . فالله - سبحانه - ليس كمثله شيء وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيراً.
    ( 13 ) ((لا تأخذه سنة ولا نوم))
    الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، وعلى آله وصحبه ومن والاه ، وبعد :
    ((لا تأخذه سنة ولا نوم)) لا تغلبه سنة وهي النعاس ولهذا قال تعالى: ((ولا نوم)) لأنه أقوى من النعاس.
    جاء في الصحيح: ((إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام، يخفض القسط ويرفعه، يرفع إليه عمل النهار قبل عمل الليل وعمل الليل قبل عمل النهار، حجابه النور لو كشفه لاحترقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه)).
    ((له ما في السموات وما في الأرض)) إخبار بأن الجميع عبيده وفي ملكه وتحت قهره وسلطانه.
    (له ما في السماوات وما في الأرض). .
    فهي الملكية الشاملة . كما أنها هي الملكية المطلقة . . الملكية التي لا يرد عليها قيد ولا شرط ولا فوت ولا شركة . وهي مفهوم من مفاهيم الألوهية الواحدة . فالله الواحد هو الحي الواحد , القيوم الواحد , المالك الواحد وهي نفي للشركة في صورتها التي ترد على أذهان الناس ومداركهم . كما أنها ذات أثر في إنشاء معنى الملكية وحقيقتها في دنيا الناس . فإذا تمحضت الملكية الحقيقية لله , لم يكن للناس ملكية ابتداء لشيء . إنما كان لهم استخلاف من المالك الواحد الأصلي الذي يملك كل شيء . ومن ثم وجب أن يخضعوا في خلافتهم لشروطالمالك المستخلف في هذه الملكية . وشروط المالك المستخلف قد بينها لهم في شريعته ; فليس لهم أن يخرجوا عنها
    ((من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه)) كقوله تعالى: ((ولا يشفعون إلا لمن ارتضى)) وهذا من عظمته وكبريائه وجلاله عز وجل وأنه لا يتجاسر أحد على أن يشفع لأحد عنده إلا بإذن له في الشفاعة ... كما جاء في حديث الشفاعة عن النبي صلى الله عليه وسلم الذي قال فيه: ((ثم آتي تحت العرش فأخر ساجداً فيدعني ما شاء أن يدعني، ثم يقال: ارفع رأسك، وقل تسمع، واشفع تشفع)) فلا شفاعة إلا بإذن الله إذن لمن يشفع ولمن يشفع له قال تعالى: ((يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يشفعون إلا لمن ارتضى وهم من خشيته مشفقون))الانبياء
    (من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه ?)
    إنها صفة أخرى من صفات الله ; توضح مقام لألوهية ومقام العبودية . . فالعبيد جميعا يقفون في حضرة الألوهية موقف العبودية ; لا يتعدونه ولا يتجاوزونه , يقفون في مقام العبد الخاشع الخاضع ; الذي لا يقدم بين يدي ربه ; ولا يجرؤ على الشفاعة عنده , إلا بعد أن يؤذن له , فيخضع للإذن ويشفع في حدوده . . وهم يتفاضلون فيما بينهم , ويتفاضلون في ميزان الله . ولكنهم يقفون عند الحد الذي لا يتجاوزه عبد .
    ((يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم)) هذا دليل على إحاطة علم الله بجميع الكائنات ماضيها وحاضرها ومستقبلها، كما قال تعالى إخباراً من الملائكة، ((وما نتنزل إلا بأمر ربك له ما بين أيدينا وما خلفنا وما بين ذلك وما كان ربك نسياً))مريم
    (يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم )
    وهذه الحقيقة بطرفيها تساهم كذلك في تعريف المسلم بإلهه , وفي تحديد مقامه هو من إلهه . فالله يعلم ما بين أيدي الناس وما خلفهم . وهو تعبير عن العلم الشامل الكامل المستقصي لكل ما حولهم . فهو يشمل حاضرهم الذي بين أيديهم ; ويشمل غيبهم الذي كان ومضى والذي سيكون وهو عنهم محجوب . كذلك هو يشمل ما يعلمونه من الأمور وما يجهلونه في كل وقت . وهو على العموم تعبير لغوي يفيد شمول العلم وتقصيه . . أما هم فلا يعلمون شيئا إلا ما يأذن لهم الله أن يعلموه . .
    وشطر الحقيقة الأول . . علم الله الشامل بما بين أيديهم وما خلفهم . . من شأنه أن يحدث في النفس رجة وهزة . النفس التي تقف عارية في كل لحظة أمام بارئها الذي يعلم ما بين يديها وما خلفها . يعلم ما تضمر علمه بما تجهر . ويعلم ما تعلم علمه بما تجهل . ويعلم ما يحيط بها من ماض وآت مما لا تعلمه هي ولا تدريه . . شعور النفس بهذا خليق بأن يحدث فيها هزة الذي يقف عريانا بكل ما في سريرته أمام الديان ; كما أنه خليق بأن يسكب في القلب الاستسلام لمن يعرف ظاهر كل شيء وخافيه .
    وشطر الحقيقة الثاني . . أن الناس لا يعلمون إلا ما شاء الله لهم أن يعلموه . . جدير بأن يتدبره الناس طويلا . وبخاصة في هذه الأيام التي يفتنون فيها بالعلم في جانب من جوانب الكون والحياة
    ( 14 ) ((ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء ))
    الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، وعلى آله وصحبه ومن والاه ، وبعد :يقول تعالى ((ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء)) أي لا يطلع أحد من علم الله على شيء إلا بما أعلمه الله عز وجل كما قال سبحانه: ((عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحداً إلا من ارتضى من رسولٍ فإنه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصداً ليعلم أن قد أبلغوا رسالات ربهم وأحاط بما لديهم وأحصى كل شيء عدداً))الجن
    ((وسع كرسيه السموات والأرض)) عن ابن عباس رضي الله عنهما قال سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن قول الله تعالى: ((وسع كرسيه السموات والأرض)) فقال: كرسيه موضع قدميه، والعرش لا يقدر قدره إلا الله عز وجل، فالسموات السبع والأرضون السبع في الكرسي إلا كحلقه في فلاة، وقيل أنها كدراهم ألقيت في ترس، فسبحان الله رب العرش العظيم.
    ((ولا يؤوده حفظهما)) أي لا يثقله ولا يكترثه ولا يشتد عليه حفظ السموات والأرض سبحانه وتعالى، بل ذلك سهل عليه يسير لديه، وهو قائم على كل نفس بما كسبت، الرقيب على جميع الأشياء فلا يعزب عنه شيء ولا يغيب عنه شي، والأشياء كلها حقيرة بين يديه متواضعة ذليلة صغيرة بالنسبة إليه، محتاجة فقيرة إليه وهو الغني الحميد، الفعال لما يريد الذي لا يسأل عما يفعل وهم يسألون، وهو القاهر لكل شيء الحسيب على كل شيء الرقيب العلي العظيم، لا إله إلا هو ولا إله غيره ولا رب سواه.
    ((وهو العلي العظيم)) فهو العلي علو منزلة وعلو قهر وسلطان، وهو العظيم سبحانه وتعالى الكبير المتعال لا ملجأ ولا منجا منه إلا إليه، وهو حسبنا ونعم الوكيل
    ((وهو العلي العظيم)) وهذه خاتمة الصفات في الآية , تقرر حقيقة , وتوحي للنفس بهذه الحقيقة . وتفرد الله سبحانه بالعلو , وتفرده سبحانه بالعظمة . فالتعبير على هذا النحو يتضمن معنى القصر والحصر . فلم يقل وهو علي عظيم , ليثبت الصفة مجرد إثبات . ولكنه قال: (العلي العظيم)ليقصرها عليه سبحانه بلا شريك !
    إنه المتفرد بالعلو , المتفرد بالعظمة . وما يتطاول أحد من العبيد إلى هذا المقام إلا ويرده الله إلى الخفض والهون ; وإلى العذاب في الآخرة والهوان . وهو يقول: (تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا). . ويقول عن فرعون في معرض الهلاك: إنه كان عاليا . .
    ويعلو الإنسان ما يعلو , ويعظم الإنسان ما يعظم , فلا يتجاوز مقام العبودية لله العلي العظيم . وعندما تستقر هذه الحقيقة في نفس الإنسان , فإنها تثوب به إلى مقام العبودية وتطامن من كبريائه وطغيانه ; وترده إلى مخافة الله ومهابته ; وإلى الشعور بجلاله وعظمته ; وإلى الأدب في حقه والتحرج من الاستكبار على عباده . فهي اعتقاد وتصور . وهي كذلك عمل وسلوك .
    اللهم أيقظ قلوبنا من الغفلات، وطهر جوارحنا من المعاصي والسيئات، ونق سرائرنا من الشرور والبليات، اللهم باعد بيننا وبين ذنوبنا كما باعدت بين المشرق والمغرب. وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيراً.
    ) 15 ) )) زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين))الاية
    الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، وعلى آله وصحبه ومن والاه ، وبعد :
    قال الله تعالى " زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة و الأنعام والحرث، ذلك متاع الحياة الدنيا، والله عنده حسن المآب. قل أؤنبئكم بخير من ذلكم؟ للذين اتقوا عند ربهم جنات تجري من تحتها الأنهار ، خالدين فيها، وأزواج مطهرة، ورضوان من الله والله بصير بالعباد".
    في هذه الآية العظيمة مقارنة لطيفة بين متاع زائل وبين نعيم دائم ، بين دنيا فانية وأخرى باقية، إنه امتحان ولكنه مكشوف الأوراق ومحدد النتائج ، أمامك اختياران الأول: متاع الحياة الدنيا والثاني: التقوى (للذين اتقوا). والأمر لايحتاج إلى كثير تفكير فأي عاقل لابد أن يختار الخيار الثاني لأن النتيجة هي: جنات تجري من تحتها الأنهار ، خالدين فيها، وأزواج مطهرة، ورضوان من الله .
    أفهذا خير أم متاع زائل وشهوة عابرة ونشوة زائلة؟! ولكن بما أن المسألة بهذا الوضوح فلماذا يفشل كثير من الناس في هذا الإمتحان؟ لابد أن في الأمر سر. والسر هو في أول كلمة في الآية : زين . فمن المزين ولماذا هذا التزين؟ يرى بعض المفسرين أن المزين هو الشيطان وذلك بوسوسته للإنسان وتحسنه الميل لهذه الشهوات، قالوا ويؤيد ذلك قوله تعالى: "وزين لهم الشيطان أعمالهم.." ويرى البعض أن المزين هو الله تعالى وذلك للإمتحان والإبتلاء، ليظهرعبد الشهوة والهوى من عبد الله ويؤيد ذلك قوله تعالى: "إنا جعلنا ماعلى الأرض زينة لهم لنبلوهم أيهم أحسن عملاً" وكلا القولين له وجه. ومن رحمة الله بنا أنه لم ينهنا عن التمتع بتلك الشهوات بالكلية ولكنه نهانا عن أن نتعلق بها فتشغلنا عن العمل للآخرة ونهانا عن أن نؤثر حبها على حب الله والدار الآخرة فتعمي أبصارنا وتطغينا فنتجاوز حدود الله ونرتكب الآثام من أجلها ونبيع ديننا لتحصيلها.قال تعالى : " فأما من طغى وآثر الحياة الدنيا فإن الجحيم هي المأوى وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هي المأوى". ولفتة أخيرة وهي أن في تعداد هذه الشهوات دون غيرها وبالترتيب الوارد في الآية الكريمة لفت نظر لنا وتأكيد على خطر هذه الشهوات المعددة في الآية لنتنبه لها ونحذر منها أشد من غيرها وهي : النساء، والأبناء، والذهب، والفضة، والخيل الأصيلة، والإبل، والبقر، والغنم، والحرث، والزرع. فاللهم لاتجعل الدنيا أكبر
    همنا ولامبلغ علمنا ولا إلى النار مصيرنا واجعل الجنة هي دارنا ومآلنا. وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيراً.
    ( 16 ) إن في خلق السماوات والأرض
    الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، وعلى آله وصحبه ومن والاه ، وبعد :
    قال الله - تعالى-: (( إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لِّأُوْلِي الألْبَابِ الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ.. الآيات))(190) سورة آل عمران.
    ورد عن عائشة - رضي الله عنها - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - استأذنها ذات مرة في أن تتركه يقوم الليل؛ وقد كانت - رضي الله عنها- تحب قربه والجلوس معه، فتركته - صلى الله عليه وسلم - لقيام الليل، فقام من الليل يصلي ويبكي حتى آذنه بلال بأذان الفجر، فسأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن حاله، فقال له: (لقد أنزلت عليّ الليلة آيات ويلٌ لمن قرأها ولم يتفكر فيها).
    فإعمالاً لحديث الرسول - صلى الله عليه وسلم - نقفُ وإياكم مع هذه الآيات الكريمات وقفات تأمل وتفكر لنأخذ الدروس والعبر والفوائد، فمن فوائد هذه الآيات ومناسبة نزولها في الحديث ما يلي:
    أن لله - عز وجل - سجلان مفتوحان للنظر والتأمل والتفكير، وكلا السجلين يحملان آيات بينات، وحجج واضحات على وحدانية الصانع، وانفراد الخالق، أول السجلين هوالكون الفسيح، والسماء الواسعة، والأرض المنبسطة، وما بينهما من المخلوقات، وجميعها شاهد على وحدانية الله - تعالى-:
    وفي كلِّ شيءٍ له آية تدل على أنه الواحد
    وأما السجل الثاني فهو القرآن الكريم، المتضمن لشرعة المكلفين من البشر، ومنهاج العالمين من العباد حتى يستقيم سيرهم مع سير الكون الخاضع لله، والمسبح له.
    ((وإن من شيءٍ إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم))، وفي كلا السجلين وضوح القدرة الإلهية، وإبداع الله في خلقه، وأمره وعظمته القاهرة، وعلمه المحيط.
    أن التأمل في خلق السماوات والأرض، وحركة الزمان، وسير عجلة التاريخ؛ زيادة إيمان ويقين، مما جعل الله - عز وجل - يمدح أهله ((بأنهم أولوا الألباب)).
    وإن مما نلاحظه أننا وللأسف الشديد أحاطتنا حضارة اليوم من صنعها ما جعلنا نغفل عن آيات الله الكونية، فأصبحنا معلبين في بيوت صماء، وآلات عجماء، وحركة لا حياة فيها، حتى إن معالم الأرض بدأت تختفي من تحتنا، ومناظر الطبيعة تنسحب من حولنا، فلا نشاهد أشجاراً ولا طيوراً، مما له أكبر الأثر على غفلة القلوب، وتجمد الفكر.
    قوله تعالى: ((واختلاف الليل والنهار)) أي تعاقبهما جيئة وذهاباً، وسيرهما السير الحثيث، بحيث يغيران في الإنسان حاله وأحواله، ففي كل واحد منها شأن، حتى يقضي آجل الإنسان في ساعة بل في لحظة من لحظاتها، فكان المتأمل في حركة الزمان من حوله، وغياب الناس عنه، وذهاب الرفقة حيناً فحيناً، وفراق الأحبة تارة بعد تارة، متأمل لحقيقة حياته في ظل ((السماوات والأرض))
    3.قوله: ((لأولي الألباب)) هذا ثناء من الله - عز وجل - على الإنسان بأفضل ما فيه من الخلقه ألا وهو العقل؛ لأن العقل وعاء العلم، والعلم دليل إلى الإيمان، فكان العقل وعاء للإيمان أيضاً، ومن كان إيمانه نابع من دون عقل كان في تدينه خلل، وفي منهاجه زلل، فلم يذكر الله معصية ألا وعقب عليها بقوله: ((أفلا يعقلون))، وما أمر سبحانه بخير ومصلحة للعباد إلا وعقب عليها بقوله: ((لعلكم تعقلون)) وذلك في أغلب ما وردت فيه هذه الكلمة من الآيات.
    بل لقد عاب أهل النار على أنفسهم عدم العقل (( وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ فَاعْتَرَفُوا بِذَنبِهِمْ فَسُحْقاً لِّأَصْحَابِ السَّعِيرِ ))(10- 11) سورة الملك.
    وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيراً.
    ( 17 ) لايغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد

    الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، وعلى آله وصحبه ومن والاه ، وبعد :
    يقول الله تعالى : " لايغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد ، متاع قليل ثم مأواهم جهنم وبئس المهاد. لكن الذين أتقوا ربهم لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها نزلاً من عند الله وماعند الله خير للأبرار".
    حينما يتسلل الإحباط واليأس إلى نفس المؤمن وهو يرى ماعليه الكفار اليوم من التمكين في الأرض ومايملكونه من القوة والهيمنة ، وعندما يرى جيوشهم وعددهم وعتادهم، ويرى صناعاتهم وتقنيتهم فينتابه شعور بالنقص إزاء ماحققه القوم من رقي وتقدم في عالم الحضارة والمدنية ويصبح متأرجح التفكير في حاضر ماثل للعيان يجسد ضعف أمة الإسلام وهوانها بين الأمم ، تأتي هذه الآية الحكيمة كالبلسم الشافي تعيد إلى نفس المؤمن توازنها وتشعره بالعزة وتضع الأمور في نصابها في بيان حقيقة ومصير أولئك القوم ومآلهم الذين سيصيرون إليه فتتحقق له الطمأنينة ويستشعرعزة الإسلام ونعمة الإيمان التي أمتن الله بها عليه يوم أن جعله مؤمناً بالله موحداً له ومنزهاً له عن الشرك.
    إنهم مهما بلغوا من الرقي ومن التطور ومهما ملكوا من الدنيا فإنه ... متاع قليل .. هكذا سماه رب العالمين العليم الخبير .. متاع وقليل أيضا .. نعم إنه متاع إذا ماقورن بنعيم الآخرة الذي سيحرمون منه . هبهم حازوا الدنيا بأكملها جوها وبرها وبحرها وبسطوا نفوذهم على أقطارها وتنعموا بملذاتها وتمتعوا بشهواتها دونما منغصات أو كوارث ، هبهم عمروا فيها مئات السنين ! ثم ماذا بعد ذلك ؟ جهنم وبئس المهاد ! أليس إذن ماكانوا فيه إنما هو مجرد متاع قليل سرعان ماتذهب لذته وتزول شهوته .. لقد خسروا بكفرهم كل شيء ولن يغني عنهم ماهم فيه في الدنيا شيئاً يوم القيامة ، يقول تعالى: (إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار فلن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهباً ولو افتدى به أولئك لهم عذاب أليم ومالهم من ناصرين) ويقول تعالى :( ولو أن للذين ظلموا مافي الأرض جميعاً ومثله معه لافتدوا به من سوء العذاب يوم القيامة وبدا لهم من الله مالم يكونوا يحتسبون). أفبعد هذا يغبطهم عاقل على ماهم فيه من التنعم ورغد العيش وماهم فيه من القوة والسيطرة والتمكين رغم مايشوب ذلك كله من المنغصات والمكدرات ؟! وهذا ليس من قبيل الدعوة إلى الركون إلى الكسل والدعة والتخاذل عن السعي للكسب ولعمارة الأرض ولكن القصد منه رفع معنويات المؤمن وتبصيره بحقيقة الأمور وأنه أعز وأكرم عند الله وإن ناله شيء من الذل والهوان والضعف في الحياة الدنيا.
    إن الحياة الحقيقية هي حياة الآخرة وأن النعيم الحقيقي هو نعيم الجنة والفوز الحقيقي هو الفوز بالجنة والنجاة من النار فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور. ثم تُختم الآية الكريمة بما تننشرح له نفوس المؤمنين وتسر أفئدتهم له وتزهدهم بمافي أيدي أعدائهم وتزيدهم شوقاُ إلى ماعند الله والدار الآخرة وتحفزهم على العمل من أجل النعيم الحقيقي في الحياة الحقيقية فيقول تعالى : لكن الذين أتقوا ربهم لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها نزلاً من عند الله وماعند الله خير للأبرار. رضينا ربنا رضينا .. اللهم لاعيش إلا عيش الآخرة ولاحياة إلا حياة الآخرة . اللهم إجعلنا من أبناء الآخرة ممن لاخوف عليهم ولاهم يحزنون وارزقنا اللهم من العمل ماتبلغنا به جنتك ومن اليقين ماتهون به علينا مصائب الدنيا ومتعنا اللهم بأسماعنا وأبصارنا وقواتنا أبداً ماأحييتنا وأجعله الوارث منا.
    وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
    ( 18 ) (وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا)الاية
    الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، وعلى آله وصحبه ومن والاه ، وبعد :
    أيّها المسلم، اسمَعِ الله جل جلاله وهو يأمر عبادَه بهذه الأوامرِ وينهاهم عن بعضِ ما نهاهم عنه، قال تعالى: (وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالاً فَخُورًا) [النساء:36].أيّها المسلم، فأوّل هذه الأوامرِ أساسُ الملةِ والدين عبادةُ الله وإخلاصُ الدين له لكونِ العبادة حقًّا لله، هو المستحقّ لها لانفرادِه بخَلق العبادِ وقيامِه بأرزاقهم، وهو المتصرِّف فيهم، خلقهم ليعبدوه، وأمرهم بذلك، فهو المستحقّ أن يعبَدَ دون سواه؛ لأن غيرَه ليس مؤهَّلاً لذلك ولا أهلاً لذلك، وإنما العبادةُ بكلّ أنواعها حقّ لربنا جل وعلا.
    فأمر بعبادته ونهى عن الشركِ به، إذ العبادةُ أصلُ الإسلام وأساسُها، والشرك أصل كلِّ ضلال وأساسُه. [فأمر] بتوحيده وإخلاصِ الدين له، ونهى العبدَ أن يقصدَ بعبادته غيره، و[أمره] أن يتوجَّه بقلبِه لربِّه محبّة وخوفًا ورجاء، وأن يتعلّقَ قلبُه بربِّه، وأن تكونَ كلّ الأعمال لله خالصةً، يبتغِي بها وجهَ الله والدارَ الآخرة، لا رياءَ ولا سمعة ولا محبّةً لمدح الناس، ولكنه يرجو بها ما عندَ الله من الثوابِ يومَ قدومه عليه.
    سُئل صلى الله عليه وسلم فقال له السائل: أرأيتَ عبدَ الله بن جدعان وما كان ينفِق ويبذل في جاهليّته هل ينفعه ذلك؟ قال: ((لا، إنه لم يقل يومًا من الدهر: ربِّ اغفر لي خطيئتي يوم الدين)) ، فلمّا كانت الأعمالُ لم يقصَد بها وجهُ الله وإنما أمور دنيوية يريد بها إنسانٌ مكانةً أو جاهًا كانت تلك الأعمال لا اعتبارَ لها ولا ميزان لها، (وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنْ الْخَاسِرِينَ) [الزمر:65].
    فالمؤمنون أعمالهم لله، يقصدون بها وجهَ الله، فتنطلقُ الأعمال على هذا المنهاجِ الصحيح، أمّا أعمالُ غير المؤمن فإنها وقتيّة، متى فقِد السببُ منها عطِّلت، أمّا المؤمن فلا، عملُه إن استطاع بذَله، وإن عجز فما في قلبه من نيةِ الخير وإرادةِ الخير يجعل له الثوابَ بتوفيق من الله، ((إذا مرِض العبد أو سافر كتب الله له ما كان يعمله صحيحًا مقيمًا))]، وفي الحديث الآخر: ((إنّ بالمدينة أقوامًا ما سِرتم مَسيرًا ولا قطَعتم واديًا إلا كانوا معَكم حبسهم العذر)).
    أيّها المسلم، فلمّا أمر الله بتوحيدِه ونهى عن الإشراك به أمَر العبادَ بأوامرَ فمنها: قال جل وعلا: (وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا) [البقرة:83]، فأمر العبادَ بالإحسان إلى الوالدين، والإحسانُ إليهما بِرّهما، النفقةُ عليهما، خِدمتهما، القيامُ بحقِّهما، طيب الكلامِ معهما، التأدّب معهما، أن لا يُرفَعَ الصوت عليهما، أن لا يزجرا ولا يتكلَّم عليهما بكلام سيّئ، وإنما الخطابُ خطاب طيّب يشفُّ عن محبّة ورحمةٍ وأداء واعترافٍ بالواجب، (فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنْ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا) [الإسراء:23، 24]. طاعةٌ للوالدين امتثالاً لأمرِ الله قبل كلِّ شيء، ثمّ أداءً للجميل وردًّا للمعروف وإحسانًا لمن أحسَن، وما أعظمَ إحسانَ الأبوَين عليك أيّها العبد، فما أحَدٌ بعدَ ربِّك أعظَم إحسانًا لك من والدَيك، فقابِل الإحسانَ بالإحسان، واحذَر أن تقَابلَ الإحسان بالإساءَة والتجاهلِ والإعرَاض والتكبُّر في نفسِك، وتنسَى تلك اللياليَ والأيامَ التي طالما بذلت الأمّ [فيها] جهدَها، وطالما سهرت لراحتك، وطالما أنفق الأب وسعى وكدَح لأجلِك، فاعرِف تلك الأمور لتكون من أهلِ الكرامة والمروءة.
    وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيراً.
    ( 19 ) وبذي القربى واليتامى والمساكين الاية
    الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، وعلى آله وصحبه ومن والاه ، وبعد :
    لما أمَر بالإحسان إلى الوالدين قال: (وَبِذِي الْقُرْبَى) [النساء:26]، فأمر العبادَ أيضًا بأن يحسِنوا لأقربائهم، بأن يصِلوا أرحامَهم صِلةً تقتضِي محبّةً وبَذلاً للندى وكفًّا للأذى واتِّصالاً ينفي القطيعةَ وحرصًا على جمع الكلمة، والله يقول: (وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ) [النساء:1]، ويحذِّر من القطيعةِ فيقول: (فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمْ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ) [محمد:22، 23]، والرحِمُ معلّقة بالعرش تقول: يا ربِّ، أنت الرحمن وأنا الرحم، فيقول الله: ألا ترضَين أن أصِلَ من وصَلك وأقطعَ من قطعك؟ فتقول: نعم، فيقول: ذلك لك.
    والرحِمُ يوصَل فقيرُه بالإحسانِ إليهم، ويخَصّ فقراؤهم بالزكاةِ والصدقات، وصدقتُك على المسكين صدقة، وعلى رحمك اثنتان: صدقةٌ وصلة. تنصَح جاهلهم، وتهدي ضالهم، وتحسِن إليهم، فقيرٌ تحسن إليه، وجاهل تعلِّمه، وضالّ وغاوٍ تسعَى في هدايته، فأنت باذِلٌ الخيرَ معهم. إن بلغَك عن أحدٍ منم حاجةٌ وصلتَه، وإن بلغك عن مرضٍ عدتَه، وإن بلغَك عن تصرّفاتٍ خاطِئة اتَّصلت به نصيحةً له وإنقاذًا له من الغوايةِ وأخذًا بيده لما فيهِ صلاحُ دينه ودنياه. فتلكَ الصِّلة المحمودةُ، لا تقتصِر على مالٍ تبذله ولا مجرّد زيارة ولقاء، ولكن مع هذا كلِّه صِلة تفرِض عليك تعليمَ جاهلٍ وهدايةَ ضالّ وتقويمَ معوَّج وسلوكَ الطريق والتحذيرَ من مسالك الشر والفساد وأهله، لأنّ لرحمِك عليك حقًّا أن لا تدعَ جاهلهم ولا من غوى منهم أن يلجَّ في طغيانه ويستمرَّ في غوايته ويكون على بُعدٍ، بل يجب أن تأخذَ بيده؛ لأنَّ حقَّه عليك عظيم، فإنّ ما يصيبه إنما هو ضررٌ عليه، وهذا الضرر قد يتعدّى إلى الغير، فحاوِل هذا الرحم أن لا تدعَه لشياطين الجنّ والإنس يحرفون فكرَه ويغيِّرون اتَّجاهه ويسلكون به الطرقَ الملتوية التي لا تعود عليه بالخير في حاضره ومستقبله.
    ثم أرشدهم أيضًا لأمر آخر فقال: (وَالْيَتَامَى) [الحشر:7]، واليتامى أمرَ بالإحسان إليهم، واليتيمُ فاقدُ الأبِ مسؤوليتُه على المسلم، إن يكن قريبٌ فذاك هو المطلوب، وإلاَّ فمسؤوليّة على الأمّة جمعاء. هذا اليتيم فاقدُ الأب ضعيفُ القدرة قليل الحيلة، إنك تحسن إليه، فأوّلاً تمسَح دمعتَه، وتضمِّد جراحَه، وتصله وإن يكن فقيرًا، وتحسِن في ماله إن يكن غنيًّا، وترشده إلى الطريق، وتأخذ بيدِه لما فيه الخيرُ، وتحبّ له مثلَ ما تحبّ لأولادك، (وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا) [النساء:9]، ولتوفِّر ماله، ولتحذَر التعديَ عليه، (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا) [النساء:10]. وإهانةُ اليتيم لا تصدُر إلاَّ مِن قلبٍ قاسٍ مكذِّب ليوم الدين، أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ) الآية [الماعون:1-3]. واليتيم والسعيُ في مصلحته وخيره خير عظيم، وفي الحديث يقول صلى الله عليه وسلم : ((أنا وكافلُ اليتيم في الجنة كهاتين)) وحلّق بين إصبعيه: السبّابة والوسطى.
    أيها الإخوة، ثم إنَّ الله جلّ وعلا أمرَ بأمر آخر، أمر بالإحسانِ إلى المساكينِ، وهم المستحقّون وأهلُ الفاقة والحاجة، أمر بالإحسانِ إليهم، فإنهم إخوانُك، قصُرت الأمور في أيديهم، فهم إخوانُك في الإيمان، فأنت مسؤول إن كنت قادرًا أن تحسنَ إلى أولئك المساكين إحسانًا تبتغي به وجهَ الله، لا تريد منّةً عليهم، ولا تريد تفضُّلاً عليهم، ولا تريد ترفُّعًا عليهم، ولا تريد إذلالَهم لك، ولا تريد أن يمدحُوك أو يُثنُوا عليك، ولا تريد أن تكثِّر السوادَ بهم، ولكن تحسِن إليهم ابتغاءَ مرضاتِ الله، (وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُورًا) [الإنسان:8، 9].
    الساعي على الأراملِ والأيتامِ كالقائمِ الذي لا يفتُر وكالصائم الذي لا يفطِر، فالإحسانُ لعباد الله عملٌ ينجِّي الله به صاحبِه من المكاره، ويروَى: ((وعالجوا مرضاكم بالصَّدقة)) ، فهي تدفع البلاء، وتحقِّق الخير، وتسعد الأمة إذا انتبَه أغنياؤها لفقرائها وفتَّشوا عن المحتاجين والمستحقِّين وأرباب الحاجَة الذين لا يَسألون الناس إلحافًا يحسَبهم الجاهلُ أغنياءَ من التعفُّف التعفف. والإحسانُ إليهم نجاةٌ من أهوال يوم القيامة، (فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ فَكُّ رَقَبَةٍ أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ) [البلد:11-16].
    وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيراً
    ( 20 ) (وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى)الاية
    الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، وعلى آله وصحبه ومن والاه ، وبعد :قال تعالى: (وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى) [النساء:36]، أمر بالإحسانِ إلى الجار، سواء الجار القريب منك، أو الجار البعيد منك، أو الجارُ الذي لك به قرابة، والجارُ القريب من ليس له قرابة، كلُّ الجيران لهم حقٌّ عليك حتى ولو كان على غير دينك. فالجوار في الإسلام محترم، وفي الحديث: ((من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم جاره)) وفيه: ((من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذِ جاره)) ، وما زالَ جبريلُ يوصِي النبيَّ بالجار حتى ظنَّ أنه سيورِّثه ولا إيمانَ لمن لم يأمَن جارُه بوائقَه: غدراتِه وخيانته. والجارُ تحسن إليه لفقره، وتحسن إليه بتعليمه ونصيحته وتوجيهه، إن كان عندَه جهلٌ أو انحراف فكريّ أو غيره أو سلوكيّ فإنك تحسِن إليه نصيحةً تهديها إليه، تكفُّ الأذى عنه، تحسِن إليه، إن استنصرك بالحقّ نصرتَه، وإن استعان بك في معروفٍ أعنته، وإن استقرضَك أقرضته، وإن غاب حفِظته في أهله، فأنت ترعاه كما ترعى أهلَ بيتك، سواء كان قريبًا فله حقُّ الجوار والقرابة، أو جار غير قريبٍ فله حقُّ الإسلام والجوار، أو جار ولو غير مسلم له حقُّ الجوار، هكذا دلَّ الكتاب والسنة.
    (وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ)، صاحبُك في السفر أو الزوجةُ، كلُّ من صحبك بخير فله عليكَ حقُّ الإحسان.
    (وَابْنِ السَّبِيلِ) الذي انقطَع به الأمرُ عن بلده، فيحسَن إليه، ولذا جعَل الله ابنَ السبيل أحدَ أصناف المستحقِّين للزكاة.
    (وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ)، أمر الله بالإحسانِ لملك اليمين، أن تطعمَهم إذا طعمتَ، وتكسوَهم إذا اكتسيت، ولا تحمِّلهم ما لا يطيقون، وفي ضِمن ذلك الأجراءُ وأرباب العمل لهم عليك حقٌّ أن تحسنَ إليهم، وتوفي العقود التي معهم، وتؤدّي لهم الحقَّ الواجب، ولا تبخَسهم حقَّهم، ولا تماطِل في حقوقهم، فالواجب أداءُ الحقوق، ((أدّوا الأجيَر أجرَه قبل أن يجفَّ عرقه))
    (وَاللهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ)، لا يحبّ كلَّ مختال فخورٍ بعمَله مراءٍ به، المؤمنُ يفعل الأعمالَ لله، لا يفخر بها، ولا يعدِّدها، ولكن يعلم أنَّ اللهَ مضطّلع عليها، فهو يخفيها لله، (إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ) [البقرة:271].
    هكذا المؤمنُ الموحِّد لله، وهذه أعمالُه العظيمة وأخلاقه الكريمة، نسأل الله أن يرزقَنا وإياكم العملَ الصالح الخالص لله، إنّه على كل شيء قدير.
    وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيراً.
    ( 21 ) ((لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا))
    الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، وعلى آله وصحبه ومن والاه ، وبعد :
    إخواني، يقول الله في كتابه العزيز مخبِرًا عبادَه المؤمنين بحال أعدائهم معهم: (لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا) [المائدة:82].

