اياك والتكفير وهذا الدليل

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
أما بعد:
في الحقيقة أن مسألة التكفير ليس فقط للحكام ؛ بل وللمحكومين أيضاً هي فتنة قديمة، تبنتها فرقة من الفرق الإسلامية القديمة،
وهي المعروفة ب-(الخوارج).
والخوارج طوائف مذكورة في كتب الفرق، ومنها فرقة موجودة لا تزال الآن باسم آخر، وهو: (الإباضية).
وهؤلاء (الإباضية) كانوا إلى عهد قريب منطوين على أنفسهم، ليس لهم أي نشاط دعوي كما يقال اليوم، لكن منذ بضع سنين بدأوا ينشطون وينشرون بعض الرسائل وبعض العقائد التي هي عين عقائد الخوارج القدامى، إلا أنهم يتسترون ويتشيعون بخصلة من خصال الشيعة، ألا وهي التَقِية.

فهم يقولون: نحن لسنا بالخوارج، وأنتم تعلمون جميعا أن الاسم لا يغير من حقائق المسميات إطلاقا، وهؤلاء يلتقون في جملة ما يلتقون مع الخوارج تكفير أصحاب الكبائر.

الآن يوجد في بعض الجماعات الذين يلتقون مع اهل السنة، ولكنهم الأسف الشديد يقعون في الخروج عن الكتاب والسنة من جديد وباسم الكتاب والسنة.

والسبب في هذا يعود إلى أمرين اثنين في فهمي ونقدي:
أحدهما هو: ضحالة العلم؛ وقلة التفقه في الدين.

والأمر الآخر - وهو مهم جداً -:

أنهم لم يتفقهوا بالقواعد الشرعية، والتي هي أساس الدعوة الإسلامية الصحيحة، التي يعتبر كل من خرج عنها من تلك الفرق المنحرفة عن الجماعة التي أثنى عليها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في غير ما حديث؛ بل والتي ذكرها ربنا عز وجل دليلا واضحا بيِّنا على أن من خرج عنها فيكون قد شاق الله ورسوله، أعني بذلك قوله عز وجل:
﴿ وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا﴾

الله عزوجل لأمر واضحٍ جدا عند أهل العلم لم يقتصر على قوله :
﴿وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى﴾.لم يقل هكذا؛ وإنما أضاف إلى مشاقة الرسول اتباع غير سبيل المؤمنين، فقال:﴿وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا﴾

إذًا اتباع سبيل المؤمنين وعدم اتباع سبيل المؤمنين أمر هام جداً إيجاباً وسلباً، فمن اتبع سبيل المؤمنين: فهو النّاجي عند رب العالمين، ومن خالف سبيل المؤمنين: فحسبه جهنم وبئس المصير.

من هنا ضلت طوائف كثيرة، وكثيرة جداً قديماً وحديثاً ، حيث أنهم لم يلتزموا سبيل المؤمنين ، وإنما ركبوا عقولهم، بل اتبعوا أهواءهم في تفسير الكتاب والسنة، ثم بنوا على ذلك نتائج خطيرة وخطيرة جداً، من ذلك الخروج على ما كان عليه سلفنا .
هذه الفقرة من الآية الكريمة: ﴿وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ﴾ لقد دندن عليها وأكدها عليه الصلاة والسلام تأكيداً بالغاً في غير ما حديث نبوي صحيح.

وهذه الأحاديث - التي أنا أشير إليها الآن وسأذكر بعضا منها مما يساعدني ذاكرتي- ليست مجهولة عند عامة المسلمين –
فضلاً عن خاصتهم –

لكن المجهول فيها هو أنها تدل على ضرورة التزام سبيل المؤمنين في فهم الكتاب والسنة .
هذه النقطة يسهو عنها الكثير من الخاصة فضلا عن العامة، فضلاً عن هؤلاء الذين عرفوا ب-(جماعة التكفير).
هؤلاء قد يكونون في قرارة نفوسهم صالحين وقد يكونون أيضا مخلصين، لكن هذا وحده غير كاف ليكون صاحبه عند الله عز وجل من الناجين المفلحين.

