يقول ابن سينا( الشيخ الرئيس ): "
" لقد هبطت النفس الى هذا العالم وسكنت الجسد فلابد ان تحن وتضطرب وتخلع عنها سلطان البدن وتنسلخ عن الدنيا لتصعد الى العالم الأعلى وتعــرج الى المحل الارفع. حيث يعتبر البدن شـر، لانه (مـادي كثيـف) وتحررالانسان من شهوات البدن ليس عنده الا سعيا للنفس الى الفكاك من إسارها بعد أن غشيها البدن بكثافته...... حيث يعتبر المتصوفة فناء الجسد، حقيقة الحقائق.

وقد قال في قصيدة بهذا المعنى:

هبطت إليك من المحل الأرفع ... ورقاء ذات تعزز وتمنع
محجوبة عن كل مقلة عارف ... وهي التي سفرت ولم تتبرقع
وصلت على كره إليك وربما ... كرهت فراقك وهي ذات تفجع
أنفت وما أنست فلما واصلت ... ألفت مجاورة الخراب البلقع
وأظنها نسيت عهوداً بالحمى ... ومنازلاً بفراقها لم تقنع
حتى إذا اتصلت بهاء هبوطها ... في ميم مركزها بذات الأجرع
علقت بها ثاء الثقيل فأصبحت ... بين المعالم والطلول الخضع
تبكي إذا ذكرت دياراً بالحمى ... بمدامع تهمي ولما تقطع
وتظل ساجعة على الدمن التي ... درست بتكرار الرياح الأربع
إذ عاقها الشرك الكثيف وصدها ... قفص عن الأوج الفسيح الأربع
حتى إذا قرب المسير إلى الحمى ... ودنا الرحيل إلى الفضاء الأوسع
سجعت وقد كشف الغطاء فأبصرت ... ما ليس يدرك بالعيون الهجع
وغدت مفارقة لكل مخلف ... عنها حليف الترب غير مشيع
وبدت تغرد فوق ذروة شاهق ... سام إلى قعر الحضيض الأوضع
إن كان أرسلها الإله لحكمة ... طويت عن الفطن اللبيب الأروع
فهبوطها إن كان ضربة لازب ... لتكون سامعة بما لم تسمع
وتعود عالمة بكل خفية ... في العالمين فخرقها لم يرقع
وهي التي قطع الزمان طريقها ... حتى لقد غربت بغير المطلع
فكأنه برق تألق للحمى ... ثم انطوى فكأنه لم يلمع...
*********************
حيث ان الجسد حسب مفهومه اضيق من ان يستع الروح ففاض بالسمو .... وقد امتدت جذور الصوفية وضربت بعيدا في نفوس المتعبدين الزهاد, ومرت اطوار التصوف بمراحل مختلفه إذ بدأ بالزهد والزهاد في البصرة وأمثالها من أمصار المسلمين، ثم تحول بعد ذلك إلى طرق صوفية لكل منها معالمها المتميزة، ومن ثم صارت تنحرف عن الإسلام وتعاليمه رويداً رويداً.
ويمكن أن نميز في الصوفية ثلاث مراحل واضحة نوجزها فيما يأتي:
المرحلة الأولى:
وكان يغلب على أصحابها جانب العبادة والبعد عن الناس، مع التزامهم بآداب الشريعة، وقد يغلب على بعضهم الخوف الشديد والبكاء المستمر، وكان من هؤلاء في المدينة: عامر بن عبد الله بن الزبير، الذي كان يواصل في صومه ثلاثاً ويقول له والده: رأيت أبا بكر وعمر ولم يكونا هكذا .
وكان في البصرة طلق بن حبيب العنزي، وعطاء السلمي الذي بكى حتى عمش .
ومن هؤلاء الزهاد: إبراهيم بن سيار وبشر بن الحارث الحافي كان قد فاق أهل عصره في الزهد وحسن الطريقة واستقامة المذهب وعزوف النفس كما قال الخطيب البغدادي في تاريخ بغداد .
ومن هؤلاء ايضا جنيد بن محمد الجنيد، الذي ينقل عنه الخطيب البغدادي قوله: (علمنا مضبوط بالكتاب والسنة، ومن لم يحفظ الكتاب ولم يكتب الحديث ولم يتفقه، فلا يقتدى به).
)إن هؤلاء كانت مقاصدهم حسنة، غير أنهم على غير الجادة وفيهم من كان لقلة علمه، يعمل بما يقع إليه من الأحاديث الموضوعة وهو لا يدري).
ومن هذا الزهد المشروع نسبياً انتقل بعضهم إلى تأليف الكتب، يدعو فيها إلى أمور لم تكن عند الزهاد السابقين، كترك الزواج مثلاً، ومن هؤلاء: مالك بن دينار الذي امتنع عن الزواج، وعن أكل اللحم إلا من أضحيته، وكثيراً ما كان يقرأ في كتب السابقين كالتوراة والإنجيل.
