وعيتُ الكثير منذ وعيت طفولتي بجماليّاتها و تحسّست كينونتي بوجوديّتها، و التي تجلّت عظمة الله في عظمة فرادة خلقها و صنعها و تشكيلها، و التي تراءت وحدانيّة الله في وحدانيّة عناصرها في تشكيل منمات بصماتها و سماتها و شبكاتها...

منذ تلك اللحظة الوامضة نورا و ضياء، و أنا أعيش في واقع الإنتعاش الفعلي بالروح لجسدي، جلاء سمعيّا و بصريّا و إحساسيّا و فكريّا و شعوريّا، و نطقا لسانيّا بمحارف منظومة أبجديّة الضّاد، و قلبنة في صدى الموسقات تملأ صدري بالرّحمة و المودّة، و عقلنة أولى في التّفكّر الذي يُهديني لحاجياتي دون مساعدة أحد...

و أنا أعيش روحيّتي في رحاب قريتي الرّيفيّة البقاعيّة البعلبكيّة، التي تتربّع هادئة في قلب شريط بلدات غربي مدينة الشّمس، و كأنّها نجمة الصّبح تتألّق في قلب الهلال الوامض رافلا باللون الفضّيّ و هو يسبح هائما مترنّما في عشقه و حبّه، يتماعى عنفوانا و كبرياء على صهوة طائر الحياة، ينتعش بجناحيه الخفّاقة بين تموّجات الأنسام المنسابة من البعد الآخر مع الخوافق...

وعيت بوعي طفولتي و معها بعض معالم خصوصيّة فردانيّتي الشّفيفة، و تلمّست بعض جوانب حميميّتي العاطفيّة، و رحتُ أمزج ببساطة بين شخصيّتي و رؤاي، لأصنع من ذاتيّتي كتلة من العنفوان البقاعي و الكبرياء البعلبكي، فجمحت منذ البدء نحو التّعبير الفطري الحرّ عن شخصيّتي الإنسانيّة، بنبل قرويّ في سيّالات مشاعري، و مصداقيّة خلق عظيم في ذبذبات أحاسيسي...

في تلك الحالة في غمار تلك الطّفولة في رحاب تلك القرية التي تحمل إسم شفيعها، و في تلك السّيمفونيات الأثيريّة من الحبّ الأقدس و العشق الأطهر، الكامن في خافيات طوايا الطّفولة، التي تحملني مودّة في العلاقات و أحملها رحمة في التّواصل، حيث كانت تتراءى لي في وجداني الخياليّ، هالات من أحلامي الورديّة، ترتسم بأشكال و ألوان أخرى لا عهد لي بها في واقعي المعاش، كانت تتشكّل كما يتجلّى قوس الله هالات طيف لزني سباعيّ في الأفق الماطر تحت أشعّة الشّمس...

هناك كانت تتوالد بعض الأفكار الفنّيّة و الفلسفيّة الأولى، تتفتّق من بعض القبسات التّجريديّة و السّورياليّة، ممّا يُراودني في البعد الممتدّ اللامتناهي، خارج حقائق الكلاسّكيّة و سحر الإنطباعيّة... و التي كانت كأنّها الكوابيس بالنّسبة لأقراني الذين من نفس عمري، و لذين كانوا يُشاطرونني اللعب في أزقّة القرية و بين البيوت التّرابيّة، ذات الجدران البيضاء الطّرش بالتّراب الحوّاريّ، و أمام الأبواب العالية و تحت النّوافذ الزّرقاء اللون، و بين دوالي العنب وتحت فيء أشجار المشمش...

أقراني من صبيان و بنات كانوا يُشاركونني بغبطة و فرح و سرور و حبور، اللهو الأحبّ لي في الخربشات و البحبشات، بقطع عيدان قصيرة من أغصان أشجار المشمش أو الخوخ أو الإجاص أو من بقايا دوالي العنب اليابس... للتّزييح و الرّسم بها فوق التّراب في دروب و حواكير قريتنا، و في تشكيل الدّمى من نفس التّراب الممزوج ببعض الماء، ليصبح طينا لزجا كما الصّلصال، لأعيش واقع طفولتي ترجمة لأحلامي و آمالي و تطلّعاتي الإفتراضيّة... بإنعكاس جليّ و أكثر واقعيّة و أكثر مصداقيّة مع نفسي الأمّارة بكلّ الأشياء، و لكي أكون في ديمومتي و صيرورتي، أكثر تواصليّا و تفاعليّا مع أقراني من كلا الجنسين، و كي أكون أقرب ما يُمكن لمحيطي و بيئتي...