لا بد للمسلم أن يجمع بين أمرين اثنين:

بين الإخلاص في النية لله عز وجل؛ وبين حسن الاتباع لما كان عليه النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
فلا يكفي إذاً أن يكون المسلم مخلصاً وجاداً فيما هو في صدده من العمل بالكتاب والسنة والدعوة إليهما؛ فلا بد - بالإضافة إلى ذلك - أن يكون منهجه منهجاً سوياً سليماً.

فمن تلك الأحاديث المعروفة كما أشرت آنفاً حديث الفرق الثلاث والسبعين، ولا أحد منكم إلا وهو يذكره، ألا وهو قوله عليه الصلاة والسلام:
" تفرقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، وتفرقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة، وستفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار إلا واحدة" قالوا: من هي يا رسول الله؟ قال:
"ما أنا عليه وأصحابي".

نجد أن جواب النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأولئك الذين سألوا عن الفرقة الناجية يلتقي تماماً مع الآية السابقة :
﴿وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ﴾ فالمؤمنون المقصودون في هذه الآية الكريمة هم الأصحاب؛ أول ما يدخل في عموم الآية :
﴿وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ﴾ هم سبيل أصحاب الرسول عليه الصلاة والسلام.

فالرسول صلى الله عليه وآله وسلم في الجواب عن ذاك السؤال عن الفرقة الناجية ما هي ما أوصافها قال:
" هي التي تكون ما أنا عليه وأصحابي"،
لم يكتف الرسول صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث على قوله:" ما أنا عليه"،
وقد يكون ذلك كافياً في الواقع للمسلم الذي يفهم حقاً الكتاب والسنة ؛ ولكنه عليه الصلاة والسلام كتحقيق عملي في قوله عز وجل في حقه : ﴿بالمؤمنين رءوف رحيم﴾

فمن رأفته ورحمته بأصحابه وأتباعه ِأنه أوضح لهم أن علامة الفرقة الناجية: هي التي تكون على ما كان عليه الرسول عليه السلام، وعلى ما عليه أصحابه من بعده.
فإذًا فلا يجوز للمسلم أن يقتصر في فهم للكتاب والسنة على الوسائل التي لا بد منها معرفة اللغة العربية، والناسخ والمنسوخ، وكل القواعد؛ لكن من هذه القواعد العامة

أن يرجع في كل ذلك إلى ما كان عليه أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم ؛ لأنهم - كما تعلمون من كثير من الآثار ومن سيرتهم - أنهم كانوا أخلص لله عز وجل في العبادة، وأفقه منّا في الكتاب والسنة، إلى غير ذلك من الخصال الحميدة التي كانوا تخلّقوا بها.
هذا الحديث يلتقي مع الآية تماماً، حيث أنه ألمح عليه السلام في هذا الجواب أنه لا بد من الرجوع ليكون المسلم من الفرقة الناجية إلى ما كان عليه أصحاب الرسول صلى الله عليه وآله وسلم.

يشبه هذا الحديث تماماً حديث الخلفاء الراشدين، الذي ذكر في السنن من رواية العرباض بن سارية رضي الله تعالى عنه، قال: وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم موعظة وَجِلَت منها القلوب، وذرفت منها العيون، فقلنا: كأنها موعظة مُودّع فأوصنا يا رسول الله! قال: "أوصيكم بالسمع والطاعة، وإن ولي عليكم عبد حبشي، وإنه من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً، فعليكم بسنتي، وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي،...." إلى آخر الحديث.

الشاهد من هذا الحديث، هو كالشاهد من جوابه عليه عن السؤال السابق، حيث حض أمته في أشخاص أصحابه أن يتمسكوا بسنته، ثم لم يقتصر على ذلك قال: "
وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي".
إذا لا بد لنا من أن ندندن دائماً وأبداً ؛ إذا أردنا أن نفهم عقيدتنا، أن نفهم عبادتنا، أن نفهم أخلاقنا وسلوكنا.
لا بد من أن نعود إلى سلفنا الصالح لفهم كل هذه الأمور التي لا بد منها للمسلم، ليتحقق فيه أنه من الفرقة الناجية.
من هنا ضلت طوائف قديمة وحديثة حينما لا يلتفتون إطلاقا إلى الآية السابقة، وإلى حديث الفرقة الناجية وإلى حديث سنة الخلفاء الراشدين من بعده عليه السلام ، فكان أمراً طبيعياً جداً أن ينحرفوا كما انحرف من سبقهم من المنحرفين عن كتاب الله، وسنة رسول صلى الله عليه وسلم، ومنهج السلف الصالح.