ويعتبر من أقطاب هذه المرحلة: رابعة العدوية، التي استحدثت قصة الحب والعشق الإلهي.
فهؤلاء من أوائل الصوفية الذين اتخذوا طريقة، جمعوا فيها بين الزهد والتعمق والتشدد، والتفتيش عن الوساوس والخطرات، مما لم يكن على عهد السلف الأول.
وإذا كان الصفاء الروحي يأتي بدون تكلف عند السلف نتيجة التربية المتكاملة، فنحن هنا بصدد تشدد وتكلف لحضور هذا الصفاء، وبصدد تنقير وتفتيش عن الإخلاص يصل إلى حد الوساوس.
ومما استحدث في المرحلة الثانية : الاستماع إلى القصائد الزهدية مع استعمال الألحان المطربة، وصنفت الكتب التي تجمع أخبار الزهد والزهاد، ولكنها تخلط بين الصحيح وغيره، وتدعو إلى الفقر، وتنقل عن أهل الكتاب، مثل كتب الحارث المحاسبي، وقوت القلوب لأبي طالب المكي والرسالة للقشيري .
وعلى كل (فإن هذه المذاهب قد ظهرت فيما بعد القرون المفضلة رويداً رويداً، وكان أصحابها الأولون قد انفردوا بما أتوا من الزهد والورع، الذي لم يكن عليه رسول الله وأصحابه، ومن تبعهم بإحسان، وإلى هذا يشير قوله تعالى: وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلاَّ ابْتِغَاء رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا [الحديد: 27].
والحقيقة إن لفظ الصوفية لم يكن مشهوراً في القرون الثلاثة، وإنما اشتهر التكلم به بعد ذلك.
وربما كان الصوفية صادقين في زهدهم في هذه المرحلة( الثالثة )، مع بعدهم عن الدنيا، إلا أن التشدد الذي فرضوه على أنفسهم لم يأمر به الشارع، ويبدو أن هناك تأثيراً للنصارى في تكوين القناعات بتعذيب الجسد كي تصفوا الروح
. والطريقة عند أقطاب التصوف، أن معظمهم يوصل نسبه إلى آل البيت، (علي وأبنائه خاصة) فالرفاعي والشاذلي وأحمد البدوي والجيلاني كلهم من آل البيت، ويخاطبون جدهم رسول الله، وهو في قبره فيجيبهم. صلى الله عليه وعلى آله وسلم، هكذا يزعمون، ويصدقهم أتباعهم بلا تردد.
لقد ادعى بعض ان التصوف الاسلامي مقتبس من المذاهب الروحانيه الشرقيةوالفلسفات الاجنبيه ومضمون الشبهة يتركز على التالي :
أنكر بعض المستشرقين أصالة الحياة الروحية في الإسلام، وذلك التصوف الاسلامي السني الصحيح، وزعموا أن عامة ما عند صوفية المسلمين من ق وروحانيات إنما اقتبسوه من المذاهب الروحية الشرقية، سواء التي ترجع إلى الرهبانية النصرانية أو اليهودية، أو إلى الفلسفات ا لشرقية ممثلة في التصوف الهندي أو الغنوص الفارسي،[1] أو إلى عناصر أجنبية كالفلسفة اليونانية أو الأفلاطونية المحدثة[2]. ويرمون من وراء ذلك إلى سلب الإسلام أصالة من أصالاته التي يتميز بها
-. والتالي وجوه إبطال الشبهه:

1))جميع تعريفات الصوفي والتصوف نفسه بتفسيراتها المختلفة - تدل على أن التصوف عربي المولد إسلامي النشأة.
2))إذا كان من طبائع الأمور أن الظواهر تفسر بعواملها القريبة، فإن المسلمين قد وجدوا في ظل الإسلام طريقا واضحا إلى حياة الزهد والروحانيات، وذلك بما تضمنه القرآن الكريم والسنة المطهرة من نصوص، وبما كانت عليه حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - من الزهد والتقشف وحياة الصحابة، فلا وجه للقول بتأثير الثقافات,والفلسفات الخارجية، اللهم إلا إذا قصد بذلك التأثير على التصوف الفلسفي، الذي هو أجنبي خالص نشأة وصدورا.