    أخبرنا تعالى عن عداوةِ اليهود، وأنها عداوةٌ كامنة في نفوسهم إلى كلِّ المؤمنين قديمًا وحديثًا، فهم بَعد انحرافهم وقتلهم أنبياءَ الله وسعيهم في الأرض فسادًا واستمرارِهم على هذا الطغيانِ وتمادِيهم في هذا الظلم والعدوان يدلّ ذلك على أنَّ آيات القرآن آياتُ حقّ تكلَّم بها ربّ العالمين العالمُ بما كان ويكون. فهذه الفرقة الضالةُ هم أشدُّ الناس عداوةً لأهل الإيمان، وأعظمُهم حقدًا وكراهية للمؤمنين مِن كلّ طوائف الضلال، (لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا) [المائدة:82].إنَّ جرائمَهم وأفعالهم الشنيعةَ التي تحمِلها طياتُ الأخبار، وتنشُر أقوالهم وأفعالهم، وتنشُر صوَرًا حيَّة عن جرائمهم الشنيعة وأفعالهم الدنيئة، في زمنٍ غاب [فيه] ما يسمَّى بحقوقِ الإنسان، واندرس ما يسمَّى بالمواثيق الدولية في الحرب والمسلم، وأصبحت تلك المواثيقُ درجَ الرياح، لا اعتبارَ لها ولا ميزان، هذه الفرقةُ تتصرَّف من حيث قوّتُها ومن حيثُ تعامُلُ الأعداءِ من شرق الأرض وغربها معها ومن حيثُ تمكينها وتأييدُها وإمدادها بكل ممكن، حتى جرت تلك الجرائمُ النكراء وذلك الظلم والعدوان في أمّة عُزّل لا سلاحَ ولا مال معهم، إنما الظلم الذي أحاط بهم من كلِّ جانب ولله الأمر من قبل ومن بعد، (فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا) [النساء:19]. إنه ظلم بلغ أشدَّه، وعدوانٌ ما عرِف مثله، وتكاتُف الأعداء ضدّ أمة الإسلام، ولكن على الجميع الصبرُ والاحتساب والالتجاء إلى الله، فعسى فرجٌ من الله يأتي به، والله على كلّ شيء قدير، إنما المهمّ الاستقامة والالتجاء إلى الله والثقة بالله أعظم من ثقةِ العبد بنفسه واجتماعُ الكلمة ووَحدة الصفّ وتآلف القلوب والصبر والاحتساب، والله جل وعلا يقول: (فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا) [الشرح:5، 6].
    هذا الظلم والعدوانُ الذي يجري وما أحدٌ ينكِر وما أحدٌ يقول، لكنها في الحقيقةِ مصيبة، وبذنوب المسلمين حصَل ما حصل، نسأل الله لهم التأييدَ والنصر، وأن يمدَّهم بعونه وتوفيقه، وأن يكبِت عدوَّهم، وأن يرزقَهم الثبات والرجوع إلى الحق والاعتصام بحبل الله، فذاك ـ والله ـ أعظم سببٍ للنصر والتأييد من ربِّ العالمين، (وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ) [الحج:40]، فإن التجأ العباد إلى الله وتابوا إلى الله ورجعوا إلى الله ووثقوا بالله وبذلوا الأسبابَ مع كمال الثقة بالله والالتجاء إليه فإنَّ الله جلّ وعلا بيده موازين القوى، (إِنْ يَنْصُرْكُمْ اللَّهُ فَلا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلْ الْمُؤْمِنُونَ) [آل عمران:160].
    وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيراً
    ( 22 ) الفرح في القرآن
    الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، وعلى آله وصحبه ومن والاه ، وبعد :

    ذُكر الفرح في القرآن الكريم في اثنين وعشرين موضعاً، هذا الفرح المذكور في القرآن تسمان: مطلق ومقيد.