من هؤلاء : الخوارج قديما وحديثا.

أصل التكفير الذي ذر قرنه في هذا الزمان، الآية التي يدندنون حولها دائماً وأبداً ؛ ألا وهي قوله تبارك وتعالى:
﴿ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون﴾[المائدة: 44]،
ونعلم جميعا أن هذه الآية جاءت في خاتمتها بألفاظ ثلاثة، وهي:
﴿فأولئك هم الكافرون﴾، ﴿فأولئك هم الظالمون﴾ [المائدة: 45]،
﴿فأولئك هم الفاسقون﴾ [المائدة: 47].
فمن جَهْل الذين يحتجون بهذه الآية باللفظ الأول منها :﴿فأولئك هم الكافرون﴾:

أنهم لم يُلِمّوا على الأقل ببعض النصوص التي جاء فيها ذكر لفظة (الكفر)، فأخذوا لفظة الكفر في الآية على أنها تعني الخروج من الدين، وأنه لا فرق بين هذا الذي وقع في الكفر، وبين أولئك المشركين من اليهود والنصارى وأصحاب الملل الأخرى الخارجة عن ملة الإسلام.
بينما الكفر في لغة الكتاب والسنة لا تعني هذا الذي يدندنون حوله، ويسلطون هذا الفهم الخاطئ عل كثير من المسلمين، وهم بريئون من ذاك التكفير الذي يطبقونه على هؤلاء المسلمين.

شأن لفظة التكفير من حيث أنها لا تدل على معنى واحد - وهو الردة والخروج عن الملة شأن اللفظين الآخرين اللذين ذكرا في الآيتين الأخريين الفاسقين والظالمين، فكما أنه ليس كل من وُصف بأنه كفر لا يعني أنه ارتد عن دينه، كذلك لا يعني أن كل من وُصف بأنه ظالم أو فاسق بأنه مرتد عن دينه.
هذا التنوع في معنى اللفظ الواحد هو الذي يدل عليه اللغة، ثم الشرع الذي جاء بلغة العرب - لغة القرآن الكريم - كما هو معلوم.
من أجل ذلك كان من الواجب على كل من يتصدى بالحكم بما أمر الله عز وجل - لست أعني الآن الحكام - وإنما أعني أولئك الذين يصدرون الأحكام على المسلمين - سواء كانوا حكاماً أم محكومين - كان من الواجب على هؤلاء أن يكونوا على علم بالكتاب والسنة، و منهج السلف الصالح.

والكتاب لا يمكن فهمه - وكذلك ما ضم إليه - إلا بطريق معرفة اللغة العربية معرفة فاضية
وقد يكون إنسان ما ليس عنده معرفة قوية أو تامة باللغة فيساعده في استدراك هذا النقص الذي قد يشعر به في نفسه حينما يعود إلى من قبله من العلماء، خاصة إذا كانوا من أهل القرون الثلاثة المشهود لهم بالخيرية.

فالرجوع إليهم حينئذ قد يكون مساعدا له لاستدراك ما قد يفوته من المعرفة باللغة العربية وآدابها.
نعود الآن إلى هذه الآية:
﴿ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون﴾، هل من الضروري أن يكون هذا اللفظ:
﴿ فأولئك هم الكافرون﴾، أنه يعني كفرا خروجا عن الملة؟ أم قد يعني هذا وقد يعني ما دون ذلك ؟.
هنا الدقة في فهم هذه الآية، هذا الآية الكريمة:﴿ فأولئك هم الكافرون﴾،

قد تعني أي: الخارجون عن الملة؛ وقد تعني أنهم خرجوا عمليا عن بعض ما جاءت به الملة، الملة الإسلامية.
يساعدنا على ذلك قبل كل شيء ترجمان القرآن، ألا وهو عبد الله بن عباس رضي الله تعالى عنه؛ لأنه سند الصحابة الذين اعترف المسلمون جميعاً - إلا من كان من تلك الفرق الضالة - على أنه كان إماما في التفسير؛
ولذلك سماه بعض السلف من الصحابة ولعله هو عبد الله ابن مسعود بترجمان القرآن.

