الحق أنني عندما بحثت في هذه القضية وجدت العلماء أجمعوا على معنى البلاغة ولكنهم اختلفوا في معنى الفصاحة واختلافهم راجع بعض الشيء لاختلافهم في قضية اللفظ والمعنى، فمنهم من يقول أن الفصاحة مختصة باللفظ والبلاغة مختصة بالمعنى، أي أن اللفظ يكون فصيحا ولا يقال عنه بليغا إلا إذا كان في جملة تبلغ المعنى المنشود فيصبح بليغا، فجعلوا الفرق بينهما أنه يقال للفظة فصيحة ولا يقال لها بليغة، بينما الكلام يقال عنه فصيح وبليغ، فالبلاغة على قولهم أعم وأشمل فكل بليغ فصيح وليس كل فصيح بليغ، ومن أمثال من قال هذا، ابن سنان الخفاجي في كتابه سر الفصاحة، وأبو الفتح ضياء الدين الموصلي في كتابه المثل السائر، والسيد أحمد الهاشمي في جواهر البلاغة وغيرهم.
وقد رد الصفدي في كتابه نصر الثائر على المثل السائر على الموصلي في كتابه المثل السائر بقوله: "والذي أقوله أنا: هو أن بين البلاغة والفصاحة، عموما من وجه وخصوصا من وجه. بيان ذلك: أما عموم البلاغة، فلأنها تتناول الكلام الفصيح أعني الحسن المبين، وغير الفصيح أعني الغريب الوحشي. وعموم الفصاحة، فلأنها تتناول الألفاظ المركبة فقط، وخصوص الفصاحة، فلأنها لا تتناول إلا الألفاظ العذبة المستعملة فقط. فثبت أن بين البلاغة والفصاحة عموما من وجه، وخصوصا من وجه. ومثل هذا لا يتنبه له ابن الأثير".
وكذا فند هذا القول ورده الجرجاني في كتابه دلائل الإعجاز حيث بين أن الفصاحة لا تقتصر على الألفاظ بل هي في المعاني كذلك حيث يقول: "وهل تجدُ أحداً يقولُ: هذه اللفظةُ فصيحةٌ إلاَّ وهو يعتبرُ مكانَها منَ النظم وحسنَ مُلائمةِ معناها لمعنى جاراتِها وفضلَ مؤانَستها لأخواتها وهل قالوا: لفظةٌ متمكَّنةٌ ومقبولةٌ وفي خلافهِ: قلقةٌ ونابيةٌ ومستكرهةٌ إلا وغرضُهم أن يُعبروا بالتمكُّن عن حسنِ الاتفاقِ بينَ هذه وتلك من جهةِ معناهُما وبالقلقِ والنُبَّو عن سوء التلاؤم. وأنَّ الأولى لم تَلِقْ بالثانية في مَعناها وأن السابقَةَ لم تصلُحْ أن تكونَ لِفقاً للتالية في مُؤدَّاها، وهل تشكُّ إِذا فكرتَ في قولهِ تعالى: (وقِيلَ يَا أرْضُ ابْلَعي ماءَكِ ويا سَمَاءُ أَقْلِعِي وغَيضَ الماءُ وَقُضِيَ الأَمْرُ واسْتَوَتَ عَلَى الجُودِيَّ وقِيلَ بُعْداً لِلقَوم الظَّالِمين).