    مطلق لم يقيد بسبب للفرح، ومقيد ينقسم إلى قسمين: مقيد بالدنيا وهو مذموم كالقسم الذي قبله، فالفرح المطلق الذي لم يذكر له سبب مذموم، والمقيد بأمور الدنيا مذموم، والقسم الثاني من أقسام المقيد: هو الفرح بفضل الله ورحمته وينقسم أيضاً قسمين: فرح بالمسبب وفرح بالسبب، فتكون أقسام الفرح بعد هذه التفريعات والتقسيمات أربعة: مطلق ثم مقيد بالدنيا ثم مقيد بفضل الله ورحمته ينقسم إلى فرح بالمسبب وفرح بالسبب.

    أما القسم الأول: وهو الفرح المطلق: فقد ذكر في خمسة مواضع من مواضع ذكر الفرح بالقرآن.

    والمقيد بفضل الله ورحمته: ذكر في أربعة مواضع موضع واحد للفرح بالمسبب وثلاثة للفرح بالسبب.
    وسأتكلم عن موضع واحد من مواضع كل قسم بإيجاز: فأختار من مواضع القسم الأول وهو القسم المطلق. أختار من الآيات التي وردت فيه الآيتين التاسعة والعاشرة من سورة هود حيث قال ربنا تبارك وتعالى: (ولئن أذقنا الإنسان منا رحمة ثم نزعناها منه إنه ليئوس كفور ولئن أذقناه نعماء بعد ضراء مسته ليقولن ذهب السيئات عني إنه لفرح فخور) فهذا فرح مطلق ولهذا فهو مذموم. يخبر الله تبارك وتعالى في هاتين الآيتين عن طبيعة الإنسان أنه جاهل ظالم لأنه إذا أذاقه سبحانه منه رحمه كالصحة والرزق والأولاد ونحو ذلك ثم نزعها منه فإنه يستسلم لليأس وينقاد للقنوط فلا يرجوا ثواب الله تعالى ولا يخطر بباله أن الله سيردها أو مثلها أو خيراً منها عليه. وإذا أذاقه رحمة من بعد ضراء مسته أنه يفرح ويبطر ويظن أنه سيدوم له ذلك الخير، فيفرح بما أوتي مما يوافق هواه، ويفخر بنعم الله على عباد الله، وذلك يحمله على الأشر والبطر والإعجاب بالنفس والتكبر على الخلق واحتقارهم وازدرائهم وأي شيء! وأي عيب أشد من هذا. وهذه طبيعة الإنسان من حيث هو إنسان إلا من وفقه الله وأخرجه من هذا الخلق الذميم إلى ضدّه، ولهذا أعقب الله تعالى هاتين الآيتين بقوله تعالى: (إلا الذين صبروا وعملوا الصالحات) صبروا إذا آتاهم الله نعمة ثم نزعها منهم، صبروا وعملوا الصالحات (أولئك لهم مغفرة أجر كبير).
    وأما القسم الثاني: فأختار من مواضعه تلك الآيات الأربع من سورة الأنعام من الآية الثانية والأربعين إلى نهاية الآية الخامسة والأربعين في قسم الفرح المقيد بالدنيا قال الله تعالى في هذه القسم المذموم:
    (ولقد أرسلنا إلى أمم من قبلك فأخذناهم بالبأساء والضراء لعلهم يتضرعون فلولا إذ جاءهم بأسنا تضرعوا ولكن قست قلوبهم وزين لهم الشيطان ما كانوا يعملون فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين).
    يقول الله تعالى: (ولقد أرسلنا إلى أمم من قبلكم): من الأمم السالفين المتقدمين. فكذبوا رسلنا وجحدوا بآياتنا (فأخذناهم بالبأساء والضراء): أي بالفقر والمرض والآفات والمصائب. رحمة منا بهم (لعلهم يتضرعون): إلينا ويلجئون عند الشدة إلينا. (فلولا إذ جاءهم بأسنا تضرعوا ولكن قست قلوبهم): لم يتضرعوا عند البأس والشدة. (ولكن قست قلوبهم): أي استحجرت فلن تلين للحق (وزين لهم الشيطان ما كانوا يعملون): ظنوا أن ما هم عليه دين الحق فتمتعوا في باطلهم برهة من الزمان ولعب بعقولهم الشيطان.
    (فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء): أي من الدنيا ولذاتها وغفلاتها. (حتى إذا فرحوا بما أوتوا) من الدنيا. (أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون) أي آيسون من كل خير، وهذا أشد ما يكون من العذاب أن يؤخذوا على غرة وغفلة وطمأنينة ليكون أشد لعقوبتهم وأعظم لمصيبتهم. (فقطع دابر القوم الذين ظلموا): أي اصطدموا بالعذاب وتقطعت بهم الأسباب، فاستأصلت شوكتهم ولم تغن عنهم شيئاً قوتهم. (والحمد لله رب العالمين) على ما قضاه وقدره من هلاك المفسدين، ولأنه بذلك تتبين آياته وتكريمه لأوليائه، وإهانته لأعدائه، وصدق ما جاءت به المرسلون.
    وأما القسم الثالث: وهو المقيد بفضل الله ورحمته، فأختار من فرعه الأول (المقيد بالمسبب) الفرح المقيد بالمسبب الموضع الوحيد الذي جاء في سورة آل عمران في الآيتين التاسعة والستين والسبعين بعد المائة حيث يقول ربنا عز وجل: (ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً بل أحياء عند ربهم يرزقون فرحين بما آتاهم الله من فضله ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم ألا خوف عليهم ولا هم يحزنون).
    أي لا تحسبن الذين قتلوا في سبيل إعلاء الدين قاصدين إعلاء كلمة الله تعالى. لا يخطرن ببالك وحسبانك أنهم ماتوا وفقدوا وذهبت عنهم لذة الحياة الدنيا والتمتع بزهرتها الذي يحذر من فواته من جَبُن عن القتال وزهد في الشهادة لا يخرطن ببالك ذلك فإنه قد حصل لهم أعظم ما يتنافس فيه المتنافسون، فهم أحياء عند ربهم في دار كرامته، وقوله: (عند ربهم) يقتضي علو درجتهم وقربهم من ربهم سبحانه: (يرزقون) من أنواع النعيم الذي لا يعرفه إلا من أنعم به عليهم. وهم مع ذلك صاروا فرحين. أي مغتبطين بما أتاهم الله من فضله، قرت به عيونهم وفرحت به نفوسهم، وذلك لحسنه وكثرته وعظمته وكمال اللذة في الوصول إليه وعدم المنغص.
    فجمع الله تبارك وتعالى لهم بين نعيم البدن بالرزق ونعيم القلب والروح بالفرح بما آتاهم من فضله، فتم لهم النعيم والسرور وجعلوا (يستبشرون) أي يبشر بعضهم بعضاً بوصول إخوانهم الذين لم يلحقوا بهم وأنهم سينالون ما نالوا، (ألا خوف عليهم ولا هم يحزنون) يستبشرون بزوال المحذور عنهم وعن إخوانهم المستلزم كمال السرور.
    وأما الموضع الأخير: وهو المقيد بفضل الله ورحمته في قسمه المقيد بالفرح بالسبب، فأختار من ثلاثة مواضعه الموضع الذي جاء في سورة يونس في الآية الثامنة والخمسين في قوله تعالى: (قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون). أمر الله تبارك وتعالى بالفرح بفضله أي بالإسلام على قول من أقوال المفسرين، (وبرحمته): أي بالقرآن على قول من أقوال المفسرين.
    افرحوا أيها الناس بفضل الله، أي الإسلام ورحمته أي القرآن، فإنهما أعظم نعمة ومنة تفضل الله بها عليكم، ليست نعمةً دنيوية تنسي فضل الله ومنته بل هي نعمة عظيمة إسلامية قرآنية دينية تقرب إلى الله تبارك وتعالى وتشعر بالفرح والسرور بهذه المنة الربانية الكريمة. ذلك خير من كل ما يجمعه الناس من زينة الدنيا وزهرتها ومتاعها المضمحل عن قريب. (قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون).
    أيها الأخوة الكرام نسأل الله تعالى ألا يجعل قلوبنا تهش أو تبش أو تفرح إلا بما يرضي الله تعالى، آمين.
    وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيراً

    ( 23 ) إنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ.. الاية -1
    الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، وعلى آله وصحبه ومن والاه ، وبعد :
    يقول الله تبارك وتعالى: ((إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً لّيُعَذّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً)) الأحزاب:72، 73.إن السماوات والأرض والجبال - التي اختارها القرآن ليحدث عنها - هذه الخلائق الضخمة الهائلة , التي يعيش الإنسان فيها أو حيالها فيبدو شيئا صغيرا ضئيلا . هذه الخلائق تعرف بارئها بلا محاولة , وتهتدي اليه بخلقتها وتكوينها ونظامها ; وتطيع الخالق طاعة مباشرة بلا تدبر ولا واسطة . وتجري وفق إرادته جل وعلا دائبة لا تني ولا تتخلف دورتها جزءا من ثانية ; وتؤدي وظيفتها بحكم خلقتها وطبيعتها غير شاعرة ولا مختارة .
    هذه الشمس تدور في فلكها دورتها المنتظمة التي لا تختل أبدا . وترسل بأشعتها فتؤدي وظيفتها التي قدرها الله لها ; وتجذب توابعها بلا إرادة منها ; فتؤدي دورها الكوني أداء كاملا . .
    وهذه الأرض تدور دورتها , وتخرج زرعها , وتقوت أبناءها , وتواري موتاها , وتتفجر ينابيعها . وفق سنة الله بلا إرادة منها .
    وهذا القمر . وهذه النجوم والكواكب , وهذه الرياح والسحب . وهذا الهواء وهذا الماء . . وهذه الجبال . وهذه الوهاد . . كلها . . كلها . . تمضي لشأنها , بإذن ربها , وتعرف بارئها , وتخضع لمشيئته بلا جهد منها ولا كد ولا محاولة . . لقد أشفقت من أمانة التبعة . أمانة الإرادة . أمانة المعرفة الذاتية . أمانة المحاولة الخاصة .
    وحملها من أنه الإنسان.....
    الإنسان الذي يعرف الله بإدراكه وشعوره . ويهتدي إلى ناموسه بتدبره وبصره . ويعمل وفق هذا النظام بمحاولته وجهده . ويطيع الله بإرادته وحمله لنفسه , ومقاومة انحرافاته ونزغاته , ومجاهدة ميوله وشهواته . . وهو في كل خطوة من هذه الخطوات مريد . مدرك . يختار طريقه وهو عارف إلى أين يؤدي به هذا الطريق ! في ضلال القران
    نعم عباد الله
    إن حِملاً ثقيلاً وواجبًا كبيرا وأمرا خطيرا عُرض على الكون سمائه وأرضه وجباله، فوجلت من حمله، وأبت من القيام به، خوفاً من عذاب الله تعالى، وعُرضت هذه الأمانة على آدم عليه السلام، فحملها واستقلّ بها، ((إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً)) أي: الإنسان المفرّط المضيّع للأمانة هو الظلوم الجهول، ، قال ابن عباس رضي الله عنهما: (الأمانة الفرائض، عرضها الله على السموات والأرض والجبال، إن أدَّوها أثابهم، وإن ضيّعوها عذبهم، فكرهوا ذلك وأشفقوا منه من غير معصية، ولكن تعظيماً لدين الله تعالى) تفسير القرطبي (14/255)، ، وقال الحسن البصري رحمه الله: "عرضها على السبع الطباق الطرائق التي زُينت بالنجوم وحملةِ العرش العظيم، فقيل لها: هل تحملين الأمانة وما فيها؟ قالت: وما فيها؟ قال: قيل لها: إن أحسنتِ جُزيتِ، وإن أسأتِ عُوقبتِ، قالت: لا، ثم عرضها على الأرضين السبع الشداد التي شُدّت بالأوتاد وذُلِّلت بالمهاد، قال: فقيل لها: هل تحملين الأمانة وما فيها؟ قالت: وما فيها؟ قال: قيل لها: إن أحسنتِ جُزيتِ، وإن أسأتِ عوقبتِ، قالت: لا، ثم عرضها على الجبال فأبت" أخرجه ابن أبي حاتم كما في تفسير ابن كثير (3/523).
    إنها أمانة ضخمة حملها هذا المخلوق الصغير الحجم , القليل القوة , الضعيف الحول , المحدود العمر ; الذي تناوشه الشهوات والنزعات والميول والأطماع . .
    الأمانة ـ يا عباد الله ـ هي التكاليف الشرعية، هي حقوق الله وحقوق العباد، فمن أداها فله الثواب، ومن ضيَّعها فعليه العقاب، كما قال تعالى في آخر الآية: ((لّيُعَذّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً))، فقد روى أحمد والبيهقي وابن أبي حاتم عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه قال: (الصلاة أمانة، والوضوء أمانة، والوزن أمانة، والكيل أمانة) وأشياء عدّدها، (وأشدّ من ذلك الودائع) أخرجه البيهقي في شعب الإيمان (5266)،، وقال أبو الدرداء رضي الله عنه: (والغسل من الجنابة أمانة) الجامع لأحكام القرآن للقرطبي (14/254)..
    فمن اتَّصف بكمال الأمانة فقد استكمل الدين، ومن فقد صفة الأمانة فقد نبذ الدين كلَّه، كما روى الطبراني من حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((لا إيمان لمن لا أمانة له)) جزء من حديث أخرجه الطبراني في الأوسط (2292) وضعفه الألباني في ضعيف الترغيب (302).، وروى الإمام أحمد والبزار والطبراني من حديث أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا إيمان لمن لا أمانة له، ولا دين لمن لا عهد له)) ، ولهذا كانت الأمانة صفةَ المرسلين والمقربين، قال تعالى عن نوح وهود وصالح عليهم السلام: ((إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ فَاتَّقُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُونِ)) الشعراء:107، 108
    ( 24) إنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ..الاية-2
    الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، وعلى آله وصحبه ومن والاه ، وبعد :إنه كلما انتُقصت الأمانة نقصت شعب الإيمان لما روى مسلم من حديث حذيفة رضي الله عنه قال: حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الأمانة نزلت في جذر قلوب الرجال ـ أي: في وسطها ـ، ثم نزل القرآن، فعلموا من القرآن، وعلموا من السنة، ثم حدثنا عن رفع الأمانة فقال: ((ينام الرجل النومة، فتُقبض الأمانة من قلبه، فيظلّ أثرها مثل الوكت، ثم ينام الرجل، فتقبض الأمانة من قلبه، فيظل أثرها مثل أثر المجل، كجمر دحرجته على رجلك، فنفط فتراه منتبرا وليس فيه شيء))، ثم أخذ حصاة فدحرجها على رجله، ((فيصبح الناس يتبايعون، لا يكاد أحدٌ يؤدي الأمانة، حتى يقال: إن في بني فلان رجلا أمينا، وحتى يقال للرجل: ما أظرفه، وما في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان)) أخرجه مسلم في الإيمان (143)
    والظاهر أن الرجل إذا تعمّد تضييع الأمانة بالتساهل في الفرائض وواجبات الدين وبالخيانة في حقوق العباد يعاقب بعد ذلك بقبض الأمانة من قلبه، وينزّه الله تعالى أن يقبض الأمانة من قلب أحد من غير سبب من العبد، ومن غير استخفاف منه بواجبات الدين وحقوق العباد، كما قال تعالى: ((فَلَمَّا زَاغُواْ أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِى الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ)) الصف:5. وآخر الحديث يدل على أن الأمانة هي الإيمان، وهي الدين وواجباته، فالتوحيد أمانة، والصلاة أمانة، والزكاة أمانة، والصيام أمانة، والحج أمانة، وصلة الرحم أمانة، والأمر بالمعروف أمانة، والنهي عن المنكر أمانة، والمال أمانة فلا تستعن به على المعصية، والعين أمانة فلا تنظر بها إلى ما حرّم الله، واليد أمانة، والفرج أمانة، والبطن أمانة فلا تأكل ما لا يحل لك، والأولاد عندك أمانة فلا تضيّع تربيتهم الصالحة، والزوجات عند الرجال أمانة فلا تضيّع حقوقهن، وحقوق الأزواج على النساء أمانة، وحقوق العباد المادية والمعنوية أمانة فلا تُنتقَص.
    وقد وعد الله على أداء الأمانات والقيام بحقوقها أعظمَ الثواب فقال تعالى: ((وَالَّذِينَ هُمْ لأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صلاتِهِمْ يُحَافِظُونَ أُوْلَئِكَ هُمُ الْوارِثُونَ الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ)) المؤمنون:8-11، وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((اكفلوا لي بستٍّ أكفل لكم الجنة))، قلت: ما هن يا رسول الله؟ قال: ((الصلاة والزكاة والأمانة والفرج والبطن واللسان)) رواه الطبراني وضعفه الألباني في السلسلة الضعيفة (2899).قال المنذري: "بإسناد لا بأس به
    والتفريط في الأمانات والتضييع لواجبات الدين يورث الخلل والفساد في أحوال الناس، ويجعل الحياة مرّة المذاق، ويقطّع أواصر المجتمع، ويعرّض المصالح الخاصة والعامة للخطر والهدر، ويُفسد المفاهيمَ والموازين، ويؤذن بخراب الكون، قال صلى الله عليه وسلم وقد سُئل: متى الساعة؟ قال: ((إذا ضُيِّعت الأمانة فانتظر الساعة)) السلسلة الصحيحة (1739)أسأل الله جل وعلا أن يقوي إيماننا وأن يرفع درجاتنا . وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيراً
    ( 25 ) إنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ..الاية-3
    الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، وعلى آله وصحبه ومن والاه ، وبعد :

    إتقوا الله عباد الله، وحافظوا على الأمانات والواجبات، واحذروا المحرمات، قال الله تعالى: ((وَالَّذِينَ هُمْ لأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَاداتِهِم قَائِمُونَ وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاَتِهِمْ يُحَافِظُونَ أُوْلَئِكَ فِى جَنَّاتٍ مُّكْرَمُونَ)) المعارج:32-35.قال الله تعالى: ((إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً)) النساء:58، وهذه الآية المباركة عمّت جميع الأمانات.
    ومن أعظم الأمانات الوظائف والأعمال والمناصب وحقوقها، فمن أدى ما يجب لله تعالى عليه فيها وحقَّق بها مصالحَ المسلمين التي أنيطَت بها والتي وُجدت لأجلها فقد نصح نفسه، وعمل خيراً لآخرته، ومن قصّر في واجبات وحقوق الوظائف والمناصب ولم يؤدِّ ما أُنيط بها من منافع العباد أو أخذ بها رشوة أو اختلس بها مالاً للمسلمين فقد غشّ نفسه وقدّم لها زادا يرديها، وغدر بنفسه وظلمها، وفي صحيح مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا جمع الله الأولين والآخرين يوم القيامة يُرفع لكل غادر لواء ويقال: هذه غدرة فلان بن فلان)) أخرجه مسلم في الجهاد (1735.
    ومن أعظم الأمانات الودائع والحقوق التي أمنك الناس عليها، وقد روى أحمد والبيهقي عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: (القتل في سبيل الله يكفر الذنوب كلّها إلا الأمانة)، قال: (يؤتى بالعبد يوم القيامة فيقال له: أدِّ أمانتك، فيقول: أي ربِّ، كيف وقد ذهبت الدنيا؟! فيقال: انطلقوا به إلى الهاوية، فيُنطلَق به إلى الهاوية، وتُمثّل له الأمانة كهيئتها يوم دُفعت إليه، فيراها فيعرفها، فيهوي في أثرها حتى يدركها، فيحملها على منكبيه حتى إذا ظن أنه خارج اخْلولت عن منكبيه، فهو يهوي في أثرها أبدَ الآبدين) أخرجه البيهقي في شعب الإيمان (5266)، وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيراً.
    ( 26 ) ((قُلْ يَا عِبَادِي الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ ))..الاية -1
    الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، وعلى آله وصحبه ومن والاه ، وبعد :
    يقول تعالى أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، ((قُلْ يَا عِبَادِي الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ)) الزمر:53
    ما أعظمَها من آية، وما أرجاها من رحمة، أين أين الصادقون الراغبون في رحمة الله؟! ألا هلمّوا وتعالَوا وأقبلوا، ها هنا بغيتكم وحاجتكم، يا لغبن من يئس من غفران ذنوبه، وقنطَ من إصلاح علاقته مع الله بعد هذه الآية، يا له من محروم، أتدري فيمن نزلت هذه الآية؟! اسمع ما ذكره الشيخان وغيرهما في سبب نزولها: عن ابن عباس رضي الله عنه أن ناسًا من أهل الشرك قتلوا فأكثروا، وزنوا فأكثروا، ثم أتوا محمدًا صلى الله عليه وسلم فقالوا: إن الذي تقول وتدعو إليه لحسن، لو تخبرنا أن لما عملنا كفارة، فنزل: ((وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ)) الفرقان:68 ونزل: ((قُلْ يَا عِبَادِي الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ)) الزمر:53.
    ولفرح رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذه الآية رحمةً بأمّته كما وصفه الله: ((لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ)) التوبة:128 روِي أنه قال: ((ما أحبّ أن لي الدنيا وما فيها بهذه الآية))، فقال رجل: يا رسول الله، فمن أشرك؟ فسكت النبي صلى الله عليه وسلم ثم قال: ((ألا ومن أشرك)) ثلاث مرات. أخرجه أحمد.
    وفي المسند عن عَمرو بن عَبسة رضي الله عنهقال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم شيخ كبير يَدَّعم ـ يستند ـ على عصًا له، فقال: يا رسول الله، إن لي غَدَرات وفجَراتٍ فهل يُغفر لي؟ قال: ((8ألست تشهد أن لا إله إلا الله؟!)) قال: بلى، وأشهد أنّك رسول الله، قال: ((قد غُفر لك غَدَرَاتُك وفجراتُك)). والفجور: إتيان المعاصي مع عدم المبالاة بفعلها.
    يقول ابن كثير في تفسير هذه الآية وقد أورد هذه الأحاديث: "فهذه الأحاديث كلها دالة على أن المراد أنه يغفر جميع الذنوب مع التوبة، ولا يقنطن عبد من رحمة الله وإن عظمت ذنوبه وكثرت؛ فإن باب الرحمة والتوبة واسع، كما قال تعالى: ((أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ)) التوبة:104، وقال عز وجل: ((وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرْ اللَّهَ يَجِدْ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا)) [النساء:110]، وفتح الباب للمنافقين فقال: ((إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنْ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا)) النساء:145، 146 وقال عن أهل التثليث: ((لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلاَّ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ)) المائدة:73 ثم فتح لهم باب التوبة فقال: ((أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ)) [المائدة:74]، وفتح الباب لقتلة أوليائه فقال: ((إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ)) البروج:10، فقيد العذاب بعدم التوبة، يقول الحسن رحمه الله: انظروا إلى هذا الكرمِ والجودِ، قتلوا أولياءَه وهو
    يدعوهم إلى التوبة والمغفرة".
    ولنتأمل في ألفاظ هذه الآية، لقد بدأها بنداء: (يَا عِبَادِي)، ما ألطفه من نداء، (يَا عِبَادِي) أي: يا أيّها المنتسبون إليّ، فنسبهم إلى نفسه نسبَة تشريف وتكريم وأعطاهم الأمان.
    ومما زادني تيهًا وشرفًا ... وكدت بأخمصي أطأ الثُريا
    دخولي تحت قولك: يا عبادي ... وأن أرسلت أحمدَ لي رسولاً
    لا إله إلا الله، أتدري من ينادي الكبيرُ المتعالُ الغنيُ الحميدُ؟ إنه يناديني أنا وأنت، بل ينادي من بالغ منا في المعصية (الَّذِينَ أَسْرَفُوا)، ينادينا بهذا النداء اللطيف الرحيم وهو غني عنا وعن طاعتنا وعن عبادتنا، كما قال في الحديث القدسي: ((يا عبادي، لو أن أولكم وآخركم وإنسَكم وجنَّكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئًا))، أيعقل؟! الغني ينادي الفقير، والقوي ينادي الضعيف، وغير المحتاج ينادي المحتاج، ألسنا نحن المعنيين بقوله: ((يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمْ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ)) فاطر:15؟! ما أكرمك وما أحلمك يا الله.
    يا عباد الله، إن هذا النداء ـ بجانبِ الرحمة ـ يُبرزُ لنا جانبًا عظيمًا من جوانب هذا الدّين، وهي العلاقة المباشرة بين العبد وربّه، فلا حواجز ولا وسطاء ولا شفعاء بين العبد وربّه، فلا تحتاجُ لتصلحَ علاقتك مع الله إلى وساطات، أو تقديمِ اعترافات أمام عالم أو إمام، وبابه ليس عليه بوّابين ولا حراس لتستأذنهم للدخول، كلا.
    تعال إذًا ـ يا عبد الله ـ ولج، فبابُه مفتوح على مصرعيه، هيا ادخل على رب كريم غير غضان، إياك إياك أن تقع في شراكِ عدوك إبليسَ اللعين، احذر أن يقنطَك من رحمة الله، فمولاك يقول لك: ((لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ))، لا تيأس فاليأس كفر، ((إِنَّهُ لا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الكَافِرُونَ)) يوسف:87، وكيف تعالج الذنب الصغير بذنب أكبر؟! إن ربك لا يبالي بعظمِ ذنبك ما دام أنك رجعت إليه تائبًا ومنيبًا، أما سمعت ما قال على لسان رسوله في الحديث القدسي: ((يا ابن آدم، إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي. يا ابن آدم، لو بلغت ذنوبُك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك ولا أبالي. يا ابن آدم، إنك لو أتيتني بِقُراب الأرض ـ بما يقارب مِلأها ـ خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئًا لأتيتك بقرابها مغفرة)).
    ( 27 ) ((قُلْ يَا عِبَادِي الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ))الاية-2

    الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، وعلى آله وصحبه ومن والاه ، وبعد :
    أيه المسلمون :ودّ عدونا لو يظفر بتيئيسنا من رحمة الله، كما يقول الحسن البصري رحمه الله لمّا قيل له: ألا يستحي أحدنا من ربه، يستغفر من ذنوبه ثم يعود، ثم يستغفر ثم يعود؟! فقال: "ودَّ الشيطان لو ظفر منكم بهذه، فلا تَمَلّوا من الاستغفار"، ولذلك قال ابن عباس رضي الله عنه: (من آيس ـ عبادَ الله ـ من التوبةِ بعد هذا فقد جحد كتاب الله عز وجل).
    ثم لاحظ ـ يا عبد الله ـ المؤكداتِ التي جاءت بعد النهي عن القنوط من رحمة الله فقال: ((إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا))، وهذا يَعُمُّ جميعَ الذنوب، ومع ذلك لم يكتف بذلك الإطلاق بل أكده بقوله: (جَمِيعًا)، ثم ختم الآية بإظهار صفتين من صفات الله ذي اللّطف والرحمة، فقال: ((إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ)).
    سبحانك لا نحصي ثناءً عليك، أنت كما أثنيت على نفسك، فلك الحمد حتى ترضى، ولك الحمد بعد الرضا، لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك ولعظيم سلطانك.
    أخي في الله، صحيح أن البابَ مفتوحٌ، لكنه لن يظلَ مفتوحًا إلى الأبد، فقد يُغلق في أيّ ساعة، وقد يَحولُ الموتُ بينك وبين دخوله إن لم تنتهز هذه الفرصة، لو حصل ذلك ـ لا قدّر الله ـ ستندم حين لا ينفعُ الندم، وتغتم حسرةً، وعندها ستكون أحدَ ثلاثةٍ لا قدّر الله، اسمع ما يقول مولاك: ((أَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمْ الْعَذَابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمْ العَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ))الزمر:54، 55.
    عندها ستعتذر بأعذار واهية وهي ثلاثة، اسمع العذر الأول: ((نْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنْ السَّاخِرِينَ))الزمر:56، والعذرُ الثاني: ((وْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنْ الْمُتَّقِينَ))الزمر:57، أما الثالثُ: ((وْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنْ الْمُحْسِنِينَ))الزمر:58.
    يقول ابن عباس ضي الله عنه ما العباد قائلون قبل أن يقولوه)، ((لا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ))فاطر:14 وفي مسند أحمد عن أبي هريرة رضي الله عنه صلى الله عليه وسلم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((كلُ أهلِ النار يرى مقعده من الجنة، فيقولَ: لو أن الله هداني، فتكونَ عليه حسرة))، قال: ((وكلُ أهلِ الجنة يرى مقعدَه من النار، فيقولَ: لولا أن الله هداني، قال: فيكونُ له شكر)).
    أيها الإخوة، أتدرون ماذا يكونُ الجوابُ عن تلك المبررات والأعذار؟ إنه التكذيب والإدانة التي لا يملك معها الإنسان الإنكارَ؛ لأن شهودَ الإدانة هم أقرب الأشياء إلينا، نعم إنها أعضاؤنا وجوارحنا، وأنى لأحدٍ الإنكار والفاعلُ يُقرُّ بفعلته؟! إنه الخزيُ والعارُ والفضيحةُ.
    اسمع الرد على الأعذار الواهية والأمنيات الفارغة: ((لَى قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنْ الْكَافِرِينَ))الزمر:59أي: من الجاحدين بلسان حالك أو مقالك.
    يا عبد الله، إذا كنتَ لا تريدُ أن تقفَ موقفَ الخزيِ والعارِ ـ وما إخالك إلا كذلك ـ فالبدارَ البدارَ إلى التوبة والأوبة واتباعِ أحسن ما أُنزل إلينا قبل فوات الأوان بالموت أو الران، وفي الحديث: ((إن الله عز وجل يقبل توبة العبد ما لم يغرغر)).
    اللهم ارحمنا فإنك بنا راحم، ولا تعذبنا فإنك علينا قادر، اللهم إياك نعبد ولك نصلي ونسجد، وإليك نسعى ونحفد، نرجو رحمتك، ونخشى عذابك، إن عذابك الجدَّ بالكفار مُلحِق، اللهم قاتل الكفرة والمجرمين الذين يحاربون دينك، ويصدون عن سبيلك، ويقاتلون أولياءك، اللهم خذهم أخذ عزيز مقتدر.
    وصلى اللهم على سيدنا محمد وعلى اله وصحبه وسلم.
    ( 28 ) ((قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًاالاية

    الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، وعلى آله وصحبه ومن والاه ، وبعد :من أعظمُ الوصايا في القرآنِ العظيم ثلاثُ آياتٍ من سورة الأنعام، قال الله تعالى: ((قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)) الأنعام:151-153
    قال ابن مسعود رضي الله عنه من أراد أن ينظر إلى وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم التي عليها خاتم النبوة فليقرأ هذه الآيات: " قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ.." إلى قوله تعالى: " لعلكم تتقون " .
    وعن عبادة بن الصامت قال: " قال: رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : أيكم يبايعني على ثلاث؟ ثم تلا - صلى الله عليه وسلم - : (قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ...) حتى فرغ من الآيات، ثم قال: فمن وفى فأجره على الله ومن انتقص منهن شيئا فأدركه الله به في الدنيا كانت عقوبته، ومن أخر إلى الآخرة فأمره إلى الله ، إن شاء عذبه وإن شاء عفا عنه " .
    فالآيةُ الأولى تقرِّر توحيدَ الله تعالى الأصلَ العظيم الذي يرجِع إليه كلُّ أمرٍ ونهي، وينبني عليه كلّ تشريع وتوجيه، وبدون توحيدِ الله تعالى لا ينفَع عمل. وتقرِّر وتؤكِّد تحريمَ أنواعِ الشرك بالله عزّ وجل الذنبِ الذي لا يغفره الله عزّ وجلّ لمن مات عليه. وتوصي الآيةُ بالإحسان بالوالدين قاعدَتي الأسرةِ ومحضَنِ الأجيال ونواة المجتمع. وتحرِّم الآية العدوانَ على الطفولة، وترعى حقَّها، والأطفالُ قوَّة الأمة. وتنهى الآيةُ عن الفواحِش الظاهرةِ والباطنة ليعمَّ الطهرُ والعفاف وتصانَ الفضيلة وتدفَن الرذيلة وتُحفَظ الحرمَات والحقوق. وتقرِّر الآيةُ حرمةَ قتل النفسِ المعصومة الدمّ ليبتعدَ المسلم من دمار الحروبِ والثارات وسفك الدماء.
    ((قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ)) أي: هلُمّوا وأقبلوا أقصّ عليكم وأخبركم بما حرَّم ربّكم عليكم حقَّا، لا تخرُّصًا وظنًّا ولا وَهمًا، بل أخبركم وحيًا من الله وأمرًا من عنده، ((أَلاَّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا)): لا تدعُوا مع ربِّكم أحدًا في السماء ولا في الأرض، قال الله تعالى: ((وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا)) الجن:18. ((أَلاَّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا)) في دعاءِ العبادة ولا في دعاءِ المسألة، ولا تشركُوا به شيئًا في الذبح والنذر، ولا تشركوا بربِّكم شيئًا في الاستعاذة والاستعانةِ والاستغاثة، ولا تشركوا به شيئًا في التوكُّل والرغبة والرهبةِ والطواف بغير بيته، ولا تشرِكوا به شيئًا في الخشية والخوفِ والرجاء والسجود والركوع والمحبَّة والتعظيم، بل اعبُدوا ربَّكم وحدَه بأنواع العبادةِ كلِّها. والنهيُ عن كلِّ أنواع الشّرك في هذه الآية يتضمَّن الأمرَ بجميع أنواع العبادة كما هو منصوصٌ عليه في آياتٍ كثيرة أخرى، وفي صحيح مسلم من حديث ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من مات لا يشركُ بالله شيئًا دخل الجنةَ))رواه مسلم
    وقوله تعالى: ((وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا)) أي: وحرَّم عليكم العقوقَ، وأوصاكم بأن تحسِنوا إلى الوالدين إحسانًا. والإحسانُ للوالدين طاعتُهما في غير معصيةِ الله وإكرامُهما وإدخالُ السرورِ عليهما ورحمتهما ولينُ الجانب لهما وعدمُ التضجُّر من صُحبتهما ومداومة التحمُّل لهما والقيامُ بما يُصلحهما وحُسن مخاطبتهما والدعاءُ لهما في حياتهما وبعد مماتهما وإهداءُ الأعمال الصالحةِ المشروعة لهما بعد موتِهما وصلةُ قرابتهما وصلة صديقهما بعد موتهما.
    وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيراً.
    ( 29 ) وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ..الاية
    الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، وعلى آله وصحبه ومن والاه ، وبعد :يقول تعالى
    ((وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ)) وقد كان بعضُ المشركين من العَرَب يقتلون البناتِ خوفَ العار، وبعضهم يقتُل الولدَ خوفَ الإملاقِ وهو الفقر، فنهى اللهُ عن هذه العادةِ الشنيعة، وأخبر أنه تعالى متكفِّل برزقِ الأولاد والآباء.
    ومما يدخُل في عمومِ الآية إسقاطُ الجنين خوفًا من النفَقة، وممّا يُنهَى عنه استعمالُ حبوب منع الحمل لأجل ضِيق المعيشة، لكن لو كان هناك ضرورةٌ شرعيّة جاز استعمالُ منعِ حبوب الحمل بمقدارِ هذه الضرورة، كما لو كانت المرأةُ لا تُطيق الحملَ والرضاع لسببٍ ما، أو كان تتابُع الحملِ بلا مدَّةٍ زمنيّة كافية يضرُّها أو يضرّ الولد.
    ((وَلا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ))، والفواحشُ ما عظُم قبحُه وخُبثت حقيقتُه في العقلِ والفِطرة واتّفقتِ الشرائعُ على تحريمه، وقد نصّ الله تعالى على فُحشِ معاصٍ بعينها، قال الله تعالى: ((وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً)) الإسراء:32، وقال تعالى: ((وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ الْعَالَمِينَ)) العنكبوت:28،
    وفي الحديثِ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم: ((ملعونٌ من عَمِل عملَ قومِ لوط، ملعون من عمِل عَمل قوم لوط، مَعلونٌ مَن عمل عمل قومِ لوط)) في صحيح الترغيب (2420).
    والفواحشُ أعمُّ من ذلك، فهي المعاصي كلُّها، والنهيُ عن قربانها أبلغُ من النهيِ عن فِعلها، فالنهي عن قُرب المعصية نهيٌ عن أسبابها ومقدِّماتها والوسائل التي تُفضي إليها، ونهيٌ عن تلذُّد الخيال بتصوُّرها والاسترسال في الوَسواس بها؛ لأنَّ النفسَ البشرية قد تضعُف عن مقاومة الإغراء بعد التمكُّن من مقدِّماتِ وأسباب المعصية، ولذلك حرَّم الشرعُ الخلوةَ بالأجنبية والمردان ومحادثةِ النساء.
    وقوله تعالى: ((مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ)) أي: حرَّم الله ما أُعلِن وما أسِرَّ من المعاصي، ما هو من أعمال الجوارح المشاهدَة وما هو من أعمال القلوبِ المخبَّأة المستُورةِ كالكِبر والحسَد والغلّ والخيانة والمَكر والخديعة والنِّفاق وبُغض ما أحبَّ الله وحُبِّ ما يكره الله تعالى.
    ((وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ))، والنفسُ التي حرَّم الله قتلَها هي نفسُ المسلِم، ونفسُ المعاهَد الكافر الذي له أمانٌ من الإمام، والكافر غيرُ المحارب وإن لم يكن له أمان فيحرُم قتلُه، وفي الصحيحين عن النبيّ صلى الله عليه وسلم: ((لا يحلّ دمُ امرئٍ مسلم إلا بإحدى ثلاث: الثيّب الزاني، والنفسُ بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة)) رواه البخاري ومسلم عن ابن مسعود رضي الله عنه ، وفي الحديث: ((مَن قتل معاهَدًا لم يرح رائحة الجنة)) أخرجه البخاري عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما. وفي الحديث أيضًا: ((لا يزال المسلمُ في فُسحةٍ من دينه ما لم يصِب دمًا حرامًا فإذا أصابه بَلَح)) أي: أعيَى وانقطع وضاقَ عليه الأمر جدًّا.
    ((ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ)): عهِد إليكم بما تُلِي عليكم وأمَركم به لتحفظُوه وتعملُوا به.
    ((لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ)) أي: تعقِلون النافعَ من الضارّ، فتعمَلون بما ينفع، وتتركون ما يضرّ. والحِكمة في قوله تعالى: ((لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ)) أنَّ مضارّ هذه المحرَّمات ومفاسدَها يُعلَم بالعَقل لمن تدبَّر ذلك، والشرع بيَّن تفصيلَ مفاسِد ومضارّ هذه المحرّمات، فمن منعه عقلُه عن هذه المحرَّمات فهو العاقلُ حقًّا، ومن لم يمنعه عقلُه عن هذه المحرَّمات فهو السفيهُ الذي لا عقلَ له، فأيُّ قبحٍ وجُرم أعظمُ من الشّرك بالله تعالى ثمّ عقوق الوالدين وعمل الفواحش وقتلِ النفس التي حرَّم الله؟!
    والآية الثانية تقرِّر التراحمَ والتعاونَ والتكافُل الاجتماعيّ بين المسلمين والحُنوَّ والرِّعاية للضعفاء والقاصرين، وتحرِّم بخسَ الحقوقِ وانتقاصها، وتقرِّر الوفاءَ في المعاملات والعدلَ في المبادلات والمعاوَضات بلا طُغيانٍ بالزيادة ولا بخسٍ بالنَّقص، وتحرِّم الجَورَ والظلم في الحكم والشهادة والقول ولو كان على الحبيب والبغيض، وتأمُر بالعدل والقسط. وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيراً.
    ( 30 ) ((وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ ))..الاية
    الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، وعلى آله وصحبه ومن والاه ، وبعد :
    ايها المسلمون!لا زلنا واياكم في ضلال وصايا القران((وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ)) أي: لا تقربوا مالَ اليتيم إلاَّ بالصِّفة التي هي خيرٌ له، فلا تقرَبوا ماله إلاَّ بالحِفظ لمالِه وتثميرِه والعمل على نمائه، فلا تأكلوه، ولا تتركوه يتعرَّض للضياع والنقصان. ووجوبُ تربيةِ اليتيم وإرشاده ورعايته من باب أولى، ليصبحَ لبِنةً صالحة في بناءِ المجتمع، ومعنى ((حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ)) أي: حتى يبلغَ الحلم مع الرّشد وحسنِ التصرُّف، فيُدفَع إليه ماله حينئذٍ.
    ((وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ)) أي: وحرَّم بخسَ الحقوق وعدمَ الوفاء بالمعاملات. ((وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ)) أي: بالعدل والحقِّ بلا نَقص، ومثل هذا المقاييس.
    ((لا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا)) أي: طاقتَها، فمِن رحمة الله تعالى أنَّه لا يأمرُ ولا ينهي إلا بما هو مقدورٌ عليه.
    ((وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا)) أي: إذا حكمتُم أو إذا شهِدتم أو دخلتُم بين متنازعِين بالإصلاح أو إذا مَدَحتم أو قدَحتم لغرضٍ شرعيّ فاعدِلوا، الزَموا الحقَّ والقسطَ في ذلك، ولو كان المحكومُ له أو المشهودُ له أو المشهودُ عليه أو المصلَح له أو الممدوح أو المقدوح فيه ذا قربَى، ومثلُه في هذا البعيد أو البغيض.
    ((وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا))، عهدُ الله أمرُه ونهيُه وتشريعه، قال الله تعالى لبني إسرائيل: ((وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ)) البقرة:40 ويتناولُ عهدُ الله ما يكون بين طرفين من العقودِ والعهود المشروعة المباحة، وأضِيفت العهود إلى الله لأنَّ اللهَ أمر بالوفاء بها.
    ((ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ)). والحكمةُ في قوله تعالى: ((لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ)) أنّ هذه الوصايا إذا غفل أحدٌ عن رعايتها وحياطتها ارتكب محرَّمَها عاقلاً أو غيرَ عاقل، فإذا تذكَّر وجوبَ حفظها ورعايتها قام بهذه الوصايا.
    ((وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ))،. والصراطُ المستقيم هو الإسلام كلُّه، والحكمةُ في كلمة ((تَتَّقُونَ)) أنَّ الثباتَ على الصراط المستقيم لا يكون إلاَّ للمتقين.
    وكلُّ آيةٍ من هؤلاء الآيات الثلاث في الوصايا عليها شواهدُ من القرآن والحديث لو ذُكِرت لطال الكلام، قال عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه: (مَن أراد أن ينظرَ إلى وصيَّة محمّد صلى الله عليه وسلم التي عليها خاتَمه فليقرأ هؤلاء الآيات) . أورده الألباني في ضعيف سنن الترمذي (593).
    الله أكبر، الله أكبر، ما أعظمَه من موصٍ، وأما عظمَها من وصيّة، وما أسعدَ من قام بهذه الوصية.
    أوّلُ هذا الصراطِ المستقيم في الدنيا ونهايته الجنّة، والعدولُ عن الصراط المستقيم بالشّهوات والدُّنيا أو بالبدعة أو الكفر والنفاق بدايتُه في الدنيا ونهايته جهنَّم، فيتردَّى في الدنيا في شهواتِه وشقائه، وفي القبر في ظلمَته وعذابه، وفي الحشر في جهنَّم. ولو أنَّ كلَّ مسلم عمِل بهذه الوصايا لكان الله معه، ولوُفِّق لأَرشدِ أموره، لأحسنَ إلى نفسه غايةَ الإحسان، ولأحسنَ إلى الخلقِ وسلِم الناس من شرِّه، قال الله تعالى: ((وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ)) المائدة:92.
    وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيراً.
    ( 31 ) أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً
    الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، وعلى آله وصحبه ومن وااه ، وبعد :
    يقول سبحانه: ((أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُونَ فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لاَ اله إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ)) المؤمنون:115-116. ويقول سبحانه: ((تَبَارَكَ الَّذِى بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلّ شَىْء قَدِيرٌ الَّذِى خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحياةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ)) الملك:1-2
    وأخرج الإمام الترمذي ومسلم في صحيحه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((بادروا بالأعمال الصالحة فستكون فتن كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل مؤمناً ويمسي كافراً، ويمسي مؤمناً ويصبح كافراً، يبيع دينه بعرض من الدنيا)).
    إخوة الإسلام وأحباب الحبيب المصطفى محمد صلى الله عليه وسلم:
    ما الهدف والغاية من وجودنا؟ لم خلقنا - - ولم أوجدنا في هذه الحياة؟! هل خلقنا لنأكل ونشرب ونلبس! أم وجدنا لنجمع الأموال الوفيرة والكنوز والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث! أم الهدف والغاية من وجودنا وخلقنا أن نتمتع بزخرف هذه الحياة وزينتها!!