هذا الإمام في التفسير والصحابي الجليل كأنه طرق سمعه يومئذ ما نسمعه اليوم تماماً أن هناك أناساً يفهمون هذه الآية على ظاهرها دون التفصيل الذي أشرت إليه آنفا؛ وهو أنه:
قد يكون أحيانا المقصود بالكافرين المرتدين عن دينهم وقد يكون ليس هو المقصود وإنما هو دون ذلك، فقال ابن عباس رضي الله عنه:"
ليس الأمر كما يذهبون أو كما يظنون، وإنما هو كفر دون كفر".

ولعله كان يعني بذلك الخوارج الذين خرجوا على أمير المؤمنين ، ثم كان من عواقب ذلك أنهم سفكوا دماء المؤمنين، وفعلوا فيهم ما لم يفعلوا بالمشركين: فقال: ليس الأمر كما قالوا، أو كما ظنوا، وإنما هو كفر دون كفر؛ كفر دون كفر.
هذا الجواب المختصر الواضح من ترجمان القرآن في تفسير هذه الآية هو الذي لا يمكن أن يُفهم سواه من النصوص التي أشرت إليها آنفا في مطلع كلمة هذه .

أن كلمة (الكفر) ذُكرت في كثير من النصوص، مع ذلك تلك النصوص لا يمكن أن تُفسر بهذا التفسير الذي فسروا به الآية؛ أو لفظ الكفر الذي جاء في تلك النصوص لا يمكن أن يفسر بأنه يساوي الخروج من الملة، فمن ذلك مثلاً الحديث المعروف في الصحيحين من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر".

قتاله كفر: عندي هو تفنن في الأسلوب العربي في التعبير لأنه لو قال قائل: سباب المسلم وقتاله فسوق يكون كلام صحيح، لأن الفسق هو المعصية، وهو الخروج عن الطاعة، لكن الرسول عليه السلام - باعتباره أفصح من نطق بالضاد قال:" سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر".

تُرى؛ هل يجوز أنا أن أفسر الفقرة الأولى من هذا الحديث –
"سباب المسلم فسوق" - بالفسق المذكور في اللفظ الثاني أو الثالث في الآية السابقة:

﴿ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون﴾؟.
﴿فأولئك هم الفاسقون﴾ هو "سباب المسلم فسوق"،
نقول: قد يكون الفسق أيضا مرادفاً للكفر الذي هو بمعنى الخروج من الملة، وقد يكون الفسق أيضا مرادفاً للكفر الذي لا يعني الخروج عن الملة، وإنما يعني ما قاله ترجمان القرآن إنه كفر دون كفر.

وهذا الحديث يؤكد أن الكفر قد يكون بهذا المعنى لماذا ؟؛ لأن الله عز وجل ذكر في القرآن الكريم الآية المعروفة :
﴿وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله﴾.

إذ قد ذكر هنا ربنا عز وجل هنا الفرقة الباغية التي تقاتل الفرقة الناجية؛ الفرقة المحقة المؤمنة، ومع ذلك فما حكم عليها بالكفر، مع أن الحديث يقول: "… وقتاله كفر". إذاً قتاله كفر دون كفر، كما قال ابن عباس في تفسير الآية السابقة . فقتال المسلم للمسلم بغيٌ واعتداءٌ، وفسقٌ وكفرٌ، ولكن هذا يعني أن الكفر قد يكون كفراً عملياً، وقد يكون كفراً اعتقادياً.