فتجَلَّى لك منها الإِعجازُ وبَهَرك الذي تَرى وتَسمع ! أنك لم تَجدْ ما وجدتَ منَ المزيَّةِ الظاهرة والفضيلةِ القاهرة إلا لأمرٍ يرجعُ إلى ارتباطِ هذه الكلمِ بعضِها ببعضٍ وأن لم يعرضْ لها الحسنُ والشرفُ إلاّ مِنْ حيثُ لاقتِ الأولى بالثانية والثالثة بالرابعة وهكذا إلى أن تستقرِبَها إلى آخرِها وأنَّ الفضلَ تَنَاتَجَ ما بينها وحصلَ من مجموعها، إن شككتَ فتأملْ ! هل ترى لفظةً منها بحيثُ لو أُخذتْ من بين أخواتها وأُفردتْ لأَدَّتْ منَ الفصاحة ما تؤديه وهي في مكانها منَ الآية قُل: " ابلعي " واعتَبِرْها وحدَها من غيرِ أن تنظرَ إلى ما قبلها وإلى ما بعدَها وكذلك فاعتبرْ سائرَ ما يليها. وكيفَ بالشكَّ في ذلك ومعلومٌ أنَّ مبدأ العظمةِ في أن نُوديتِ الأرضُ ثم أُمرتُ ثم في أنْ كانَ النداءُ ب " يا " دُوْنَ " أيّ " نحوُ: يا أيتها الأرضُ. ثم إضافةُ الماءِ إلى الكافِ دونَ أن يقالَ: ابلعي الماءَ ثم أنْ أُتبعَ نداءُ الأرض وأمرُها بما هو من شأنها ونداءُ السماء وأمرُها كذلك بما يخصُّها. ثم أنْ قيلَ: وغيضَ الماءُ. فجاء الفعل على صيغة " فُعِلَ " الدالَّة على أنه لم يَغِضْ إلاّ بأمرِ آمرٍ وقدرةِ قادر.
ثم تأكيدُ ذلك وتقريره بقولهِ تعالى: (قُضِيَ الأمرُ). ثم ذكَر ما هو فائدةُ هذهِ الأمورِ وهو (استوتْ على الجوديَّ). ثم إضمارُ السفينةِ قبلَ الذكرِ كما هو شَرْطُ الفخامةِ والدَّلالةِ على عِظَمِ الشأن. ثم مقابلةُ " قيل " في الخاتمةِ ب " قيل " في الفاتحة. أَفَتَرى لشيءٍ من هذه الخصائصِ التي تملؤك بالإِعجازِ روعةً وتحضُرُك عندَ تصورِها هيبةٌ تحيطُ بالنفس من أقطارِها تعلقاً باللفظ من حيثُ هو صوتٌ مسموعٌ وحُرُوفٌ تَتوالى في النُّطق أم كلُّ ذلك لما بينَ معاني الألفاظ منَ الاتَّساق العجيب!!".
بهذا الكلام يجعل الجرجاني الفصاحة مشتملة على المعنى كذلك وهو ما قال به أكثر العلماء فأكثرهم على عدم التفريق بينهما، فلا يتصور أن الفظ بذاته فصيح وإلا لكان تركيب الجمل غير المفهومة فصيح، وهذا خطأ بين، ولو نظرنا إلى معنى الفصاحة في اللغة لوجدناها من الإفصاح والتبيين، ولو نظرنا إلى معنى البلاغة لوجدناها من تبليغ المعنى، ولا أرى تبليغ المعنى ممكنا بغير تببينه.
ولما رأيت أن العلماء أكثرهم على أن الفصاحة والبلاغة مترادفتان وأنهما يفيدان وضوح الألفاظ وسلاستها وتبليغها المعنى، لم تقر عيني بهذا القول على إطلاقه بل في ظني أن هناك فرق خفي، وهو أن البلاغة تكمن في اسلوب الكلام وطرحه، فالمعنى في الفصاحة والبلاغة موجود كما قال العلماء لكن الفارق في أن الفصاحة دون البلاغة من حيث الأسلوب فمن مقتضات البلاغة وضوحِ الدَّلالة وصوابِ الإِشارة وتصحيحِ الأقسام وحُسنِ التَّرتيب والنّظام والإِبداعِ في طريقةِ التَّشبيهِ والتَّمثيل والإجمالِ ثُمّ التفصيل ووضع الفصل والوصل موضعهما وتوفيه الحذف والتأكيد والتقديم والتأخير شرُوطهما وخاصة الإيجاز، فإنك لو ذكرت كلاما غير موجزا قد يكون فصيحا ولكنه لا يكون بليغا، بينما الفصاحة معنية أكثر باستقامة الكلام نحوا وصرفا وسلاسته وخلوه من التنافر والاستهجان مع صحة معناه.
