الحلقة الثانية
في الاستدلال على جواز الاجتهاد والتقليد


حجية الفقهاء في دولة الظهور
الكثير ربما تسوّل له بعض الافكار والتثقيفات أن حجية الفقهاء ملغاة في دولة الظهور للإمام المهدي عليه السلام، وهو تفكير عجيب وغريب!!
فإنّ صلاحيات الفقهاء وحجيتهم وإن كانت محدودة لكنها تبقى في ظل وهيمنة دائرة حجية المعصوم، لذا لم يكن دور الفقهاء ملغياً في دولة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم فإنّ قوله تعالى: ((وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ)) (١) تشير إلى دور ومنصب الفقهاء في زمن دولة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، والرسول صلى الله عليه وآله وسلم أعظم من الإمام، فإذا لم يلغَ دور الفقهاء في دولة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم كيف نتصور إلغاءه في دولة المهدي عليه السلام.
وهكذا لم يلغَ دور الفقهاء في دولة أمير المؤمنين عليه السلام وهو أعظم من الإمام المهدي عليه السلام، ولم يلغَ دور الفقهاء في دولة الإمام الحسن المجتبى عليه السلام وهو أعظم من المهدي عليه السلام، وهكذا جميع الأئمّة من الإمام الحسين عليه السلام سيد شباب أهل الجنّة إلى الإمام الحسن العسكري عليهم السلام لم يكن هناك أيّ إلغاء وإقصاء لدور الفقهاء، فكيف نتصور إلغاء أو إقصاء في دولة الإمام المهدي عليه السلام، فإنّ الكوفة في عهد الإمام الصادق عليه السلام كانت تعج وتضج بالفقهاء، بل ويكثر فيها بيوت المرجعية كزرارة حيث كان بيتاً من بيوت المرجعية في الكوفة، وهكذا محمّد بن مسلم وعمّار بن موسى الساباطي وهشام بن الحكم وبريد بن معاوية العجلي، فإنّ الباقر عليه السلام يقول لأبان بن تغلب: (إني أحب أن يُرى في أصحابي مثلك، أجلس في المجالس وافتِ الناس) (١) .
فإنّ الرسول صلى الله عليه وآله وسلم والمعصومين عليهم السلام عموماً وإن كانوا على أعلى مستويات العصمة والقيادة والعلم و... ولكنه بحكم الحياة البشرية لا يرتبطون حساً مع كل فرد بشري من أفراد المجتمع؛ لذا لا بدَّ من جهاز وذراع وأيدي لاتصالهم بالقواعد الجماهيرية، وهذا الجهاز قد حدّده الله تعالى وهو الفقهاء، فهم أيدي وسواعد المعصوم، فمن يتفقه للدين ويكون ورعاً تقياً فهذا هو دوره بنص وفريضة من الله، أي يجعل عوناً من أعوان المعصوم وإصبعاً من أصابع المعصوم وخادماً من خدام المعصوم، وهذا فرض من الله عز وجل وأن هذه الآية _ آية النفر _ لا تنسخ بل ستظل خالدة إلى يوم القيامة، فمن ذا الذي تسوّل له نفسه أن يقول: إن هناك قطيعة بين الفقهاء الصالحين العدول وبين مسار المعصومين، وإلاّ لو لم يعتمد المعصوم على الفقهاء والعلماء و... فمن يكون المعين له ومن يكون ساعده وذراعه وواسطته للناس؟! أيعقل أن يكون الجهال والعياذ بالله هم سواعد المعصوم ورابطته بالناس، وإنما أمره الله تعالىباتخاذ العلماء ومن يكون ذا كفاءة في الفقه والتفقه لا الجهل والجهالة أمناء على شريعتهم ودين الله.