من هنا جاء هذا التفصيل الدقيق الذي تولى بيانه وشرحه الإمام - بحق - شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، وتولى ذلك من بعده تلميذه البار ابن قيم الجوزية، حيث أن لهم الفضل في الدندنة حول تقسيم الكفر إلى ذلك التقسيم، الذي رفع رايته ترجمان القرآن بتلك الكلمة الجامعة الموجزة،

فابن تيمية رحمه الله وتلميذه وصاحبه ابن قيم الجوزية: يفرقون أو يدندنون دائماً بضرورة التفريق بين الكفر الاعتقادي والكفر العملي، وإلا وقع المسلم من حيث لا يدري في فتنة الخروج عن جماعة المسلمين، التي وقع فيها الخوارج قديماً وبعض أذنابهم حديثاً.
فإذا قوله صلى الله عليه وسلم "… وقتاله كفر" لا يعني الخروج عن الملة.

والأحاديث كثيرة جدا وكثيرة جداً، لو جمعها المتتبع لخرج منها رسالة نافعة في الحقيقة فيها حجة دامغة لأولئك الذين يقفون عند الآية السابقة، ويلتزمون فقط تفسيرها بالكفر الاعتقادي.

بينما هناك نصوص كثيرة وكثيرة جدا التي فيها لفظة الكفر ولا يُعنى أنها تعني الخروج عن الملة.
فحسبنا الآن هذا الحديث؛ لأنه دليل قاطع على أن قتال المسلم لأخيه المسلم هو كفر، بمعنى الكفر العملي، وليس الكفر الاعتقادي.

ل ذلك لا تستطيع أن نقول بكفره، حتى يعلن؛ يعرب عن كفره المضمور في قلبه أنه لا يرى الحكم بما أنزل الله عز وجل، حينئذ فقط تستطيع أن تقول: أنه كافر كفر ردة.
إذا وخلاصة الكلام الآن: أنه لا بد من معرفة أن الكفر - كالفسق والظلم -، ينقسم إلى قسمين:
- كفر وظلم فسق يخرج من الملة، وكل ذلك يعود إلى الاستحلال القلبي؛ وخلاف ذلك يعود إلى الاستحلال العملي.
فكل العصاة - وبخاصة ما فشا في هذا الزمان من استحلال الرّبا - كل هذا كفر العملي، فلا يجوز لنا أن نكفر هؤلاء العصاة بمجرد ارتكابهم معصية، واستحلالهم إياها عملياً، إلا إذا بدر منهم أو بدا لنا منهم ما يكشف لنا عما في قرارة نفوسهم أنهم لا يُحَرّمُون ما حرم الله ورسوله عقيدة؛ فإذا عرفنا أنهم وقعوا في هذه المخالفة القلبية حكمنا حينئذ بأنهم كفروا كفر ردة.
أما إذا لم نعلم ذلك فلا سبيل لنا إلى الحكم بكفرهم؛ لأننا نخشى أن نقع في وعيد قوله عليه الصلاة والسلام:
"من كفر مسلما فقد باء به أحدهما".

والأحاديث الواردة في هذا المعنى كثيرة وكثيرة جداً، نذكِّر بهذه المناسبة بقصة ذلك الصحابي الذي بارز مشركا، فلما رأى المُشرك أنه صار تحت ضربة سيف المسلم الصحابي، قال: أشهد أن لا إله إلا الله، فما بالاها الصحابي فقتله، فلما بلغ خبره النبيَ صلى الله عليه وسلم أنكر عليه ذلك أشد الإنكار -كما تعلمون - فاعتذر الرجل بأنه ما قالها إلا خوفاً من القتل، فكان جوابه صلى الله عليه وسلم: "هلاّ شققت عن قلبه؟!".

إذاً الكفر الاعتقادي ليس له علاقة بالعمل له علاقة بالقلب، ونحن لا نستطيع أن نعلم ما في قلب الفاسق، الفاجر، السارق، الزاني، المرابي… إلخ ، إلا إذا عبّر عما في قلبه بلسانه، أما عمله فعمله يبنئ أنه خالف الشرع مخالفة عملية.

فنحن نقول: إنك خالفت، وإنك فسقت، و فجرت، لكن لا نقول: إنك كفرت، وارتدت عن دينك، حتى يظهر منه شئ يكون لنا عذر عند الله عز وجل أن نحكم بردته، وبالتالي يأتي الحكم المعروف في الإسلام عليه؛ ألا وهو قوله عليه الصلاة والسلام:
"من بدل دينه فاقتلوه".

والحمد لله رب العالمين