جدران البيوت البيضاء لبيوت قريتي، كانت مسرح خربشاتي، و التي يُسمّونها اليوم عصرنة حداثة بالتّجريد، أُنفّذها ببقايا الأعواد المتفحّمة، و التي كنت أحصل عليها من بقايا الوقود البارد في قعر التّنّور القرويّ، الذي كانت تستخدمه نسوة قريتي لشواء رقائق العجين و نتاج الخبز من طحين القمح البلدي... و بعد كلّ جولة من الخربشات على جدران بيوت قريتي، كانت تتعالى أصوات النّساء و الرّجال في دروب و ساحة القرية لفعل خربشاتي باللون الأسود على الجدران البيضاء...

و جدران الغرف الزّاهية باللون السّماوي الفاتح المشرق في بيتنا، لم تكن أفضل حالا من صبيانيّاتي و شيطناتي... فكانت مسرحا آخر لممارسة مزاجيّاتي في تحقيق هواية خربشاتي الشّبيهة بخربشات الدّجاج و الدّيكة في تراب الأرض و هي تُنقّب عن الحبوب في التّراب لتقدها بمنقارها و تلتهمها... و رسوماتي هذه كنت أُنفّذها بأعواد الفحم ذاتها، و بمعزل عن أبصار و الدي و والدتي و جدّي و جدّتي، و بعد الإنتهاء من الخربشات، و يكتشفونها بعد فترة و جيزة، تبدأ حياكة الرّوايات و إبتكار الأساطير، و التّوكُّؤ على صنوف التّنجيم على ذِمّة هاروت و ماروت و شمشريخ و نوستر أداموس، و التي تنتهي بالتّعنيف و التّوبيخ و التّهديد و الحرمان و الوعود و الوعود المضادّة... و لكنّ حكاية إبريق الزّيت لم و لن و لاتنتهي مع كلّ يوم و لا مع كلّ جلسة توبيخ...

منذ البدء و وعي طفولتي و كينونتي، و خوضي في غمار الخربشات الأوّليّة، التي تفتّق عنها وجداني، بترجمة أناملي لها بأعواد الفحم، و بدء الرّسم البسيط على الجدران البيضاء للبيوت التّرابيّة في رحاب قريتي الرّيفيّة... كانت خربشاتي و رسوماتي و خطوطي و أشكالي، مغايرة و غريبة و عجيبة، و لا تُمتّ للواقع بشيء، لا من قريب و لا من بعيد... و كأنّني يوم وعيت طفولتي وُلِدَ معها وعيي في فنون الرّسم و التّشكيل على مذهب التّجريد و التّمويه و خلق الأشياء فلسفة جنونيّة و سورياليّة، كما يُسمّونها اليوم بمدارس الفنون التّشكيليّة... مدرسة التّجريد بكافّة أنماطه و مدرسة السّورياليّة بكافّة أساليبها... فكنت أرسم ما يشبه العصفور إنّما بلا ذيل أو بلا جناحين، و كنت أرسم ما يشبه البقرة إنّما بلا أذنين، و كنت أرسم ما يشبه المعزاة إنّما بلا قرون و بذيل طويل، و كنت أرسم ما يشبه الحمار إنّما بلا ذيل، و كنت أرسم ما يشبه الحصان إنّما بشعر جدّا طويل على رقبته، و بذنب قصير جدّا، و كنت أرسم الدّجاجة كما الدّيك و الدّيك كما الدّجاجة... و هكذا لبقيّة الحيوانات الدّاجنة الي كانت في تصرفّ جدّي و والدي في يوميّاتهم, و كانت الأشياء أرسمها كما يتراءى لي و ليس على حقيقتها، بحيث كان جدّي غالبا ما أسمعه يقول لزوّاره من أهل القرية، حفيدي هذا يركب طاخوخه شيطان شرس و عفريت من الجنّ...