    لا والله - - ما خلقنا في هذه الدنيا عبثاً ولم نترك فيها سدى. ((أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَن يُتْرَكَ سُدًى أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مّن مَّنِىّ يُمْنَى ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأُنثَى أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَن يُحْيِىَ الْمَوْتَى)) القيامة:36-40.
    لقد خلقنا والله لمهمة عظيمة وغاية جليلة، تبرأت منها السموات والأرض والجبال وأبين أن يحملنا وأشفقن منها وحملها الإنسان، لقد خلقنا لتوحيد الله الواحد الأحد وإفراده بالعبادة سبحانه وتعالى، والعبادة اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة، ((وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ مَا أُرِيدُ مِنْهُم مّن رّزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ)) الذاريات:56-58
    أحد السلف يمر على صبية صغار يلعبون، وبينهم طفل صغير يبكي، فيظن الرجل أن هذا الطفل يبكي لأنه ليس له لعبة كما لهم لعب، فقال له: يا بني أتريد أن أشتري لك لعبة؟ قال: ما لهذا أبكي يا قليل العقل، إنما أبكي لأن هؤلاء يفعلون غير ما خلقوا له، أولم يسمعوا قول الله وهو يوبخ أهل النار: ((أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُونَ فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لاَ اله إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ)) المؤمنون:115-116 فدهش الرجل من إجابة هذا الطفل الصغير وقال له: يا بني إنك لذو لب لذو عقل، وإن كنت صغيراً فعظني، فقال له الطفل بيتاً واحداً:
    فما الدنيا بباقية لحي ... ... وما حيٌ على الدنيا بباق
    فرضي الله عنكم أيها السلف يوم علمتم أن هذه الحياة بسنينها وأعوامها ينبغي أن تصرف في طاعة الله، ويوم علمتم أن هذه الحياة ليست حياة أكل وشرب وجماع وإنما حياة عبودية وتذلل وطاعة لله الواحد الأحد، والله - يا إخواني - إننا لفي غفلة عما خلقنا لأجله، وإن قلوبنا في قسوة لا يعلم بها إلا الله، وإننا بحاجة للتفكير بهذه القضية الكبرى في كل أسبوع بل في كل يوم وفي كل لحظة، فحاجتنا إليها أعظم من حاجتنا إلى الأكل والشراب والهواء، وأعظم من حاجتنا إلى النوم والجماع واللباس.
    فزاد الروح أرواح المعاني ... وليس بأن طعمت ولا شربت
    فأكثر ذكره في الأرض دأباً ... لتذكر في السماء إذا ذكرت
    يا متعب الجسم كم تشقى لراحته ... أتعبت جسمك فيما فيه خسران
    أقبل على الروح واستكمل فضائلها ... فأنت بالروح لا بالجسم إنسان
    يا عامراً لخراب الدار مجتهداً ... بالله هل لخراب الدار عمران
    مسكين هذا الإنسان، حقير هذا الإنسان، أتى من ماء، أتى من نطفة، أتى من عالم العدم، فلما مشى على الأرض تكبر وتجبر، ونسي الله الواحد. بصق الرسول صلى الله عليه وسلم يوماً في كفه فوضع عليها إصبعه، ثم قال: ((قال الله عز وجل: ابن آدم أنى تعجزني وقد خلقتك من مثل هذه، حتى إذا سويتك وعدلتك مشيت بين بردين وللأرض منك وئيد فجمعت ومنعت، حتى إذا بلغت التراقي، قلت: أتصدق!! وأنى أوان الصدقة)).
    يوم تنصب الموازين فيقول الله: يا آدم أخرج بعث النار من ذريتك، فيقول آدم: ما بعث النار؟ فيقول الله: من كل ألف تسعمائة وتسع وتسعين، عندها تذهل كل مرضعة عما أرضعت وتضع كل ذات حمل حملها وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد.
    أما والله لو علم الأنام ... لما خلقوا لما هجعوا وناموا
    لقد خلقوا ليوم لو رأته ... عيون قلوبهم ساحوا وهاموا
    ممات ثم حشر ثم نشر ... وتوبيخ وأهوالٌ عظام
    ليوم الحشر قد عملت أناس ... فصلوا من مخافته وصاموا
    ونحن إذا أمرنا أو نهينا ... كأهل الكهف أيقاظ نيام
    هذا وصلى اللهم على نبينا محمد وعلى اله.
    ( 32 ) يا اأَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاء إِلَى اللَّهِ
    الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، وعلى آله وصحبه ومن والاه ، وبعد :
    معاشر المسلمين:الله سبحانه وتعالى غني عنا وعن عبادتنا وطاعتنا، لا تنفعه طاعتنا ولا تضره معصيتنا، بل نحن بحاجة إلى الله ونحن الفقراء إلى الله: ((ياأَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاء إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِىُّ الْحَمِيدُ إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ)) فاطر:15-17 ((وَإِن تَتَوَلَّوْاْ يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لاَ يَكُونُواْ أَمْثَالَكُم)) محمد:38
    ((يا عبادي إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم، ما زاد ذلك في ملكي شيئاً، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم إنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئاً، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كل واحد مسألته ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر، يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها فمن وجد خيراً فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه)).
    وفي الأثر الإلهي يقول رب العزة: ((إني إذا أطعت رضيت، وإذا رضيت باركت، وليس لبركتي نهاية. وإذا عصيت غضبت، وإذا غضبت لعنت، ولعنتي تبلغ السابع من الولد، وعزتي وجلالي لا يكون عبد من عبيدي على ما أحب فينقلب إلى ما أكره إلا انتقلت له مما يحب إلى ما يكره، وعزتي وجلالي لا يكون عبدٌ من عبيدي على ما أكره فينتقل إلى ما أحب إلا انتقلت له مما يكره إلى ما يحب)).
    فنحن يا عباد الله بحاجة إلى الله، ونحن مفتقرون إلى الله فلماذا نعصي الله؟! ولماذا لا نستشعر عبودية الله؟! ولماذا لا نستشعر حاجتنا لله وافتقارنا إلى الله؟!.
    فليتك تعفو والحياة مريرة ... ... وليتك ترضى والأنام غضاب
    وليت الذي بيني وبينك عامر ... ... وبيني وبين العالمين خرابٌ
    إن صح منك الود يا غاية المنى ... ... فكل الذي فوق التراب تراب
    والله إن الإنسان إذا لم يرتبط بالله الواحد الديان فهو كالبهيمة بل هو أضل لأن الله كرمه بالفعل وشرفه بالفكر وجعل له سمعاً وبصراً وفؤاداً.
    فيا أيها الإنسان ما غرك بربك الكريم، ما الذي خدعك حتى عصيت الله؟ وما الذي غرك حتى تجاوزت حدود الله؟ وما الذي أذهلك حتى انتهكت حرمات الله؟! من أنت يا أيها المسكين الحقير الذليل الفقير؟!! أما أنت الذي تؤذيك وتدميك البقة؟! أما أنت الذي تنتنك العرقة؟! أما أنت الذي تميتك الشرقة؟! أما أنت الذي تحمل في جوفك العذرة؟! أما أنت الذي تتحول في قبرك إلى جيفة قذرة؟! من أنت يا أيها المسكين؟!! أما كنت نطفة؟! أما كنت ماءً؟! أما كنت في عالم العدم؟! قبل سنوات لم تكن شيئاً مذكوراً، وبعد سنوات أيضاً لن تكون شيئاً مذكوراً، ((إِنَّا خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً)) الإنسان:2.
    فيا أيها الإنسان تفكر في نفسك، تفكر في ضعفك وعجزك وافتقارك، وتفكر في عظمة الله وفي ملكوت الله، انظر إلى السماء بلا عمد، انظر إلى الأرض في أحسن مدد، انظر من أجرى الهواء ومن سير الماء ومن جعل الطيور تناظم بالنغمات، ومن جعل الرياح غاديات رائحات، من فجر النسمات، من خلقك في أحسن تقويم؟!!.
    أهذا يعصى، أهذا يكفر، أهذا يجحد؟!! والله إن السماء بما فيها من ملكوت لا تعصي الله، وإن الأرض لا تقوى على أي معصية، وإن الجبال الرواسي الشامخات لا تعصي الله، وإن الشمس بحرارتها وقوتها لا تعصي، وإن القمر بجماله لا يعصي الله، فلا إله إلا الله كيف استطاع هذا الإنسان الضعيف الحقير أن يعصي ربه وخالقه ومولاه؟! كيف تجرأ هذا الإنسان أن يعصي جبار السموات والأرض الذي لا يعذب عذابه أحد ولا يوثق وثاقه أحد؟!
    يا عبد الله، والله لن يبقى معك إلا ما قدمت من أعمال صالحة في الدنيا والآخرة.
    أما في الدنيا فـ((يُثَبّتُ اللَّهُ الَّذِينَ ءامَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِى الْحياةِ الدُّنْيَا وَفِى الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاء)) إبراهيم:27.
    وأما في القبر فسوف يرجع أهلك ومالك ولن يبقى معك إلا عملك، فإن كان عملك صالحاً أتاك رجل حسن الوجه حسن الثياب حسن الريح، فتسأله: من أنت؟ فوجهك الذي يأتي بالخير، فيقول: أنا عملك الصالح، ولا أفارقك، وإن كان عملك خبيثاً فسوف يأتيك رجل قبيح الوجه قبيح الثياب قبيح الريح، فتقول له: من أنت؟ فوجهك الذي يأتي بالشر، فيقول لك: أنا عملك السيئ ولا أفارقك.
    تذكر يا عبد الله واتعظ وأنت في المهلة قبل النقلة، وأنت في دار العمل قبل أن تصير إلى دار الجزاء.
    فيا نفس توبي قبل أن لا تستطيعي ... ... أن تتوبي
    واستغفري لذنوبك الرحمن ... ... غفار الذنوب
    إن المنايا كالرياح ... ... عليك دائمة الهبوب
    يا ابن آدم أحبب ما شئت فإنك مفارقه، واعمل ما شئت فإنك ملاقيه، وكن كما شئت فكما تدين تدان . وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيراً.
    ( 33 ) سورة الاخلاص-1
    الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله ، وعلى آله وصحبه ومن والاه ، وبعد :
    مع سورة مباركة مع سورة أحبها رجل فأحبه الله مع سورة قراءتها تعدل ثلث القرآن إنها سورة الاخلاص
    حُدّث أن رجلاً سمع رجلاً يقرأ: (قل هو الله أحد) سورة الإخلاص يردّدها، فلما أصبح جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له، وكان الرجل يتقالّها ـ أي: يراها قليلة ـ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((والذي نفسي بيده إنها لتعدل ثلث القرآن))،وقال صلى الله عليه وسلم لأصحابه: ((أيعجز أحدكم أن يقرأ ثلث القرآن في ليلة؟)) فشقّ ذلك عليهم وقالوا: أينا يطيق ذلك يا رسول الله؟! فقال: ((الله الواحد الصمد ثلث القرآن)). وأمر صلى الله عليه وسلم الصحابة أن يحتشدوا، فقال: ((احْشُدوا، فإني سأقرأ عليكم ثلث القرآن))، فحَشَد من حَشَد، ثم خرج نبي الله صلى الله عليه وسلم فقرأ: ((قُلْ هُوِ اللهُ أَحَدٌ)) السورة ثم دخل، قال أبو هريرة: فقال بعضنا لبعض: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((فإني سأقرأ عليكم ثلث القرآن))، إني لأرى هذا خبرًا جاء من السماء، ثم خرج نبي الله صلى الله عليه وسلم فقال: ((إني قلت: سأقرأ عليكم ثلث القرآن، ألا وإنها تعدل ثلث القرآن)).
    (قل هو الله أحد). . وهو لفظ أدق من لفظ "واحد" . . لأنه يضيف إلى معنى "واحد" أن لا شيء غيره معه . وأن ليس كمثله شيء .
    إنها أحدية الوجود . . فليس هناك حقيقة إلا حقيقته . وليس هناك وجود حقيقي إلا وجوده . وكل موجود آخر فإنما يستمد وجوده من ذلك الوجود الحقيقي , ويستمد حقيقته من تلك الحقيقة الذاتية .
    وهي - من ثم - أحدية الفاعلية . فليس سواه فاعلا لشيء , أو فاعلا في شيء , في هذا الوجود أصلا . وهذه عقيدة في الضمير وتفسير للوجود أيضا . .
    فإذا استقر هذا التفسير , ووضح هذا التصور , خلص القلب من كل غاشية ومن كل شائبة , ومن كل تعلق بغير هذه الذات الواحدة المتفردة بحقيقة الوجود وحقيقة الفاعلية .
    خلص من التعلق بشيء من أشياء هذا الوجود - إن لم يخلص من الشعور بوجود شيء من الأشياء أصلا ! - فلا حقيقة لوجود إلا ذلك الوجود الإلهي . ولا حقيقة لفاعلية إلا فاعلية الإرادة الإلهية . فعلام يتعلق القلب بما لا حقيقة لوجوده ولا لفاعليته !
    وحين يخلص القلب من الشعور بغير الحقيقة الواحدة , ومن التعلق بغير هذه الحقيقة . . فعندئذ يتحرر من جميع القيود , وينطلق من كل الأوهاق . يتحرر من الرغبة وهي أصل قيود كثيرة , ويتحرر من الرهبة وهي أصل قيود كثيرة . وفيم يرغب وهو لا يفقد شيئا متى وجد الله ? ومن ذا يرهب ولا وجود لفاعلية إلا لله ?
    (الله الصمد). . ومعنى الصمد اللغوي:السيد المقصود الذي لا يقضى أمر إلا بإذنه . والله - سبحانه - هو السيد الذي لا سيد غيره , فهو أحد في ألوهيته والكل له عبيد . وهو المقصود وحده بالحاجات , المجيب وحده لأصحاب الحاجات . وهو الذي يقضي في كل أمر بإذنه , ولا يقضي أحد معه . . وهذه الصفة متحققة ابتداء من كونه الفرد الأحد .
    وقال صلى الله عليه وسلم لأحد الصحابة: ((قل))، قال: ما أقول؟ قال: ((قل هو الله أحد والمعوذتين حين تمُسي وحين تصبح ثلاثًا تكفيك كل شيء))، وعن عقبة بن عامر قال: لقيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فابتدأته فأخذت بيده فقلت: يا رسول الله، بم نجاة المؤمن؟ قال: ((يا عقبة، أخرس لسانك، وليسعك بيتك، وابكِ على خطيئتك))، قال: ثم لقيني رسول الله صلى الله عليه وسلم فابتدأني فأخذ بيدي فقال: ((يا عقبة بن عامر، ألا أعلّمك خير ثلاث سور أنزلت في التوراة والإنجيل والزبور والقرآن العظيم))، قال: قلت: بلى جعلني الله فداك، قال: فأقرأني ((قُلْ هُوِ اللهُ أَحَدٌ)) و((قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ)) و((قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْنَّاسِ))، قال: فما نسيتهنّ منذ قال: ((لا تنسهنّ))، وما بتّ ليلة قطّ حتى أقرأهن. قال عقبة: ثم لقيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فابتدأته فأخذت بيده فقلت: يا رسول الله، أخبرني بفواضل الأعمال؟ فقال: ((يا عقبة، صِل من قطعك، وأعط من حرمك، وأعرض عمن ظلمك)). وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيراً.
    ( 34 ) سورة الاخلاص- 2

  2. #2
    من المشرفين القدامى
    اميرة الثلج
    تاريخ التسجيل: September-2011
    الدولة: البصره
    الجنس: أنثى
    المشاركات: 6,741 المواضيع: 1,279
    صوتيات: 6 سوالف عراقية: 1
    التقييم: 1863
    مزاجي: الحمد لله
    المهنة: مهندس
    أكلتي المفضلة: المقسوم من الطيبات
    موبايلي: c3
    آخر نشاط: 18/October/2015
    جزاك الله خيرا
    ينقل الى المنتدى الاسلامي

  3. #3

تم تطوير موقع درر العراق بواسطة Samer

قوانين المنتديات العامة

Google+

متصفح Chrome هو الأفضل لتصفح الانترنت في الجوال