لذلك قال جعفر بن محمّد عليه السلام: (علماء شيعتنا مرابطون في الثغر الذي يلي إبليس وعفاريته، يمنعونهم عن الخروج على ضعفاء شيعتنا، وعن أن يتسلط عليهم إبليس وشيعته النواصب، ألا فمن انتصب لذلك من شيعتنا كان أفضل ممن جاهد الروم والترك والخزر ألف ألف مرة، لأنه يدفع عن أديان محبينا، وذلك يدفع عن أبدانهم) (١) أي ثغور المعرفة وثغور البصيرة، فلا يستطيع أصحاب الدجل والعداء والحيل والزيف والباطل أن ينفذوا إلى حومة الدين ما دام جنود المعصومين موجودين وهم الفقهاء، فإنّهم وإن كانت حجيتهم نقطة في محيطات سماء المعصومين عليهم السلام ولكن هذه النقطة هي نظام جهاز المعصومين بهندسة وتخطيط من الله عز وجل، لأن الله عز وجل أراد لهذا الجهاز أن لا يخترق وأن يكون حصيناً، لذلك قال أئمّة أهل البيت: (الفقهاء حصون الإسلام) (٢) .
فالمعصوم لا بدَّ أن يتخذ حصناً وأعواناً له يعينوه بنص الآية الكريمة _ آية النفر _ قال تعالى: ((وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْيَحْذَرُونَ)) (١) لذلك لم تلغ حجية الفقهاء في الغيبة الصغرى وفي ظل نيابة السفراء الأربعة، إذ هو نظير الدائرة أو الوزارة فيها مدير ورؤساء شعب وموظفون وعمال وكل له دائرة عمل خاصة لا تتقاطع مع دوائر عمل الآخرين، أو نظير الوزارات والدوائر المتعددة تحت ظل رئاسة موحّدة للوزراء.
فإنّ السفراء الأربعة في الغيبة الصغرى نظير الوزير والوزارة فلهم مسؤوليات معينة لا تتقاطع مع مسؤوليات الإمام عليه السلام ولا تتقاطع مع مسؤوليات الفقهاء الباقين، فإنّ حجية النواب والسفراء في الغيبة الصغرى لم تكن حجية مطلقة بل هي محدودة، أما في الغيبة الكبرى فقد قامت الدلائل والبراهين على بطلان كل مدّعي للسفارة والنيابة الخاصة، وإنْ كان للمهدي عليه السلام في دولة الظهور ولاة ونواب خاصون وهم أصحابه الثلاثمائة والثلاثة عشرة كما سيأتي بيان ذلك.
وهكذا الفقهاء الباقون من غير السفراء سواء كانوا في الغيبة الصغرى أو الكبرى، وحتّى في زمن الظهور فإنّ لهم مهاماً ومسؤوليات غير مهام ومسؤوليات الإمام عليه السلام وغير مسؤوليات السفراء، ولا يُتصور إلغاء أيّ من الحجج لحجة أخرى، فكما لا تقاطع في النظم الإدارية كذلك لا تقاطع في مراتب الحجية وتراتب الحجج.
ولذلك نلاحظ ترحم الإمام المهدي عليه السلام على علي بن بابويه والد الصدوق رضي الله عنه وعلى غيره من الفقهاء مع أنهم لم يكونوا سفراء ولا نواباً خاصين وإنما كانوا فقهاء فحسب
وهكذا لم نلاحظ أحداً من السفراء رضوان الله عليه حاول إلغاء دور الفقهاء، بل على العكس كما لاحظنا موقف الحسين النوبختي رضي الله عنه في عرض كتابه على فقهاء قم، وما ذلك إلاّ لعدم تقاطع الأدوار والمسؤوليات والحجج وأن الفقهاء وزراء معيّنون من قبل الله تعالى كخدام وأنصار للأئمّة عليهم السلام، إذ لما كان الأئمّة عليهم السلام يحتاجون للمعين والناصر في نشر وإرساء الدين الإسلامي، فمما لا ريب فيه أن يكون الناصر والمعين لهذه المهمة من الشرفاء النجباء الحلماء العلماء الاتقياء الصلحاء... لا من أيّ جنس ونوع كان، قال تعالى: ((قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الأْلْبابِ)) (١) .

...........يتبع الحلقة الثالثة ......