يقول أبو القاسم الآمدي: "الفصاحة صنو للبلاغة، ووجهه من وجوهها" وقد عرف البلاغة على أنها "إصابة المعنى وإدراك الغرض بألفاظ سهلة عذبة كافية لا تبلغ الهذر الزائد على الحاجة ولا تنقص نقصانا يحول دون الغاية ". وكذا الهاشمي في جواهر البلاغة، قال بقول من قال أن الفصاحة مختصة باللفظ دون المعنى، وناقض نفسه عندما عرفها فقال: "هي عبارة عن الألفاظ البينة الظاهرة المتبادرة إلى الفهم، المأنوسة الاستعمال بين الكتاب والشعراء لمكان حسنها"، فقد جعلها مشتملة على معنى وكونها فصيحة من حيث أنها مفهومة، وهل يفهم من اللفظ إلا معنى؟!، ولكنه أحسن في وضعه شوطا بدونها لا يكون الكلام فصيحا ونضيف إليها -وإن كان في ثناياها- صواب معناه ووضوحه، يقول الهاشمي:
الفصاحة
(الفصاحة) في اللغة: بمعنى البيان والظهور، قالى تعالى: "وأخي هارون هو أفصح منّي لساناً"، ونضيف هنا ما قلناه من أن البيان إلا بمعنى.
وفي الإصلاح: عبارة عن الالفاظ الظاهرة المعنى، المألوفة الإستعمال عند العرب.
وهي تكون وصفاً للكلمة والكلام والمتكلم يقال: كلمة فصيحة، وكلام فصيح، ومتكلم فصيح.
فصاحة الكلمة
فصاحة الكلمة هي: خلوص الكلمة من الأمور التالية:
1. من تنافر الحروف، بأن لا تكون الكلمة ثقيلة على السمع، صعبة على اللسان، فنحو (هعخع): اسم بنت ترعاه الإبل، متنافر الحروف.
2. ومن غرابة الاستعمال، وهي كون الكلمة غير ظاهرة المعنى، ولا مألوفة الاستعمال عند العرب، حتى لا يفهم المراد منها، لاشتراك اللفظ، أو للإحتياج الى مراجعة القواميس، فنحو (مسرّج) و(تكأكأتم) غريب. قال الشاعر:
ومـقلةً وحاجـباً مـرجــّجا
وفــاحماً، ومــرسِناً مسرّجاً
وقال عيسى بن عمروا النحوي ـحين وقع من حماره واجتمع عليه الناس ـ (ما لكم تكأكأتم عليّ، كتكأكئكم على ذي جنة، إنفرقعوا عنّي).
3. ومن مخالفة القياس: بأن تكون الكلمة شاذة، على خلاف القانون الصرفي المستنبط من كلام العرب، فنحو (الاجلل) مخالف للقياس، والقياس (الأجل) بالإدغام.
قال أبو النجم:
الــحمد لله الـعلي الاجـلل
الواحـد الـفرد الـقديم الأول
4. ومن الكراهة في السمع، بأن تكون الكلمة وحشية، تمجّها الأسماع، كما تمجّ الأصوات المنكرة، نحو) الجرشى) بمعنى: النفس.
قال المتنبي:
مــبارك الاسم أغــرّ اللقبْ
كريم الجرشّى شريف النسبْ
والحاصل:
انه إذا كان في الكلمة شيء من هذه الأربعة، كانت غير فصيحة، فاللازم على الفصيح اجتناب هذه الأمور.
فصاحة الكلام
فصاحة الكلام هي: خلوص الكلام من الأمور التالية:
1. من عدم فصاحة بعض كلماته، فإذا اشتمل كلام على كلمة غير فصيحة ـ كما تقدّم ـ سقط الكلام عن الفصاحة.
2. ومن تنافر الكلمات المجتمعة، بأن يكون بين كلماته تنافراً، فتثقل على السمع، وتَعسر على النطق، نحو هذين البيتين:
وقـب رحـرب بـمكان قفــرُ
وليس قـربَ قـبر حـرب قـبرُ
وقال أبو تمّمام:
كـريم متى أمـدحه والـورى
معي وإذا ما لمته لمته وحدي
3. ومن ضعف التأليف: بأن يكون الكلام جارياً على خلاف قوانين النحو المستنبطة من كلام العرب، كوصل ضميرين وتقديم غير الاعرف نحو: (اعاضهاك) في قول المتنّبي:
خلت البلاد من الغزالة ليلهـا
فاعاضهاك الله كــي لا تحزنا
4. ومن التعقيد اللفظي، بأن تكون الكلمات مرتّبة على خلاف ترتيب المعاني. قال المتنبي:
جفختْ وهم لا يجفخون بها بهم
شيمٌ على الحسب الأغر دلائل
والأصل: جفخت بهم شيمٌ دلائل على الحسب الاغرّ وهم لا يجفخون بها.