و غالبا ما كان أبي و أمّي و جدّي و جدّتي، يقفون مني و من خربشاتي موقف الحيرة و الخوف و القلق... و أسمعهم يتوشوشون بينهم و يتّهمونني بأنّني شبه مُعاق، و عندي قصور في الوعي و العقل، و يوصمونني بالجنون، و أراهم يضرعون لله في خشوعيّاتهم و صلواتهم، كيّ يُشفيني من جنوني و فصامي النّفسي، و هكذا كان حال أهل القرية منّي، و الذين منعوا أولادهم من اللعب معي عندما إستفحلت بي حركات أفعال الخربشة في القرية... و عندها كان لا بُدّ من أبي و أمّي و جدّي و جدّتي، إلاّ أن يصطحبونني معهم لطبيب القرية العربي الرّوحاني، دوريّا، ليقرأ همروجة تعاويذه و هذيانه، و ينفخ في وجهي من شدق و باجوق جلحفته، و يمسح بكفّه الرّاجف على رأسي، و يُسقيني الماء بالقوّة من كوب قرأ عليه تمائمه، و أذاب فيه ورقة صغيرة كتب عليها بعض الطّلاسم... ثمّ أراه كان يكتب حروفا و كلمات، بمشق من القصب، أو بريشة معدنيّة يُغمّسها بدواة مليئة بالحبر الصّينيّ الأسود، أو بماء الزّعفران، و على جانب من التّقنيّة الحروفيّة الجميلة، و بعدها يطوي الورقة على شكل مربّع أو مثلّث و يُغلّفها بقطعة من القماش أو جلد الماعز، و يضعها بدبّوس في طرف قبّة قميصي، أو أنشوطة من القماش في رقبتي أو يحزم بها زندي أو ركبتي...

و لكثرة ما تردّدت مع أبويّ لطبيب القرية الرّوحاني، و مواكبتي لكتابته بالرّيشة و الحبر الأسود على الورق... لفت نظري لفنون الكتابة للأحرف العربيّة و كيفيّة توصيلها في الكلمة و ترك الفراغات بينها لإستكمال الجملة المفيدة، و كيفيّة رسم الأشكال و الرّموز كالمربّع و المثلّث و النّجمة و الدّائرة و الأشعّة و المضلّع... لينفتح أمام ذاكرة طفولتي بابا واسعا من الخوض بشكل أشدّ جنونا في تفعيل تجاربي في الخربشات بأشكال و ألوان جديدة و مستحدثة... و بالتّالي ملء جدران بيوت القرية بخربشاتي و رسوماتي بسرعة جنونيّة بين يوم و ليلة، ممّا أثار حنق أهالي القرية و كرههم لي بسبب خربشاتي على جدران بيوتهم...

و ما كادت الأمور تصل إلى هذا الحدّ من إمتعاض أهالي قريتي من خربشاتي على جدران بيوتهم، و تعاظم شكواهم لوالديّ... ممّا حدا بوالديّ لحملي قهرا و التّوجّه بي إلى ضاحية بيروت الجنوبيّة، و هناك كانت إقامتنا في غرفة صغيرة من الحجارة المصنوعة، و المبنيّة فوق يعضها البعض من دون مواد إسمنتيّة لاصقة و ماسكة و حتّى بدون أعمدة عند الزّوايا، نعيش فيها تحت سقف من ألواح الصّاج الرّقيق، نزداد صقيعا و بردا في الشّتاء، و نعاني حرّا و حرارة في الصّيف...

و هناك حيث سكنا أبي و أمّي بين أشجار النّخيل و الصّبّار و الزّنزلخت و المقسيس و الجمّيز و البرقروق البري، سعى أبي في عمل له في معمل لتذويب الحديد و إعادة تصنيعه، و إدخلني في مدرسة رغما عنّي، لأبدأ مرحلة جديدة من ممارسة الجنون في الخربشات و الرّسومات فوق أوراق كتبي و دفاتري و بقلم الرّصاص، مرحلة بعد مرحلة، فكانت تلك المراحل من بداياتي و مراحلي المدرسيّة، كان لها وقعها في توجيه شراعي، كما دفّة السّفينة، و التي حملتني فيما بعد قناعة، كي أمتطي أجنحة الرّسم الفنّي و الهندسي بداية ثمّ صهوات الفنون التّشكيليّة، إختصاصا و مهنة و تدريسا نظريّا و تطبيقيّا، و محاكاة و مواكبة لأحدث وسائل التّطبيقات للفنون التّشكيليّة، بدءا بأعواد الفحم فأقلام الرّصاص فأقلام الرّسم التّحبيريّة على أنواعها مرورا بكلّ أنواع الأدوات التّقليديّة و الورق المقوّى و الشّفّاف و رقائق ألواح الخشب و أنواع القماش الخام، وصولا إلى الحاسوب و البرمجيات الرّقميّة...