5. ومن التعقيد المعنوي: بأن يكون التركيب خفي الدلالة على المعنى المراد بسبب ايراد اللوازم البعيدة، المحتاجة الى إعمال الذهن، حتى يفهم المقصود.
قال عباس بن الاحنف:
سأطلب بعد الدار عنكم لتقربوا
وتسكب عيناي الدموع لتجمدا
أردا بجمود العين: الفرح والسرور الموجب لعدم البكاء، وهذا خلاف المعنى المتفاهم.
6. ومن كثرة التكرار، بأن يكرر اللفظ الواحد، فيأتي به مرتين أو أزيد. قال الشاعر:
اني واسطار سطرن سطرا
لقائل يا نصر نصر نصرا
7. ومن تتابع الاضافات، بأن تتداخل الإضافات.
قال ابن بابك:
حمامة جرعى حومة الجندل اسجعي
فأنت بمــرأى مـن سعاد ومسمع
والحاصل:
انه إذا كان في الكلام أحد هذه الأمور السبعة كان غير فصيح.
فصاحة المتكلم
فصاحة المتكّلم عبارة: عن أن يكون المتكلم ذا ملكة يقتدر بها على التعبير عن المقصود، بكلام فصيح، والملكة تحصل بطول ممارسة الكلام الفصيح، بأن يكون في بيئة عربية فصيحة، أو يمرّن نفسه بكلمات الفصحاء كثيراً، كل ذلك وللذوق مدخل عظيم.
البلاغة
(البلاغة) في اللغة: بمعنى الوصول والانتهاء، قال تعالى: (ولّما بلغ اشدَّه) أي وصل.
وفي الاصطلاح:
أ- أن يكون مطابقاً لمقتضى الحال، بأن يكون على طبق مستلزمات المقام، وحالات المخاطب، مثلاً لمقام الهول كلام، ولمقام الجد كلام، ومع السوقة كلام. ومع كلام الملوك كلام.. وهكذا.
ب- وأن يكون فصيحاً ـ على ما تقدم ـ
والبلاغة تقع وصفاً للكلام وللمتكلم، فيقال: كلام بليغ، ومتكلم بليغ، ولا يقال: كلمة بليغة.
بلاغة الكلام
(بلاغة الكلام) عبارة عن: أن يكون الكلام مطابقاً لما يقتضيه حال الخطاب، مع فصاحة الفاظ مفرداته ومركباته، فلو تكلم في حال الفرح مثل ما يتكلم في حال الحزن، أو العكس، أو تكلم في حال الفرح بكلام يتكلم به في هذه الحال لكن كانت الالفاظ غير فصيحة، لا يسمى الكلام بليغاً.
ثم إن الامر المقتضى للأتيان بالكلام على كيفية مّا، يسمى:
1. (مقاماً) باعتبار حلول الكلام فيه.
2. (حالاً) باعتبار حالة المخاطب أو المتكلم أو نحوهما.
والقاء الكلام على هذه الصورة التي اقتضاها الحال يسمى (مقتضى) فقولهم: (مقتضى الحال) أو (مقتضى المقام) بمعنى الكيفية التي اقتضاها الحال أو المقام. مثلاً: يقال عند كون الفاعل نكرة، حين يتطلب المقام التنكير: هذا الكلام مطابق لمقتضى الحال.
إذاً: فالحال والمقام شيء واحد، وانما الاختلاف بالاعتبار.
بلاغة المتكلم
(بلاغة المتكلم) عبارة عن: ملكة في النفس يقتدر بها صاحبها على تأليف كلام بليغ، بحيث يكون مطابقاً لمقتضى الحال، فصيحاً.
وقد عرّف (ابن المعتز) الكلام البليغ بكلام بليغ، فقال: (ابلغ الكلام: ما حسن ايجاده، وقلّ مجازه، وكثر اعجازه، وتناسبت صدوره وأعجازه).